المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: معاني الصفات الخبرية - الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه

[محمد أمان الجامي]

الفصل: ‌الفصل الثالث: معاني الصفات الخبرية

‌الفصل الثالث: معاني الصفات الخبرية

نتحدث عن معاني هذه الصفات على الوجه التالي:

1-

الاستواء، 2- النزول، 3- الرحمة، 4- المحبة، 5- الغضب، 6- اليد، 7- الفرح، 8- الرضا، 9- الضحك، 10- الوجه، 11- القَدَم، 12- الكلام، 13- المجيء، 14- إثبات النفس له تعالى، 15- إثبات الرؤية لأهل الجنة

وغيرها من صفات الأفعال والصفات الخبرية التي سيأتي تفصيلها قريباً إن شاء الله.

القاعدة العامة عند السلف في هذا الباب:

أما السلف فلدقة فقههم في هذا الباب خاصة وفي الأبواب الأخرى عامة في الأصول والفروع، فقد سَلّموا لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، فيرون بأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله، كما لا يصفه من خلقه أعلم به سبحانه من رسوله، فَوقَفُوا مع نصوص الكتاب والسنة دون محاولة لتجاوزها فلم يخوضوا فيها بالتحريف بدعوى أن ظاهرها غير مراد، بل أمروا النصوص كما جاءت، كتفين بفهم المعنى العام الذي يدل عليه اللفظ بالوضع دون تعمق أو تفلسف، أثبتوا لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله الأمين، عليه الصلاة والسلام، دون أن يصل بهم هذا الإثبات إلى حد

ص: 217

التشبيه والتجسيم، بل سلكوا طريقاً وسطاً بين التعطيل والتشبيه والتجسيم، وهو طريق السلامة كما ترى، وكما سيتضح عندما نأخذ في التفصيل إن شاء الله.

وسر المسألة أن معرفة حقيقة الصفة وكيفيتها تابعة لمعرفة حقيقة الموصوف وكيفيته، فإذا كان إيمان العباد بالله إيمان إثبات وتسليم دون محاولة لمعرفة حقيقة ذاته سبحانه فيلزم أن يكون إيمانهم بصفاته كذلك إيمان إثبات وتسليم لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يسلم إيمان المرء إلا بهذا التسليم وحده، ذلك لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه، ولا فرق عندهم بين هذه الصفات الخبرية التي نتحدث عنها وبين الصفات الأخرى من صفات المعاني والمعنوية والسلبية التي تقدمت، وتقدم الحديث عنها في غير موضع من الرسالة إذ كلها تبقى على ظاهرها، الظاهر الذي يليق بالله تعالى، ولا يفهم من النصوص إلا ذلك الظاهر اللائق، بل لا يجوز أن يعتقد أن النصوص قد تدل بظاهرها على مالا يليق بالله، لما في ذلك من إساءة أدب، بل إساءة ظن بالله الذي أنزل تلك النصوص، وأوحى بها إلى رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام. وهل يجوز أن يعتقد أن الله ينزل آيات، ويوحي إلى نبيه بأحاديث ظاهرها ضلال أو كفر؟ ثم إن الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام لا يبين المعاني الصحيحة الحقة لأصحابه؟! فلازم ذلك أن الصحابة لم يفهموا هذه النصوص على حقيقتها، فكيف يفهمون لأن الرسول لم يبين لهم تلك الحقيقة التي فهمها الخلف فيما بعد، وليت شعري من أين فهموها؟!!

وقصارى القول: أن صفة الاستواء وما ذُكر بعدها في الصفحة السابقة من الصفات تبقى على ظاهرها كما يليق بالله تعالى، هذا هو موقف السلف بالاختصار.

ص: 218

ثانياً: موقف الخلف في الجملة:

أما الخلف: فمرادنا بهم علماء الكلام على اختلاف مناهجهم ومشاربهم، فإنهم قد تكلفوا جميعاً، فخاضوا – وهم في غنى عن الخوض، لو وُفقوا- وقد ذهبوا في تكلفهم ذلك مذاهب مختلفة ومتعددة، منهم من يؤول صفات الأفعال، وبعض الصفات الخبرية، وهم الأشاعرة مع إثباتهم كثيراً من الصفات الذاتية، كما سيأتي تفصيل ذلك، ومنهم من ينفي هذه الصفات نفياً دون اكتراث، أو التفات إلى النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة التي نطقت بهذه الصفات بأساليب متنوعة بدعوى أنها أدلة لفظية لا تفيد العلم واليقين، وهي مع ذلك مخالفة للدليل العقلي القطعي الذي يدل على أن إثبات هذه الصفات يؤدي إلى أحد مستحيلين:

1-

إما تعدد القدماء إن قلنا: إن هذه الصفات قديمة قدم الذات، لأن ذلك يتنافى مع التوحيد، هكذا زعموا لأن حقيقة التوحيد عندهم نفي الصفات وإثبات ذات مجردة ذهنية، لا وجود لها في الخارج.

2-

أو حلول الحوادث بذاته تعالى، إن قلنا: إنها حادثة، وذلك محال على الله، لأنه يؤدي إلى القول بأن الله محل للحوادث. وما أدّى إلى المحال فهو محال. فإثابتها إذاً محال. هكذا زعموا.!!

هذا موقف الجهمية والمعتزلة، وبهذه الثرثرة التي زعموها أدلة قطعية نفوا جميع صفات الكمال - وصفات الله كلها كمال- ولم يثبتوا له أي صفة حتى أصبح وجود الله عندهم، وفي زعمهم وجوداً ذهنياً، إذ لا يتصور في الخارج موجود مجرد عن الصفات. وإنما يفرضه الذهن فرضاً كما يفرض أو يتخيل أي محال.

وهذه النتيجة الحتمية التي لا بد منها لكل من أعرض عن كتاب الله، وهدي نبيه واتبع هواه.

ص: 219

مناقشة الأشاعرة بالأدلة العقلية:

ومن وصل إلى هذا المستوى من الإعراض، قلّما تجدي معه المناقشة، فلنترك المعتزلة إذاً لنعود لمناقشة الأشاعرة لقربهم من الصواب نوعاً ما، وعلى الرغم مما نقوله، ويقوله غيرنا من أن الأشاعرة يعدون من المثبتة، أو من الصفاتية، لإثباتهم كثيراً من الصفات الذاتية التي يسمونها - في اصطلاحهم- صفات المعاني وغيرها. على الرغم من هذا النوع من الإثبات، فإنهم وافقوا المعتزلة في تأويل الصفات الخبرية1، ذاتية أو فعلية فبذلك وقعوا في تناقض لم يقع فيه أحد لا من المثبتة ولا من النفاة، لأنهم فرقوا بين ما جمع الله في كتابه، أو فيما أوحاه إلى رسوله عليه الصلاة والسلام، فتراهم يثبتون السمع والبصر مثلاً، ولا يخطر ببالهم شيء من لوازم سمع وبصر المخلوقين، بل يزعمون أنهم يثبتون هذه الصفات على ما يليق بالله، فما هو المانع العقلي إذاً من إثبات الوجه، واليدين، وغيرهما مما أوجبوا التأويل فيه من الصفات على ما يليق بالله؟!! فما المانع أن نثبت لله وجهاً يليق به، واستواء يليق به دون التفات إلى لوازم وجه المخلوق، ومجيء المخلوق، واستوائه؟!! وما الذي يمنعهم أن يثبتوا جميع الصفات الثابتة بالأدلة النقلية دون أن يفرقوا بينها؟!! في ضوء قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، والآية جمعت بين التنزيه والإثبات كما ترى ومعها آيات أخرى كثيرة في هذا المعنى، هل لعدم الثقة في كلام الله، وكلام رسوله مع الثقة الكاملة فيما يقوله الشيوخ؟!! فادعوا وجوب تأويل قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}

1 تأويلاً يفضي إلى نفي الصفة بحيث لا يثبت إلا لازم الصفة – كقولهم: المراد بالرحمة الإنعام مثلاً، والإنعام ليس هو الصفة، وإنما هو لازم الصفة، وهكذا في جميع الصفات الخبرية والفعلية.

ص: 220

وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} ، وغيرها من نصوص الصفات مع عدم وجوب تأويل قوله تعالى:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وغيرها من النصوص التي بينت نوعاً خاصاً من الصفات، وهي صفات المعاني والصفات المعنوية على الاصطلاح الخاص بهم، وكذلك الصفات السلبية على تفسيرهم.

إن هذه الدعوى، وهذا التصرف الأشعري أو الكلابيّ على الأصح - إنما هو تصرف يستند إلى مجرد التقليد، لا يستند إلى دليل نقلي، أو عقلي مقبول لدى غيرهم من العقلاء، بل الذي ثبت بالتجربة والدراسة أن اللاحق منهم يرث هذا المنهج من السابق. فما وجده في كتاب من سبقه، أو سمعه من شيوخه هو المذهب الصحيح وهو الدّين وهو العقيدة دون تفكير في الدليل، ومن جهة أخرى، إن ما نفاه الشيوخ هو المنفي، ولو دلت عليه آية صريحة أو سنة صحيحة.

والشيخ لا يسئل ولا يناقش فيما أثبته أو نفاه، بدعوى أن المناقشة غير جائزة في مثل هذه الموضوعات، والأسلوب التقليدي المتبع هو (هكذا نقلنا عن مشايخنا، وهم أعلم منا) !!

وبعد، فإن الأسلوب الذي أشرنا إليه هو الأسلوب الذي كان متبعاً، وملتزماً لدى مشايخنا الذين درسنا عليهم العقيدة الأشعرية، وإنما نوّهت به، أو رويته لأثبت بالعيان، لا بالإخبار، أن العقيدة الأشعرية كثيراً ما تعتمد على التقليد1 الوراثي كما أسلفنا، وهذا هو سر تناقضهم بالتفريق بين الصفات كما تقدمت الإشارة إلى الأمثلة، والذي يقتضيه المنطق السليم إما أن يثبتوا جميع الصفات الثابتة بالكتاب والسنة، دون تفريق بين صفة وصفة، وهو المنهج السلفي الذي عليه علماء الحديث والسنة قديماً وحديثاً، وهو الذي يساير العقل والنقل كما علمنا مما

1 زد على ذلك تأثر متأخري الأشاعرة بفكر المعتزلة، وآراء الفلاسفة كما يلاحظ ذلك لدى الرازي والآمدي وأمثالهما ممن وقعوا في التفريق بين الصفات دون مبرر.

ص: 221

تقدم، وفيه السلامة والعافية من القول على الله بغير علم، وهو موقف خطير جداً كما لا يخفى.

وإما أن ينفوا جميع الصفات دون تفريق بين الذاتية والفعلية فيقفوا مع المعتزلة صفاً واحداً، ليتجه المصلحون السلفيون اتجاهاً واحداً ويواجهوا جبهة واحدة تنفي جميع الصفات ولا تؤمن إلا بالوجود الذهني هذا هو المفترض، ولكن الواقع خلاف هذا المفترض كما رأيت.

خلاصة مواقفهم من معاني تلك النصوص:

1-

هناك خلف يتناقض، فيثبت بعض الصفات مع اعتقاد وجوب تأويل بعض الصفات، والخروج بها ن ظاهرها، مع وجوب اعتقاد أن ظواهر تلك النصوص غير مرادة، فالتفويض محتم إذاً، ومعناه الإعراض عن تدبر النصوص، وفهم معانيها.

وكل نص أوهم التشبيها

أوّله أو فوّض ورم تنزيها

هكذا زعموا! {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} 1؟!!

2-

هناك خلف ذهب بعيداً عن النصوص، ولم يلتفتوا إلى الأدلة النقلية، فلم يثبتوا لله شيئاً من الصفات، لا الذاتية ولا الفعلية، بل وصفوا الله بسلوب كثيرة نقل كثيراً منها الإمام أبو الحسن الأشعري الذي عاش بينهم أربعين عاماً، ثم تاب الله عليه فتاب في آخر حياته، فنقل كثيراً من السلوب التي استخدمته الجهمية وهم غلاة المعتزلة التي تدل على أن القوم ليس لديهم مسكة من تقدير الله وتعظيمه تعالى، إذ يصرحون بعدم صلاحية النصوص في هذا الباب، فيعمدون إلى الإجمال في الإثبات،

1 سورة البقرة آية: 140.

ص: 222

والتفصيل في النفي عكس طريقة القرآن إذ يقولون مثلاً: ليس بجسم، ولا عرض، ولا ذي برودة، ولا ذي حرارة، ولا لون، ولا طعم، ولا جثة، ولا دم

الخ.

أين هذا من أسلوب القرآن، الذي يجمل النفي في مثل قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} 4، ويفصل في الإثبات:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} {الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} 9.

1 سورة الشورى آية: 11.

2 سورة الإخلاص آية: 4.

3 سورة مريم آية: 65.

4 سورة البقرة آية: 255.

5 سورة الشورى آية: 11.

6 سورة الحج آية: 62.

7 سورة البقرة آية: 129.

8 سورة البقرة آية: 105.

9 سورة غافر آية: 3.

ص: 223

بين يدي الصفات المختارة

فكمالات الله تعالى لا تدخل تحت حصر أو عدّ. فصفات الله العلي وأسماؤه الحسنى لا تحصى، ولكننا سوف نختار من صفات الله الكثيرة تسع عشرة صفة لنخصها بالحديث. وبيان موقف السلف والخلف من معانيها بإيجاز، ثم نتبعها بالحديث عن رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة فتصبح الصفات التي نتناولها بالحديث عشرين صفة، وسر اختيارنا إياها من بين الصفات الأخرى واهتمامنا بها دون غيرها، هو ما نعلمه من الخلاف الحادّ، والنزاع المزمن بين السلف والخلف في معاني هذه الصفات المختارة بصورة لم تقع في أي صفة أخرى من صفات ربنا تعالى، إذ أجمع الخلف معتزليهم وأشعريهم على نفي هذه الصفات، أو تحريف نصوصها باسم التأويل، فصارت النتيجة استحالة هذه الصفات على الله في زعمهم وعدم جواز إثباتها لله تعالى بدعوى أنها لا تليق بالله، على تفصيل معروف في موضعه.

هذا الموقف هو الذي حملنا على اختيار هذه الصفات لتكون موضوع حديثنا الرئيسي في هذه الرسالة، وهي زبدة الرسالة المقصودة بالذات.

وأما الصفات التي يثبتها جميع الصفاتية من السلفيين، والأشاعرة، فسوف نمسك عن التوسع فيها لعدم الحاجة الملحة التي تدعو للخوض فيها.

ص: 224