الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: العلاقة بين الصفات والذات
الإيمان بالله تعالى إنما يعني الإيمان بالذات العلية الواجبة الوجود، وجوداً حقيقياً. والإيمان بصفاته العلى وأسمائه الحسنى معاً. وعندما يقول المؤمن: آمنت بالله، إنما يعني هذا الإيمان الشامل أي الإيمان بذات لا تشبه الذوات متصفة بصفات الكمال التي لا تشبه صفات خلقه بل لصفاته حقائق ولصفات خلقه حقائق.
فانطلاقاً من هذا الإيمان الشامل فإن العلاقة بين الصفات والذات علاقة التلازم، ضرورة أن الإيمان بالذات يستلزم الإيمان بالصفات، وكذلك العكس على ما أشرنا في هذه المقدمة، لأنه لا يتصور وجود (ذات) مجردة في الخارج كما لا يتحقق وجود صفة من الصفات في الخارج إلا وهي قائمة بالذات. بيد أنه ليس بمستحيل بل من الممكن تصور (ذات) على حدة وتصور (صفة) على حدة، إلا أنه تصور ذهني فقط، كما تقدم في غير موضوع. وهذا ما عنيناه بالتلازم، وسبق أن تحدثنا عن هذه النقطة عند الكلام على مفهوم الذات، وأثبتنا هناك أن المسلك الصحيح والسليم في مبحث: هل الصفة غير الذات أو عين الذات؟ هو عدم إطلاق لفظة (غير) إلا بعد التفصيل ونزيد هنا أن الصواب في مثل هذه النقطة عدم إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين: صحيح وباطل، ولا ينفصل النزاع ويتضح وجه الصواب إلا بالتفصيل، فالله تعالى واحد بأسمائه وصفاته، فأسماؤه وصفاته داخلة في مسمى اسمه (الله) ، وإن كان لا يطلق علي الصفة أنها إله أو خالق أو رزاق. وليست صفاته وأسماؤه غيره، وليست هي
نفس الإله بمعنى أن للذات مفهوماً وللصفات مفهوماً. هنا فقط تثبت المغايرة أي في إثبات معنى ومفهومٍ للصفات غير مفهوم الذات.
ويقول الإمام ابن القيم في هذه النقطة: "ويرى القوم في لفظة (الغير) أنه يراد بها معنيان: أحدهما المغايرة لتلك الذات المسماة بـ (الله) وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الاعتبار فلا يكون إلا مخلوقاً.
ويراد به -أي لفظ (الغير) - مغايرة الصفة للذات إذا خرجت عنها فإذا قيل: عِلْمُ الله وكلام الله غيره، بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام كان المعنى صحيحاً، ولكن الإطلاق باطل، وإذا أريد أن العلم والكلام مغايران لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره كان باطلاً لفظاً ومعنى"1 ا. هـ
لأن الحقيقة المختصة به تعالى التي لا يشاركه فيها أحد اتصافه بصفات الكمال: الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه غيره من العلم الكامل المحيط بجميع المعلومات وبكلماته التامات التي لا نفاد لها، وبقدرته الكاملة التي لا يعجزها شيء، بل هو على كل شيء قدير. وإذا فهمت هذه النقطة فإن الإيمان الصحيح هو الإيمان برب متصف بصفاته وأسمائه حقيقةً واحدةً لا تتجزأ أي رب واحد بأسمائه وصفاته سبحانه، فالمغايرة غير واردة بهذا الاعتبار والله أعلم.
هذا هو المفهوم الصحيح الذي كان قد فهمه سلف هذه الأمة، وسلمُوا به من الخوض في بحث العلاقة بين الذات والصفات، إذ لم يحدث ما يدعو إلى ذلك.
بل القول المؤيد بالأدلة العقلية والنقلية أن صفة الله تعالى داخلة في مسمى أسمائه، فمن استعاذ بصفة من صفات الله أو حلف لها فإنما استعاذ
1 بدائع الفوائد لابن القيم 1/21 طبعة مكتبة القاهرة.
بالله، وحلف به تعالى. يشهد لهذا، الاستعاذة التي علمها النبي عليه الصلاة والسلام أمته وهي:"أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" 1، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:"أعوذ برضاك من سخطك"2.
فمن قال: عبدت الله أو دعوت الله أو حمدت الله أو قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فهذه الأسماء ظاهرها ومضمرها مشتملة على صفات الله ولا يخرج عنها شيء، مثل العلم والحلم والرحمة والكلام وسائر صفاته3.
ويؤيد ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"، وقال:"من حلف بغير الله فقد أشرك".
وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه حلف بغزة الله ليدلنا أن ذلك ليس حلفاً بغير الله وإنما حلف بصفة من صفاته، وصفاته بهذا الاعتبار ليست غيره.
هكذا يتضح أنه لا ينبغي إطلاق المغايرة بين الصفات والذات، وأن صفات الله تعالى ملازمة لذاته تعالى ولا تنفك عنها، فمن آمن بالله فإنما آمن بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته. ومن كفر بصفة واحدة من صفات الله فقد كفر بالله تعالى وبسائر صفاته، ولهذا أجمع أهل العلم من علماء أهل السنة دون خلاف نعلمه أن من قال: إن كلامه مخلوق أو قال: القرآن مخلوق أو أنكر رؤية الله يوم القيامة مثلاً فهو كافر، وسيأتي في الباب الخامس حكم من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة، وحكم من ألحد في أسماء الله وصفاته.
1 أخرجه أصحاب السنن الأربعة، ومسلم في التعوذ والأدعية.
2 المصدر السابق، وتقدم تخريجه.
3 استقينا هذه المعاني من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، راجع مجموع الفتاوى 12/330 وما بعدها.