الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع: آثار الصفات الإلهية في النفس البشرية والكون
إذا كنا قد تحدثنا عن العلاقة بين الصفات والذات وبيّنّا ما بينهما من التلازم، ثم استعرضنا طبيعة علاقات الصفات بعضها ببعض من حيث الآثار والمعاني، ثم تحدثنا عن حكم من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة، وأن ذلك قد يؤدي إلى الكفر أحياناً وعرفنا أخيراً موقف كل من السلف والخلف من معاني صفات الله تعالى وأسمائه. بقي أن نعرف ما آثار تلك الصفات في هذا الكون عامة وفي النفس البشرية خاصة. لذا نقول:
الصفات وآثارها في النفس البشرية والكون:
إن الله تعالى خالق كل شيء، ومدبر هذا الكون وحده، وهو المنعم المتفضل. فهذه المعاني تكمن في أسمائه الحسنى وصفاته العلى. فلا بد من ظهور آثار أسمائه وصفاته في هذه الحياة في النفس البشرية بل وفي الكون كله، إلا أن الاهتداء إلى تلك الآثار أو الانتباه لها يتوقف على توفيق الله تعالى.
ولو أجال الإنسان فكره في هذا الكون الفسيح، بل لو فكر في نفسه جيداً وراجع ماضيه وأطوار حياته، ثم فكر فيما حوله لرجع من هذه الجولة بعجائب، واستفاد منها فوائد ما كان يحلم بها، وكما قلت إنما يتوقف الأمر على توفيق الله اللطيف الودود بل إن التوفيق نفسه من آثار رحمته التي سوف تكون حجر الزاوية في بحثنا في هذه النقطة.
ولبيان ما أشرنا إليه نجعل منطلقنا الآية الكريمة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ* فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} 1، فحكمته تعالى تأبى أن خلق الخلق عبثاً، ويتركهم سداً، ويسلمهم للفوضى، لا أمر ولا نهي، ولا تدبير ولا تعليم ولا توجيه. بل موجب حكمته تعالى أن يكونوا على عكس ما ذكر كما هو الواقع، خلقهم فدبر أمرهم من السماء إلى الأرض، فبعث إليهم من يقوم بتعليمهم وتوجيههم إلى ما فيه صلاحهم ويعرفهم بربهم وخالقهم ويعرفهم بحقه عليهم، وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. ولا يتخذوا من دونه نداً وهو خلقهم كما يعرفهم حقهم على ربهم وخالقهم المتفضل عليهم بأن يجعل لهم حقاً على نفسه لطفاً وتفضلاً وإحساناً لأن من أسمائه الرحمن الرحيم، وهو لطيف بعباده، وهو بالمؤمنين رحيم رحمة خاصة، علما بأن رحمته العامة وسعت كل شيء. وقد وسع عباده رحمة وعلماً، وقد بعث إليهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آيته ويزكيهم وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
هنا لطيفة أود التنبيه عليها، وهي أن الله وصف نبيه الكريم ورسوله الأمين محمداً صلى الله عليه وسلم بالرحمة حيث يقول عز وجل:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} 2، ما ألطف المقام! لأن الله الذي أرسل رسوله إلى عباده هو الرحمن الرحيم، ومن آثار رحمته أن أرسل هذا الرسول إليهم وهو من أنفسهم، ليس بجني ولا ملك لكيلا يستوحشوا منه - والله أعلم- ثم وصف هذا الرسول بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم. فجعْلُ نبيه بهذه المثابة ووصفه بهذه الصفات أَثَرٌ من آثار رحمته الكثيرة التي لا ينبغي التفكير في حصرها والإحاطة بها لأنها -كما قلنا بلغت حيث بلغ علمه، وهو بكل شيء عليم، هذه النقطة من بحر آثار رحمته سبحانه ومن أسمائه (الملك) ومن مُوجب صفة الملك أن يتصرف في مملكته
1 سورة المؤمنون آية: 115-116.
2 سورة التوبة آية: 128.
ويفعل، بل هو فعال لما يريد، وتأبى هذا الصفة أن يكون معطلاً عن الفعل، لأن الفعل كمال وعدم الفعل نقص، وما نشاهده في هذا الكون من إحياء وإماتة وعطاء ومنع ومن إعزاز وإذلال ورفع وخفض وغيرها من تلك الأفعال التي لا تنقطع (ثانية) من الزمن التي هي بعضٌ وبعضٌ يسير جداً من آثار صفة الملك وغيرها من بعض الصفات مثل صفة الحياة والإرادة والقدرة.
يحدثنا الإمام ابن القيم في هذه النقطة المهمة حيث يقول رحمه الله: والأسماء الحسنى والصفات العلى، مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها آثارها من الخلق والتكوين. فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها. إلى أن قال: فعِلْم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع، والخلق والرزق الإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً. ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً1 اهـ.
وهذه الإشارة اللطيفة من الإمام ابن القيم تثير الانتباه إلى أن من آثار الأسماء الحسنى والصفات العلى تلك المعاني التي يجدها العبد في عبوديته القلبية التي تثمر التوكل على الله والاعتماد عليه وحفظ جوارحه وخطرات قلبه وضبط هواجسه حتى لا يفكر إلا في مرضاته يرضى لله ويحب لله وفي الله، به يسمع وبه يبصر ومع ذلك هو واسع الرجاء وحسن الظن بربه وهما أثران من آثار معرفته لجوده وكرمه وبره وإحسانه، وإنه عفو يحب العفو وإنه واسع الرحمة.
هذه المعاني وما في معناها تثمر له العبودية الظاهرة والباطنة على تفاوت بين شخص وآخر، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
1 مفتارح دار السعادة 2/ 90 للإمام ابن القيم.
هكذا ترجع العبودية كلها إلى مُوجب أسمائه وصفاته، بل وترتبط بها جميع شئون الخلق، ومن أسمائه تعالى الغفار، التواب، العفو، فلا بد لهذه الأسماء من موجبات ومتعلقات. الغفار هو الذي يغفر الذنوب، والعفو هو الذي يعفو يصفح عن الهفوات والخطايا ويمحوها، التواب هو الذي يقبل التوبة عن عباده بل ويفرح بها، وذلك يعني أنه لا بد من وقوع أخطاء ومخالفات أو جرائم يعفو عنها الرب العفو سبحانه، ولا بد من ذنوب وجناية تغفر، فالرب تعالى عفو يحب العفو ويحب المغفرة والسماح فبينما العبد يتقرب إليه بعبودية امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ويجتهد في الطاعات إذ يجد نفسه قد زل وانزلق. فيبادر إلى عبودية التوبة والاعتراف والإقرار والندم والبكاء على ما جنى، يطلب العفو والغفران متبرأ من حوله وقوته ومعترفاً بعجزه وضعفه ومسكنته، وهي من أحب أنواع العبودية كما تقدم، يدل على ذلك فرح الله العظيم تلطفاً بهذا المسكين الذي لولاه سبحانه لم يكن له خلاص مما وقع فيه.
هكذا يظهر جلياً آثار أسمائه العفو الغفار التواب الحليم اللطيف، وأن الذي تقتضيه حكمته سبحانه أنه يقدر الأرزاق والآجال وغيرها لحكمة يعلمها ولا يعلمها غيره، لأنه لا يفعل ما يفعل ولا يقدر إلا لحكمة، وكذلك تقدير الذنوب والمعاصي. إنما يقدرها ويبتلي بها عباده لحكمة خفية ولطيفة.
ولعل من الحكم في تقديرها - والله أعلم- حبه تعالى لعبودية التوبة والإنابة، والقضاء على داء الإعجاب والكبر والأنانية ليعرف العبد قدر نفسه وأنه ليس بشيء إلا بالله وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، ولو لم يحفظه لهلك في يد عدوه (الشيطان) وإن لم تدركه رحمة ربه لبقي أسيراً في قبضة عدوه، ولكن الله اللطيف الغفار هو الذي ينقذه ويخلصه من الأسر إذا قرع بابه
في مسكنة وذل وعجز وهو يجأر إليه {لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ،" اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
ومن هنا يأتيه ذلك الإسعاف - وهو يكاد أن ييأس- " لله أشد فرحاً بتوبة عبده" الحديث، ومثول العبد في هذا الموقف يقضي -كما قلت- على داء خطير وهو داء العجب والغرور، وخير ما يشهد لما ذكرنا حديث أنس بن مالك عند القضاعي يرفعه:"لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك، العُجب العُجب" 1 اهـ.
وقال بعد أهل العلم: إنما كان العجب أشد، لأن المعاصي معترف بنقصه، فترجى له التوبة، والمُعْجَب مغرور بعمله فتوبته بعيدة.
وقد وردت في هذا المعنى عدة أحاديث من عدد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منها: حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي يقول عندما حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون، لخلق الله خلقاً يذنبون ويغفر لهم".
ومنها رواية لأبي أيوب نفسه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم".
ومنها حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم"2.
1 مسند القضاعي ص: 160 مخطوط تحت رقم 77 مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهو القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي القضاعي صاحب كتاب المختار في ذكر الخطط والآثار المعروف بالشهاب توفي عام 454هـ (معجم المؤلفين 10/42) .
2 صحيح مسلم بشرح النووي 17/64-65 الطبعة الأولى المصرية بالأزهر.
ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ويغفر لهم"1.
عند القضاعي، رفعه العجلوني في كشف الخفاء.
وهذه الأحاديث يفهم منها مكانة (عبودية التوبة) والإنابة والرجوع إلى الله من وقت لآخر، وعدم الاعتماد على الأعمال لئلا يهلكه الغرور وربما أدى ذلك إلى نسيان ربه وولي نعمته سبحانه إذ يرى نفسه كل شيء.
ولمكانة هذه العبودية (عبودية التوبة) ولزوم الاستغفار، ولكونها محبوبة إلى الله تعالى، وفيها تكمن مصالح العباد لذلك كله يبتليهم ربهم بأسبابها "وقد جعل الله لكل شيء سبباً" حكمة منه وكأنه عليه الصلاة والسلام يقول: لو لم تتوافر فيكم أسباب عبودية التوبة لذهب الله بكم ولجاء بقوم آخرين تتوافر فيهم تلك الأسباب ليتقربوا إلى الله بالتوبة ولزوم الاستغفار، ولكن الله لطف بكم فجعلكم أنتم الذين تتمتعون بهذه العبودية، تذنبون ولا محالة، فإذا أذنبتم فلا ملجأ لكم إلا إلى الله تفرون منه إليه، وتستغفرونه وتجأرون إليه وحده فيتوب الله على من شاء منكم.
هذا ملخص معنى الحديث - والعلم عند الله - هكذا أراد الله لعباده التوابين أن يعيشوا في آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى، تفضلاً منه وإحساناً وهو الغفور الشكور.
قال الإمام ابن القيم: ومن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات، والأفعال، إلى أن قال: فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة والآيات الباهرة. ثم واصل كلامه وهو يقول: إن كل اسم له تعبدٌ يختصّ به علماً ومعرفة وحالاً.
1 حسنه القضاعي وتقدم.
وأكمل الناس عبودية هو المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه (القدير) عن التعبد باسمه (الحليم) و (الرحيم) أو يحجبه التعبد باسمه (المعطي) عن عبودية اسمه (المانع) أو عبودية اسمه الرحيم، العفو الغفور عن عبودية اسمه المنتقم الجبار مثلاً إلى أن قال: هذه طريقة الكمل من السائرين1 ا. هـ
ولعل الإمام ابن القيم يريد أن يأخذ هذه المعاني التي فصلها، من قوله تعالى:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، بعد أن يتوسع في مفهوم الدعاء ليشمل دعاء المسألة، ودعاء الثناء، ودعاء التعبد، لأن الله تعالى يدعو عباده إلى معرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله ليعبدوه في ضوء تلك المعرفة ويثنوا عليه سبحانه، فَعلْم العبد بأن ربه معه يراه ويرى مكانه ويسمع كلامه ويعلم منه كل شيء جليله ودقيقه، وأنه هو الذي يحركه إذا شاء فيوقفه ليعبده ويدعوه، ثم هو الذي يجيب دعوته تفضلاً منه ويعطيه سؤاله. إن إدراك العبد لهذه المعاني يورثه الحياء من الله والخجل عندما تحدثه نفسه الأمارة بالسوء بنوع من المخالفة. كما يورثه في الوقت نفسه الرغبة في التوبة والإنابة والرجوع كلما أصابته (عثرة أو كبوة) في سيره إلى الله سبحانه. ولا ييأس من رحمته، هذه بعض آثار إيمانه بأن الله معه، وأنه قريب منه في كل لحظة.
وهذه الآثار جميعها تنقله إلى عبودية (المحبة) فيحب الله حق المحبة، ويُؤثر محبته على محبة كل محبوب، فيقدم طاعته على طاعة كل مطاع، ويتفانى في عبادته، ويجد فيها الراحة كلها "أرحنا بها يا بلال" ويحس بالوحشة إذا
1 ابن القيم: مدارج السالكين 1/419-420 تحقيق حامد الفقي ومحمد محي الدين.
ضعفت هذه (الطاقة) ويصبح قلقاً (خبيث النفس) ولا يهدأ له بال حتى يستجير بالله وحده لينقذه فيجيره ربه، وهو اللطيف بعباده -فتعود له تلك المعاني والعبودية التي فقدها. فهذه نفسها عبودية أخرى، وهي عبودية (الجهاد للنفس) فهو دائماً في هذا الصراع وفي هذا الجهاد من وقت لآخر، وربك عليم حليم لا يقع شيء مما ذكرنا وما لم نذكره إلا بعلمه وتقديره، وحكمة منه سبحانه.
فآثار إيمان العبد بأسماء الله وصفاته، وفي مقدمة ذلك آثار إيمانه بمحبته وقربه، وآثار محبة العبد لربه ومولاه محبة صادقة فلا بد أن تترجم كلها إلى حسن عبادته والحرص على طاعته واتباع هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والتفاني في الخدمة طالباً رضاه سبحانه.
وبعد فهذا المقام مقام يصعب على المرء العادي أن يخوض فيه، وهو فوق طاقته، فلندع الميدان لفرسانه، فلنمسك القلم عن الخوض فيما هو عاجز عنه.
إذا لم تستطع شيئاً فدعه
…
فجاوزه إلى ما تستطيع
فنعود لابن القيم حيث يقول: وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته فهو (عليم) يحب العلم ويحب كل عليم، جواد يحب كل جواد، وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفو يحب العفو وأهله، ثم قال: فلمحبته للتوبة والمغفرة والعفو والصفح خلق من يغفر له، ويتوب عليه، ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه، والمبغوض له، ليترتب عليه المحبوب له، والمَرضيّ عنه.
ثم ذكر أن الأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع:
النوع الأول: سبب محبوب يفضي إلى أمر محبوب لله.
النوع الثاني: سبب مكروه يفضي إلى أمر محبوب له سبحانه، وذكر أن هذين النوعين عليهما تدور أقضيته تعالى وأقدراه بالنسبة إلى ما يحبه ويكرهه.
وأما النوع الثالث: فمكروه يفضي إلى مكروه.
النوع الرابع: محبوب يفضي إلى مكروه وهما ممتنعان في حق الله سبحانه، وذلك لأن الغايات المطلوبة من قضائه تعالى وقدره الذي لم يخلق ما خلق ولم يقض ما قضى إلا لأجله لا تكون إلا محبوبة للرب تعالى مرضية له سبحانه.
وأما الأسباب الموصلة إليها فمنقسمة إلى محبوب له، ومكروه له.
فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له موصلة إلى الإحسان والثواب المحبوب له أيضاً. والشرك والمعاصي أسباب مسخوطة موصلة إلى العدل المحبوب له، كذلك هكذا يتضح أن مدار القضاء والقدر وما يترتب عليهما إنما هو على أسماء الله وصفاته بصرف النظر عن نوع المقضي والمُقدّر. فكل ذلك من الله ومن آثار أسمائه وصفاته. ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والشأن كل الشأن في فقه ذلك:"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"1.
وبعد، فلو قيل إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة" هو إدراك آثار الأسماء الحسنى والصفات العلى إدراك آثارها في الكون بما يقضيه الله ويقدره وفي النفس البشرية والتصرفات الإنسانية اليومية وغيرها ثم التزام التعبد بآثار كل اسم دون أن يحجبه التعبد
1 راجع مدارج السالكين لابن القيم 1/420-421.
بآثار اسم معين عن التعبد بآثار أسمائه الأخرى، لو قيل: إن هذا من معاني الحديث لما كان هذا القول بعيداً فيما يبدو لي. ولو كنت أعلم أن لي سلفاً في هذا المعنى لاخترته وأيدته. وإن كان تحقيقه صعباً، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
فالجنة سلعة غالية فثمنها ليس في متناول كل أحد. "حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ".
الخاتمة
وبعد أن أتممت عملي بتوفيق من الله وعونه -في هذه الرسالة- أرى تذييلها بخاتمة للبحث مرتبة حسب ما وردت في أبواب الرسالة وفصولها ليسهل الرجوع إليها عند الحاجة، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: المدخل:
وقد بحثت في هذا المدخل نقاطاً كثيرة.
منها: تعريف السنة لغة مع ذكر الشواهد اللغوية توضح المعنى المراد، ثم عرفتها في الاصطلاح وأوردت اصطلاح الفقهاء مع الأمثلة.
واصطلاح المحدثين كذلك، وذكرت أنها قد تأتي في مقابل البدعة، وذلك كقولهم: فلان على السنة إذا كان عمله وتصرفاته الدينية وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال: فلان على خلاف السنة أو مخالف للسنة إذا كان مبتدعاً.
ثم تحدثت في آخر هذه النقطة عن الفرق بين السنة والقرآن وبينت أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، متعبد بتلاوته ولا تصح الصلاة إلا به، بخلاف السنة فإنها، إنما تنسب إلى الله من حيث المعنى فقط، وأما لفظها فمن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقرأ تعبداً ولا تصح بها الصلاة وأما من حيث ثبوت الأحكام والعقيدة بها فهي كالقرآن من هذه الحيثية ولا فرق بينهما.
وأما الحديث القدسي فهو يوافق القرآن في أنه من عند الله لفظاً ومعنى، مع ملاحظة الخلاف، ويوافق الحديث النبوي في أنه لا يتعبد بتلاوته ولا تصح الصلاة به.
وأما المبحث الثاني: فقد أثبتُّ فيه حجية القرآن والسنة في باب
العقيدة، بل أوضحت أنهما هما المصدران الأساسيان لكل بحث في العقيدة لكونهما وحيين من الله تعالى بصرف النظر عن الفوارق التي ذكرناها آنفاً.
ثم انتقلت إلى المبحث الثالث فتحدثت فيه عن مدى حجية أخبار الآحاد في باب العقيدة، فأثبت أنه لا فرق عند التحقيق بين المتواتر والآحاد في إثبات الصفات، لأن المدار على صحة الحديث وثبوته عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأثبت بعد مناقشة طويلة أنه لا يوجد ما يثبت أن للعقيدة فئةًَ معينة من الأدلة غير الفئات التي يستشهد بها في الأحكام وأن التفريق بين الآحاد والمتواتر من حيث الاستدلال بهما عمل لا مستند له، وأن القائلين بهذا القول ليس لهم سلف، وقد قسمت الأحاديث إلى أربعة أقسام:
أحدها: المتواتر لفظاً ومعنى.
وثانيها: المتواتر معنىً لا لفظاً.
وثالثها: الأخبار المستفيضة المتلقاة بالقبول لدى الأمة.
رابعها: أخبار آحاد مروية بنقل رواة عدول ضابطين من أول السند إلى آخره، ثم تحدثت عن كل قسم. من حيث الاستدلال به في باب العقيدة، وأثبت الاستدلال حتى بالقسمين الأخيرين استناداً إلى عمل المسلمين في الصدر الأول وما يليه، وذكرت أمثلة حيّة لذلك، في العصور السابقة وسقت عدة أحاديث للاستشهاد بها فيما ذهبت إليه، ونوهت أن ما ذهبت إليه هو ما عليه المحققون من الأئمة الذين لهم وزنهم عند أهل العلم.
وأما المبحث الرابع: فقد تحدثت فيه بإسهاب عن بدعة الزاعمين الاكتفاء بالقرآن وإهمال السنة ووصفت هؤلاء بالجهل أو التجاهل حيث يكابرون الواقع الذي يعلن عن نفسه بأن السنة تفسير للقرآن، وأن القرآن نفسه يدعو إلى الأخذ بالسنة والعمل بها إذ يقول الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} وبينت أن الأمر بأخذ ما جاء به
الرسول يشمل كل ما صحت به السنة المطهرة من الأحكام وإثبات صفات الله وإثبات المعاد وغير ذلك، وَرَدَ في القرآن أو لم يَرِدْ، لأن ذلك من مقتضى الإيمان بالرسول ورسالته.
وذكرت أن هؤلاء القرآنيين الجدد ليس لهم سلف فيما ذهبوا إليه إلاّ غلاة الرافضة والزنادقة، بل أوضحت أن غلاة هؤلاء الروافض الذين هم سلف القرآنيين الجدد اتهموا من شدة وقاحتهم جبريل عليه السلام بعدم العصمة حيث زعموا أنه أخطأ فنزل بالوحي على محمد عليه الصلاة والسلام، بينما كان الواجب أن ينزل بالوحي على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكرت هنا ما يلزمهم من هذا الزعم من لوازم كفرية لا يستطيعون الفكاك منها عقلاً وشرعاً.
ثم ذكرت ضعف الحديث الذي استدلوا به على ما زعموا، وبينت - بناء على ما ذكره علماء الحديث- أنه حديث هالك لا تقوم له قائمة، وتقدم تخريجه.
ونقلت كلام الإمام الشافعي الذي قسم فيه السنة إلى ثلاثة أقسام:
ومن الأقسام الثلاثة، ما سن الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص الكتاب إلى آخر الحوار الطويل بين أهل السنة وعلماء الحديث وبين دعاة الاكتفاء بالقرآن.
وأضحت في نهاية المطاف في هذا المبحث أن الكفر بالسنة يلزم منه الكفر بالقرآن ولا محالة.
وأما المبحث الخامس: فقد تحدثت عن منهج السلف في إثبات صفات الله وأسمائه، أولاً: عرفت من هم السلف، وبينت بداية اشتهار هذا اللقب وسببه وهو ظهور النزاع في أصول الدين بين الفرق الكلامية ومحاولة الجميع الانتساب إلى السلف الصالح، ثم تحدثت عن قواعد وأسس للاتجاه
السلفي التي بها يعرف المنهج، حتى لا يختلط الأمر على الذين يريدون الاقتداء بهم في كل زمان.
القاعدة الأولى: تقديم النقل على العقل. وقد تحدثت في هذه القاعدة بإسهاب.
القاعدة الثانية: رفض التأويل في باب الأسماء والصفات خشية القول على الله بغير علم، لأن المعنى المؤول إليه ظني غير يقيني، وناقشت هنا مشكلة معارضة العقل للنقل وأثبت أن النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح، وقد كررت هذه القاعدة في غير موضع بالمناسبات لأهميتها.
أما القاعدة الثالثة: فهي عدم التفريق بين الكتاب والسنة بل السنة هي التفسير والتفصيل للكتاب فيما أجمل فيه من أحكام، وقد أوضحت في هذه النقطة أن السلف يعملون بما تنفرد به السنة أحكاماً وعقيدة بعد التثبت من صحتها، ثم أوردت من أقوال بعض علماء التابعين وتابعي التابعين ما يشهد لما ذهبت إليه وفي آخر هذه النقطة ذكرت ما نقله البيهقي عن الإمام الشافعي في حكمه على أهل الكلام المخالفين لمنهج السلف حيث يقول: حكمي في أهل الكلام أن يطاف بهم في القبائل والعشائر ويضربوا بالجريد، ويقال: هذا جزاء من ترك كتاب الله واتبع علم الكلام، وللإمام مالك كلام يشبه كلام الشافعي رحمهما الله.
أما المبحث السادس: فقد تحدثنا فيه عن مفهوم الذات والصفات عند علماء الحديث والسنة وذكرنا فيه بأن علماء الحديث والسنة يؤمنون بذاته الموصوفة بجميع الكمالات، وأنه لا حد لكمالاته، فكمالاته لا تعد ولا تحصى كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:" لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "، وليس الأمر كما زعمت المعتزلة أن اتصافه تعالى بالصفات
يتنافى والتوحيد وأوضحت أنه زعم فاسد عقلاً وشرعاً، ومما أوضحت في هذه النقطة أن علم حقيقة ذاته تعالى وكيفيتها أمر لا سبيل إليه لأيّ مخلوق إذ ليس من الجائز ولا من الممكن أن يحيط المخلوق بالخالق {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} .
ثم أوردت مناقشة جرت حول لفظة (ذات) بين أهل العلم وخلاصتها: أن إطلاق لفظة (الذات) في حق الله تعالى وارد في السنة الصحيحة استدلالاً بقصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: "ثلاث كذبات كلهن في ذات الله"، وقصة (خبيب) رضي الله عنه حيث يقول:(وذلك في ذات الإله) إلى آخر الأبيات.
ثم تحدثت في الفصل الأول في هذا المبحث عن معنى الإلهية، وبينت فيه أن (إله) فعال بمعنى مفعول مثل كتاب بمعنى مكتوب، وإمام بمعنى مؤتم به، فيكون معناه (معبود) وناقشت هذه اللفظة مناقشة لغوية مستفيضة.
وخلاصتها أن إله والآلهة يطلقان على كل ما عبد بأي نوع من أنواع العبادة ولو كان المعبود من الجمادات.
وأما لفظ الجلالة (الله) فلا ينطلق إلا على المعبود بالحق، وهو خالق السموات والأرض.
أما في الفصل الثاني: فقد تناولت فيه معنى الصفة لغة واصطلاحاً، وذكرت أن الصفة والنعت مترادفان مع الإشارة إلى الخلاف القائم في المسألة، وربما رأى بعضهم أن الصفة أعم من النعت، لأنها تنطلق على الصفات الذاتية الثابتة وعلى الصفات متجددة معاً، وأما النعت فلا ينطلق إلا على الصفات المتجددة، هذا ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله.
وللصفة إطلاقات كثيرة في اللغة، وقد أوردت أكثرها في هذا الفصل، ثم ذكرت معنى الصفة في اصطلاح المتكلمين وهي حال وراء الذات أو ما قام بالذات من المعاني والنعوت. وهي صفات الجلال والكمال في حق الله تعالى، ثم بينت أن صفات الله تعالى توقيفية، فلا مجال فيها للاجتهاد والاستحسان، بل الواجب في هذا الباب الوقوف عند ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ثم ختمت هذه النقطة بالتنويه بأن الصفات كلها من باب واحد ذاتية كانت أو فعلية.
وأما الفصل الثالث: ففيه بحث موجز عن الذات الإلهية في القرآن.
وقد أوردت في هذا الفصل عديداً من الآيات القرآنية تتحدث عن الذات الإلهية، دون تصريح بلفظ (الذات) وكثيراً ما يصدر الحديث باسم (الله) فالله علم على الذات العلية، فسقت آيات كثيرة في هذا المعنى مثل قوله تعالى:{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هذا، وأوضحت في آخر هذا الفصل أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين كانوا يتلون القرآن الكريم ويسمعون أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام كثيراً ولكنهم لم يقفوا قط موقف التساؤل: هل الصفة غير الذات أو هما شيء واحد؟ هذا ما لا يخطر على بال أحد منهم. بل يعتبر هذا المبحث وأمثاله من مبتكرات علم الكلام.
وأما الفصل الرابع: فقد تحدثت فيه الذات في السنة وبينت فيه أنه قد وردت عدة أحاديث فيها إطلاق لفظ (الذات) وإثباتها لله تعالى ثم سردت بعض تلك الأحاديث:
1-
حديث قصة إبراهيم الذي تقدم.
2-
حديث قصة خبيب الأنصاري وتقدمت الإشارة إليه.
3-
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في الله" وفي معناه حديث أبي الدرداء، ثم ختمت تلك الأحاديث بقول حسان رضي الله عنه: إذ يقول:
وإن أخا الأحقاف إذ قام فيهم
…
يجاهد في ذات الإله ويعدل
وأما المبحث السابع: فقد تحدثت فيه عن مواقف خمسة من كبار الأئمة وسميتهم المدافعين عن منهج السلف وهم:
1-
الإمام أحمد بن حنبل.
2-
الإمام البخاري.
3-
الإمام الدارمي.
4-
الإمام ابن تيمية.
5-
الإمام محمد بن عبد الوهاب.
وقد أوضحت موقف كل واحد منهم من منهج السلف، وكيف دافعوا عنه واستشهدت على ذلك بما سجلوا في كتبهم مع الإشارة إلى أن هناك أئمة آخرين قاموا بما قام به هؤلاء الأئمة مع وجود الفوارق في ذلك.
وقد تحدثت في هذا المبحث عن تاريخ بدء ظهور الجهمية، وذلك في المائة الثانية من الهجرة، ثم انتشرت في المائة الثالثة، كما تحدثت عمن تولى إذاعتها والدعاية لها والدفاع عنها، وذكرت في آخر هذا المبحث استنكار الأئمة المعروفين بالإمامة في الإسلام لموقف الجهمية، كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن الماجشون، والأوزاعي وغيرهم.
المبحث الثامن: أما هذا المبحث فقد ناقشت فيه موقف كل من المعتزل والأشاعرة من نصوص الصفات بعد أن عرفت كلاً من المعتزلة والأشاعرة وبينت أسباب التسمية لكل من الطائفتين، ثم بينت أن الاعتزال يدور على أربع قواعد:
القاعدة الأولى: القول بنفي صفات الله تعالى ذاتية أو فعلية.
القاعدة الثانية: القول في القدر بغير علم حتى نفوا علم الله للأشياء أزلاً وكذا التقدير السابق.
القاعدة الثالثة: القول بالمنزلة بين المنزلتين.
القاعدة الرابعة: الخوض فيما جرى بين الصحابة من الأمور الاجتهادية.
ثم ذكرت أصولهم الخمسة المعروفة وعددتها أصلاً أصلاً نقلاً من مراجعهم.
كما بينت خطأهم في مفهوم التنزيه حيث زعموا أن التنزيه هو نفي الصفات كلها وعدم وصف الله بأي صفة. وهنا ناقشتهم كثيراً في هذا الخطأ وبينت بُعدَهم عن النصوص.
وأتبعت ذلك ببيان التنزيه عند السلف، وخلاصته أن ينفى عن الله ما لا يليق به من النقائص كالصاحبة والولد والوالد والشريك والمماثل له في صفاته وأسمائه وأفعاله، مع إثبات كمالاته جملة وتفصيلاً.
ثم أجريت حواراً ومحاججة بين الباطنية والمعتزلة، وموضوع المحاججة تناقض المعتزلة في موقفهم من النصوص حيث يؤولون نصوص الصفات ولا يؤولون نصوص المعاد. وفي هذه النقطة حاججت الباطنية المعتزلة فحجتها.
ثم تقدمت المعتزلة للأشاعرة بمحاججة مماثلة في تأويل الأشاعرة بعض الصفات دون بعضها فحجتهم المعتزلة (وكلّ كاسرٌ مكسُورٌ) .
والمبحث التاسع: يشتمل على فصلين:
الفصل الأول: في بيان
أسباب انتشار العقيدة الأشعرية واشتهارها في العالم على الرغم من رجوع الإمام أبي الحسن إلى طريقة السلف الصالح، وقد أوجزت تلك الأسباب فيما يلي:
1-
كثرة الحق عندهم بالنسبة للباطل الكثير الذي عند غيرهم من طوائف أهل الكلام.
2-
استعمالهم الأدلة العقلية في مواجهة المعتزلة مما أكسبهم الشعبية.
3-
ضعف الآثار النبوية في تلك العصور لأن الآثار هي التي تبين للناس سبيل الحق حتى لا يقعوا في المشبهات والبدع.
4-
العجز والتقصير الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث حيث يروون أحياناً ما لا يعلمون صحته من الآثار والأحاديث.
وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة عن حقائق الأمور إلى غير ذلك من الأسباب التي ذكر بعضها المقريزي في خططه المعروفة1.
الفصل الثاني: في بيان موقف كبار شيوخ الأشاعرة من منهج السلف، وقد أثبت في هذا الفصل رجوع أولئك الأئمة إلى منهج السلف في آخر حياتهم بعد أن قضوا زمناً غير قصير في علم الكلام، وبعد رجوعهم أثنوا على مذهب السلف ثناءً عاطراً هو أهل له، ثم دعوا شيوخهم وزملاءهم إلى الرجوع إلى الحق الذي وجدوه في منهج السلف ومن هؤلاء الأئمة بل وفي مقدمتهم:
أ- الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله الذي أثبت رجوعه فيما
1 تقدم الكلام عليها.
سجله في كتابه (الإبانة) وأوردت أسماء عدد من العلماء ممن ذكروا رجوعه رحمه الله:
1-
منهم ابن عساكر.
2-
ابن خلكان.
3-
الحافظ ابن كثير.
4-
الذهبي.
وأخيراً محب الدين الخطيب الذي تحدث عن أطواره الثلاثة.
أولاً: طور الاعتزال إذ كان إمام في الاعتزال.
ثانياً: خروجه عليهم ومعارضته لهم بأسلوب متوسط بين أساليبهم ومذهب السلف.
ثالثاً: وأخيراً انتقاله إلى مذهب السلف وتأليفه فيه كتابه (الإبانة) في أصول الديانة وأمثاله، ومما ذكره محب الدين في رجوعه العبارة التالية:(وقد أراد أن يلقى الله وهو على ذلك) أي على المذهب السلفي.
ب- الإمام الجويني (الأب) والد إمام الحرمين، وقد تحدثت عن رجوع هذا الإمام بإسهاب، ونقلت نقولاً متنوعة من رسالته التي ألفها بعد رجوعه إلى مذهب السلف، وبينت في ترجمة هذا الإمام أنني لم أجد أحداً رجع عن علم الكلام إلى مذهب السلف رجوعاً كرجوعه وهو أصدقهم لهجة وأخلصهم نصحاً لمن خلّفهم بعده من شيوخه وأصدقائه، والرسالة المشار إليه لا تتجاوز (15) صفحة. وأوضحت أنها على قصرها حقق فيها الإمام مسائل العلو والاستواء وصفة الكلام تحقيقاً لم يسبق إليه - فيما أعلم- وهذا هو سر ثنائي عليها وعلى مؤلفها الإمام الجويني (الأب) .
وقد أبرزت الجانب الذي ركز عليه الإمام في (رسالته) وهو إثبات صفة العلو والفوقية.
ج- الجويني الابن: ترجمت لهذا الإمام وتحدثت عنه حديثاً أوضحت فيه ندمه في آخر حياته على خوضه في علم الكلام إلى أن رجع
إلى مذهب السلف، ومما يعبر عن رجوعه رسالته المعروفة باسم (النظامية) ، وأحب أن أثبت بعض عباراته التي وردت في النصيحة التي وجهها لأئمة الشافعية، حيث قال:(يا أصحابنا لا تشتغلوا بعلم الكلام، ولو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به) .
د- الإمام الغزالي: وقد ترجمت لهذا الإمام ترجمة موجزة لأثبت من خلالها رجوعه إلى مذاهب السلف وتحذيره من الخوض في علم الكلام - وأصرح كلام قاله الإمام في هذا الصدد قوله في عنوان كتابه اللطيف (إلجام العوام عن علم الكلام)، وقد أشاد الغزالي في هذا الكتاب بمذهب السلف وتحدث عن حقيقته وخلاصة ما قال في مذهب السلف:"مذهب السلف هو الاتباع دون الابتداع".
هـ- أبو الفتح الشهرستاني: وقد أدركت من خلال ترجمته الموجزة أنه تندم كثيراً على خوضه الطويل في علم الكلام، وعبر عن ذلك في آخر كتاب ألفه:(نهاية الإقدام في علم الكلام) . والكتاب مطبوع معروف.
و فخر الدين الرازي المتكلم المعروف وقد أعلن عن رجوعه في مناسبات كثيرة، وأوضح شيء في ذلك ما تضمنه هذان البيتان:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
إلى آخر تلك الأبيات المنقولة عنه.
وقد برهنت بما نقلت عنهم أن بعض كبار شيوخ الأشاعرة رجعوا عن الأشعرية الكلابية، مقتدين بالإمام أبي الحسن نفسه، وهو إمامهم في الأشعرية أولاً، وإمامهم بالسلفية أخيراً.
ولله الحمد والمنة.
هذه النقاط هي خلاصة النتائج التي اشتمل عليها المدخل.
الباب الأول:
وبعد أن أنهيت الكلام على المدخل أوردت خمس نقاط مهمة ينبغي الوقوف عليها قبل الشروع في الكلام على الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهي:
أولاً: إن ما يدخل في باب الإخبار عن الله تعالى أوسع مما يدخل في أسمائه وصفاته كالشيء والموجود والقائم بالنفس والمخالف للحوادث والقديم.
ثانياً: أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه تعالى، بل يطلق عليه معنى الكمال فقط، وهذا كالمريد، والفاعل والصانع عند الإطلاق.
ثالثاً: لا يلزم من الإخبار عنه تعالى بالفعل المقيد أن يشتق له منه اسم مطلق كما غلط فيه بعضهم مثل المضل والفاتن والماكر، وغيرها.
رابعاً: لم يرد حديث صحيح يعتمد عليه في تعداد الأسماء الحسنى التسعة والتسعين، التي من حفظها دخل الجنة، ولكن اعتماد أهل العلم في ذلك على الكتاب العزيز مع بعض الآثار التي يشهد لها الكتاب.
خامساً: قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير بعد أن ذكر أقوال بعض أهل العلم في تعداد الأسماء الحسنى: وقد عاودت تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررت منه تسعة وتسعين اسماً إلى آخر كلامه بهذا الصدد.
ثم تحدثت عن مزاعم أهل الكلام في الأسماء والصفات وتخبطهم بغير علم، حيث ينفي بعضهم الصفات والأسماء معاً ليزعم وجود ذات
مجردة عن الأسماء والصفات، وهذا من أفسد مزاعمهم، إذ هو ضرب من المحال وهؤلاء هم الجهمية الغلاة، ثم سجلت مناقشة مستفيضة للإمام ابن القيم في هذه النقطة حيث أثبت في آخر المناقشة أن هذا من أعظم الإلحاد في أسماء الله، ثم أشرت إلى كلام الإمام البيهقي في نفس المعنى.
ثم ذكرت الفرق بين الأسماء والصفات، فأثبت أن الصفات إنما هي من معاني الأسماء الحسنى في الغالب بخلاف بعض الصفات مثل الوجه واليدين والقدم وغيرها، والأسماء دالة عليها كما تدل على الذات. وهو ما يعنيه الإمام البيهقي بقوله:"وأسماؤه صفاته، وصفاته أوصافه".
ثم أوضحت بطلان مذهب المعتزلة وتناقضهم لأنهم قد ينفون الصفات مع دعواهم إثبات أحكامها، وهي الأسماء وهو موقف لا يقفه إلا من يغالط الواقع، ويكابره أو لا يدري ما يقول.
وبعد أن أنهيت مناقشة المعتزلة أوردت عديداً من الآيات والأحاديث تدل على الأسماء الحسنى مثل قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . وهذه الآية تعتبر آية (الباب) أي العمدة في إثبات الأسماء الحسنى1.
ومن الأحاديث التي استشهدت بها قوله عليه الصلاة والسلام: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة"2.
ثم سردت عدداً كبيراً من أسماء الله الحسنى استناداً إلى ما ذكره أهل العلم -كالحافظ ابن حجر، والبيهقي والترمذي وغيرهم بصرف النظر عما قيل في تلك الأحاديث.
ثم ذكرت الخلاف بين أهل العلم في: هل أسماء الله تنحصر في
1 تقدمت.
2تقدم.
التسعة والتسعين اسماً فقط، أو أن هناك أسماء أخرى غيرها؟ وقد رجحت في هذه المسألة قول الجمهور: وهو عدم انحصار أسماء الله في هذا العدد بل هناك أسماء لا يعلمها إلا الله استدلالاً بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفيه:"أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك".
ثم بينت وجه استدلال أهل الحق بهذا الحديث على أن أسماء الله تعالى غير مخلوقة وهو أنه عليه الصلاة والسلام لم يقل: (بكل اسم خلقته) ولكنه قال بكل اسم أنزلته.
ثم تعرضت للسؤال المعروف عند أهل الكلام، هل الاسم هو المسمى أو غيره، فأجبت بالتفصيل الآتي:
"قد يطلق الاسم فيراد به المسمى، فلو قلت: الله فوق خلقه مستوٍ على عرشه. المراد به هنا المسمى، وإذا قلت: الله اسم عربي أو الله في القرآن، فالاسم هنا غير المسمى أي اللفظ الدال على المسمى، ثم أعربت إعراباً مفصلاً حديث الباب وهو "لله تسعة وتسعون اسماً" الحديث. إعراباً قصدت به إيضاح المعنى وأن الحديث جملة واحدة مكونة من المبتدأ والخير، ليكون معنى الحديث أن لله عدداً معيناً من الأسماء من حفظها دخل الجنة، وليس الغرض من الحديث حصر أسماء الله تعالى في هذا العدد لتتفق النصوص على معنى واحد، ولا تتضارب وقد نوعت العبارات ونقلت نقولاً من أهل العلم كثيرة في هذا المعنى محاولاً إيضاحها، وبيان المراد من حديث الإحصاء، وما ذهبت إليه من عدم حصر الأسماء في العدد المذكور في الحديث هو قول الجمهور كما أسلفنا، لا نعلم لهم مخالفاً له اعتباره إلا ابن حزم رحمه الله.
أما هو فقد خالف الجمهور في هذه المسألة وشدد في الإنكار على من يزيد على العدد المذكور في الحديث، الذي نحن بصدده ولعل أبا محمد ابن حزم لم يطلع على حديث ابن مسعود، والله أعلم، ثم بحثت مسألة (الاسم الأعظم) واستعرضت آراء أهل العلم حول هذه المسألة وقد أشرت إلى ما ترجح عندي دون قطع، وهو ما جاء في حديث بريدة عند أبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وهو أصح ما ورد في الباب فيما اطلعنا عليه، والله أعلم.
ويلي هذا الحديث في القوة حديث (دعوة ذي النون) وهي دعوة واردة في القرآن، وهذا وجه من رجح هذا الدعاء - وهو وجيه- والله أعلم.
الباب الثاني:
أنواع الصفات عند السلف والخلف، ويشتمل هذا الباب على عدة فقرات وفصول:
أ- في الصفات السلبية: وفي هذه الفقرة تحدثت عن موضوع تنويع الصفات وبينت أن السلف ليس من عاداتهم التوسع في التنويع، لأنهم لا يسرفون في الكلام في المطالب الإلهية، بل لا يكادون يتجاوزون الكتاب والسنة وبينت أن الخلف هم المولعون بتقسيم الصفات وتنويعها.
ثم سردت الصفات السلبية وهي خمس صفات عند الأشاعرة:
1-
القدم.
2-
البقاء.
3-
الوحدانية.
4-
المخالفة للحوادث.
5-
الغنى المطلق وهي المعروفة عندهم بـ (القيام بالنفس) .
كما أثبت تقسيماً آخر ذكره بعض أهل العلم إلى سبعة أقسام:
ثم أوردت عدة تعريفات للصفة السلبية، كما ذكرت أن هناك صفات
سلبيات غير السلبيات التي اصطلح عليها الأشاعرة، وهي الصفات التي ترد في سياق النفي، وأكدت أن هذا النوع كثير في القرآن، كما أكدت أن كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، مثل قوله تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} ، لكمال عدله، وقوله:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} ، لكمال علمه إلى آخر الأمثلة. واستطردت بالمناسبة إلى القول (يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، ويأتي النفي مجملاً على عكس طريقة أهل الكلام، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل) . وسردت أمثلة كثيرة لما ذكرت.
ب- في الصفات الثبوتية: هنا عرفت الصفة الثبوتية وهي التي تدل على معنى ثبوتي ووجودي، وأنا الصفات السبعة المعروفة عند الأشاعرة بصفات المعاني من الصفات الثبوتية، وهذه الصفات مع دلالتها على المعاني الثبوتية بالمطابقة، وهي في الوقت نفسه تدل على نفي ما لا يليق بالله تعالى أي على أضدادها، وهي معروفة كالعجز والفناء والتعدد وغير ذلك.
ثم أتبعت الحديث عن الصفات الثبوتية بالحديث عن صفات الذات.
جـ- وأوضحت هنا التداخل بين صفات الذات والصفات الثبوتية، إذ الصفات الثبوتية نفسها هي الذاتية نسبة إلى الذات، لملازمتها الذات العلية، وبينت أن الصفات الثبوتية أو الذاتية قد تكون شرعية عقلية كالصفات السلبية، وصفات المعاني وقد تكون خبرية محضة كالوجه واليدين وأمثالهما.
د- في صفات الفعل: تحدثت في هذه الفقرة عن اختلاف أهل العلم في تعريف صفة الفعل وفي التفريق بينها وبين الصفات الذاتية، فأوردت تعريفها عند الماتريدية الذين يمثلهم (ملا على قارئ) ثم تعريف
المعتزلة فالأشعرية، حيث عرفت الأشعرية بقولهم ما لا يلزم من نفيه نقيضه كالإحياء والإماتة والخلق والاستواء مثلاً.
ورجحت القول بأن الصفة الفعلية هي التي تتعلق بها مشيئة الله، كالمجيء لفصل القضاء والاستواء على العرش والغضب، وغيرها.
الفصل الأول: في الصفات الشرعية العقلية والصفات الخبرية:
وتحدثت في هذا الفصل عن تنويع صفات الله تعالى من حيث ثبوتها إلى نوعين:
النوع الأول: الصفات الشرعية العقلية التي يشترك فيها الدليل الشرعي السمعي. والدليل العقلي والفطرة السليمة، وهي أكثر صفات الله تعالى.
النوع الثاني: الصفات الخبرية وتسمى الصفات النقلية والسمعية وهي التي لا سبيل إلى إثباتها إلا بطريق السمع والخبر عن الله، أو عن رسوله عليه الصلاة والسلام ومثلت لها بالآتي: الوجهُ واليدان والقدمُ وغيرها.
ثم قسمت الخبرية إلى قسمين:
أ- صفات الأفعال التي تتجدد حسب مشيئته تعالى مثل النزول والاستواء وغيرهما.
ب- صفات ذاتية قائمة بذاته تعالى، وهي قديمة قدم ذاته تعالى كالوجه والقَدَم والعين وغيرها وذكرت ملاحظة هامة وهي أن هذه الصفات وإن كانت تعد بالنسبة للمخلوق جوارح وأعضاء، وأبعاضاً وأجزاء، ولكنها بالنسبة لله تعالى صفات أثبتها لنفسه سبحانه أو أثبتها له رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام. ثم ختمت الفقرة بالتنبيه على عدم الخوض في هذه الصفات بأهوائنا وآرائنا.
الفصل الثاني: في مبحث التجدد في الصفات والأفعال
أثبت في هذا الفصل أزلية الصفات الإلهية ذاتية كانت أو فعلية بمعنى أنه لا يجوز الاعتقاد بأنه تعالى اتصف بصفة من الصفات بعد أن لم يكن متصفاً بها، لأن صفات الله تعالى صفات كمال ولا يجوز أن يعتقد أنه كان متصفاً بضدها أو يعتقد أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن. ثم تطرق البحث لصفات الفعل وأن الصفات الاختيارية كالخلق والاستواء والنزول ونحوها تتجدد حسب مشيئة الله وقدرته، وتحدث في وقت دون وقت، لأن مثل هذا الحدوث غير ممتنع ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن إذ لم يكن ممتنعاً عليه قط، بل هو على كل شيء قدير. في كل وقت وفي كل لحظة. وكل الذي نريد أن نثبت هنا أن تجدد صفات الأفعال في وقت دون وقت لا يقال فيه: أنه تعالى اتصف بصفة كان فاقداً لها أو عاجزاً عنها، أو ممتنعة عليه، أو فعل فعلاً كان ممتنعاً عليه بل الفعل كان ممكناً في حقه تعالى في كل وقت، لأنه لا يجوز أن يعتقد أنه كان معطلاً عن الفعل في وقت من الأوقات، لأن الفعل كمال وعدمه نقص، وهو {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} .
ثم تحدثت عن مسألة في غاية الأهمية وهو اعتقاد بعض الناس أن وصفه تعالى بصفات الأفعال التي تتجدد في وقت دون وقت، أن ذلك يؤدي إلى القول بحلول الحوادث في ذاته تعالى.
إن مثل هذا القول قد يجعل الإنسان يسلم لهذه الدعوة ظناً منه أنه نفي عن الله ما لا يليق به سبحانه. لأن هذا اللفظ المجمل يحتمل نفي حدوث مخلوق وحلوله في ذات الله وهو نفي صحيح. ويحتمل بأنه تعالى لا يفعل شيئاً إذا شاء كيف شاء، ولا يفرح ولا يغضب إلى آخر الأفعال التي تقدم تعدادها فيكون النفي باطلاً ولكن السني قد يؤتى من حيث تسليمه للكلام المجمل الذي لا ينبغي التسليم له إلا بعد الاستفسار، ثم تطرق البحث لمسألة معروفة عند أهل الكلام.
وهي هل الصفة زائدة على الذات أم لا؟
وقد ناقشت المسألة مناقشة قد تكون طويلة. وملخصها: إن أريد أن الصفة زائدة على الذات بمعنى أن هناك ذاتاً مجردة عن الصفات أو هناك صفات قائمة بنفسها منفصلة عن الذات فهذا غير صحيح، بل باطل وغير واقع.
وإن أريد أن للصفات معنى غير معنى الذات ومفهوماً غير مفهوم الذات بيد أنها لا تنفك عن الذات فهذا المعنى صحيح إلا أن الإطلاق خطأ، وهذا ملخص نتائج هذا الفصل.
الفصل الثالث: في معاني الصفات الخبرية وصفات الفعل عند السلف والخلف بالجملة تحدثت في هذا الفصل عن القاعدة العامة عند السلف في هذا الباب وخلاصتها أنهم لا يتجاوزون الكتاب والسنة في هذه الصفات وغيرها، ولا يرون التفريق بين الصفات بل كلها من باب واحد. ويقفون عندما جاءت به النصوص إيماناً منهم بأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله.
ولا يصفه من خلقه أعلم به من رسول الله عليه الصلاة والسلام. وأما الخلف وهم علماء الكلام في حديثنا هنا على اختلاف مشاربهم فموقفهم يتلخص فيما يلي:
1-
خلف ينفي هذه الصفات وغيرها دون مبالاة بنصوص الكتاب والسنة، بل يردها بدعوى أنها أدلة لفظية لا تفيد العلم واليقين، ومع ذلك فهي مخالفة للأدلة العقلية، فهؤلاء لا قيمة عندهم للنصوص وهم المعتزلة والجهمية.
2-
الفريق الثاني من الخلف، وهم الأشاعرة، فناقشت الأشاعرة وانتقدتهم لوقوفهم على مفترق الطرق لم يثبتوا جميع الصفات على ضوء الأدلة، التي سبق ذكرها، فيكونوا مع السلف. ولم ينفوا جميع الصفات دون تفريق بين الذاتية والعقلية حتى يكونوا مع المعتزلة. ولكنهم فرقوا بين الصفات، فصاروا عرضة للمناقشة والانتقاد. بهذا الأسلوب تمت مناقشتهم كما تم الحكم على غلاة المعتزلة بأنهم من أبعد الطوائف الكلامية عن النصوص والاستفادة منها بل يحرفونها لتوافق أهواءهم.
الفصل الرابع: في معاني الصفات التي تحدثنا عنها بالإجمال في الفصل الثالث. أما في هذا الفصل فقد تحدثت عنها بالتفصيل، فقسمت الصفات التي هي محل النزاع بين السلف والخلف إلى فقرتين: أ، ب. ففي فقرة:
أ- تحدثت عن اثنتي عشرة صفة وكلها من صفات الفعل وهي التي خالف فيها الخلف قاطبة جماعة السلف وهي:
1-
صفة استواء.
2-
صفة المعية والقرب.
3-
صفة النزول إلى سماء الدنيا كما يليق به.
4-
صفة المجيء يوم القيامة.
5-
صفة الكلام.
6-
صفة التعجب.
7-
صفة الرحمة.
8-
صفة الرضاء.
9-
صفة الضحك.
10-
صفة التعجب.
11-
صفة الفرح.
12-
صفة الغضب.
وأما في فقرة:
ب- تحدثنا عن الصفات الخبرية وهي ثمان صفات على الوجه التالي:
1-
صفة الوجه.
2-
صفة النفس.
3-
صفة اليد.
4-
صفة الأصابع.
5-
صفة العين.
6-
صفة الساق.
7-
صفة القَدَم وفي بعض ألفاظ الحديث (الرجل بدل القدم) .
8-
إثبات الرؤية للمؤمنين في الدار الآخرة.
هذه عشرون صفة من الصفات التي هي محل النزاع بين الخلف والسلف كما قلت، ولذا جعلتها محل عنايتي واهتمامي بل أقول: إن تحقيق القول فيها وبيان وجه الصواب هو موضوع الرسالة الرئيسي، لأن الصفات الأخرى قد يوافق فيها كثير من الخلف الصفاتية كالأشاعرة والماتريدية، بمعنى أن الخلاف فيما سوى هذه الصفات المختارة ينحصر في الجهمية والمعتزلة التي تنفي جميع الصفات إذاً أستطيع أن أقول: إن إجماع الخلف على نفي هذه الصفات المختارة أو تحريف نصوصها هو الذي دفعني إلى انتخاب هذه الصفات العشرين لدراستها والكلام على معانيها بالإيجاز، وأوضحت في آخر هذه النقطة أنني لم أهمل الصفات الأخرى، وإنما أمسكت عن التوسع فيها - أما الصفات العشرون فقد تحدثت عن كل صفة على حدة ببيان المعنى العام لها. ثم ذكرت رأي الخلف المخالف مع مناقشته وسوق الأدلة الدالة عليها من الكتاب والسنة غالباً ومن السنة فقط أحياناً مثل صفة الفرح والضحك وغيرهما.
وقد ذكرت في آخر حديثي عن صفة الرؤية أن الرؤية ليست صفة لله تعالى بل المؤمنون هم الذين يرونه سبحانه، والله هو المرئي لهم، وإنما أدرجتها في الصفات الخبرية لأن إثبات الرؤية محل نزاع بين السلف والخلف، هذه هي المناسبة التي جعلتني ضممت الرؤية إلى الصفات العشرين.
الباب الثالث:
تحدثت في هذا الباب عن العلاقة بين الصفات والذات، وذكرت أن الإيمان بالذات يستلزم الإيمان بالصفات ضرورة عدم وجود ذات مجردة عن الصفات في الخارج، وكذلك العكس أي أن الإيمان بالصفات لا يتم إلا بالإيمان بالذات، وعبرت عن هذا المعنى بالتلازم، ثم تحدثت عن مبحث المغايرة بين الذات والصفات، وأكدت أن إطلاق المغايرة أو عدم المغايرة لا ينبغي إلا بعد التفصيل.
كما ذكرت عند هذه النقطة موقف السلف وهو عدم الخوض في مثل هذه البحوث، إلا ما تدعو الضرورة إليه، لأن الإيمان بالله هو الإيمان الشامل الذات والصفات معاً -هذا هو المفهوم الذي لا خلاف فيه عندهم، أخذاً من السنة العملية حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف بأسمائه تعالى وصفاته ويستعيذ بها إذ يقول عليه الصلاة والسلام:"أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"1. ويقول عليه الصلاة والسلام: "أعوذ برضاك من سخطك"، وكان المفهوم عندهم أن من قال: عبدت الله أو دعوت الله، أو حلفت بالرحمة أنها كلها من باب واحد، ولا يفهم منها إلا أنهم حلفوا واستعاذوا بالله، ولا يخطر بالبال هل من حلف بالله أو من حلف بصفة من صفات الله حكمهما واحد، أم يختلف؟ هذا مالا عهد بهم به بل هو مفهوم مستحدث.
الباب الرابع:
تحدثت في هذا الباب عن طبيعة العلاقات بين الصفات بعضها ببعض من حيث المعاني والآثار فقررت أن علاقات الصفات فيما بينها قد
1 صحيح مسلم: باب الأدعية والتعوذات، وتقدم.
تكون مترادفة من حيث المعنى أو متقاربة مثل المحبة والرحمة والفرح والتعجب مثلاً. أما هذه الصفات التي ذكرت آنفاً بعد المحبة فهي آثار من آثار المحبة وما أكثر آثارها. كما أوضحت أن هناك صفات متقابلة كالرفع والخفض، والإعزاز والإذلال وكثير غيرها كما بينت أن هناك صفات متضادة من حيث معانيها، مثل الغضب والسخط مع الرضاء ومثل الكراهة مع الحب مثلاً.
الباب الخامس:
ناقشت فيه حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة وقد فصلت القول في هذه المسألة وخلاصة ما قلته: إن من كان معذوراً بجهله أو بشبهات حالت دون معرفة الصواب في المسألة أنه لا يكفر، ومن كان على خلاف ذلك فإنه يكفر، ثم أشرت إلى الخلاف القائم في المسألة: في هل يعذر الإنسان بالجهل في أصول الدين أم لا؟ وذهبت إلى القول بأنه يعذر لوجود ما يؤيده وفصلت القول في الموضوع ثم سقت أقوال العلماء وأدلتهم أو وجهات نظرهم. ثم استطردت لذكر حقيقة الإلحاد وأنواعه في أسماء الله تعالى وبينت معناه لغة، كما تدل عليه مادته (ل ح د)
…
الخ.
الباب السادس:
وقد لخصت في هذا الباب المقارنة التي قد أجريت سابقاً في عدة مواضع وملخص ذلك أن السلف موقفهم من الصفات واضح لا غموض فيه. فهم يفهمون معاني الصفات العامة ويفوضون الكيفية فقط فليسوا بالمتأولين المحرفين وليسوا بالمشبهين المجسمين ولا بالمفوضين الجاهلين، ولا الواقفين الحائرين بل هم أصحاب فهم دقيق، وقد توسطوا بين نفي النفاة وتشبيه المشبهة فموقفهم إيمان بنصوص الصفات وعدم تحريفها وإثبات دون تشبيه وتنزيه دون تعطيل. ومن العبارات المأثورة عن أئمة السلف في
نصوص الصفات: "أمروها كما جاءت" أو "أمروها كما جاءت بلا كيف" وهكذا.
ثم تحدثت عن موقف غريب يقفه بعضهم حيث يتظاهرون بمحبة السلف ويثنون عليهم ومع ذلك يجهلون مذهبهم ومنهجهم وهو موقف كثير من الكتاب المعاصرين (المتسلفين) .
الباب السابع:
في نهاية الرسالة تحدثت عن آثار صفات الله تعالى في النفس البشرية، وفي العبودية وفي حياة الإنسان وتصرفاته وفي الكون كله، حيث يجد المرء إذا فكر جيداً في نفسه وفي كل شيء حوله في أطوار حياته بل في حياته اليومية ثم في الكون كله، يجد آثار أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى وأوضحت أن أبرز تلك الآثار هي آثار الرحمة التي يعيشها كل مخلوق "وسعت رحمته كل شيء" ومن آثار صفة الرحمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب والبيان والتبيان، الذي جاءت به الكتب. وتحدثت عن آثار أسمائه: الملك، الودود، اللطيف، الغفار، التواب، العفو، بنوع من الإسهاب حتى اتضح رجوع العبودية كلها إلى موجب أسمائه وصفاته بل ارتباط جميع شئون الخلق بها والعلم عند الله. هذه النقاط التي سطرنا هنا هي خلاصة نتائج الدراسة لهذه الرسالة.
وبالله التوفيق. وبها تم المراد.
وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين وإمام المرسلين وآله الطيبين وصحابته أجمعين.
ملحق الرسالة:
وهو مأخوذ من كلام الإمام الجويني (الأب) في رسالته التي وجهها إلى شيوخه بعد رجوعه إلى مذهب السلف
يقول الإمام الجويني (الأب) رحمه الله بعد مقدمة مستفيضة، سرد منها كثيراً من صفات الله وأسمائه:
وبعد: فهذه نصيحة كتبتها1 إلى إخواني في الله أهل الصدق، والصفاء، والإخلاص، والوفاء، لما تعيّن عليّ من محبتهم في الله ونصيحتهم في صفات الله عز وجل، فإنه لا يكمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.2 وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدين النصيحة"ثلاثا، قالوا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ".3 أعرفهم - أيدهم الله بتأييده ووفقهم لطاعته ومزيده - أنني كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل:
1 هذه الرسالة توجد ضمن مجموعة الرسائل (المنيرية) ، وهي خير ما كتب في بابها، وكاتبها خير من رجع إلى الحق، ثم نصح، كما فعل ذلك إمامه الأشعري قبله، ورسالته خير من الإبانة للإمام الأشعري في عرض منهج السلف، وخاصة المسائل التي اختارها؛ فتحدث عنها رحمة الله عليه.
2 أخرجه البخاري في الإيمان 1/147، طبعة الحلبي مع الفتح.
3 أخرجه مسلم في صحيحه 1/37، شرح النووي، الطبعة الأولى.
1-
مسألة الصفات 2- ومسألة الفوقية 3- ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد.
وكنت متحيراً في الأقوال الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها أو إمرارها والوقوف أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقة منبئة لحقائق هذه الصفات، وكذلك في إثبات العلو والفوقية، وكذلك في إثبات الحرف والصوت. ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء، ويؤول النزول بنزول الأمر، ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين، ويؤول القدم بقدَمِ صدق عند ربهم، وأمثال ذلك.
ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائماً بالذات بلا حرف ولا صوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.
وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها، قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين، لأني على مذهب الشافعي رضي الله عنه. وعرفت فرائض الدين وأحكامه على هذا المذهب، فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة، يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم.
ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات (حزازات) لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها، وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها، فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره، المتململ في تقلبه وتغيره، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول، مخافة الحصر والتشبيه، ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبراً عن ربه واصفاً له بها، وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يحضر في مجلسه الشريف العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي.
ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص
التي كان يصف ربه بها، لا نصاً ولا ظاهراً مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء - مشايخي الفقهاء- المتكلمون، مثل تأويلهم الاستواء بالاستيلاء، والنزول بنزول الأمر، وغير ذلك.
ولم أجد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه، من الفوقية واليدين وغيرهما، ولم تنقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني أُخَر باطنة غير ما يظهر من مدلولها، مثل الفوقية القهرية، ويد النعمة، وغير ذلك.
وأجد الله عز وجل يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2، {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} 3، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4، {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} 5، {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} 6.
فسرد آيات كثيرة كلها تدل على فوقية الله وعلوه على خلقه، إلى أن قال: ثم أجد الرسول عليه الصلاة والسلام لما أراد الله أن يخصه بقربه عرج به من سماء إلى سماء، حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث للجارية:"أين الله؟ " فقالت: في السماء7. فلم ينكر عليها
1 سورة طه آية 5.
2 سورة الأعراف آية 53.
3 سورة النحل آية 50.
4 سورة فاطر آية 10.
5 سورة الملك آية 16.
6 سورة الملك آية 17.
7 أخرجه مسلم.
بحضرة أصحابه، فلا يتوهمون أن الأمر على خلاف ما هو عليه، بل أقرها وقال:"اعتقها فإنها مؤمنة".
وفي حديث جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فوق عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أرضه مثل القبة" وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى القبة.
وساق عدة أحاديث وسيأتي ذكرها في موضعها.
إلى أن قال: لا ريب إننا نحن وإياهم متفقون على إثبات صفات الحياة والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله، ونحن قطعا لا نعقل عن الحياة إلا هذا العرض الذي يقوم بأجسامنا، وكذلك لا نعقل من السمع والبصر إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا، فكما أنهم يقولون حياته ليست بعرض وعلمه كذلك وبصره كذلك، هي صفات كما تليق به، لا كما تليق بنا، فكذلك نقول نحن: حياته معلومة وليست مكيفة، وعلمه معلوم وليس مكيفاً، وكذلك سمعه وبصره معلومان وليس جميع ذلك أعراضاً بل هو كما يليق به.
ومثل ذلك بعينه: فوقيته واستواؤه ونزوله، ففوقيته معلومة، أعني ثابتة كثبوت حقيقة السمع وحقيقة البصر، فإنهما معلومان ولا يكيفان. وكذلك فوقيته معلومة ثابتة غير مكيفة كما تليق به، واستواؤه على عرشه معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق، بل كما يليق بعظمته وجلاله.
وصفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد. فيكون المؤمن بها مبصراً من وجه أعمى من وجه، مبصراً من حيث الإثبات والوجود. أعمى من حيث التكييف والتحديد، وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله تعالى نفسه به، وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف، وذلك هو مراد الرب تعالى منا في إبراز صفاته
لنا لنعرفه بها ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه ولا نعطلها بالتحريف والتأويل. ولا فرق بين الاستواء والسمع، ولا بين النزول والبصر، الكل ورد فيه النص.
فإن قالوا لنا في الاستواء: شبهتم. نقول لهم: في السمع شبهتم، ووصفتم ربكم بالعرض. وإن قالوا: لا عرض، بل كما يليق به. قلنا في الاستواء والفوقية: لا عرض، بل كما يليق به.
فجميع ما يلزموننا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب، نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم، فكما لا يجعلونها أعراضاً كذلك نحن لا نجعلها جوارح، ولا مما يوصف به المخلوق.
وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين، فيحتاجون إلى التأويل والتحريف.
فإن فهموا من هذه الصفات ذلك، فيلزمهم أن يفهموا في الصفات السبع، صفات المخلوقين من الأعراض، فما يلزموننا في تلك الصفات من التشبيه والجسمية نلزمهم في هذه الصفات من العرضية، وما ينزهون ربهم به في الصفات السبع وينفونه عنه من عوارض الجسم فيها، فكذلك نحن نعمل في تلك الصفات التي ينسبوننا فيها إلى التشبيه سواء بسواء.
ومن أنصف عرف ما قلناه واعتقده، وقبل نصيحتنا ودان الله بإثبات جميع صفاته هذه وتلك، ونفى عن جميعها التشبيه والتعطيل والتأويل والوقوف، وهذا مراد الله تعالى منا في ذلك، لأن هذه الصفات وتلك جاءت في موضع واحد، وهو الكتاب والسنة. فإذا أثبتنا تلك، وحرفنا هذه وأولنا، كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفي ذلك بلاغ وكفاية إن شاء الله تعالى.
هكذا نصح هذا الإمام الصادق في نصحه الإمام الجويني شيوخه الذين عاش معهم برهة من الزمن في التأويل والتحريف في صفات الله تعالى كلها، أو التصرف فيها بإثبات بعضها وتأويل البعض الآخر، ثم تاب الله عليه فتاب، وكتب هذه (النصحية) التي انتخبنا منها بعض النقاط من أولها ومن آخرها، وقد ناقشهم فيها بالأدلة النقلية والعقلية معاً، وطالبهم بالإنصاف - والإنصاف من الإيمان - وأوضح لهم أنه لا يوجد ما يفرق بين ما أولوه وحرفوا فيه الكلام، وبين ما أثبتوه من الصفات، لأن هذه وتلك جاءت في موضع واحد وهو الوحي من كتاب أو سنة، ودرج على عدم التفريق بينها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وعلماء الحديث.
ثم أوضح السبب الذي حمل علماء الكلام على تأويلهم صفات الله تعالى عامة، والصفات الخبرية السمعية خاصة. وهو أنهم فهموا منها خطأ المعاني التي تليق بالمخلوق، ثم أرادوا تصحيح ذلك المفهوم الخاطئ فوقعوا في التأويل، أي شبهوا أولاً ثم عطلوا ثانياً، هذه هي حقيقة القوم وعقيدتهم.
فنسأل الله تعالى أن يجزل المثوبة لهذا الإمام وأمثاله على هذه النصحية الهادئة والصادقة، إنه سميع قريب.
فليهنأ أبو محمد الجويني بهذا التوفيق وهذه الهداية، ولعل الله علم من الرجل الإخلاص في علمه وجهاده الذي بذله في البحث عن الحق في فترة (حيرته وتردده) تلك الفترة الصعبة على قصرها - فيما أحسب - فهداه الله ووفقه مصداقاً لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ، ولقد كاد حبه وتقديره لشيوخه أن يخلداه إلى أرض التقليد ليحولا بينه وبين رؤية الحق واتباعه {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} ووفقه بيده إلى بر السلامة، فسلم ونحمد الله على ذلك.
إذ قارن الإمام بين ما يخوض فيه شيوخه من التأويل، وبين ما ينطق به الكتاب المبين والسنة المطهرة من إثبات حقائق الصفات، فتأكد أن شيوخه لم يفهموا نصوص الصفات الفهم الصحيح، لا سيما الصفات الخبرية، بل لم يفهموا منها إلا ما يليق بالمخلوق، ولذلك تورطوا في التحريف والتعطيل أو الوقوف دون محاولة للفهم، لذا بادر الإمام أبو محمد بتوجيه تلك النصيحة فور توبته وسلوكه مسلك السلف على بصيرة من ربه1.
1 وقد نقلت مقتطفات من كلام هذا الإمام من (نصيحته) التي وجهها لشيوخه بعد أن تبين له الحق، فتاب، وربما أكثرت النقل عنه. والذي حملني على ذلك أنني لم أجد فيمن رجعوا إلى منهج السلف من علماء الكلام بعد أن خاضوا فيه فترة من الزمن، من هو أصرح منه رجوعاً، ولا أصدق منه نصحاً لمن تركهم خلفه من الشيوخ، ولا أدق منه فهماً لمنهج السلف الصالح، ولا أشد منه حرصاً على رجوع مشايخه إلى منهج السلف، كما لم أجد من صوّر تصويراً دقيقاً الأسباب التي حملت شيوخه وأمثالهم على الإصرار على تأويل صفات الأفعال، والصفات الخبرية. بل لم أجد أحداً يقاربه في هذه المعاني. وهي المعاني التي امتاز بها والد إمام الحرمين، وبالتالي هي المعاني التي حملتني على إكثار النقل من كلامه، رحمه الله.