الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس: الحديث عن خلاصة المقارنة بين موقف السلف والخلف من معاني الصفات
وبعد: سبق أن أجرينا مقارنة واسعة بين موقف السلف والخلف من العقيدة في موضعين اثنين.
1-
عند الكلام على منهج السلف الذي اعتبرناه منهج الرسالة في أوائل المدخل في المبحث الخامس.
2-
عند الكلام على معاني بعض الصفات الخبرية في آخر الفصل الثالث من الباب الثاني.
ب - وخلاصة ذلك: أن السلف كانوا يحرصون كل الحرص على عدم التكلف بالتأويل والتحريف وعلى عدم التورط في التشبيه بل يكتفون بفهم المعاني العامة للنصوص، تلك المعاني التي تفهم من وضع الكلمة، وأما الخلف فقد تكلفوا التأويل وقالوا على الله بغير علم مع تفاوتهم في ذلك، وأحب أن أوضح هنا - تأكيداً لما ذكرت هناك- أن السلف يفهمون معاني الصفات العامة ويفوضون الكيفية فقط، فليسوا بالمؤولين المحرفين وليسوا بالمشبهين المجسمين ولا بالمفوضين الجاهلين. ولا الواقفين الحائرين، بل هم أصحاب فهم صحيح وفقه دقيق1، إذ هم وسط بين هذه النحل المختلفة. ومنهجهم لبن خالص يخرج من بين فرث التشبيه ودم التعطيل، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ومن أراد أن يعرف منهجهم وموقفهم من العقيدة على حقيقته
1 ومن فقههم في الدين عدم القول على الله بغير علم، بل لا يتجاوزون الكتاب والسنة.
فليطلع على أقوال أهل الحديث وأعيان فقهاء الأمة من الأئمة الأربعة ومن في طبقتهم أو بعدهم من أولئك الذين نهجوا نهجهم، لأنهم خير من يرجع إليهم لمعرفة هذا الباب الخطير على حقيقته. وأكرر هنا -كما ذكرت سابقاً غير مرة - تلك العبارة المنقولة - في صفة الاستواء.
عن أم سلمة رضي الله عنها وعن ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإمام مالك رحمه الله، واشتهرت أخيراً عن الإمام مالك رحمه الله:"الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه الكيفية بدعة"1.
وقد أطبق علماء أهل السنة قديماً وحديثاً على هذا المعنى. وقولهم المأثور: "أمرّوها كما جاءت بلا كيف"2 في نصوص الصفات يؤدي هذا المعنى نفسه. وهل يقول: "الاستواء معلوم" من لا يفهم معنى (استوى) لغةً؟ وهل يقول: "تمر كما جاءت بلا كيف" من لا يعرف معاني النصوص؟! الجواب (لا) بالتأكيد ودون توقف.
وإن الذي لا يفهم المعنى إنما ينبغي له أن يقول الاستواء غير معلوم أو اقرأوا الألفاظ وأمرّوها دون محاولة فهم معانيها لأنها غير مفهومة لنا أو يقول: الله أعلم بمعانيها ونحن لا نعلم أو عبارة كهذه.
وقد غلط في هذه النقطة بعض الذين كتبوا عن عقيدة السلف دون دراسة سابقة، بل بالمطالعات العابرة أو بالسماع والتقليد فأساءوا فهم عقيدة السلف، ثم أساءوا إلى منهجهم بل اتهموا - جهلاً منهم- كثيراً من أتباع السلف بالتشبيه والتجسيم بناء على تصورهم الخاطئ، حيث ظنوا أن مذهب السلف هو التفويض المحض، بل قد صرح بعض المتأخرين منهم بأن السلف لا يفهمون معاني نصوص الصفات، والعجب كل العجب أنهم
1 تقدم تخريج هذه الآثار.
2 تقدم تخريجه.
يطلقون هذا التصريح في معرض المدح للسلف ومذهبهم - يا سبحانه الله - متى صار الوصف بالجهل لمن تحبه وتقدّره مدحاً وتقديراً؟! فبئس ما يصفون!
تكلم غير واحد من المعاصرين الذين تأثروا بفلسفة اليونان وبالاستشراق الجديد في مسألة فهم السلف لنصوص الصفات فنفوا عنهم الفهم فجعلوهم بمثابة الأمي الذي يقرأ ألفاظ القرآن دون فهم أو فقه.
ولعل آخر من كتب في هذا المعنى -فيما أعلم- الدكتور محمد عبد الستار أحمد نصار في كتابه الذي سماه (المدرسة السلفية) تحدث الدكتور في هذا الكتاب عن السلف الذين نزل فيهم القرآن (الصحابة) حديثاً في غاية الغرابة. ومما قاله عنهم - بعد حديث طويل سابق-: "فإذا أضفنا إلى ما ذكرنا ما في طبيعة الدين الإسلامي من الدعوة العالمية، وما استتبع ذلك من سل حسام الحق ليفتح المتدينون به البلاد بجانب كلمة الحق التي يحملونها ليفتحوا بها مغاليق القلوب، وأن ذلك لم يترك لديهم من الفراغ ما يجلسون فيه إلى القرآن (جلسة) الدارس الممحص لتبين لنا لماذا (لم يختلف المسلمون) في صدر الإسلام حول مسائل العقيدة؟ "1.
ولعلنا نلمح من خلال هذا العرض الفرق الواضح بين الإيمان والمعرفة.
أما الأول فمحله القلب. وأما الثانية فمحلها العقل. ومن ثم نستطيع أن نقرر أن المتدينين في الصدر الأول (الصحابة) قد فقهوا النص الديني وخاصة ما يتعلق منه بأمور العقيدة بقلوبهم، قبل (إدراكه) بمقاييس
1 يا ترى هل الذي منعهم من التفرق والاختلاف هو عدم فهمهم لنصوص الصفات، لأنهم لم يدرسوا القرآن دراسة فاحصة -كما يرى الدكتور نصار- أو أن الذي حفظ عليهم وحدتهم هو الاعتصام بحبل الله جميعاً لأنهم لم تفرقهم الأهواء والإعراض عن كتاب الله، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!
العقل، كالذي عرف فيما بعد لدى فرق المتكلمين، وتخريجهم نصوص العقيدة على مقتضى ما وضعوه من مقدمات عقلية1اهـ.
هكذا يتصور الدكتور نصار حقيقة الصحابة جهل وعدم إدراك للأمور العقيدية. إلا أنه بادر لينفي هذا المفهوم - ولكنه لم يستطع - حيث يقول: وليس في هذا الكلام نسبة المتدينين إلى التجهيل -كما فهم ابن تيمية حيث ذهب إلى أن القول بأن السلف لم يفهموا معنى المتشابه نسبه لهم إلى الجهل. وقد فاته أن الجهل معناه أن ينفي عنهم علم شيء في مقدورهم أن يعلموه، وحيث بان لنا الفرق واضحاً بين الإيمان والمعرفة فليس في كلامه ما يمت إلى الحقيقة بصلة2.
ثم أخذ يستدل بكلام (جوستاف لوبون) على حد تعبيره- أحد المستشرقين فقال: إن المستشرق أبان عن حقيقة الفرق بين مصدر المعتقد، ومصدر المعرفة فقال المستشرق: إن مصدر المعتقد هو إيمان ناشئ عن مصدر (لا شعوري) يكره الإنسان على تصديق فكر أو رأي أو مذهب، إلى آخر كلام طويل كله من هذا النوع (النادر) . فلسفة مقدسة واستشراق معظم. وتنقص للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وممن صرح بأن السلف لا يفهمون معاني أخبار النصوص، الدكتور عوض الله حجازي في كتابه (ابن القيم وموقفه من التكفير الإسلامي) حيث قال في صفحة (71) من الكتاب المذكور: إن السلف كانوا لا يفهمون معاني هذه الأخبار:
1-
بدليل أنهم كانوا يثبتون لله تعالى ألفاظ الوجه واليد والعين
1 المدرسة السلفية 2/478 الدكتور نصار دار الأنصار بالقاهرة.
2 فهم غريب وغير ناضج! (الحكم علي الشيء فرع عن تصوره) !!
بالمعنى الذي يعلمه ويريده، لا بالمعنى المتبادر من هذه الألفاظ.
2-
وبدليل أنهم لم يصل عنهم أنهم عينوا معاني هذه الألفاظ، ولو عينوها لنقل إلينا.
3-
وأخيراً لأنهم أوجبوا الوقوف على قوله تعالى: {إِلَاّ اللهُ} 1اهـ.
هذا كلام غير محرر وصاحبه بحاجة ليعيد النظر في مذهب السلف ليفهمه جيداً.
فبناء على هذا التصور الخاطئ يردد بعض السذج العبارة التقليدية الموروثة: "طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم"2، ولست أدري من أول من قال هذه العبارة؟ وما الدافع إليها وما القصد منها؟! وهي عبارة غير محررة علمياً، لأنه ليس بمعقول علمياً ولا بمستساغ عقلاً أن تتوافر السلامة بكثرة في الجانب الذي يكون فيه العلم ناقصاً، ومقدار الجهل مرتفعاً، أخذاً من مفهوم العبارة بينما يتوافر العلم والحكمة في الجانب الذي ليست السلامة فيه بالمستوى المطلوب، بل دون ذلك فليعُد النظر في العبارة أصحابها لعل الله يفتح عليهم ويلهمهم الرشد من جديد.
وإنما الوضع السليم أن تتوافر السلامة حيث يوجد العلم والحكمة، لأن السلامة أثر من آثار العلم والحكمة، فحيث لا يوجد العلم لا توجد
1 لا نعلم أحداً من أهل العلم أوجب الوقوف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللهُ} كما يفهم من كلام الدكتور عوض الله حجازي، بل المعروف عند أهل العلم أن الوقفين جائزان.
2 وذكرت هذه العبارة في الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، فيرى بعض المعاصرين السلفيين أنها مدسوسة في بعض نسخ الكتاب بدليل عدم وجودها في بعض النسخ منه، كالنسخة التي نقلها ابن عبد الهادي في ترجمة ابن تيمية (العقود الدرية) فلتبحث، وإن كان شيخ الإسلام إنما ذكرها ليناقشها فيردها لا ليثبتها.
السلامة، بل إذا ضعف العلم ضعفت السلامة ولا محالة، وهنا يحق لي أن أدعو أولئك المخدوعين الذين يرددون تلك العبارة أدعوهم لدراسة تراث السلف في المطالب الإلهية والمسائل الشرعية في الأصول والفروع ليدركوا مكانتهم العلمية وليستنيروا بنور علمهم وفقههم، حتى يتمكنوا من الخروج مما تورطوا فيه من تصويب مذهب الخلف وتفضيله وتجهيل علماء السلف وتنقيصهم بجعلهم بمثابة الأميين الذين يقرأون الكتاب ولا يفهمون معاني آياته، فهؤلاء المقلدون يعيشون في ظلام ليل ضرير، فهم لا يبصرون شيئاً ولكنهم يسمعون الصوت فيتبعونه لكن فيم يتبعون؟! أفي الصواب أم في الخطأ؟ وماذا يعني هذا القول؟ كل هذا ما لا يعرفونه. بل سمعوا فاتبعوا وقال من قبلهم قولاً فقالوا كما قالوا!! وإلا فكيف يسوغ لعاقل يدري ما يقول أن يعتقد أن المتخلفين أفقه من المتقدمين الذين عاش بعضهم عصر الوحي؟ وأن مجموعة أرسطو وتلامذتهم أعلم وطريقتهم أحكم من طريقة أولئك السادة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتتلمذوا عليه وأخذوا العقيدة بل الدين كله منه مباشرة، فور نزوله من السماء، ثم بلغوه لمن بعدهم كما فهموا فبلغ التابعون لتابعيهم، وهكذا يبلغ السابق اللاحق إلى العهد العباسي، وقد كانوا كلهم في تلك العهود السابقة على عقيدتهم الوحيدة، ولا يعرفون معنى للخلاف في العقيدة كما تقدم في غير موضع من الرسالة.