الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
حياة الأفكار وقيمتها الرياضية
ــ
يظهر أحياناً في سلوك الاستعمار من البلادة، ما يجعلنا نشعر بأن كيده، هو في النهاية ضعيف مثل كيد الشيطان.
ولكن يجب ألا نغتر بهذا المظهر مهما يكن فيه من الصحة، كما يجب علينا أن نقدر لكيد الشيطان في كل وقت تقديره.
يجب أن نعترف في كل لحظة، بأن الاستعمار فنان بارع في موسيقا الصراع الفكري، فهو يبدع في سمفونية هذا الصراع، إذ هو ينسجها من الخيال أو من لعبة الظل كما بينا في الفصول السابقة، ثم يبلغ إيقاعها الساحر عن طريق الإيحاء، لأنه يجيد التوقيع على (النقاط) التي تسحر الألباب، فتعطي لفنه كل قيمته الفنية.
فهو يعلم أنه يكفي للتشكيك في فكرة، أن يشوه منطوقها اللغوي، أي الكلمة التي تتضمن معناها الحرفي، أو الشعار الذي يؤدي معناها بالطريق الرمزي: فالكلمة أو الشعار قد يمكن أن يصبح كلاهما مركز إشعاع حرماني، بالنسبة للفكرة التي تعبر عنها تلك أو يشير إليها هذا، كما يكون أحياناً الكاتب نفسه، مركز إشعاع حرماني بالنسبة إلى كتابه، في بعض الظروف كما بينا هذا في الفصول السابقة.
فلو كان لفكرة كتاب شعار معبر عنها بصفة رمزية، لرأينا الاستعمار حينما
تنوه مراصده بظهور الفكرة، يبادر إلى طمس تلك الرمزية بما يناسب من الوسائل.
فلو كان لدينا للتدليل على محاولة كهذا عبارة مثل (محور طنجة- جاكرتا)، تعبر عن فكرة كتاب وتشير إلى الاتجاه الذي ينشده، لرأينا فعلاً الاستعمار يقوم بمحاولة ضم هذا المصطلح إلى قاموسه السياسي، فيحاول مثلاً جمع مؤتمر سياسي بمدينة طنجة، هدفه على نقيض ما يهدف إليه الكتاب، وبما يسلط من الأضواء على مدينة طنجة، خلال مؤتمر تشرف عليه دول استعمارية، تصبح كلمة طنجة مركز إشعاع حرماني، تعكسه على ما يتصل بها في الميدان السياسي: تصبح العبارة (محور طنجة- جاكرتا) كلها تتلقى من ناحية الإيحاءات التي تلقيها عليها كلمة طنجة، وتعكسها من ناحية أخرى على كتاب جعل شعاره من تلك العبارة.
ولكن لماذا لم تتم محاولة الاستعمار في هذا الاتجاه، بعد أن أعلنت الصحافة بانعقاد مؤتمر طنجة في شهر نيسان (إبريل) سنة 1957؟
ذلك لأن الظروف ليست كلها في يد الاستعمار، فقد يحدث أن تختل بعض الشروط في تنفيذ خططه، وهذا لا يعني طبعاً أن المعركة انتهت وإنما تغيرت ظروفها.
ولكن الشيء الذي لا يتغير هو المقاييس المنطقية والحقائق النفسية، التي تطبق في معركة مهما تكن ظروفها الخاصة.
ومن الأشياء التي لا تتغير في الصراع الفكري، حقيقة (الفكرة) ذاتها بوصفها كائناً حيوياً له وحدة عضوية لا يمكن أن نزيد فيها شيئاً ولا ننقصه، دون أن تتغير شروط الحياة بالنسبة إليها، كما أننا نغير شروط حياة أي حيوان، لو أننا أضفنا له عضواً زائداً، مثل الرأس الذي أضافه بعض علماء الاتحاد السوفييتي إلى كلب، أو أنقصنا منه عضواً.
فالكائن الحي كائن كما هو، وإن أضيف إليه شيء أو بتر منه شيء، فإنه لا يبقى ذلك الكائن.
وهذه الحقيقة تطبق على الأفكار بوصفها كائنات حية، ويمكننا الآن أن نلقي هذه الاعتبارات على كيان الأفكار: فلو أننا قدرنا أن فكرة ما تبلورت في شعار معين ذي تركيب ثنائي، نشير إلى عنصريه بحرفي (أ) و (ب)، فإنه يمكننا أن نضع له معادلة تعبر عن وحدته العضوية وعن ذاتيته هكذا:
شعار = أ + ب
وبما أن الفكرة مرتبطة بهذا الشعار بربط عضوي، يمكننا أن نعبر عنها بالمعادلة نفسها هكذا:
فكرة = أ + ب
ولنفترض الآن أننا أخذنا العنصر (أ) وأدخلناه في تركيب جديد إدخالاً يكون معه بجانب عنصر جديد ذي شبهة هو (ت) مثلاً، وبذلك نستطيع أن نرمز إلى هذه العلاقة الجديدة بالمعادلة الآتية:
تركيب جديد = أ + ت
ولما كان هذا التركيب يتضمن خصائص العنصرين اللذين يكونانه، فإنه ينطوي ضرورة على كل الآثار النفسية التي يحملها العضو المشبوه فيه (ت) ويعكسها على كل أجزائه، أي على (أ) بالذات، وهكذا يصبح هذا العنصر مشتبهاً به، بحكم علاقته الجديدة فيحيل نوعاً من العدوى النفسية إلى التركيب الأول:(أ + ب)، وهكذا يصل الاستعمار عن طريق علاقات مصطنعة كالتي وضحناها هنا، وبعد سلسلة معينة من الانعكاسات المشروطة إلى المساس بالفكرة التي يريد إصابتها، إذ يصلها الإشعاع النفسي المقصود عن طريق شعارها ومنطوقها.
وهذه الكيمياء الخاصة ليست جديدة إلا من الناحية النظرية، لأن علم النفس وعلم النفس التجريبي منذ بافلوف، خاصة، هو الذي حدد قواعدها، وأما من الناحية العملية فهي قديمة، نجد أثرها في وقائع كثيرة من التاريخ الإسلامي مثلاً، فمنذ المراحل الأولى من هذا التاريخ نجد أحداثاً سياسية هامة تفسر على ضوء هذه الكيمياء.
هذه الاعتبارات تتصل بحياة الأفكار من الناحية النفسية، وتعبر عن تأثير العلاقات في تحديد الدور الذي تقوم به الأفكار بوصفها مجموعة معينة، أي طبقاً لعلاقاتها في نطاق دائرة أو في اطراد.
ولكن هناك اعتبارات أخرى، يمكن أن نسميها اعتبارات جبرية، تتصل بدور الأفكار بصفتها أفراداً مستقلة.
إن لكل فكرة كياناً مستقلاً، ووحدة قائمة بذاتها، تؤثر بقدر ما تبقى محتفظة بوحدتها، باعتبارها قيمة منطقية يمكن التعبير عنها طبقاً لقواعد رياضية خاصة بالأفكار.
إن لكل فكرة (ف) قيمة معطاة هي (كـ) مثلاً، وهذا الفرض يمكن أن يكتب كما في الحال في علم الجبر:
ف = كـ
وهذه العلاقة تعبر عن القيمة الرياضية للفكرة، ولكن لرياضة الأفكار قواعد خاصة، فإذا كانت القيمة العددية في الرياضة العادية يمكن أن تزداد بجمعها إلى أخرى، فإن القيمة الخاصة بفكرة تنقص عموماً بمجرد أن نضيف لها قيمة أخرى، حتى لو كانت القيمة المضافة إيجابية:
ت > (أكبر من) صفر
فإذا أضفنا هذا الحد مثلاً، إلى العلاقة السابقة يكون لدينا قيمة فكرية جديدة هي:
ف = كـ + ت
فنشعر أننا زدنا في قيمة (ف) الأصلية، ولكن ليس الأمر كذلك بصورة طبيعية، كما هو شأن القيمة العددية، فالحد (ت) يمكن أن ينقص من قيمة الفكرة على الرغم من أنه إيجابي، أما لو كان سلبياً فمن باب أحرى؛ ويمكن أن نفهم هذا أو نلخص هذا في صورة فقهية: إن الفقهاء يحددون، في شروط الوضوء، ما يجب أن يكون عليه الماء لصلاحيته للوضوء، فهم بذلك كأنهم يحددون قيمة مفهوم معين (م) أو الماء الطهور بصلاحيته (ص) للوضوء.
فيمكن إذن أن نشير إلى قيمة هذا المفهوم الفقهي هكذا:
م = ص
ولكن نعلم من مشايخ الفقه أن كل دنس (د) يحدث في الماء يجعله غير صالح للوضوء، أي أن قيمة (م) نقصت بإضافة حد سلبي، وهذه حقيقة بديهية يدركها عقل الفقيه وغير الفقيه.
ولكن نعلم من مشايخ الفقه أيضاً، أننا لو أضفنا شيئاً من العطر أو الطيب، أي لو أضفنا حداً إيجابياً فإن الماء يفقد أيضاً صلاحيته للوضوء، أو يفقد قيمته بوصفه مفهوماً فقهياً.
فإذا كانت هذه الاعتبارات صحيحة بالنسبة إلى مفهوم من مفاهيم الفقه، هو الماء الطهور، فإن صحتها أعم بالنسبة للمفاهيم العامة.
وعليه يجب أن نراعي في الصراع الفكري كل ما يتصل بكيان الأفكار
بصفتها أفراداً مستقلة بوحدتها العضوية، كائنات حية لا تقبل القسمة ولا الضرب.
والاستعمار يطبق طبعاً هذه الحقائق، فهو تارة يحاول تجزئة الفكرة كأنه يريد تقسيم طاقتها الانفجارية، وأحياناً يحاول على العكس، أن يجري عليها نوعاً من الضرب يجعلها مقحمة في عدة أفكار ثانوية، تضيف إلى حجم الفكرة الأصلية عناصر فكرية خامدة، لا أثر لها سوى إضعاف سلطانها على العقول، كما لو أننا لففنا سن المسمار أو حد المنقار بلفائف من الورق أو القماش حتى لا تؤثر فيما نريد نقره أو ثقبه من الخشب.
ولقد رأينا مثلاً في باندونج كيف طبقت هذه الرياضة الفكرية في صورة (الضرب)، فيما يتصل بالفكرة التي تتضمن المبادئ الأساسية الخمسة Paneh Shila، التي تكون وحدة فكرية قامت بدور هام في توجيه سياسة التعايش والحياد قبل المؤتمر، خلال مداولات نيودلهي وبكين، وفي تحضير المؤتمر ذاته، فكان إذن من الطبيعي أن تكون هذه المبادئ (الفكرة)، أي الأساس النظري الذي يقوم عليه بناء المؤتمر، ولكن عندما وصل وفد إحدى الدول الآسيوية المشتركة، بذل كل جهده ليكون عدد هذه المبادئ سبعة أو عشرة، ويمكن أن نتصور هذه الإضافة المقصودة بصفتها عملية تشتيت للقاعدة.
ويمكن أن نتابع هذه الاعتبارات في مؤتمر القاهرة ذاته، فلم يكن من مصلحة الشعوب الأفرسيوية الإكثار من المقترحات، لأن هذا الإكثار يزيل أولاً مضاء الفكرة الأساسية ثم يكون عقبة في سبيل التطبيق، وهذا وذاك في صالح الاستعمار طبعاً، ولا يخفى ماللاستعمار من الحضور في كل مداولة مثل مؤتمر باندونج أو مؤتمر القاهرة، حضوراً خفياً أو ظاهراً، تصل عن طريقه الإيحاءات المناسبة لتطبيق القواعد الخاصة بكيمياء وبرياضة الأفكار، فتطبق أحياناً في صورة (المزلقة) وأحياناً في صورة (الاستبدال) وأخرى في صورة (البتر).
(فطريقة المزلقة) تطبق عندما يكون الهدف ألا يقف البحث عند فكرة معينة، فتطرح خلال المناقشة أفكار جديدة بالتوالي، طرحاً لا تنتهي معه المناقشة إلى أية نتيجة عملية ..
وطريقة (الاستبدال) تطبق عندما يرى الاستعمار من مصلحته- بينما تكون المعركة محتدة حول فكرة معينة- أن يطلق في حلبة الصراع، فكرة جديدة تكون أقل ضرراً بالنسبة لمصلحته.
أما طريقة (البتر) فإنها تطبق عندما توشك مناقشة أن تأتي بنتيجة في موضوع هام في صحيفة وطنية مثلاً، وإذا بمحرري الصحيفة (المعادية للاستعمار) يقلبون الصفحة بكل بساطة، وتبقى المناقشة معلقة دون نتيجة، فيجد الكاتب نفسه فجأة مجرداً من السلاح، كأنما يد خفية نزعت من يده القلم، في الوقت الذي تدخل المعركة في دورها الحاسم.
والخطر الذي يتهدد مؤتمراً دولياً كؤتمر باندونج، يكمن في ألا يأخذ دعاة المؤتمر حذرهم من هذه الطرق، ومن الواضح مثلاً أنه عندما يقدم اقتراح بإنشاء (بنك للمادة الأولية) فيخرج من مؤتمر دولي بقرارين أحدهما (تأسيس هيئة للإنشاء والتعمير) والآخر (إنشاء بنك للتبادل الاقتصادي الإفريقي الآسيوي)، فإن الفكرة الأولى المقدرة بالنسبة إلى طور اقتصادي محدد، وإلى إمكانيات معينة في البلاد الإفريقية- الآسيوية، وهي تهدف في أساسها إلى تخليص المادة الأولية المتوفرة في تلك البلاد، من رقابة العملة المفقودة فيها، فهذه الفكرة تختفي تماماً في القرارات النهائية، وتترك مكانها إلى فكرتين ثنائيتين، كل واحدة تعيد إلى العملة سلطانها ورقابتها على سوق المادة الخام، أي تناقض الفكرة الأولى في أساسها: وهذه خطة قد طبقت فيها بنجاح طريقة (الاستبدال) وطريقة (الضرب أو الإكثار).
ولا شك أن أي مؤتمر دولي يكسب كثيراً لو أنه حين ينعقد يؤلف لجنة (للنقد الذاتي) وخاصة لنقد التقارير في صيغتها النهائية، حتى لا يترك للاستعمار ذريعة ومنفذاً يبلغ منها إلى (تعقيم تلك القرارات).
ولا بد أن ندرك أن (الفكرة) التي يعبر عنها مشروع إنشاء (جائزة منطقة السلام)، لا تؤدي أبداً مفعولها ولا تقوم بدورها، عندما تصب في قرار نهائي يضع كلمة (سلام) - وهي مقصودة بالذات بوصفها شعاراً خاصاً لمداولات تجري- في تركيب معقد كهذا: من أجل الحرية والاستقلال والصداقة والسلام.
فهذه الكلمات الأربع مجموعة لا تقوم بدور كلمة (سلام) وحدها، كما أن صاروخاً ركب من أجل الوصول إلى القمر، لا يصل إليه إذا ركبت فيه صواريخ موجهة إلى المريخ وزحل (1)
…
ولا شك في أن أي مؤتمر دولي، ينعقد من أجل تحرير البلاد المستعمرة أو البلاد التي وطئها الاستعمار، يكسب كثيراً لو أولى نظره هذه الاعتبارات، ولو أولى تطبيقها لجنة مخصصة للنقد الذاتي، كي يحتاط بهذا النقد من طرق التعقيم التي ذكرناها، والتي لم نذكرها كلها خشية الإطالة، فهناك مثلاً طريقة التعطيل التي تلعب دوراً هاماً في الصراع الفكري، لأنها تعلق تحقيق قرار على شكليات لا قيمة لها. أو تعطل توزيع كتاب: فعندما يكون كتاب قد أنجز طبعه ببلد عربي قريب، منذ ستة أشهر، ولم يصل بعد إلى عاصة عربية مثل القاهرة، فهذا يعني أن الكتاب دخل عملية تعطيل
…
إن ظروف الصراع الفكري، في أي بلد يكون فيه نفوذ خفي أو ظاهر
(1) ولا شك أن مؤسسي (جائزة نوبل للسلام) يقدرون قيمة الكتاب كما يجب، فإنهم لم يفكروا بإضافة كلمات (إنسانية، وحرية وديموقراطية) مثلاً في عنوان جائزة نوبل ولكن هذه الحقائق لا زالت مجهولة على محور طنجة- جاكرتا، وفي البلاد العربية خاصة.
للاستعمار أكثر غرابة مما نتصورها عادة، فلا يمكن أن يتناولها الوصف المحدود بطبيعة الحال، لأنه لا يمكن أن ينقل كل الألوان التي تشملها التجربة، بينما هذه التجربة نفسها، لا تحيط إلا بمقدار ضئيل من واقع الصراع الفكري في حقيقته، ولا غرابة في أن صاحب التجربة يعلم بعض الأشياء من هذا الواقع الزاخر المتنوع، ولكن يغيب عليه أكثرها، لأن الاستعمار يسدل دائماً الظلام (كما بينا فيما سبق) على عملياته في هذا الميدان، حتى يبقى مسيطراً على الموقف، ولو كشفت الصدفة فجأة عن تفصيل من تفاصيل هذا الصراع، فسوف يبقى في إمكانه أن يسلم بهذا التفصيل للخصم، ويدخل الباقي في الظلام، كما تسلم الحية بجزء من ذيلها وتدخل جحرها لتنجو بذاتها ..
ولا يمكن وصف هذه التفاصيل كلها ولو كانت على مرأى العين، كما يصعب وصف بيت العنكبوت خصوصاً إذا كانت خيوطه تأتي من بعيد.
هذه هي حقيقة الصراع الفكري وتلك هي لغته، لغة صامتة ليس لها من معنى واضح إلا بالنسبة لمن عاش تجربة شخصية.
***