الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: معاني تلك الصفات بالتفصيل
أ- الصفات الفعلية:
الصفة الأولى: صفة استواء الله عز وجل على العرش وعلوه على خلقه:
وقد ورد ذكر هذه الصفة في القرآن الكريم في عديد من الآيات القرآنية، وأما بصيغة (استوى) فقد ذكرت هذه الصفة في سبع آيات على النحو التالي على ترتيب السور:
1-
آية سورة الأعراف: وهي قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (آية: 53) .
2-
آية سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} (آية: 3) .
3-
آية سورة الرعد: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} (آية: 2) .
4-
آية سورة طه: {طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَاّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (آية 1-5) .
5-
آية سورة الفرقان: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (آية 58-59) .
6-
آية سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ} (آية 4-5) .
7-
آية سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (آية: 4) .
هذه الآيات الكريمات، وفي معناها عدة نصوص من الآيات والأحاديث الصحيحة التي يأتي ذكرها إن شاء الله، كلها تدل على علو الله تعالى على خلقه، كما يليق به، وأما هذه الآيات السبع فتنص على أن الله تعالى استوى على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض استواء يليق به، ولا نعلم منه إلا المعنى العام المفهوم من الوضع، إذاً هنا صفتان:
1-
صفة استواء على العرش: وهي صفة فعلية خبرية كما دلت عليه الآيات السابقة.
2-
صفة العلو: وهي صفة ذاتية لازمة للذات بمعنى أنه تعالى لم يزل في علوه، وهي في الوقت نفسه عقلية وسمعية أي فهي ثابتة بالعقل والفطرة، والسمع، بل السمع جاء مؤكداً بما آمن به العباد بفطرهم، وبعقولهم من أن الله يدعى من فوق، وترفع إليه أكف الضراعة، وقلوب العباد مشدودة إلى فوق، ولو في حال وضعهم جباههم على الأرض ساجدين لربهم الأعلى الذي يراهم من فوقهم، ويجيب دعوتهم، وهم
ساجدون له سبحانه. وهذا الاعتقاد ضروري لا يستطيع أي إنسان دفعه عن نفسه، ومن الحِكَم اللطيفة أن شرع الله لعباده أن يقولوا في سجودهم:"سبحان ربي الأعلى" شرع لهم ذلك على لسان نبيه، وفي هدي رسوله إشارة إلى علوه الدائم، حتى لا يفهم من سجود العبد على الأرض أن معبوده في أسفل منه – حاشاه - بل كلما يزداد العبد خضوعاً وتذللاً، لمعبوده العلي العظيم ازداد منه قرباً معنوياً ومعية خاصة، تخص خواص عباده المؤمنين، وفي هذا يقول رسول الهدى، ونبي الرحمة محمد عليه الصلاة والسلام:"أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد فأكثروا الدعاء"1.
ومن الآيات التي تدل على علو الله على خلقه، علاوة على الآيات السبع التي ذكرناها والتي تنص على استواء الله على عرشه كما يليق به، قوله تعالى:
{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} 2، وقد جاءت الفوقية في هذه الآية مقرونة بحرف (من) وهي مُعَيِّنة للفوقية (بالذات) 3، وهو معنى معروف عند أهل اللغة، بخلاف قوله تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 4، وهي محتملة كما لا يخفى.
1-
قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5.
2-
{بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} 6.
3-
1 صحيح مسلم، باب ما يقال في الركوع والسجود 4/200.
2 سورة النحل آية: 50.
3 راجع شرح العقيدة الطحاوية.
4 سورة الأنعام آية: 18، 61.
5 سورة المعارج آية: 4.
6 سورة النساء آية: 158.
7 سورة آل عمران آية: 55.
4-
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 1.
5-
{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} 2.
وبعد، فهذه طائفة من آيات الكتاب المبين وفي معناها آيات أخرى عديدة اقتصرنا على هذا المقدار خشية الإطالة، وكلها تدل دلالة واضحة على علو الله على خلقه، وأنه مستو على عرشه كما يليق به.
ونضيف إليها بعض الأحاديث الواردة في هذا المعنى، ونقتصر على ما صح منها فقط، ففيها الكفاية مع الآيات السابقة للدلالة على المقصود، وهي كالآتي:
1-
قوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله لما قضى الخلق، كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي"، وفي رواية:"غلبت غضبي "3.
2-
قول أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها وهي تعتز وتفتخر على أمهات المؤمنين زوجات النبي رضي الله عنهن إذ تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات"4.
يُستدل بقول أم المؤمنين زينب رضي الله عنها لأنها قالت ذلك اعتقاداً منها بأن الله فوق خلقه – وهو اعتقاد كل صاحب فطرة سليمة- وليس هو في كل مكان، كما تزعم بعض الجهمية وأتباعهم، وقد كان ذلك في زمن نزول الوحي فهو إذاً اعتقاد فطري أثبته الشرع، ولله الحمد والمنة.
1 سورة فاطر آية: 10.
2 سورة الملك آية: 16.
3 متفق عليه من حديث أبي هريرة.
4 البخاري في صحيحة من حديث أنس بن مالك في التوحيد.
وهو أخيراً يصور لنا فقه السلف في هذا الباب، وهم يفهمون معاني النصوص على ظواهرها مع التنزيه بمعناه الصحيح، وهو إثبات لا يتضمن التشبيه.
3-
قوله عليه الصلاة والسلام عند تفسير قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} 1، "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"2.
وقد قال أهل العلم: المراد بالظهور عنا العلو، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} 3، أي: يعلوه، وقالوا: فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منهما لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه) 4 اهـ.
فهو سبحانه قريب في علوه كما يليق به، وعلي في قربه.
3-
قوله عليه الصلاة والسلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم"الحديث5.
5-
قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً"6.
6-
إشارته عليه الصلاة والسلام إليه تعالى بأصبعه في حجة الوداع - وهو أعلم بربه سبحانه - وفي ذلك اليوم العظيم وفي المكان المقدس العظيم يرفع النبي عليه الصلاة والسلام إصبعه الكريمة إلى السماء يرفعها
1 سورة الحديد آية: 3.
2 مسلم في التفسير.
3 سورة الكهف آية: 97.
4 راجع شرح العقيدة الطحاوية ص: 316.
5 متفق عليه من حديث أبي هريرة.
6 صحيح أخرجه الحاكم، وصفراً أي: خالية، كناية عن إجابة الدعاء.
إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلاً: "اللهم اشهد "، ونحن نشهد أنه عليه الصلاة والسلام بلغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وعرفهم بربهم الأعلى1.
وهذه مقتطفات من حديث جابر بن عبد الله الطويل الذي شرح فيه حجة الوداع شرحاً كاملاً ووافياً، رواه مسلم وبعض أصحاب السنن.
وقد خاطب النبي أصحابه في هذه الخطبة المشار إليها قائلاً: "إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت" أعْظِمْ بها من شهادة لأعْظَم مشهود له.
وبعد: فلا يخفى خطأ قول الذي قول: لا تجوز الإشارة الحسية إلى السماء، بل ربما قال: إن من اعتقد أن الله في السماء كفر، وإلا فهو فاسق2.
وما أشد خطأ قول الذين يزعمون أن الذي يشير بإصبعه إلى السماء عند قراءة قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ، أو قوله تعالى:{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} تقطع أصبعه، وربما نسبوا هذا القول إلى بعض الأئمة؟!! كالإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله، والنسبة غير صحيحة، بل نسبة باطلة وغير لائقة3.
وحديث جابر الذي تقدم فيه التصريح بأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى السماء إشارة حسية، وهو يقول لربه سبحانه الذي يشير إليه:"اللهم اشهد"، وهو يرد هذا الزعم، والحديث مخرج في صحيح مسلم كما تقدم، ومتلقى بالقبول فكيف يعتذر لهؤلاء إذاً؟!!
1 راجع شرح العقيدة الطحاوية ص: 321 منقول مع التصرف.
2 راجع حاشية الدسوقي على السنوسية في مبحث العلو.
3 راجع الملل والنحل للشهرستاني.
في نظرة خير ما يعتذر به لأمثال هؤلاء هو الجهل، وعدم الاطلاع على السنة، ثم التقليد المتوارث الذي تحدثنا عنه فيما تقدم وقررنا أنه هو المستند الوحيد للأشاعرة الجدد.
7-
حديث الإسراء والمعراج وفيه عدة نقاط تدل على المقصود:
أ- مجرد العروج إلى فوق السماء السابعة بل إلى حيث سمع صريف الأقلام، أقلام الملائكة الذي يكتبون ما يكتبون بأمر الله وإلى حيث سمع كلام الله وهو سبحانه يخاطبه في شأن الصلاة.
ب- تردده عليه الصلاة والسلام بين موسى وبين ربه سبحانه في طلب تخفيف الصلاة عن أمته.
جـ- ما جاء في الحديث: ثم رجع إلى المكان الذي كان فيه. أي حيث كلمه ربه، وفرض عليه الصلاة، وغير ذلك من النقاط في روايات الحديث المذكور في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما.
8-
سؤال الجارية بلفظ (أين الله؟) في حديث صحيح عند مسلم، وهي قصة معروفة لجارية معاوية بن الحكم السلمي حيث قال النبي للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة.
ولقد ذكرني هذا السؤال النبوي الكريم والرحيم أيضاً عبارة تقليدية كنت درستها وأنا طالب صغير لم أبلغ الحلم، كنت درستها في ضمن ما درسته في بعض كتب الأشعرية وهي: لا يسئل عن الله بالألفاظ الآتية:
1-
أين، 2- وكيف، 3- ومتى، 4-وكم
كان من مشايخنا لا يسمحون لنا بشرح هذه الألفاظ، والسؤال عن الجواب لو سئل الإنسان عنها، ويقولون: هكذا تؤخذ، ولا تناقش لأن النقاش في هذه المواضيع غير جائز.
وقد كان المفروض بل الواجب أن يكون طالب العلم على شيء من المعرفة ليتولى الإجابة على كل سؤال إذ لا بد أن يكون لكل سؤال جواب، فمثلاًَ لو سئل الإنسان:(أين الله) ؟ فهو لفظ سأل به رسول الله الجارية التي يريد مولاها عتقها، إن كانت مؤمنة، وهو لا يعلم هل هي مؤمنة أم لا، ولما عرض عتقها على رسول الله عليه الصلاة والسلام طلبها الرسول فوجه لها سؤالين فقط، اختباراً لإيمانها.
السؤال الأول: "أين الله؟ " الجواب: في السماء.
السؤال الثاني: "من أنا؟ " الجواب: أنت رسول الله.
النتيجة: "أعتقها فإنها مؤمنة"، أي باقية على إيمانها الفطري الذي لم تلوثه الآراء الفاسدة، فليحذر الذين يحرمون استخدام هذه اللفظة في حق الله جهلاً منهم بأن الرسول استخدمها كما رأيت.
- نعم لو سئل الإنسان أين الله؟ الجواب: في السماء.
ولو سئل: (كيف الله) ؟ الجواب: لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه إذ لا يحيطون به علماً.
ولو سئل: (متى الله)، الجواب: هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء.
ولو سئل: (كم الله) ؟ الجواب: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
هكذا يجب أن يُعدَّ العدة كل طالب علم، ويستحضر الأجوبة على كل سؤال مقدر وخصوصاً في هذا الزمن، زمن الكلام الكثير والعلم القليل، بصرف النظر هل هذه الأسئلة واردة، أو غير واردة أو هل هي مستساغة، أم لا؟
9-
قوله عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"1.
10-
قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء"2.
الآثار المروية عن التابعين وتابعي التابعين في مسألة العلو:
1-
عن كعب الأحبار قال: "قال الله عز وجل في التوراة: أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر أمر عبادي، لا يخفى عليّ شيء في السماء، ولا في الأرض"3.
2-
عن مسروق أنه كان إذا حدث عن عائشة قال: "حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سموات"4.
3-
أثر مقاتل بن حيان عن الضحاك في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} قال: "هو على عرشه وعلمه معهم"، وفي لفظ:"هو فوق العرش وعلمه معهم"، وفي لفظ:"هو فوق العرش وعلمه معهم أينما كانوا"5.
4-
أثر عبد الرحمن بن حبيب بن أبي حبيب عن أبيه عن جده قال: "شهد خالد بن عبد الله القسري - وخطبهم بواسط- فقال: يا أيها الناس
1 أبو داود والترمذي وصححه وغيره، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال المحدث الألباني في تعليقه على العلو:"وهو صحيح لغيره"(العلو للذهبي بتحقيق الألباني ص: 83-84) .
2 متفق عليه.
3 مختصر العلو للذهبي ص: 128، بتحقيق المحدث الألباني، قال الذهبي: رواته ثقات، وذكر الألباني ما يؤيد ذلك مدعماً كلامه بما رواه ابن القيم عن أبي الشيخ وابن بطة.
4 المصدر السابق، وإسناده صحيح.
5 المصدر السابق وابن بطة
…
هو أبو عبد الله. ورواه أيضاً أبو عمر بن عبد البر وأبو أحمد العسال. قال الذهبي: مقاتل ثقة إمام، يراجع العلو بتحقيق الألباني ص: 128-131.
ضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه".
وهذه القصة ذكرها غير واحد من أهل العلم، وهي مشهورة، ذكرها البخاري في خلق أفعال العباد، والدارمي في الرد على الجهمية وإن كان في سندها كلام لبعض أهل العلم.
5-
روى أبو عبد الله الحاكم عن الأوزاعي قال: "كنا - والتابعون متوافرون- نقول: إن الله عز وجل فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته"1.
6-
روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية: حدثني أبي (فذكر سنده) عن عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس: "الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء"2.
7-
قال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي والليث بن سعد ومالكاً والثوري عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية وغير ذلك؟ فقالوا: "امضها بلا كيف"3، وفي لفظ:"أمروها كما جاءت بلا كيف"، وقولهم:"أمروها كما جاءت" يرد على المعطلة. وقولهم: "بلا كيف" يرد قول المشبهة4.
وبعد هذه أنواع الأدلة الثلاثة التي صنفناها على الوجه التالي:
1-
آيات من الكتاب المبين اخترنا منها نحو ثلاث عشرة آية.
2-
أحاديث صحاح انتخبنا منها عشرة أحاديث.
3-
آثار وكلام أهل العلم من التابعين وتابعيهم، اقتصرنا منها على
1 الذهبي في العلو ص: 129-130، تحقيق المحدث الألباني، وابن تيمية في الحموية الكبرى، وتقدم.
2 المصدر السابق.
3 المصدر السابق.
4 الذهبي في العلو، وابن تيمية في الحموية الكبرى وتقدم.
سبعة آثار على كثرتها، رغبة في الإيجاز.
ولعل قائلاً يقول: ما هو الموجب لذكر الآثار بعد الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية؟!!
الجواب: ذكر الآثار بعد النصوص يفيد أمرين مهمين:
الأمر الأول: يفيد أن النصوص المذكورة لم تنسخ، بل هي محكمة باقية كما جاءت إذ تعتبر هذه الآثار تفسيراً وبياناً للنصوص.
الأمر الثاني: تحديد مفهوم السلف، وأنهم كانوا يفهمون من هذه النصوص كتاباً وسنة ما تدل عليه بوضعها وبظاهرها باقية على حقيقتها، ولم يؤولوها ويخرجوا بها عن ظاهرها كما يزعم الخلف، والله أعلم.
أعود فأقول: إن هذه الأنواع الثلاثة من الأدلة قليل من كثير من الأدلة الدالة على علو الله تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه على ما يليق به تعالى.
إذاً إن صفة العلو أو الفوقية صفة كمال ثابتة بوابل من أدلة الكتاب والسنة ودرج على إثباتها على ظاهرها جميع الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وليس فيها نقص ولا تستلزم نقصاً ولا توجب محذوراً، ولا تخالف كتاباً ولا سنة، بل توافقهما كما رأيت، وقد عقد عليها إجماع المسلمين الأولين كما علمت، وهم القوم الذين يحتج بإجماعهم، لأنهم خير هذه الأمة "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 1، وإذا كان الأمر كذلك فما هي شبهة الأشاعرة والحالة ما ذكر؟!!
خلاصة شبهتهم انهم تصوروا – خطأ - أن النصوص التي نطقت بأن الله في السماء تدل بظاهرها على أنه تعالى مظروف في جوف السماء فشبهوه
1 متفق عليه وتقدم.
بمخلوق داخل مخلوق آخر، كما فهموا – خطأ - أيضاً من قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، وما في معناه من النصوص أنه تعالى جالس على العرش، وأنه محتاج إليه، فشبهوه بإنسان جالس على سريره، محتاجاً إليه، فأرادوا أن يفروا من هذا التشبيه الذي وقعوا فيه لسوء فهمهم، فوقعوا في التعطيل.
وأما النصوص فلا تدل على ما لا يليق بالله دائماً – وحاشاها - فأمرهم يتردد إذاًَ بين التشبيه والتعطيل. ولو وقفوا حيث وقف السلف من قبلهم، وهو الموقف الذي اختار الله للإمام أبي الحسن الأشعري في آخر أطواره، نعم لو وَقَفوا حيث وقف القوم، فسلموا لله ولرسوله، لما وقعوا فيما وقعوا فيه من الاضطراب في العقيدة، وعدم اليقين فيما يعتقدون نحو ربهم وخالقهم. وعدم اليقين فيما يعتقد العبد نحو ربه أمر له خطورته في أي جزئية فيما يجب إثباته لله عز وجل أو نفيه عنه.
ثم إنهم اختلفوا بعد ما نفوا صفة العلو والاستواء اختلافاً خطيراً، حيث زعم بعضهم بأنه سبحانه وتعالى في كل مكان بذاته، بينما يزعم الآخرون بأنه تعالى: ليس فوق العرش، ولا تحت العرش، ولا يمينه، ولا يساره. ونص كلام بعضهم هكذا:"فليس الله عن يمين العرش، ولا عن شماله، ولا أمامه، ولا خلفه، ولا فوقه، ولا تحته، فليحذر كل الحذر مما يعتقده العامة من أن الله تعالى فوق العالم، ثم استدرك قائلاً: لكن الصحيح أن معتقد الجهة لا يكفر"2، وهذه العبارة كان يحفظها أطفالنا حفظ الفاتحة ظناً منهم ومن مشايخهم أنها عقيدة سلف هذه الأمة، التي بلغها لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا تزال تدرس في كثير من معاهدنا وجامعاتنا العربية والإسلامية على حساب عقيدة أهل السنة والجماعة.
1 سورة طه آية: 5.
2 حاشية البيجوري ص: 26 طبعة مصطفى محمد بمصر، وحاشية النضالي على كفاية العوام ص: 62 مصطفى البابي الحلبي.
فعقيدة الجماعة مجهولة لديهم، لأنهم لا يدرسونها، وتلك الشبهة التي أدّت إلى هذا المصير، وهو الاضطراب والتردد – كما رأيت - شبهة واهية على خطورتها، لا تثبت أمام تلك الأدلة المتنوعة التي سبق أن ذكرنا بعضها أو طرفاً منها كما نقلنا أقوال بعض الأئمة في هذا المعنى عند مناقشتنا موقف المعتزلة والأشاعرة في المبحث الثامن من المدخل.
قال الحافظ ابن القيم: إن الأحاديث الصحيحة التي وردت في إثبات استوائه تعالى بلغت خمسين حديثاً، ثم ذكر بعدها أقوال عدد كبير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم في إثبات الاستواء، وله رحمه الله كلام طويل ونفيس في هذه الصفة وغيرها من صفات الأفعال التي أنكرتها الأشاعرة في كثير من كتبه القيمة1، وبعد، فإنني لعَلَى يقين لا يخالطه شك في أن كل من ينفي علو الله تعالى بلسانه تقليداً، أو مسايرة لجمهور أهل الكلام فإن ضميره يكذبه من داخله، وهو متكلف يهرف بما لا يعرف، وأن قلبه يلتفت إلى فوق عندما يشرع في الدعاء، والتضرع إلى الله، قبل أن يرفع يديه إلى السماء، وهو يعلم ذلك من نفسه، ولكن التقليد وتقديس الآراء والاعتقاد في الشيوخ، ومسايرة الجمهور، كل ذلك حال دون اتباع الحق الذي نطق به الكتاب والسنة، ودلت عليه الفطرة، وأجمع عليه المسلمون الأولون من الصحابة والتابعين، وسبق أن ذكرنا قول الإمام الأوزاعي وهو يخبر ما كان يقوله أتباع التابعين ويعتقدونه إذ يقول:"كنا - والتابعون متوافرون- نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن ما وردت به السنة من الصفات"2.
نقل هذا التصريح غير واحد من أهل العلم مثل الذهبي، والبيهقي، وأخيراً الإمام ابن تيمية في الحموية الكبرى، وهذا التصريح -كما ترى يعني إجماع التابعين، وهو مبني على إجماع الصحابة المستند إلى صريح الكتاب
1 راجع: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص: 319 لابن القيم.
2 ابن القيم: اجتماع الجيوش الإسلامية على المعطلة والجهمية 39.
وصحيح السنة، وهو أقوى إجماع عرف -فيما أعلم- وقد ذكر الأوزاعي هذا الإجماع للرد على عقيدة الجهمية التي أخذت تظهر في عصر تابعي التابعين ليبين للناس أن ما يدعو إليه (جهم) وأتباعه مخالف لإجماع الصحابة والتابعين وأئمة تابعي التابعين.
وبعد: فإن صفة استواء الله على عرشه، وصفة الكلام، وموضوع إثبات رؤية الله للمؤمنين يوم القيامة هذه المسائل التي كثر فيها اضطراب الأشاعرة وتناقضهم، ولذلك كثر حديث الأئمة وكلامهم فيها ومناقشتهم للأشاعرة بأساليب مختلفة، وجمعوا فيما ألفوا من الكتب في الرد عليهم أدلة عقلية ونقلية، فهذا الحافظ ابن القيم يناقش الأشاعرة، ويبطل دعواهم بأن معنى (استوى) في الآيات التي سبق أن سقناها بمعنى (استولى) أو مجاز عن الملك والسلطان، يبطل هذه الدعوى باثنين وأربعين وجهاً1.
ويثبت بأن الفعل (استوى) في مثل سياق الآيات السبع المذكورة لا يكون إلا بمعنى (علا) و (ارتفع) ، هذا ما يدل عليه اللفظ بالوضع، ويجب أن ينتهي إلى هنا علم العباد، وأما ما زاد على هذا القدر من محاولة إدراك حقيقة الصفة، أو اللجوء إلى التأويل، والخروج باللفظ عن ظاهره، أو دعوى التفويض والإعراض عن المعنى الظاهر للفظ، فكل ذلك تكلف، نهينا عنه، أو قول على الله بغير علم. وهو من جملة ما حرم الله على عباده حيث يقول تعالى:{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 2، ويقول:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 3، والله المستعان.
1 اجتماع الجيوش الإسلامية ص: 39.
2 سورة البقرة آية: 169.
3 سورة الإسراء آية: 36.
الصفة الثانية: صفة المعية والقرب
إذا كنا قد انتهينا من الكلام على صفة استواء الله على عرشه كما يليق به دون حاجته إليه، ليحمله، بل هو الحامل سبحانه للعرش، وما دون العرش بقدرته سبحانه، بعد هذا كله أرى من المناسب جداً أن نتحدث عن معية الله تعالى، وقربه من عباده كما يليق به، لما نلاحظ من أن بعض الناس يتصورن – خطأ - صعوبة التوفيق بين استواء الله على عرشه وأنه فوق جميع مخلوقاته، وبين قربه من عباده وأنه معهم حيثما كانوا!! علماً بأنه قد وردت نصوص قرآنية، وأخرى من الأحاديث النوبية لتثبت المعية والقرب كما أثبتت صفة العلو والفوقية. وبتتبع النصوص المشار إليها، وتدبرها يتبين أن المعية تنقسم إلى قسمين:
1-
معية عامة تثبت أحكامها لجميع الخلق بمعنى أن الله مع جميع ما خلق يعلم ما هم عليه، ولا تخفى عليه منهم خافية في الأرض، ولا في السماء، بل قد أحاط كل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
ومن نصوص المعية العامة قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} 1.
2-
القسم الثاني: المعية الخاصة: وهذا القسم لخواص عباده تعالى الذين خصهم بالتوفيق فتحلوا بالتقوى، والإحسان والصبر وجميع الشمائل الكريمة، ومن أمثلة هذا القسم قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} 2، وقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 3، ومن أوضح أمثلة هذا القسم تلك المعية العظيمة التي كان يخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار أبا بكر الصديق رضي الله عنه، ويطمئنه بها إذ يقول
1 سورة الحديد آية: 4.
2 سورة النحل آية: 128.
3 سورة البقرة آية: 153.
له: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} 1، ما أعظمها من معية وأعظم به من قرب، حيث يكون الله وحده صاحبهما في ذلك السفر، وخليفتهما في الأهل وهو معهما بنصره وتأييده وحفظه والدفاع عنهما، وهما في غاية العجز والضعف في تلك اللحظة الحاسمة، وهو مع من خلّفاهم في مكة بالحفظ والكلأ، وبالربط على قلوبهم حتى يأتي الله بالفرج، مهما طال الليل إذ لا يد من الصبح، هذه أحكام المعية الخاصة بالاختصار.
والمعية لنوعيها لا تفيد المخالطة، والممازجة الذاتية لا شرعاً، ولا لغة بل تمنع ذلك باعتبار إضافتها إلى الله تعالى. أما لغة فإن لفظة (مع) لا تدل إلا على مطلق المصاحبة2 والمقارنة، وهذه المقارنة أو المصاحبة أعم من أن تكون بالذات أو بمعان أخر، وإن السياق والقرائن التي تحيط بالمقام هي التي تعين نوع تلك المصاحبة، فإذا وصف الله نفسه بالمعية في عديد من الآيات القرآنية وجاء ذكرها فيما صح عن رسوله عليه الصلاة والسلام فعلينا أن نؤمن بأن معيته سبحانه إنما هي معية علم واطلاع وإحاطة إن كانت عامة على ما تقدم من التفصيل، وتزيد عليها معنى الحفظ والنصر والتأييد إن كانت خاصة. ولا ينبغي أن نفهم منها أيّ معنى من المعاني التي لا تليق بالله تعالى، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه:"فكل من قال: إن الله بذاته في كل مكان، فهو مخالف للكتاب، والسنة وإجماع سلف هذه الأمة وأئمتها، مع مخالفته لما فطر الله عليه عباده، ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة، وهؤلاء يقولون أقوالاً متناقضة"3 ا. هـ
1 سورة التوبة آية: 40.
2 القاموس المحيط.
3 ابن تيمية مجموع الفتاوى 5/130 طبعة الرياض.
إذ لا يوجد نص صحيح وصريح من كاتب أو سنة يشير إشارة، ولو خفية إلى أن الله في كل مكان بذاته، بل النصوص تدل دلالة واضحة على خلاف ذلك، كما تقدم في غير موضع.
وربما يفهم بعض الناس من كلام شيخ الإسلام1 حيث يقول: "إن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة" قد يفهم من هذا الكلام بأن ابن تيمية ممن يقول بأن الله تعالى بذاته معنا في الأرض، أو في كل مكان، وهو بعيد من مثل هذا الحلول رحمه الله. وكلامه الذي نقلناه آنفاً الذي يقول فيه:"فكل من قال: إن الله بذاته في كل مكان، فهو مخالف للكتاب والسنة"
…
الخ يمكن أن يصحح هذا المفهوم الخاطئ، ويرد هذا الاتهام، والحقيقة التي يعنيها شيخ الإسلام هي الحقيقة التي يتصورها كل من فهم معنى كلمة (مع) وفهم أحكامها، لأن أحكامها يختلف باختلاف الموارد، وسبق أن مثلنا لذلك عند تقسيم المعية إلى العامة والخاصة.
1 مجموع الفتاوى في المجلد الخامس ص: 102.
شبهة القائلين بأنه في كل مكان بذاته
إذ برأنا ساحة ابن تيمية من القول بأن الله في كل مكان بذاته، حيث شرحنا كلامه بكلامه، ينبغي أن نعرف ما هي الشبهة التي أوقعت بعض الناس في هذا الاعتقاد؟!!
بعد البحث ما وسعنا البحث في هذه النقطة لم نجد لهم متمسكاً إلا التعلق ببعض العمومات في بعض النصوص التي ذكر المعية أو ذكر القرب، وهي التي تقدم ذكر بعضها، وسيأتي ذكر البعض الآخر، لأنهم لم يفهموا المراد منها، ومراد المتكلم - كما يقول شيخ الإسلام - إنما يفهم بتفهيم من المتكلم نفسه، وبتصريح منه بأنه أراد بكلامه كذا وكذا إن كان في كلامه إجمال وإبهام، أو يحف كلامه بقرائن تعين مراده من كلامه، وليس في كتاب الله أو في سنة رسول الله إبهام يصل بالقارئ والمطلع إلى درجة الحيرة والوقوع في الاعتقاد الفاسد، إذا حالفه التوفيق من الله فجمع بين النصوص بالطرق المعروفة عند أهل العلم.
أما في هذه المسألة فإن الجمع والتوفيق بين نصوص الفوقية والعلو وبين نصوص المعية والقرب، ففي غاية الوضوح لمن وفق لفهم نصوص المسألة، وملخصه كالآتي:
أ- إن الله تعالى أخبرنا بأنه فوق خلقه مستو على عرشه وهو في العلو لا في السفل، أخبرنا عن ذلك بأساليب مختلفة ومتنوعة في كتابه وفيما أوحاه إلى رسوله وأمينه على وحيه:
1-
مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1.
2-
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2.
3-
{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} 3.
4-
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 4.
5-
{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 5.
هذه آيات من القرآن الكريم أما من السنة فمنها ما يلي:
1-
"إن الله كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي - أو غلبت غضبي "6.
2-
وفي آخر حديث الأوعال: "الله فوق العرش وعلمه في كل مكان"، وفي لفظ:"ولا يخفى ما أنتم عليه"7.
3-
حديث الإسراء والمعراج بكامله8، وفيه نقاط تعتبر نصاً في الموضوع منها نقطة تتحدث عن لحظة فرض الصلوات الخمسين حيث خاطبه ربه سبحانه وأسمعه كلامه دون واسطة جبرائيل، ومنها تردده بين موسى وبين ربه سبحانه وهو يشفع لأمته في تخفيف عدد الصلوات المفروضة
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة الفرقان آية: 59.
3 سورة الملك آية: 16.
4 سورة فاطر آية: 10.
5 سورة آل عمران آية: 55، وتقدمت هذه الآيات وغيرها في صفة الاستواء.
6 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة 17/69، شرح النووي الطبعة الأولى وأصله متفق عليه، وتقدم في صفة الاستواء.
7 راجع أبا دواد في سننه 5/93 رقم 7423.
8 أخرجه البخاري في كتاب التوحيد 17/258 وأصله متفق عليه، وأخرجه أصحاب السنن، وتقدم في صفة الاستواء.
لتخفض من خمسين إلى خمس من حيث العدد، وهناك نصوص أخرى في هذا المعنى.
وهذه الآيات وتلك الأحاديث وما في معناها من نصوص كثيرة، وآثار، وأقوال السلف مستنبطة من النصوص لا تعتبر نصاً لا يقبل الجدل في أن الله تعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه كما يليق به، فاستواؤه معلوم المعنى من هذه النصوص، وكيفية استوائه مجهولة، ولكن الإيمان بذلك الاستواء واجب، والبحث والتنقيب عن الكيفية بدعة. فلا ينبغي أن يشك مسلم في ذلك.
وقد تقدم البحث مستوفى في صفة استواء الله تعالى، وتقدم قول الإمام مالك الذي أشرنا إليه هاهنا.
ب- إذا ثبت - دون شك - من هذه الأدلة أن الله تعالى فوق سماواته مستو على عرشه (بذاته) بائن من خلقه، ثم وردتنا نصوص تثبت أنه تعالى مع جميع خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمورهم وشئونهم.
وخص خواص عباده بأنه معهم في ظروف خاصة تتطلب النصر والتأييد والحفظ والكلاء، والدفاع عنهم حتى ينتصروا، وينتصر بهم دين الله وشريعته، إذا ثبت ذلك لا يفهم من مجموع هذه النصوص إلا أن الله لا يزال ولم يزال أبداً في علوه وفوقيته سبحانه، وهو مع ذلك لا يزال معهم في كل لحظة إما بالمعية العامة، وإما بالمعية الخاصة في ضوء البيان الذي تقدم، وبهذا وحده تجتمع النصوص وتفهم وتطمئن النفوس إلى معاني تلك النصوص التي إذا لم تجمع بمثل هذا الجمع أوهمت الغِرَّ الساذج أنها في غاية من التضارب والاصطدام، ويقف موقف المتفرج الجبان، ولسان حاله يقول: اللهم سلم سلم.
وفي واقع الأمر ليس هناك إلا السلامة لو كان يفقه.
وأما نصوص المعية والقرب التي يتعلقون بعمومها كما تقدم، والتي
يحاولون أن يفهموا منها بأن الله في كل مكان بذاته - وهي لا تدل على ذلك، لو فهموها حق فهمها- وتلك النصوص هي:
1-
2-
والمعية في الآيتين معية عامة -كما تقدم- فآية سورة الحديد يخبر الله فيها بأنه سبحانه عالم بكل ما يجري في العالم السفلي والعلوي بالتفصيل، وهو مع عباده أينما كانوا لأنه بصير بجميع أعمالهم خبير بها، فذِكْرُ العلم في أول الآية قبل ذكر المعية ثم تذييل الآية بأنه بصير بأعمالهم قرينة واضحة بأن المراد بالمعية معية العلم والإحاطة، أما قرينة آية سورة المجادلة فإنها أقوى وأصرح، حيث بدأت الآية الحديث بالعلم، وختمت بالعلم أيضاً. وإذا أمعنا النظر في أحكام المعية في الآيتين الكريمتين، وأضفنا إليهما النصوص التي جاء فيها ذكر قرب الله تعالى من بعض عباده في كتابه، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام نستطيع أن نفهم منها ما فهمنا من الآيتين السابقتين، لأن القرينة المذكورة هناك سوف تجري في بقية النصوص التي فيها ذكر المعية أو القرب إن جاءت خالية من القرينة، فيضاف إلى ذلك إخبار الله عن نفسه بأنه فوق سماواته، وقد تقدم ذلك قريباً، مع ما فطر الله عليه عباده من أنه تعالى يدعى من فوق، لا من أسفل، بل يعتبر هذا علماً ضرورياً لا يمكن تجاهله إلا لمن أنكر نداء
1 سورة الحديد آية: 4.
2 سورة المجادلة آية: 7.
فطرته، متأثراً بعلم الكلام وفلسفة الفلاسفة، فبهذا الجمع والتوفيق بين نصوص العلو، وبين نصوص المعية تلتئم النصوص، وتنسجم، وتفسر بعضها بعضاً، لا تتنافر ولا تتضارب، ولله الحمد والمنة.
قال الحافظ ابن القيم -في صدد حديثه عن المعية والقرب: (وهذا القرب لا ينافي مباينة الله لخلقه واستوائه على عرشه بل يلازمه، فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولكنه نوع آخر1 اهـ.
وهذا المعنى هو الذي نحن بصدد تقريره بتوفيق الله.
قال الحافظ ابن عبد البر - وهو يناقش نفاة العلو-: "وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 2، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله"3.
وهذا الكلام من ابن عبد البر لا يعني إلا الإجماع، وإذا أضفناه إلى ما تقدم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وكلام تلميذه ابن القيم، وكلام من نقلنا كلامهم من الأئمة والعلماء، إن مجموع ذلك يفيد ضرورة أن هذا المفهوم هو المفهوم الوحيد الذي كان عليه المسلمون الأولون قبل أن تظهر فرق أهل الكلام التي فرقت المسلمين بآرائها وفلسفتها، ولقد كان المسلمون في عافية من شرهم. وقبل نهاية حديثنا عن المعية والقرب نحن أن ننوه بفائدة تتعلق بهذه المسألة العظيمة.
1 ابن القيم مدارج السالكين 2/266 بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
2 سورة المجادلة آية: 7.
3 ابن عبد البر التمهيد 7/139 بتحقيق عبد الله صديق.
ذكر الله تعالى قربه من بعض عباده في حالتين اثنتين فقط:
الأولى: ذكر في معرض إجابة دعاء من دعاه حيث يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1، ومعنى القرب هنا واضح، وهو قرب إجابة من دعاه، إذ هو معه، قريب منه، يرى مكانه، ويسمع دعاءه، ويعلم ما يريد العبد أن يقوله قبل أن يقوله لأنه هو الذي وفقه ليدعوه، ثم هو الذي يجيب دعاءه، فهذا قربه من داعيه.
يقول بعض أهل العلم: إن الآية المذكورة نزلت جواباً للصحابة رضي الله عنهم حين سألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام قائلين: "ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه"؟ فأنزل الله هذه الآية.
الثانية: ذكر القرب في إثابة عابديه، والمتقربين إليه بالأعمال الصالحة، وذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد"2، وقال عليه الصلاة والسلام:" أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر"3.
وورد في صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفر، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: "يا أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" 4.
هكذا ينتهي الحديث عن المعية والقرب معاً بهد التوفيق بينهما، وبين علو الله تعالى على خلقه، لنثبت بأنه تعالى مع عباده، وقريب منهم وهو في علوه، والعلو وصف ذاتي له سبحانه، دائماً وأبداً.
1 سورة البقرة آية: 186.
2 أخرجه مسلم 1/350.
3 أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن عبسة، وصححه الحاكم على شرط مسلم، وأقره الذهبي (راجع فيض القدير 2/69) .
4 صحيح البخاري في التوحيد 17/144 ط البابي الحلبي.
الصفة الثالثة: صفة النزول:
هذه الصفة من صفات الأفعال التي كثر فيها النزاع بين السلف والخلف، كاختلافهم في جميع الأفعال عامة، والأفعال اللازمة خاصة. مثل الاستواء والمجيء والإتيان.
والقول الحق المؤيد بالأدلة هو الذي عليه سلف الأمة من أن الله تعالى تقوم به هذه الأفعال فيكون النزول فعلاً فَعَلَه سبحانه وكذلك مجيئه وسائر أفعاله.
يقول الإمام ابن تيمية في تأييد هذا القول: "وهذا قول السلف قاطبة وجماهير الطوائف"1 اهـ.
وذلك لأنهم يأخذون النصوص على ما وردت دون أن يفرقوا بين ما جمع الله من الصفات والأسماء والأفعال، وأما الخلف فموقفهم مضطرب جداً في هذه الصفة كغيرها من صفات الأفعال منهم من ينكر النزول إنكاراً فيقول: ما ثم نزول أصلاً.
ومنهم من يقول: إنه ينزل نزولاً بحيث يخلو منه العرش، وهذا يعني أن القوم يحاولون إدراك الكيفية وإلا فالإنكار السافر أو التشبيه، وهو موقف خطير على إيمان المرء.
قال الإمام ابن تيمية: "إن أبا بكر الإسماعيلي كتب إلى أهل "جيلان" إن الله ينزل إلى سماء الدنيا على ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} 2، وقال:{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 3، نؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف، ولو شاء الله سبحانه أن يعين ذلك فعل. فانتهينا إلى ما أحكمه.
1 شرح حديث النزول ضمن المجموع 5/395.
2 سورة البقرة آية: 210.
3 سورة الفجر آية: 22.
وكففنا عن الذي يتشابه، ثم تلا قوله تعالى:{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} "1 الآية.
وقال عبد الرحمن بن منده بإسناده عن حرب بن إسماعيل، قال:"سألت إسحاق بن إبراهيم قلت: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " ينزل الله إلى السماء الدنيا؟ " قال: نعم، ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا، كما شاء، وكيف شاء. وقال عن حرب: "لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين، لقوله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} "2.
وروى أيضاً عن حرب قال: "هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الحديث والأثر، وأهل السنة المعروفين بها، وهو مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، والحميدي وغيرهم، كان قولهم: إن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء، وكما شاء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 3.
وقال حماد بن زيد: "إن الله على عرشه، ولكن يقرب من خلقه، كيف شاء"، قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت فضيل بن عياض يقول: "إذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء"، وروي مثل ذلك عن الأوزاعي وغيره من السلف أنهم قالوا في حديث النزول: يفعل الله ما يشاء.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: والأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات نزول الرب4 يوم القيامة كثيرة، وكذلك إتيانه لأهل الجنة كيوم الجمعة5اهـ.
وهذه الأحاديث التي يحتج بها السلف جاءت موافقة للقرآن، وهذا ما احتج به الإمام إسحاق بن إبراهيم بن راهويه على بعض الجهمية بحضرة الأمير عبد الله بن طاهر أمير
1 سورة آل عمران آية: 7.
2 سورة الأنبياء آية: 23.
3 سورة الشورى آية: 11.
4 ابن تيمية في مجموع الفتاوى 5/374 طبعة الرياض شرح حديث النزول.
5 شرح حديث النزول في المجموع، وتقدم.
خراسان، وذلك حين سئل إسحاق، سأله رجل في مجلس الأمير عن حديث النزول أصحيح هو؟ قال إسحاق: نعم، قال السائل: كيف ينزل؟!! قال إسحاق أثبته فوق، حتى أصف لك النزول، فقل له الرجل: أثبته فوق، فقال إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 1، فقال الأمير عبد الله: يا أبا يعقوب! أهذا يوم القيامة، قال إسحاق: أعز الله الأمير ومن يأتي يوم القيامة فمن يمنعه اليوم
…
؟
وأما السؤال: فهل نزل يخلو عنه العرش أم لا؟
إن المفروض عدم ورود هذا السؤال، وهي مسألة قد خاض فيها الناس بل حتى بعض السلفيين المعاصرين، وقد كان الواجب الإمساك عن الخوض في هذه النقطة التي سكت عنها السلف.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة: "إن الصواب المأثور عن سلف الأمة وأئمتها أن الله سبحانه لا يزال فوق العرش، ولا يخلو منه العرش مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه، وكذلك يوم القيامة كما جاء في الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض، بحيث يبقى السقف فوقهم"2، بل الله منزه عن ذلك، فالله سبحانه وتعالى قريب في عُلُوّه وعليُّ في قربه، وهو مع جميع مخلوقاته بعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوالهم، وهو مع الصابرين والمحسنين والمتقين من عباده بالكلأ والحفظ والنصر {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
إذاً فإن السلف انطلاقاً من إيمانهم بتلك الأحاديث التي أشرنا إليها والتي يأتي الكلام عليها - إن شاء الله - إنهم يثبتون نزول الرب سبحانه إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، كما يليق بجلاله وعظمته، ويثبتون
1 سورة الفجر آية: 22.
2 شرح حديث النزول ضمن المجموع، وتقدم.
المعنى العام للنزول دون الخوض والتنقيب عن الكيفية إيماناً منهم بأن معرفة كيفية الصفة متوقفة على معرفة كيفية الموصوف، فحيث آمنا بالله إيمان تسليم دون بحث عن كنه ذاته سبحانه، فيجب الإيمان بجميع الصفات التي أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، وصفة النزول إلى سماء الدنيا من الصفات التي أخبر عنها الرسول، ويشهد له القرآن حيث أخبر الرب سبحانه عن مجيئه يوم القيامة كما تقدم1.
فنستطيع أن نقول: إن النزول ثابت بالكتاب والسنة، ولولا هذه النقول لكففنا عن إثباتها. هذا هو الذي نعني بأنها خبرية محضة، إلا أن العقل الصريح والفطرة السليمة لا يرفضان كل ما ثبت بالنقل الصحيح، ولا يعدانه مستحيلاً، كما يزعم بعض الزاعمين، لأن العقل يشهد أن الذي يفعل ما يشاء أن يفعل مثل النزول والاستواء والمجيء مثلاً، والقادر على كل شيء أكمل من الذي لا يفعل كل ما يريد فعله لأنه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} 2، هكذا بصيغة "فعال" وهي تدل على كثرة الفعل، وقد يفهم من الكثرة التنوع، والله أعلم.
هكذا يجتمع العقل والنقل على الدلالة على صفات الأفعال بما في ذلك نزول الرب سبحانه إلى السماء الدنيا كيف يشاء، ولله الحمد والمنة.
1 راجع شرح حديث النزول 5/377 ضمن مجموع الفتاوى.
2 سورة البروج آية: 16.
ذكر بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب:
وقد وردت في إثبات صفة النزول أحاديث كثيرة، وصفها الإمام ابن تيمية بالتواتر، وذكر الحافظ ابن عبد البر بأنها منقوله عن طريق متواتر ووجوه كثيرة من أخبار العدول، وللإمام الذهبي كلام يؤيد ما قاله الإمامان ابن تيمية، وابن عبد البر رحمهم الله، إذ يقول:
"وقد ألفت أحاديث النزول في جزء، وذلك متواتر أقطع به"1 ومن هذه الأحاديث المشار إليها:
1-
حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام: " ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إذا مضى ثلث الليل الأول ". وفي رواية: "حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: أنا الملك من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك".2
قال الذهبي: رواه أحمد، وإسناده قوي اهـ.
2-
حديث أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له"3.
قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد: "هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، رواه أكثر الرواة عن مالك
…
إلى أن قال: وفيه دليل على أن الله في السماء على عرشه، من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة
1 العلو للذهبي بتحقيق الألباني ص: 116.
2 المصدر السابق والحافظ ابن عبد البر في التمهيد 7/128.
3 رواه البخاري في الصلاة وفي الدعوات. ورواه أيضاً في التوحيد. ورواه مسلم.
والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحة ما قالوه1 أهل الحق في ذلك قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "2، ثم ساق عدة آيات في هذا المعنى، وهي التي سبق ذكرها.
وقد ناقش الحافظ ابن عبد البر مسألة الاستواء على العرش، ومسألة النزول وربط بينهما، ونقل نقولاً مثبتة وأخرى نافية، ومن أغرب تلك النقول ما نقله عن وكيع أنه كان يقول: كفر بشر بن المريسي3 في صفته هذه، قال: هو في كل شيء، قيل له: وفي قلنسوتك هذه؟ قال: نعم، قيل له: وفي جوف حمارك؟ قال: نعم، وقال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية4.
قلت: وقد صدق، ولا يشك في صحة قول ابن المبارك وصدقه من سمع كلام بشر السابق آنفاً ذلك الكلام الذي يقشعر جلد المرء عند النطق به، ويقف شعره، الحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به بشراً وأمثاله.
ثم قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: "وأما قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: "ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا" فقد أكثر الناس في التنازع فيه، والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويصدقون بهذا الحديث، ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول، كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة، وقد قال قوم من أهل الأثر أيضاً: إنه ينزل أمره وتنزل رحمته، وروى ذلك عن حبيب كاتب مالك. وغيره. وأنكره منهم
1 الحافظ يكثر من استعمال لغة أكلوه البراغيث في التمهيد، وهي لغة قليلة كما لا يخفى.
2 سورة طه آية: 5.
3 بشر هذا هو ابن غياث المريسي، كان يعيش في دولة هارون الرشيد مختفياً، وقد كان بارعاً في علم الكلام، حتى اضطربت عقيدته وصدرت منه عبارات كفره العلماء بها.
4 راجع التمهيد للحافظ ابن عبد البر بتحقيق عبد الله بن صديق 7/129-143.
آخرون، وقالوا: هذا ليس بشيء، لأن أمره ورحمته لا يزالان ينزلان أبداً في الليل والنهار، وتعالى الملك الجبار الذي إذا أراد أمراً قال له: كن فيكون في أي وقت شاء"1اهـ.
قلت: حبيب بن أبي حبيب هذا الذي روي عنه الأثر السابق هو أبو محمد المصري متروك، كذبه أحمد وأبو داود وجماعة، توفي سنة 216هـ2.
وهذا التأويل الذي يتوارثه النفاة فيما بينهم في معنى النزول قد ناقشه الإمام ابن تيمية في كتابه الفريد في بابه "شرح حديث النزول" وأبطله من عدة وجوه، ومن ذلك أن سياق الحديث يأبى ذلك التأويل، فإن قوله تعالى:"أنا الملك" إلى آخر الحديث صريح في أن الله هو الذي ينزل كيف يشاء، ومما ذكره شيخ الإسلام حول هذا المعنى أنه قال:"وقد سئل بعض نفاة العلو عن النزول فقال: ينزل أمره - فقال له السائل: فممن ينزل؟!! إن عندك فوق العالم شيء فممن ينزل الأمر؟ من العدم المحض؟ فبهت"3 اهـ.
ويكون معنى الكلام إذا كنت لا تؤمن بأن الله في العلو، فكيف تزعم بأن الأمر ينزل. فممن ينزل الأمر، فإن الله ليس فوق العالم في زعمك؟ وهو سؤال مفحم كما ترى، ولذلك بهت الذي نفى العلو، ثم زعم نزول الأمر، لأن النزول لا يكون في اللغة إلا من فوق، وهذا السؤال يمكن أن يوجه أيضاً إلى القائلين بأنه تعالى ليس فوق العرش، ولا تحت العرش، ولا يمين العرش، ولا يساره، وهذا الوصف لا ينطبق إلا على العدم، فيكون وجود الرب تعالى عند هؤلاء وجوداً ذهنياً ولا وجود له في الخارج كما لا يخفى، فإذاً ممن ينزل الأمر أو ممن تنزل الرحمة، والحالة ما ذكر؟!!
1 التمهيد للحافظ ابن عبد البر 7/143 تحقيق عبد الله بن صديق.
2 راجع تعليق عبد الله بن الصديق على التمهيد.
3 شرح حديث النزول في المجموع 5/131 طبعة الرياض.
وقال الحافظ ابن القيم: "إن نزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها عنه نحو 28 نفساً من الصحابة، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغه في كل موطن ومجمع1 اهـ.
ثم سرد أحاديث الصحابة ابتداء من حديث أبي بكر ثم علي إلى آخر العدد المذكور مع الشرح والتعليق.
وقال محمد بن جرير الطبري - بعد كلام طويل حول نصوص الصفات: "وأهل العلم بالكتاب والآثار من السلف والخلف يثبتون جميع ذلك، ويؤمنون به بلا كيف ولا توهم. ويمرون الأحاديث الصحيحة كما جاءت من رسول الله عليه الصلاة والسلام"2 اهـ.
قلت: بما في ذلك صفة النزول.
قال الحافظ ابن القيم: اختلف أهل السنة في نزول الرب تعالى على ثلاثة أقوال:
1 -
أحدها: أنه ينزل بذاته، قال شيخنا: وهذا قول طوائف من أهل الحديث والسنة والصوفية والمتكلمين.
2-
وقالت طائفة منهم: لا ينزل بذاته.
3-
وقالت طائفة أخرى: نقول: ينزل، ولا نقول بذاته، ولا بغير ذاته، بل نطلق اللفظ كما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم ونسكت عما سكت عنه3 اهـ.
وهذا ما يفهم من قول الإمام الأوزاعي وحماد بن زيد وإسحاق بن راهويه، وقد سبق نقل أقوالهم، وقد سئل الإمام أحمد فقال السائل: يا أبا
1 مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم ص: 380.
2 مختصر الصواعق المرسلة ص: 383.
3 المصدر السابق.
عبد الله أينزل إلى السماء الدنيا؟ قال: نعم، ثم قال السائل: نزوله بعلمه أم ماذا؟!! فقال الإمام: "اسكت عن هذا" فغضب غضباً شديداًَ ثم قال: امض الحديث على ما روي1 اهـ.
وموقف الإمام أحمد هنا شبيه بموقف الإمام مالك بن أنس في مسألة الاستواء، وهو موقف معروف رحمهما الله تعالى، بل هذا موقف أئمة السلف قاطبة في جميع صفات الله تعالى لأن المعروف عنهم أنهم لا يتجاوزن الكتاب والسنة في جميع المطالب الإلهية.
ومما يشهد لما ذكرنا ما قاله الحافظ ابن القيم بعد ذكر أقسام الناس في مسألة الانتقال والحركة - وأما الذين أمسكوا عن الأمرين فقالوا: لا نقول يتحرك وينتقل ولا ننفي ذلك عنه، فهم أسعد بالصواب والاتباع، فإنهم نطقوا بما نطق به النص، وسكتوا عما سكت عنه، ثم قال رحمه الله: تظهر صحة هذه الطريقة ظهوراً تاماً فيما إذا كانت الألفاظ التي سكت عنها مجملة محتملة لمعنيين: صحيح وفاسد، مثل لفظ الجسم والحيز والأعراض، ونحو ذلك من الألفاظ التي تحتها حق وباطل، قبل التفصيل، فهذه لا تقبل مطلقاً، ولا ترد مطلقاً لأنها لم يرد إثباتها ولا نفيها2 اهـ.
والذي يظهر لي أن لفظ الحركة والانتقال من الألفاظ التي يجب عدم إطلاقها لا نفياً ولا إثباتاً، فيسعنا ما وسع السلف فيها وفي غيرها، وذلك أسلم، والله أعلم.
ومن أقوال هؤلاء الأئمة ومواقفهم يتضح جلياً موقف السلف الصالح من هذه الصفة وغيرها من جميع الصفات الإلهية، وهو الاكتفاء بفهم المعاني العامة للصفات، والإمساك عن الخوض فيما وراء ذلك، فهم لا يبالغون في
1 المصدر السابق.
2 مختصر الصواعق المرسلة 384.
الإثبات إلى حد التشبيه والتجسيم كما لا يبالغون في النفي إلى حد التعطيل، بل يقفون مع ظاهر النصوص، ولا يتجاوزونها، وبالله التوفيق.
وأما موقف الخلف هنا كموقفهم في جميع الصفات على ما تقدم تفصيله من وجوب التأويل وعدم اعتقاد ظاهر النصوص، أما النزول فقد أولوه بنزول الملائكة تارة، وبنزول الأمر تارة أخرى، وقد سبق أن ناقشنا غير مرة، وبيّنا أنه يؤدي إلى القول على الله بغير علم، مع بعده عما كان عليه المسلمون الأولون من الصحابة والتابعين. وهم الناس الذي يقتدي بهم في هذا الباب وغيره، ومخالفتهم تعتبر اتباع غير سبيل المؤمنين، وهو أمر في غاية الخطورة، كما لا يخفى.
وختاماً نقول قول الإمام مالك في صفة الاستواء: "النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، رحم الله سلفنا ما أقل كلامهم، وما أغزر معناه.
الصفة الرابعة: صفة مجيء الله تعالى يوم القيامة:
وإذا كنا قد تحدثنا عن استواء الله على عرشه كما يليق به سبحانه، ثم أتبعنا ذلك بالحديث عن معية الله تعالى العامة مع خلقه، بعلمه واطلاعه والخاصة مع خاصة عباده بعلمه، وبنصره وتأييده، ثم أثبتنا نزوله سبحانه إلى سماء الدنيا كل ليلة على ما يليق بعظمته وجلاله رحمة لعباده، يجيب دعوة الداعين، ويعطي السائلين.
وبعد الحديث عن هذه الصفات الثلاث فلنتبع ذلك بحديث موجز عن مجيء الرب تعالى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده في ضوء الكتاب والسنة دون أن نتجاوزهما، لأنهما نورنا الذي نستضيء به في عملنا هذا، فإتيان الله تعالى يوم القيامة ثبت بآيات من الكتاب العزيز، وبأحاديث نبوية صحيحة تلقاها علماء السلف بالقبول، ونقلوها إلى من بعدهم كما فهموها، ودرج على الإيمان بها من
بعدهم وإقرارها، وإمرارها كما جاءت، وكما تلقوها. وهم خير القرون، بل هم الناس الذين يسألون عن فهمهم للنصوص كيف فهموها، وكيف عملوا بها، ليقتدى بهم، ولا سيما باب الأسماء والصفات، فالخير والهدى والاطمئنان في اتباعهم، والتأسي بهم، والشر والضلال والاضطراب وعدم اليقين في الدين محقق في مخالفتهم واتباع غير سبيلهم.
فعلى هذا المفهوم نتحدث عن هذه الصفة كما تحدثنا عن غيرها على المفهوم نفسه، وبالله التوفيق.
الآيات في صفة المجيء:
جاءت في كتاب الله عدة آيات تخبرنا عن مجيء الله يوم القيامة ليفصل بين عباده وليحكم بينهم، ومن تلك الآيات قوله تعالى:{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 1، وقوله سبحانه:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} 2، وقوله سبحانه:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} 3.
ومن التقاليد الموروثة لدى كثير من المفسرين الذين ينهجون منهج الخلف أن يفسروا "المجيء" المذكور في سورة الفجر {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} ، بمجيء أمر الله سبحانه - وقبل أن أواصل الحديث على هذه النقطة وما بعدها أريد أن أسأل أصحاب هذا الرأي: من أين يأتي أمر الله؟! فلا بد أن يكون الجواب: يأتي أمر الله من عند الله، فهو جواب لا بأس به. وبقي سؤال آخر: أين الله؟ الذي يأتي الأمر من عنده؟ هنا يضطرب النفاة، فأول ما يفعله النفاة من مثل هذا الموقف أن يقولوا: لا
1 سورة الفجر آية: 22.
2 سورة البقرة آية: 210.
3 سورة الأنعام آية: 158.
يسأل عن الله بأين؟ هكذا يفهمون!! وبذلك يبرهنون على بعدهم عن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو أول من سأل عن الله بأين ليختبر إيمان تلك الجارية التي يريد مولاها أن يعتقها لو كانت مؤمنة. والقصة معروفة لدى طلاب العلم. أعود إلى السياق لأقول: إذا كان النفاة لا يثبتون علو الله على خلقه، فلا معنى لقولهم:"جاء أمر ربك"!! لأنهم لا يدرون من أين يأتي الأمر؟ اللهم إلا إذا زعموا أن الأمر يأتي من كل مكان. ولا نعلم أحداً قال بهذا القول!!
وعلى كل حال، فإنهم إن عالجوا هذه الآية بهذا التهرب عن الحقيقة، ثم عالجوا آية سورة البقرة بالأسلوب ذاته، فما يصنعون بقوله تعالى في سورة الأنعام {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} !!.
أما المفسرون الذين ينهجون منهج السلف الذين يفسرون القرآن تفسيراً لغوياً وأثرياً فيطبقون على أن معنى الآية هكذا. هل ينتظر هؤلاء الذين يعدلون بربهم الأوثان والأصنام ويكفرون بلقاء الله، وجزائه، إلا أن تأتيهم الملائكة بالموت فتقبض أرواحهم، أو أن يأتيهم ربك "يا محمد" يوم القيامة بين خلقه أو أن يأتيهم بعض آيات ربك، من أظهرها طلوع الشمس من مغربها1.
هذا قول شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري مع التصرف في العبارة، ثم نقل ابن جرير تفاسير بعض الصحابة والتابعين، ثم سرد عدداً من الأحاديث المرفوعة والموقوفة تأييداً لتفسيره. ثم إنني تتبعت أقوال المفسرين عند غير ابن جرير فلا يكادون يختلفون.
وقد نقل الإمام الشوكاني في تفسيره عند الآية المذكورة2 تفاسير
1 ابن جرير الطبري: تفسيره 8/96.
2 الشوكاني: فتح القدير 5/172.
كبار المفسرين مثل مقاتل، وابن مسعود، وحديثاً موقوفاً عن أبي سعيد1 الخدري في تفسير الآية، في معنى مجيء الملائكة، ومجيء الله تعالى، ومجيء بعض آياته دون أدنى اختلاف إلا ما كان في العبارة والأسلوب لأنهم يستقون جميعاً من معين واحد، وهو "الوحي" الذي يستوحون منه مراد الله من كلامه سبحانه، ثم يستوضحون ما أشكل عليهم من سنة نبيهم، فلا يقولون على الله بغير علم.
وبعد: فليس لدى النفاة - فيما أحسب- جواب بالنسبة لهذه الآية ما لم يركبوا رؤوسهم، إذ لم يبق هناك من يضيفون إليه المجيء لأن الآية قطعت عليهم خط الرجعة -كما يقولون- حيث ذكرت مجيء الملائكة لقبض الأرواح، ثم ذكرت مجيء الرب سبحانه للحساب والقضاء ثم ذكرت مجيء أمر الله تعالى بأمره سبحانه، فأين يذهبون؟!! وماذا يصنعون؟ ولعلهم يَسألون فيقلون: إذا قلتم: ينزل الرب، ويجيء يوم القيامة، فهل معنى ذلك أن هذا المجيء مجيء بانتقال؟ وهل يخلو منه العرش عندئذ؟
الجواب: هذا نوع من الخوض الذي ناقشناه في صفة النزول، فخرجنا منه بالقول بأن أسعد الناس بالدليل هم الممسكون عن القول بانتقال أو عدم انتقال، والممسكون عن القول بخلو العرش، أو عدم خلوه، لأنهم سكتوا عما سكت عنه الكتاب والسنة. هذا ملخص ما قلناه هناك، وبه نقول هنا، ونزيد أن محاولة معرفة هذه النقطة فيها محاولة الإحاطة بالله علماً، وذلك مستحيل شرعاً وعقلاً. إنما الواقع أن الله هو الذي يحيط خلقه بعلمه، أما هو سبحانه يُعْلَم ولا يحاط به علماً، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاء} ، ولا يحيطون بذاته ولا بصفاته ولا بأفعاله علماً، فالنزول والمجيء من أفعال ربنا تعالى فينتهي علمنا فيهما وفي غيرهما من
1 ويشهد لحديث أبي سعيد الموقوف حديث أبي هريرة المرفوع عند الشيخين، وهو: طلوع الشمس من مغربها "فتح القدير للشوكاني" بل كل الأدلة التي ذكرناها في صفة النزول صالحة للاستدلال على هذه الصفة.
أفعال ربنا بمعرفة المعنى العام وكفى. هذا هو مسلك سلفنا الصالح، فيسعنا ما وسعهم.
فكل خير في اتباع من سلف
…
وكل شر في ابتداع من خلف
ومما يؤمن به أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يُحدثُ من أمره ما يشاء، ومما يحدثه في نهاية المطاف لهذه الدار أن يأمر الشمس أن تطلع من مغربها بدل مشرقها، إعلاناً لنهاية هذه الحياة، من هنا يغلق باب التوبة، ولا يقبل إيمان أو عمل صالح ممن يريد أن يؤمن، أو يعمل صالحاً بعد هذا الطلوع الغريب. ثم إذا جمع الله الأولين والآخرين يأتي يوم القيامة ليحاسب عباده {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 1، هناك يتميز المؤمن الصادق الذي كان يعمل بصدق ويقين {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} 2، فيأتي الرب تعالى فيعرفه المؤمنون بعلامته الخاصة فيسجدون له سبحانه سجود تعظيم وشكر في آن واحد، فيحاول المراؤون أن يتظاهروا كعادتهم بالسجود الأجوف، ولكن الله يفضحهم حيث تصبح ظهورهم. طبقاً فلا يستطيعون السجود بل يسقطون على ظهورهم. هكذا يأتي الله ويحاسب عباده ويفصل بينهم، وسيأتي مزيد بحث لهذه النقطة عند الكلام على الرؤية إن شاء الله تعالى في نهاية الكلام على الصفات المختارة، والله ولي التوفيق.
الصفة الخامسة: صفة الكلام:
هذه الصفة من الصفات التي ضل فيها كثير من الناس عن الصواب، وهي من هذه الناحية تشبه صفة "الاستواء"، بل تفرق الناس فيها أكثر من تفرقهم في صفة "الاستواء"، إذ تفرق الناس فيها إلى تسع فرق كلها تائهة عن الجادة إلا واحدة، وهي التي تمسكت بما كان عليه سلف هذه
1 سورة الزلزلة آية: 7، 8.
2 سورة القلم آية: 42.
الأمة وخيرها، وأمسكت عن الخوض تأدباً مع نصوص الكتاب والسنة، وإيماناً منها بتلك النصوص المتضافرة والأدلة المتنوعة التي سوف تمر بنا إن شاء الله قريباً، وللإمام الطحاوي عبارة لطيفة في هذا المعنى إذ يقول: ولما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} 1، علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر"2 اهـ.
وصفة الكلام - عند التحقيق- صفة ذاتية قديمة قائمة بذاته تعالى باعتبار نوع الكلام، وهي صفة فعل تتعلق بها مشيئة الله تعالى باعتبار أفراد الكلام، لأن الكلام الذي خاطب الله به نوحاً عليه السلام في شأن ابنه:{إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 3، غير الكلام الذي خاطب به موسى عليه السلام:{أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4، وهو غير الكلام الذي خاطب به عيسى عليه السلام:{يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} 5، وهذا الكلام كله غير الكلام الذي خاطب الله به خاتم رسله، وإمامهم محمداً عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء والمعراج في شأن الصلاة "لقد خففت عن عبادي، وأمضيت فريضتي"6.
وهذا كله غير القرآن الذي أنزله عليه وختم به كتبه، هذا المعنى، وهذا الفهم هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة. وهم الفرقة الناجية التي تمسكت بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام فيما نعتقد، وهذا يعني أنهم يثبتون لله كلاماً حقيقياً يسمعه المخاطب، وأن هذا القرآن الذي نقرأه بألسنتنا، ونحفظه في صدورنا ونكتبه في ألواحنا وكتبنا أنه كلام الله حقيقة
1 سورة المدثر آية: 25.
2 عقيدة الإمام الطحاوي مبحث الكلام ص: 179، طبعة المكتب الإسلامي بتحقيق الألباني.
3 سورة هود آية: 46.
4 سورة القصص آية: 30.
5 سورة المائدة آية: 116.
6 راجع شرح الطحاوية بتحقيق الألباني ص: 245.
لفظه ومعناه، ولا يبحثون عن كيفية تكلمه تعالى به، لأننا نؤمن به، ولا نحيط به علماً، هذا هو موقف السلف من صفة الكلام بإيجاز، لعلمهم بأن الوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، ولا يختلف العقلاء في ذلك، وكلنا نعلم أن معبود قوم موسى الذي اتخذوه من حليهم مما عيب عليه عدم الكلام، بل يستدل بذلك على أنه ليس بإله، إذ يقول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} 1.
1-
ومن أقوى الأدلة على أن الله يتكلم حقيقة، قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 2، حيث أكد الكلام بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمعنى المجازي، وهو أسلوب معروف عند أهل اللغة، فمن قال: قتلت العدو قتلاً لا يفهم من كلامه إلا القتل الحقيقي الذي هو إزهاق الروح، بخلاف ما لو قال: قتلت العدو فسكت، فإنه يحتمل القتل الحقيقي، ويحتمل الضرب الشديد المؤلم جداً، ولعله واضح.
ومما يحكى في هذا الصدد أن بعض المعتزلة قال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة: أريد أن تقرأ {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} بنصب لفظ الجلالة، ليكون موسى هو المتكلم، لا "الله"!! فقال له أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى:{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 3!! فبهت المعتزلي!!
2-
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} 4، فأنت
1 سورة الأعراف آية: 148.
2 سورة النساء آية: 164.
3 سورة الأعراف آية: 143
4 سورة آل عمران آية: 77.
ترى أن الله عاقبهم وأهانهم بترك تكليمهم تكليم إكرام وإنعام، ولكنه سبحانه يكلمهم ويوبخهم بقوله:{اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} 1.
3-
قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} 2.
أما هذه الآية فمن أقوى الأدلة في أن هذا القرآن المقروء والمسموع كلام الله حقيقة، وهي رد مفحم لأولئك الذي يزعمون أن هذا القرآن ليس بكلام الله حقيقة، وإنما هو دال على كلام الله الحقيقي النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت، أو هو عبارة عنه، يا ليت شعري من الذي عبر عما في نفس الله؟!! هذه عبارات تقليدية وموروثة يرددها المقلدون، وهم لا يفقهون ماذا تعني هذه العبارة؟!! وهي تعني - فيما تعني- الاستخفاف بالقرآن الكريم، وعدم احترامه الاحترام الذاتي، وإنما يحترم بواسطة غيره، وهو ذلك الكلام النفسي الذي يدل عليه. وهذا المعنى مصرح به في بعض كتبهم، وهم يضمرونه في أنفسهم، ولا يصرحون به في كل مكان إلا في مقام التعليم لبيان الواقع -كما يزعمون- هكذا يسيئون إلى كلام الله تأثراً بآراء أهل الكلام المذموم الذي يرجع سنده إلى ما وراء الإسلام، وهو دخيل على الإسلام، وليس من علوم المسلمين كما تقدم في أوائل الرسالة.
هذه بعض آيات القرآن التي تدل على أن الله موصوف بصفة الكلام، ومنه القرآن، وهناك أحاديث في هذا المعنى منها:
1-
قوله تعالى لأهل الجنة: "يا أهل الجنة هل رضيتم" الحديث، وهو حديث صحيح عن أبي سعيد الخدري.
2-
قال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئاً فإذا فُزّع3 عن قلوبهم، وسكت الصوت عرفوا أنه الحق،
1 سورة المؤمنون آية: 108.
2 سورة التوبة آية: 6.
3 كشف عن قلوبهم الفزع والخوف وسكن الصوت، حاشية السندي على البخاري ص:294.
ونادوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ} 1.
ويذكر عن جابر وعن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قرب، أنا الملك أن الديان".
3-
قال الإمام البخاري: باب كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة، ثم ساق سنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض".
4-
ثم ساق حديثاً آخر عن الأعرج عن أبي هريرة، وفيه:"ثم يعرج الذين باتوا فيكم - يعني الملائكة- فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون وأتيناهم يصلون ".
5-
قال الإمام البخاري: باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} ، ثم ساق حديثاً مسنداً عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه:" يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي".
6-
ثم قال الإمام البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه: باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم.
ثم ساق حديث الشفاعة بطوله وألفاظه المختلفة، وفي آخره يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: "فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال:
1 سورة سبأ آية: 23.
لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله" 1.
هذه الأحاديث وأخرى كثيرة في صحيح البخاري وصحيح مسلم وعند أصحاب السنن الأربعة تضاف إلى الآيات الكثيرة التي تثبت لله الكلام اللفظي الحقيقي، ومن ذلك القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى.
هذه بعض الأدلة لأتباع السلف في إثبات صفة الكلام باقية على ظاهرها كما يليق بالله لا كما يناسب المخلوق.
موقف الخلف من هذه الصفة ومناقشتهم
أما الخلف فقد اختلفت آراؤهم، وتباينت مذاهبهم في هذه الصفة ولكنهم - على اختلافهم الشديد- متفقون على عدم إيمانهم بكلام الله الحقيقي اللفظي الذي يسمعه المخاطب والذي من جملته القرآن الكريم.
فنخص منهم هنا بالحديث الأشاعرة لاعتبارات كثيرة، ليس هذا محل بيانها ومن أهمها:
1-
أنهم هم الناس الذين لهم وجود جماعي، وبكثرة ملحوظة في دنيا المسلمين اليوم، لو كانت الكثرة لها اعتبار ما في المعنى الإيجابي بهذا الصدد.
2-
ثم إنهم يهتفون بهتاف نحن "أهل السنة والجماعة" بصرف النظر هل "ليلى" تُقر لهم بهذه الدعوى أم لا؟!!
وكل يدعي وصلاً لليلى
…
وليلى لا تقر لهم بذاك
1 هذه الأحاديث نقلناها من صحيح البخاري من كتاب التوحيد من أبواب مختلفة 4/294-295 بحاشية السندي.
3-
أنهم أقرب من غيرهم نسبياً إلى منهج السلف، ولو في بعض المواقف ومع ذلك أن موقفهم من "معنى" كلام الله لغريب جداً، حيث زعموا أن كلام الله معنى واحد، قائم بذات الله تعالى، وهو الأمر والنهي والخبر والاستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة. فياليت شعري من المعبر عما في نفس الله باللغتين؟!!
إنه لموقف غريب ولا مثيل له حتى في كلام أهل الكلام مع ما فيهم من التطرف في بعض النقاط، وهذه العقيدة كانت في الأصل لابن كُلاب، وتبعه فيها أبو الحسن الأشعري عقب رجوعه عن الاعتزال وقبل وصوله إلى منهج السلف الذي يعتبر آخر الأطوار الثلاثة له رحمه الله، كما تقدم غير مرة في هذه الرسالة نفسها، أما الأشعرية المعاصرة فعلى ما كان عليه أبو الحسن في الطور الثاني، ولذا نسميهم أحياناً "الأشعرية الكلابية" فليُعلم ذلك.
شبهتهم في إنكار الكلام اللفظي:
وأما شبهتهم فيما ذهبوا إليه أنهم يقولون: إن كان الله تعالى يتكلم بكلام له صوت وحرف، لزم من ذلك التشبيه والتجسيم، لأنه لا بد له حينئذ من مخارج الحروف من اللسان والشفتين وغيرهما. والله منزه عن ذلك. إلى آخر كلامهم المعروف. هذه شبهتهم وهي من أخوات ما تقدم من الشبهات ومن نسيج واحد.
الجواب: إذا قلنا: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله وعظمته، دون أن نلزم كلامه لوازم كلام البشر انتفت الشبهة. وقد جاء في القرآن الكريم أن بعض أعضاء بني آدم سوف تتكلم يوم القيامة كما ثبت في السنة كلام بعض الجمادات، وكل ذلك دون أن يكون لها مخارج الحروف، وإذا كنا نؤمن بكلام هذه الأشياء تصديقاً لخبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة
والسلام، فكيف نستبعد إذاً أن يتكلم الله كيف يشاء ومتى شاء، وهو على كل شيء قدير، أو كيف نحاول أن ندرك كيفية تكلمه؟ وإذا ما عجزنا عن الإدراك، نفينا كلامه، كأننا نكذب كتابه ورسوله الصادق الأمين. أو نتلاعب بالنصوص بعقولنا القاصرة بدعوى التأويل، ونحن عاجزون عن إدراك كيفية كلام الأشياء المذكورة، وهي من مخلوقات الله تعالى؟!!
فكم كان حسناً بل من الإنصاف الواجب لو فكر القوم في الرجوع إلى الجادة، وهي خير من "بُنَيّات الطريق".
وإليكم النصوص المشار إليها من الكتاب والسنة:
1-
قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} 1.
2-
قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} 2.
3-
تسبيح الحصا، وتسبيح الطعام، وسلام الحجر على المبعوث بالمعجزات الباهرات محمد عليه الصلاة والسلام، كما أثبتت السنة ذلك، ونحن وإياكم نؤمن بذلك كله، فلنؤمن إذاً بكلام الله الذي أنطقها، وهو على كل شيء قدير.
فقالوا: أما بالنسبة لهذا القرآن فهناك آية تدل على أنه مخلوق!! وهو قوله تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 3، لأن القرآن شيء، فلا بد أن يدخل في عموم "كل" لأنها من ألفاظ العموم.
1 سورة يس آية: 65.
2 سورة فصلت آية: 21.
3 سورة الرعد آية: 16.
والجواب على هذه الشبهة: أن هذا الاستدلال من أغرب أنواع الاستدلالات لما يأتي:
أولاً: كيف يسوغ لهم الاستدلال بالقرآن المخلوق -في زعمهم- على أن القرآن نفسه مخلوق؟!!
وبعبارة أخرى: إذا كان قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، مخلوقاً -كما زعموا- فلا يصح أن يكون دليلاً لهم!!
هذا، وإن كان القوم لا يصرحون بهذا المعنى إلا في مقام التعليم -كما يقولون- احتراماً لهذا الكلام اللفظي الدال على الكلام النفسي الحقيقي -كما يزعمون- ولكن واقع عقيدتهم في القرآن هو ما ذكرنا، لأنهم يتفقون مع المعتزلة في أن القرآن مخلوق1، وإن اختلفوا معهم في الأسلوب والطريقة لأن أولئك صرحاء فيما يعتقدون، كما تقدم البحث مفصلاً في مسألة الاستواء.
ثانياً: هل هم جهلوا أو تجاهلوا تجاهل عارف أن عموم "كل" في كل موضع بحسبه يختلف باختلاف المواضع، يعرف ذلك بالقرائن؟!! ولو أخذ العموم هنا كما أرادوا لدخلت في هذا العموم جميع صفات الله تعالى، بل المفهوم الصحيح أن عموم "كل" هنا إنما يعني كل شيء مخلوق. فلا يدخل في العموم شيء من صفات الله، من الكلام وغيره، ومما يؤيد ما قلناه قوله تعالى في وصف الريح التي أرسلها الله إلى قوم "هود"{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ} 2، وهي لم تدمر كل شيء موجود، وإنما دمّرت ما أراد الله تدميره من الأشياء التي تستحق التدمير. أما مساكنهم وأشياء كثيرة أخرى لم تدمر، وكذلك قوله تعالى وهو يخبرنا عن
1 استقينا هذا المعنى من كتاب المواقف، وحاشية البيجوري على السنوسية، وحاشية الدسوقي على السنوسية، وهما من متأخري الأشاعرة، وأدرى بكلام الأشاعرة المتأخرين "صاحب الدار أدرى بما في الدار".
2 سورة الأحقاف آية: 25.
"بلقيس": {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} 1، وهل أوتيت "بلقيس" من كل شيء في الدنيا أو حتى كل شيء في ناحيتها؟!! لا، وإنما أوتيت من كل شيء يحتاج إليه الملوك في مملكتهم، وهو أمر واضح كما ترى، ولو أن إنساناً قال: قد حضر وليمة فلان كل الناس، إنما يفهم السامع أنه حضرها جميع المدعوين دون أن يتخلف أحد لديه "بطاقة" الدعوة.
وبعد: فلما خنقتهم الأدلة، وضايقهم أتباع السلف بالمناقشة حول النصوص التي وضعوها في غير موضعها، وأساؤوا فهمها، لجأوا إلى بيت شعر هزيل، لا مستند له، لشاعر نصراني "الأخطل" حيث يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جُعِل اللسانُ على الفؤاد دليلا
لجوء الغريق في السيل الجارف إلى كل ما تقع عليه يده أياً كان نوعه، وهو يحاول أن يجد ما يتعلق به ليسلم من الغرق، وربما مد يده إلى ذلك "الزبد" الذي يعلو السيل، ويتجمع أحياناً في بعض المنعطفات، فإذا ما وصلت يده إليه، لم يجده شيئاً، بل يتبعثر ويذهب مع الماء.
وبيت الأخطل كهذا الزبد أو هو كبيت العنكبوت {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} 2 فالاستدلال به في غاية الفساد للأوجه التالية:
أولاً: أن المستدلين بهذا البيت قد ردوا، أو من أصولهم أن يردوا أحاديث نبوية مهما بلغت من الصحة، وتلقاها أهل العلم بالقبول، ما لم تبلغ حد التواتر، أو بلغت حد التواتر عند بعضهم بدعوى أنها أخبار آحاد، أو أدلة لفظية!! فكيف يستدلون بهذا البيت الذي يختلف أهل العلم في ثبوته؟!! وعلى فرض ثبوته فهل تواتر نقله؟!!
1 سورة النمل آية: 23.
2 سورة العنكبوت آية: 41.
ثانياً: إن ما يريدون إثباته بهذا البيت النصراني، من أن الكلام ما في النفس أي "حديث النفس" مردود بالنصوص التالية:
أ- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"1.
ب- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به "2.
جـ- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا يتكلموا في الصلاة"3.
فاستناداً إلى هذه النصوص قد اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها، بطلت صلاته، كما اتفقوا على أن ما يقول بالقلب من حديث النفس لا يبطل الصلاة، فعلم باتفاق من يعتد باتفاقهم أن حديث النفس ليس بكلام، لغة وشرعاًَ. والشارع إنما خاطب الناس بلغة العرب وهي لغة قرآنهم، إذاً فإن الكلام ما كان بصوت وحرف مسموع، ومما هو صريح في هذا المعنى حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا رسول الله! إننا لمؤاخذون بما نتكلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"4.
وهذا الحديث وإن لم يسلم سلامة كاملة في سنده حيث رمي بالانقطاع، إلا أنه يشهد له ما تقدم من الأحاديث الصحاح، ليدل على المقصود علماً بأننا نستدل به من الناحية اللغوية مضموماً إلى ما تقدم، كما قلنا وبالله التوفيق.
1 رواه مسلم وغيره عن معاوية بن الحكم، تخريج المحدث الألباني وتحقيقه لشرح الطحاوية.
2 متفق عليه المصدر السابق.
3 النسائي وغيره بسند حسن. المصدر السابق.
4 رواه الترمذي وغيره بسند فيه انقطاع تحقيق الألباني على شرح الطحاوية.
وبعد: فلو ترك الناس على فطرهم السليمة، وعقولهم المستقيمة، ولغتهم العربية الواضحة لم ينزلقوا هذه الانزلاقات في المطالب الإلهية، ولا تنازعوا هذا النزاع الحاد، والله المستعان.
ومن المفيد جداً أن أضيف إلى ما ذكرت نموذجاً من كلام الإمام أبي الحسن الأشعري الذي تنتسب إليه الأشعرية المعاصرة أي إلى مذهبه الذي عاش عليه فترة من الزمن مع ابن كلاب، ثم تركه. وهذا النموذج عبارة عن مناقشة حادة مع الجهمية سجلها الإمام أبو الحسن في كتابه "الإبانة في أصول الديانة" وهو آخر كتاب ألفه بعد رجوعه إلى منهج السلف فيما نعلم، وهو على فقرتين، يقول الإمام أبو الحسن في فقرة:
أ- زعمت الجهمية -كما زعمت النصارى- لأن النصارى زعمت أن كلمة الله حواها بطن "مريم"، وزادت الجهمية عليهم فزعمت أن القرآن مخلوق، حل في شجرة فكانت الشجرة حاوية له فلزمهم أن تكون الشجرة متكلمة بذلك الكلام، ووجب عليهم أن مخلوقاً من المخلوقات كلم موسى، وأن الشجرة قالت: يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني.
ب- وقال الإمام أبو الحسن وهو يصف القرآن الذي تزعم الجهمية والأشاعرة معاً أنه مخلوق: "وهو متلو بالألسنة، قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} 1".
ثم قال الإمام: والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة، محفوظ في صدورنا في الحقيقة، متلو بألسنتنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة كما قال عز وجل:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} 2، وقد قال الإمام قبل ذلك: القرآن في اللوح المحفوظ، وهو في صدور
1 سورة القيامة آية: 16.
2 سورة التوبة آية: 6.
الذين أوتوا العلم، قال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} 1.
هكذا يؤكد الإمام أبو الحسن بهذا الأسلوب في عدة مواضع في كتابه الإبانة أن هذا القرآن الذي نقرأه ونحفظه كلام الله حقيقة بألفاظه ومعانيه، وليس هو عبارة عن الكلام النفسي أو دالاً عليه أو ترجمة له كما يزعم متأخرو الأشاعرة، بل هو كلام الله عناه الله بقوله:{حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} لأن الكلام اللفظي المقروء هو المسموع، أما حديث النفس فلا يقرأ ولا يسمع.
وإذا قارنا بين ما سجله الإمام أبو الحسن الأشعري في "إبانته" وبين ما يقوله ويعتقده متأخرو الأشاعرة، نستطيع أن نقول بأن نسبتهم للإمام أبي الحسن غير صحيحة، فأرى من المناسب أن أسجل هنا ما قاله المحدث المصري السلفي الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله:"أما الأشعرية اسم المذهب المنسوب إلى أبي الحسن الأشعري في علم الكلام"، فكما أنه لا يمثل الأشعري ما كان عليه في طور اعتزاله، فإنه ليس من الإنصاف أن تلصق به الأشعرية بعد أن رجع إلى عقيدة السلف التي أراد أن يلقى الله تعالى عليها.
بل إن المذهب الأشعري المنسوب إليه إنما ينسب إلى ما كان عليه ابن كُلاّب البصري المتوفى سنة 240هـ، كما أوضح ذلك تقي الدين ابن تيمية في كتابه العقل والنقل2، وهو كلام في غاية الوجاهة كما ترى، فلا يحتاج إلى تعليق.
ثم قال أبو الحسن - وهو يحاور الجهمية بأسلوب آخر غير الذي تقدم ليثبت بأن كلام الله - على تعدده وتنوعه- غير مخلوق، حيث يقول:"قد استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام بكلمات الله التامات من شر ما خلق، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق "، وعلم أمته بتلك الاستعاذة وهي الالتجاء إلى الله من شر خلقه،
1 سورة العنكبوت آية: 49.
2 مختصر منهاج السنة ص: 43.
فهي عبادة عظيمة، فلو كانت كلمات الله مخلوقة لما استعاذ بها صلى الله عليه وسلم ولما علّم أمته، لأنه عليه الصلاة والسلام ينهى عن ذلك، بل يعده نوعاً من الإشراك بالله.
ما يستفاد من هذه الاستعاذة:
ثم إن هذه الاستعاذة المباركة تدلنا على الأمور التالية:
أولاً: جواز الاستعاذة بأسمائه وصفاته كما يستعاذ بذاته، ويؤيد ما قلنا قوله عليه الصلاة والسلام:"اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"1.
ثانياً: أن كلمات الله ليست مخلوقة إذ لو كانت مخلوقة لما استعاذ بها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما تقدم.
ثالثاً: إن كلام الله ليس معنى واحداً يقوم بالذات، ليس بحرف، ولا صوت، كما تزعمه الأشاعرة المتأخرة، بل كلمات الله لا حد لها، لأنها من كمالاته، فكمالاته سبحانه لا تنتهي، ومما يزيد المقام بياناً قوله تعالى:{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} 2، وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3.
هذه المعاني هي التي يريد الإمام أبو الحسن إثباتها ليحاجج الجهمية، ومن يوافقهم في اعتقادهم بأن كلام الله مخلوق، وقد سبقه إلى مثل
1 أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة، وتقدم غير مرة.
2 سورة الكهف آية: 109.
3 سورة لقمان آية: 27.
هذا الحوار إمام أهل السنة وقامع البدعة الإمام أحمد بن حنبل حيث ألف كتاباً مستقلاً في الرد على الجهمية، وسبق أن تحدثنا عن ذلك الكتاب، ونود أن ننقل هنا نموذجاً من حواره مع الجهمية في كلام الله تعالى، فيبدأ الحوار هكذا:
قالت الجهمية: إن الله لا يكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئاً فعبر عن الله، وخلق أصواتاً فأسمع. وزعموا أن الكلام "اللفظي" لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين.
فيقول الإمام أحمد: قلنا: هل يجوز لمُكَوّن أو لغير الله أن يقول: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّك} 1؟ أو يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 2، فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية كما زعم الجهم أن الله كوّن شيئاً كأن يقول ذلك المكوّن:{يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3، وقال جل ثناؤه:{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 4، إلى تلك الآيات التي ساقها، وهو يحاورهم، ثم قال: فهذا منصوص القرآن، ثم قال: فأما ما قالوا: "إن الله لا يتكلم" فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه".
ثم قال الإمام أحمد أما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف، وفم وشفتين، ولسان، أليس الله قال للسموات والأرض:{اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 5، أتراها قالت: بجوف وفم وشفتين ولسان وأدوات؟!! وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} 6، أتراها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين"؟!!
الجواب الذي لا بد منه "لا" في جميع هذه الاستفهامات، ولكن الله القادر على كل شيء هو الذي أنطق تلك الجمادات، فجعلها تتكلم حقيقة
1 سورة طه آية: 11، 12.
2 سورة طه آية: 14.
3 سورة القصص آية: 30.
4 سورة النساء آية: 164.
5 سورة فصلت آية: 11.
6 سورة الأنبياء آية: 79.
دون آلات معهودة للتكلم عادة تسمى "مخارج الحروف"، فهل الذي مكن لهذه المخلوقات من التكلم يعجز عن الكلام؟ أو يمتنع عليه الكلام "اللفظي" - كما زعمت الجهمية - لماذا يمتنع عليه؟!! هل لأن الكلام نقص؟!! أو بعبارة أخرى: هل الكلام من صفات النقص أو من صفات الكمال؟!! أليس المخلوق الذي يتصف بالكلام خير وأجمل من الذي لا يتكلم؟ الجواب "بلى" بإجماع العقلاء.
فهل تُسوّغ عقول الجهمية أن يكون المخلوق أكمل من الخالق؟ لأن كثيراً من المخلوقات تتصف بالكلام - وهو صفة كمال- والخالق يمتنع عليه الكلام؟!!
أفليس الذي يعطي الكمال أولى بأن يتصف بالكمال على أكمل وجه بحيث لا يشاركه أحد في خصائص ذلك الكمال؟!! الجواب "بلى" لدى جميع العقلاء.
هذا المعنى هو الذي يدور حوله حوار الإمام أحمد، والزاماته للجهمية لو كانوا منصفين وطلاب حق، وأخيراً هو الذي يريد إثباته أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة.
الصفة السادسة: صفة المحبة:
هذه الصفة تتحقق بين العبد الذي يحب ربه وسيده ومولاه، وبين ربه الكريم عز وجل الذي أخبر أنه يحب عباده المتقين المحسنين، ومحبة العبد لربه -كما يراها بعض المحققين1، وكما هو الواقع -هي حقيقة "لا إله إلا الله"، وهي تتفاوت فيما بين العباد، فكلما يزداد العبد في تحقيق لا إله إلا الله يزداد محبة لله، ورغبة في لقائه، فأكثر العباد محبة لله الأنبياء ثم الصالحون من
1 الحافظ ابن القيم في مدارج السالكين وبدائع الفوائد "مبحث المحبة".
أتباعهم، لأن محبتهم لله حق المحبة هي التي حملتهم على تحمل المشاق والمصاعب، وعلى تحمل كل ما لاقوه في سبيل الدعوة إلى الله إلى محبته، والإيمان به سبحانه وإصلاح شئون عباده.
فالخوف والخشية والتفاني في طاعة الله، وحسن عبادته، وتحمل الأذى في سبيل إظهار دينه، وإعلاء كلمته ونصح عباده، وتقديم الخير لهم كل أولئك ثمرات من ثمار محبة الله الصادقة التي لا تتم إلا إذا وصلت به تلك المحبة إلى درجة أنه من شدة محبته لربه ومن صحة محبته له، يحب كل من يحبه، والعمل الذي يحبه، وكل خصلة أو صفة يعلم أن الله يحبها ومن الأدعية المأثورة:"اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يقربنا إلى حبك ".
ومحبة العبد لربه - إذا صحت، وتحققت فهي فوق كل محبة تقدر، ولا نسبة لجميع المحاب لها، إذ هي الطاقة المحركة للعبد إلى فعل كل خير واجتناب كل شر، بل كل تصرفات العبد في تعامله مع الله، وتعامله مع عباده نابعة من تلك الطاقة "المحبة" يتحرك العبد ويعمل ويعطي بتلك الطاقة لأن مقرها "القلب" الذي إذا صلح، صلح كل شيء، وإذا فسد، فسد كل شيء، فسد دينه، وفسدت عقيدته، وفقد محبة ربه ومولاه، وإذا ما تعطلت تلك الطاقة وغيض نبعها، هناك الهلاك، والعبد في هذه الحالة قد مات قلبه كلياً وهو لا يدري.
فهل صلاة العبد وحسنها والخشوع فيها إلا ثمرة من ثمرات محبته لربه سبحانه ورغبته في قربه منه!!
وهل أنفق المنفقون من أموالهم وعصارة كدهم في مرضاة ربهم إلا لمحبتهم لربهم أكثر من محبتهم لأموالهم؟!! وهل صام عبد وحج وجاهد وتكبد المشاق في سبيل ذلك إلا بدافع من محبته لربه ورغبته فيما عنده سبحانه!!
وبالاختصار لم يعبد الله عبد، ولم يركع ولم يسجد إلا بدافع المحبة، ولم يتكاسل ولم يعجز إلا لفقدان محبته لربه وتقديره لربه حق قدره أو نقصانها.
هذا هو مفهوم المحبة عند أهل السنة وعلماء الحديث الذين هم الناس الذين يقتدى بهم في مثل هذا المجال.
وأما محبة الرب سبحانه لعباده من أنبيائه وأوليائه أهل طاعته، فهي صفة عظيمة وحبيبة إلى قلوب عباده المحبين، وهي صفة مستقلة قائمة بالله تعالى، وهي فعل من أفعال الرب تعالى يؤهل لهذه المحبة من شاء من عباده ويخذل من شاء ولا يوفقه لينالها فرحمته وإحسانه وعطاؤه وإكرامه لمن شاء من عباده ثمرة من ثمرات محبته، وثواب لها ومن موجباتها لأن الله تعالى لما أحبهم كان نصيبهم من رحمته وإحسانه وعطائه أوفر نصيب وأتمه.
ولو قلت: إن محبة الله تعالى هي حقيقة إيمان العبد بربه لما بالغت، بل هذا ما يعنيه شمس الدين ابن القيم بقوله:"إنها حقيقة لا إله إلا الله" وفي اعتقادي الذي يقرب من الجزم أن الذين ينكرون المحبة إنما ينكرونها إنكاراً تقليدياً، ولا يدركون ماذا يعني هذا الإنكار، وإلا فلو كانوا يدركون أن إنكار محبة الله إنما يعني إنكار الإيمان بالله لما تجرأوا على هذا الإنكار الذي لا يُنْتِج إلا الكفر أو الزندقة.
ولو سئل مسلم عادي وهو لا يزال على فطرته: هل تحب الله تعالى؟ لاندهش من هذا السؤال الغريب، ولأجاب: كيف لا أحبه، وأنا مسلم!! ولو قيل له: إن الله تعالى لا يحبك، لكانت دهشته أكبر، ولاعتبر ذلك دعاء عليه أو إخباراً بأنه لا خير فيه، بل هو مطرود من رحمة الله، ولفعل أفاعيل من الغضب الشديد، وأثاره ذلك الموقف، ولهذا أعود فأقول: إن
إنكار المنكرين لمحبة العبد لربه، أو محبة الرب سبحانه لأوليائه إنكار تقليدي لا معنى هل، بل إنهم سمعوا أن من تنزيه الله تعالى عما لا يليق به أن لا تعتقد أن الله يحب أحداً، لأن المحبة انفعال نفسي وتغير من حال إلى حال، فذلك من صفات المحدثين، فاتصاف الله بها يؤدي إلى تشبيه الخالق بالمخلوق، فذلك محال، وما يؤدي إلى المحال فهو محال، فوصفه تعالى بأنه يحب محال، هذه خلاصة تقريرهم، والغاية من إنكارهم، فهو كما ترى تقرير تقليدي أجوف، وإنما ينخدع به السذج من الناس، ولكنه قد ترك كثيراً من الناس في حيرة لا يستطيعون التعبير عنها، لأنهم يجدون في أنفسهم شعور المحبة وبشدة أحياناً في حالة انتباههم لآثارها، ثم يتذكرون ذلك التقرير الذي تقدم شرحه، فماذا يصنعون؟!!
فكل عبد منّ الله عليه بمحبة صادقة أثمرت له المبادرة إلى طاعة الله وحسن عبادته، ووجد من نفسه الاندفاع إلى مرضاته، والتلذذ بطاعته، والراحة فيها، " أرحنا بها يا بلال" 1، يشعر أن محبة الله هي التي بها حياته الروحية، وفيها نعيمه وحسن الأنس بربه، وولي نعمته.
ثم إن المحبة الصادقة تتمثل أيضاً في كراهة العصيان، والابتعاد عن المخالفات والابتداع، إذ إن صاحبها يكره أن تدنس تلك العلاقة التي بينه وبين ربه "المحبة الصادقة" بأي نوع من أنواع الانصراف عنه، والغفلة والتمرد، وإذا ما نفذ فيه ما قُدّر عليه، وسبق في علم الله سبحانه أنه لا بد له من كبوة وهفوة، فتحقق ذلك، ولا محالة يعلم أن ربه الحكيم ابتلاه وامتحنه، فيبادر إلى باب مولاه وهو في ندم وحزن لا يعلم مداهما إلا ربه الذي ابتلاه،
1 ورد الحديث: "يا بلال! أقم الصلاة، أرحنا بها ".
أخرجه أحمد 5/364، 371، وأبو داود، الأدب 13/330-331 ط السلفية عن رجل من الصحابة وصححه الألباني "صحيح الجامع الصغير 6/284".
ليطلب منه في ذل ومسكنة أن يأخذ بيده فينقذه مما هو فيه من عذاب الوحشة من آثار العصيان، فيأتيه إسعافُ "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه" 1 الحديث.
وقد يستعيد عافيته وصحته أحسن وأقوى من ذي قبل، فيزداد محبة لربه وولي نعمته نعمة قبول توبته، ورده إلى بابه "وربما صحت الأجسام بالعلل".
هكذا يعيش المحب طالما تؤدي طاقة المحبة عملها على الوجه المطلوب، وقد يعتريها أحياناً ما يعتريها، ولكن الله يلطف بعباده المحبين، فيُنْزِل رحمته عليها، ويعيد لها قوتها، وهكذا
…
أما الجهمية النفاة فإنهم يزعمون أن الله لا يُحِب ولا يُحَب، هذا هو المبدأ عندهم، وماذا يصنعون بالنصوص المصرحة بالمحبة من جانب الرب سبحانه، ومن جانب العبد؟ هل يكذبون النصوص؟ وهل يجرؤون على ذلك أمام جمهور المسلمين؟!! "لا" إذاًَ فيتأولون النصوص، نصوص محبة العباد لربهم بمحبة طاعته وعبادته والازدياد من الأعمال الصالة لينالوا الأجر والثواب. وهكذا
…
ومحبة الطاعة وهذه الأعمال الصالحة وتلك العبادة هي آثار أو ثمرات لتلك المحبة التي أنكروها لو كانوا يفقهون؟
وأما محبة الله لعباده فأولوها بالإحسان إليهم والتفضل بإعطاء الثواب على أعمالهم الصالحة أو بالثناء عليهم ونحو ذلك، وقد أولها بعضهم بإرادة الإنعام والإحسان، وتتلخص تأويلاتهم للمحبة فيما يلي: يؤولونها المفعول المنفصل كالعطاء والإحسان مثلاً، وأما الإرادة نفسها فيزعمون: أن الإرادة إن تعلقت بتخصيص العبد بالأحوال العالية، والمقامات المرضية سميت "محبة"، وإن تعلقت بالعقوبة والانتقام سميت "غضباً"، وهكذا إلى آخر تلك الأسماء التي سموا بها من عند أنفسهم، فتصبح المحبة عندهم أحياناً
1 الحديث متفق عليه انظر: البخاري في الدعوات 11/102، ومسلم 4/2102-2105 الطبعة الأولى.
صفة فعل، وأحياناً صفة ذات. وقد ترجع أكثر صفات الأفعال إلى صفة واحدة وهي الإرادة كصفة الرحمة والمحبة والتعجب والغضب والفرح. وربما أدى تفسير المحبة أحياناً إلى ردها إلى صفة الكلام -"وموقفهم من صفة الكلام معروف" وقد تقدم، وذلك حين يقولون: إن المحبة هي ثناء الله على عباده الصالحين1.
وليس لدى القوم مستند فيما ذهبوا إليه لا من الأدلة العقلية، ولا من الأدلة النقلية، بل لا تؤيدهم حتى الفطرة السلمية، بل جميع طرق الأدلة عقلاً ونقلاً وفطرة حتى الذوق السليم، وكلها تدل على إثبات محبة الرب لعبده ومحبة العبد لربه. ولعل مثل هذا الموقف من الجهمية هو الذي جعل الإمام عبد الله بن المبارك يقول قولته المعروفة:"إننا نستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية"2اهـ.
ولو تأمل الإنسان مواقف أمهات الطوائف المنتسبة إلى الإسلام كالخوارج والشيعة مثلاً لوجدها كلها تحاول الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة أو على الأقل بنصوص الكتاب وحده، بصرف النظر هل أن تلك النصوص تساعدهم فيما ذهبوا إليه أو تخالفهم وقد تلعنهم!!
أما الجهمية فقد بنوا عقيدتهم ومذهبهم بعيداً عن النصوص كتاباً وسنة غير محاولين الاستدلال بها، بل يحاولون تحريفها لتوافق أهوائهم ونظرياتهم، فما حظهم من الإسلام يا ترى؟!! حقاً إنهم مصابون بضعف إيمان، وقلة استسلام وانقياد للنصوص، فمثلاً لو نوقش القوم في الإرادة التي فسروا بها "المحبة" في زعمهم، ستكون النتيجة أحد أمرين:
1-
إما أن يستسلموا فيعودوا إلى رشدهم، فيثبتوا الإرادة والمحبة
1 استفدنا هذه المعاني من بعض كتب ابن القيم وفي مقدمتها مدارج السالكين3/16-18.
2 تقدم غير مرة.
معاً، فيسلم لهم إيمانهم وعقيدتهم لأنهم - في هذه الحالة - سلموا لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
2-
وإما أن يتعنتوا ويعاندوا، فإن عاندوا تكن فتنة في عقيدتهم، وفساد كبير في إيمانهم، لأنهم ينفون ثمرة الإيمان، وما به حلاوة الإيمان تنال، ثم يلزمهم من هذا النفي نفي الإرادة والصفات المماثلة لها مثل القدرة والعلم مثلاً، لأن "ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر" سلباً وإيجاباً، ولا محالة وهذا الموقف لا يجتمع، والإيمان الصحيح كما ترى!!
وقد يحاولون إيجاد مسوغ لهذا التصرف حيث يزعمون: إن المحبة ملائمة ومناسبة بين المحب والمحبوب، وتوجب للمحب بدرك محبوبه فرحاً ولذة وسروراً إلى آخر ما هنالك من الثرثرة العقيمة التي نعرفها لأهل الكلام.
والجواب عن هذه الشبهة الواهية مثل أجوبتنا السابقة على مثلها من تلك الشبهات التي كلها من نسيج واحد، حيث لا يلزم عقلاً إثبات لوازم صفة المخلوق لصفة الخالق إذ لا مناسبة بينهما.
فخلاصة الجواب أن ما ذكروه من لوازم "محبة" المخلوق التي نعرف حقيقتها وحقيقة صاحبها لا تلزم "محبة" الله الذي ليس كمثله شيء الذي لا نحيط به علماً ذاتاً وصفة سبحانه ما أحلمه؟!! يسمع خوض الخائضين وحذلقة المتحذلقين، ثم يمهلهم، ولا يعاجلهم لعلهم يتوبون، ويرجعون، وعلى كل حال فإن صفة المحبة صفة ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة من الرعيل الأول وأئمة السلف، فالكلام فيها كالكلام في بقية الصفات الخبرية وبعد إذا ثبت في كتاب الله المبين، والأخبار الصحيحة بأن الله يحب عباده المحسنين، وأنهم يحبونه فليس لأحد كلام مع كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك هذه الآيات:
1-
{وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 1.
2-
{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} 2.
3-
{ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 3.
4-
5-
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 5.
6-
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 6.
ومن السنة النبوية قوله عليه الصلاة والسلام:
1-
"إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، أو كما يكره أن تؤتى معصيته"7.
2-
"اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" 8، وهو دعاء يدعو به الداعي في ليلة يرجو أن تكون ليلة القدر -كما ثبت ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها.
1 سورة البقرة آية: 195.
2 سورة التوبة آية: 4، 7.
3 سورة المائدة آية: 93.
4 سورة آل عمران آية: 31.
5 سورة المائدة آية: 54.
6 سورة التوبة آية: 108.
7 حديث رواه أحمد في مسنده 2/108، والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر، وصححه السيوطي. راجع فيض القدير 2/292.
8 أخرجه أحمد "6/171، 182، 183، 208، 258"، والترمذي في الدعوات 5/534، وابن ماجه في الدعاء 2/1265، وقال الترمذي: حسن صحيح.
3-
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:
أ- " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ".
ب- " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله".
جـ- " وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله، كما يكره أن يلقى في النار "1.
في هذا الحديث الشريف إيضاح ما سبق أن أشرنا إليه من أن محبة الله ومحبة رسوله إذا صدقتا تكونان علامة واضحة على صدق الإيمان وبهما ينال المرء حلاوة الإيمان، ويتذوقه حتى يصل إلى درجة الإحسان " فيعبد الله كأنه يراه ويشاهده" 2، إيماناً ويقيناً بأن الله معه ولا يفارقه، وهو سبحانه يراه ويرى مكانه ويسمع كلامه ويعلم خلجات قلبه وحديث نفسه.
وهذا الموقف بل هذا الشعور يجعل العبد يستهين بكل شيء من ملاذ الدنيا، وينسى متاعبها، وهي درجة لا يفي حقها وبيان حقيقتها قلم عادي مثل "قلمي" فلنتركها إذاًَ لأصحابها، وهنيئاً لهم. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، بيد أننا نحبهم في الله ونرجو أن ينفعنا الله بمحبتهم.
وما ألطف قول الإمام الشافعي في هذا المعنى:
أحب الصالحين ولست منهم
…
لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من بضاعته المعاصي
…
وإن كنا جميعاً في البضاعة
4-
"إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"3.
1 أخرجه أحمد 3/103، 114، 172، 230، 275، والبخاري في الإيمان 1/60، 72، والأدب 10/463، ومسلم 1/66.
2 انظر: حديث جبريل المشهور في صحيح مسلم كتاب الإيمان 1/39-40.
3 رواه أحمد 2/182، والترمذي 5/123، وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وله شواهد أخرى.
5-
"إن الله تعالى يحب من عباده الغيور "1.
هكذا ينعت القرآن المحبين والمحبوبين، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟!! وقصارى القول: أن أصل الولاية الحب، وأصل العداوة البغض2، والله المستعان.
الصفة السابعة: صفة الرحمة:
هذه الصفة من الصفات التي اختلف أهل العلم فيها هل هي من صفات الذات أو من صفات الأفعال، وقد تقدم ذكر الخلاف عند الكلام على صفة الذات وصفة الفعل، والذي يترجح عند بعض أهل العلم أنها من صفات الأفعال، لأنه سبحانه وتعالى يرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، وينتقم منه ولا يرحمه، فحيث تتعلق بها مشيئة الله وقدرته فهي من صفات الأفعال ويمكن عدها من صفات الذات باعتبار أن الله لم يزل متصفاً بالرحمة، فالرحمة العامة ملازمة لذاته تعالى وإن كان أفرادها تتجدد، وقد تقدم ما يشبه هذا في صفة الكلام، والله أعلم.
وعلى كل حال فهي صفة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة الذين هم خير الناس على الإطلاق، فلا يختلف السلف والخلف في – الجملة - في وصفه تعالى بالرحمة، بل إثبات بأن الله رحيم، ومن أسمائه {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ، وهو أرحم الراحمين، هذا الإثبات أمر فطري لا يتوقف فيه إنسان ما، وقد جاء ذكر الرحمة في القرآن الكريم بأساليب مختلفة نذكر منها الآتي:
1-
1 الترمذي وابن ماجه وحسنه الترمذي.
2 استقينا هذه المعاني من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 6/476-478.
3 سورة طه آية: 5.
2-
{الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ} 1.
3-
{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2.
4-
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} 3.
5-
{فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} 4.
6-
{إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} 5.
7-
{وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 6.
8-
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 7.
كما ورد ذكرها في السنة أيضاً مثل:
1-
"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"8.
2-
"من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء"9.
3-
"إن الله كتب كتاباً وهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبي "، وفي رواية "سبقت غضبي" إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي لم تذكر هنا إيثاراً للاختصار.
1 سورة الرحمن آية: 1-2.
2 سورة الأنعام آية: 12.
3 سورة الأنعام آية: 133.
4 سورة الأنعام آية: 147.
5 سورة الأعراف آية: 56.
6 سورة الأعراف آية: 151.
7 سورة الأعراف آية: 156.
8 أبو داود والترمذي وصححه راجع الذهبي في العلو وتقدم.
9 أخرجه الطبراني في الكبير 2/407، وقال المنذري: إسناده قوي جيد الترغيب3/202.
وأما هذا الحديث فهو مشتمل على ثلاث صفات: صفة العلو، وقد تقدم الكلام فيها، وصفة الرحمة وهي محل الشاهد من الحديث، وصفة الغضب وسيأتي الكلام فيها، أضف إلى هذه النصوص دليل العقل والفطرة الذي أشرنا إليه سابقاً وهو أمر واضح لا إشكال فيه.
والذي يهمنا هنا تحديد موقف السلف والخلف من معنى هذه الصفة "الرحمة" وأما السلف فموقفهم من معناها كموقفهم من معنى صفة الاستواء التي سبق الحديث فيها وأطلنا فيها الكلام نوعاً ما وصفة المعية وما بعدها وما قيل هناك سيقال هنا في هذه الصفة، وهو الوقوف عند فهم المعنى العام فقط دون تعمق أو تفلسف لمحاولة إدراك الكنه والكيفية ثم اللجوء إلى التأويل عند العجز عند إدراك الحقيقة، وهو أمر محتم وقد فاتهم "أن العجز عن الإدراك هو الإدراك في المطالب الإلهية" لأن إدراك كيفية صفات البارئ فوق مستوى العلم البشري {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} 1، هذا هو موقف السلف من معنى صفة الرحمة بكل إيجاز.
وأما الخلف فلا يسعهم – عادة - إلا الخوض والتعمق والمناقشات المتطرفة فهاك مناقشتهم بإيجاز:
قال الخلف باتفاق: إن "صفة الرحمة لا يجوز إثباتها على ظاهرها، لأن الرحمة رقة في القلب أو رقة تكون في الراحم، وهي ضعف وخور في الطبيعة، وتألم على المرحوم وهذه المعاني "نقص" وما كان كذلك مستحيل في حقه تعالى فإثبات "الرحمة" إذاً مستحيل، وإنما المراد لازمها أو إرادة لازمها2. وهو "إرادة" الخير أو إرادة الإحسان".
وردّ هذه الشبهة كالتالي:
إن ما ذكره النفاة من "الخلف" من أن حقيقة الرحمة رقة في القلب، وهو
1 سورة الإسراء آية: 85.
2 الرسائل والمسائل ص: 39، لشيخ الإسلام ابن تيمية بتصرف.
ضعف وخور إلى آخر ما هنالك، إنما هو من لوازم صفات المخلوق المعروفة لنا حقيقة ذاته وأما بالنسبة لصفات الله تعالى فهذه اللوازم غير لازمة لصفاته، وقياس صفات الخالق على صفات المخلوق قياس فاسد، وهو سر ضلال الجهمية كما لا يخفى على طالب العلم.
وقد ذكرنا في غير موضع في هذه الرسالة - نقلاً من أهل العلم "أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يتحذى حذوه". فإذا كان من غير الجائز قطعاً قياس الخالق سبحانه على المخلوق في ذاته تعالى، فكذلك الأمر في الصفات، فغير جائز قياس صفاته على صفات المخلوق.
ولما عرفنا حقيقة المخلوق وأحطنا به علماً ذاتاً وصفة مكنتنا هذه المعرفة من القول بأن حقيقة الرحمة في حقه هي هذه الرقة التي يحس بها الإنسان في بعض المناسبات، كما لو مر على "أعمى" يتخبط في وسط الشارع، وهو خائف قلق يشير بعصاه هنا وهناك، كأنه يحاول أن يدافع بها عن نفسه خطر تلك السيارات، هنا يرق قلب المؤمن ويشفق على هذا المسكين ويحاول إنقاذه من شر تلك السيارات ما استطاع. هذه الرقة يعرفها المرء من نفسه، ومن غيره من مخلوق مثله، وأما من لا نحيط به علماً ومن ليس كمثله شيء سبحانه والذي آمنا به إيمان إثبات وتسليم، فلا ينبغي أن نحاول معرفة حقيقة "رحمته" التي وسعت كل شيء. حتى إذا ما أدركنا تلك الحقيقة حرفنا فيها القول عن مواضعه بدعوى التأويل، علماً بأن تفسير الرحمة بالإرادة سوف لا يحل لهم الإشكال الذي يريدون حله. وبيان ذلك كالآتي:
1-
يَرِدُ على هذا التفسير أنهم فسروا الصفة بصفة أخرى، أي: أن الرحمة هي الإرادة وهو تفسير مبتدع ومرفوض لدى العقلاء لأن الإرادة صفة مستقلة قائمة بنفسها كما أن الرحمة كذلك صفة قائمة بنفسها، وكذلك الغضب وسائر الصفات التي فسروها بعضها ببعض، وكلها صفات ثابتة بالكتاب والسنة.
2-
ولو سلمنا جدلاً هذا التفسير، فسوف يرد عليهم في صفة الإرادة التي أثبتوها وفسروا بها الرحمة. ما أوردوه على غيرهم في صفة الرحمة. وذلك لأن الإرادة لا تكون إلا لمناسبة بين المريد والمراد، وملاءمته في ذلك تقتضي الحاجة. وإلا فما لا يحتاج إليه الحب لا ينتفع به ولا يريده، وهو معنى لا يليق بالله. فإذاً إثبات الإرادة يؤدي إلى إثبات الحاجة، وهو1 "نقص" ومحال في حق الله تعالى وما يؤدي إلى المحال فهو محال. فإثبات الإرادة محال، وهذا ما يؤدي إلى طرد ذلك الباب الذي فتحوه على أنفسهم حتى تنفى جميع الصفات. والمسلك السليم هو مسلك "الجماعة" وهو أن لوازم صفات المخلوق لا تلزم صفات الخالق، إذ لا مناسبة بين صفات الخالق وصفات المخلوق. وكل الذي اعتمد عليه الخلف في نفي صفة الرحمة أو تأويلها وغيرها من الصفات التي حرفوها فيها "الكلم عن مواضعه" إنما هو إثبات لوازم صفات المخلوق لصفات الخالق وقياسها عليها، وهو خطأ في التصور أو غفلة شنيعة فليعلم ذلك.
وهذه الصفة يدرك كل حي أثرها في نفسه وفي غيره في الأرض وفي السماء في كل لحظة ولمحة فما كان ينبغي أن تكون محل نقاش وجدل، بل القوم لا يشكون في آثارها التي أشرنا إليها ولكنهم وجدوا آباءهم كذلك يؤولون ويحرفون فقلدوهم تقليداً لفظياً، وقلوبهم تعترف مضطرة برحمة أرحم الراحمين، والله المستعان.
الصفة الثامنة: صفة الرضا: هذه الصفة واحدة من صفات الأفعال التي فصلنا فيها القول سابقاً مثل المعية والمحبة وغيرها، وهي ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع العلماء الذين يعتد بإجماعهم من الأئمة الأربعة وغيرهم ممن هم في طبقتهم أو بعدهم من
1 من الرسائل والمسائل 5/33-38.
الذين ينهجون منهج السلف الصالح.
بل هذه الصفة هي مطلب كل عابد، وغاية كل سالك من طاعتهم وعباداتهم. ومن الأدعية المأثورة التي يدعو بها طلاب الرضا في أرجى الأوقات ومظان إجابة الدعاء "اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار" فالرضى عنهم في دار الكرامة وعدم السخط عليهم بعد الرضى مطلب ليس بعده مطلب.
وقد تضافرت الأدلة من القرآن والسنة بذكر الرضى، أي رضى رب العالمين عن عباده المؤمنين لإيمانهم وطاعتهم وحسن عبادتهم، وإخلاص العبادة له سبحانه وعدم الالتفات إلى سواه عز وجل. كما أخبر الله في كتابه عن رضى عباده المؤمنين عن ربهم حين يتفضل عليهم فيدخلهم الجنة ويحل عليهم رضوانه الذي لا يعقبه السخط أبداً.
فلنذكر بعض تلك النصوص المشار إليها فيما يلي:
1-
2-
{رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 2.
3-
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 3.
4-
"اللهم إني أعوذ بك برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك"4.
5-
" رضى الله في رضى الوالدين، وسخطه في سخطهما"5.
فإيماننا بهذه النصوص من الكتاب والسنة يجعلنا نجزم بأن السلف يثبتون هذه الصفة كغيرها من صفات ربنا تعالى، لأن النصوص المذكورة
1 سورة المجادلة آية: 22.
2 سورة البينة آية: 8.
3 سورة الفتح آية: 18.
4 أخرجه مسلم في صحيحه باب ما يقال في الركوع والسجود 18/203.
5 أخرجه: الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً والأكثر على وقفه. كشف الخفاء 1/520.
لا تتحمل التأويل إلا بنوع من التكلف، وقد نهينا عن التكلف كما نهينا عن القول على الله بغير علم.
وأما الخلف فقد قالوا في هذه الصفة قولهم في جميع صفات الأفعال والصفات الخبرية وهي وجوب تأويلها بدعوى أن الرضا انفعال نفس وتغير من حال إلى حال، فذلك لا يليق بالله تعالى، وإنما المراد لازمه أو إرادة لازمه. ولازمه هو العطاء أو الإنعام، أو الثواب الجزيل، وسبق أن ناقشنا موقفهم هذا في غير موضع في صفة المحبة وصفة الرحمة وغيرهما من صفات الأفعال التي سبق الكلام فيها فلا نرى لزوماً لإعادة ذلك.
الصفة التاسعة: صفة الضحك لله تعالى:
الضحك قريب من الفرح والرضا والمحبة، من حيث المعنى العام، وهو صفة من صفات الأفعال تقوم بالله تعالى كما يليق به، وهو من الصفات التي انفردت بها السنة إذ لم يرد ذكرها في القرآن الكريم، وهذا الانفراد لا يؤثر عند أهل السنة والجماعة، لأن ما ثبت بالسنة الصحيحة كالذي ثبت بالقرآن دون فرق، لأن القرآن نفسه يأمر الله فيه عباده بالأخذ بالسنة مطلقاً، جاءت "مؤكدة" أو جاءت "بانَيةً" ودون تفريق بين الأحكام والعقيدة، وقد تقدم هذا البحث مستوفى في حجية الحديث في مدخل هذا الكتاب، وأما الخلف فسوف نتحدث عن موقفهم بعد ذكر النصوص.
ومما ورد في إثبات صفة الضحك الأحاديث التالية:
1-
حديث أبي هريرة: " يضحك الله سبحانه وتعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر فيدخلان الجنة. يقاتل هذا فيُقتَلُ فيتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد "1.
1 الحديث متفق عليه، واللفظ للبخاري، كتاب الجهاد باب الكافر يقتل المسلم6/39، ومسلم 3/1504-1505، وأخرجه أحمد والترمذي 4/407.
2-
حديث أبي موسى الأشعري: "يتجلى ربنا ضاحكاً يوم القيامة"1.
3-
حديث أبي رزين العقيلي: " قال: يا رسول الله أيضحك الله سبحانه وتعالى؟ فقال: "نعم". فقال: "لن نعدم من رب يضحك خيراً" 2.
ولندع الإمام ابن القيم يتحدث قليلاً عن هذه الصفة بأسلوبه اللطيف، وهو بصدد حديثه عن المحبة والفرح والضحك- حيث يقول رحمه الله:
"ومن هذا "ضحكه" سبحانه من عبده حيث يأتي من عبوديته بأعظم ما يحبه فيضحك سبحانه فرحاً ورضا، كما يضحك من عبده إذا ثار عن وطائه وفراشه ومضاجعة حبيبه إلى خدمته، يتلو آياته ويتملقه، ويضحك من رجل هرب أصحابه عن العدو فأقبل إليهم، وباع نفسه لله ولقاهم نحره حتى قتل في محبته ورضاه. ويضحك إلى من أخفى الصدقة عن أصحابه لسائل اعترضهم فلم يعطوه، فتخلف بأعقابهم وأعطاه سراً حيث لا يراه إلا الله الذي أعطاه، فهذا الضحك إليه حباً له وفرحاً به.
وكذلك الشهيد حين يلقاه يوم القيامة، فيضحك إليه فرحاً به وبقدومه عليه3 اهـ.
1 أورده السيوطي في الجامع الصغير، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير6/318.
2 أخرجه أحمد في مسنده 4/ 11، 12، 13، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة 1/64، باب ما أنكرت الجهمية.
3 ابن القيم مدارج السالكين 2/216.
هكذا يوضح شمس الدين ابن القيم أن ضحك الرب سبحانه إلى بعض عباده في بعض تلك الحالات الخاصة فإنما هو ضحك رضا وفرح ومحبة، لأن الشخص أو الأشخاص الذين يضحك إليهم قد أتوا بأعظم أنواع محابه من جهاد في سبيل الله، ومن بيع للنفس لله، ومن المناجاة التي تفضل الله بها عليهم.
وهكذا تجده سبحانه يوفق من شاء من عباده ليأتي بمرضاته فيتقبل منه ثم يفرح به حتى يضحك إليه رضاً ومحبة. سبحانك ما أعظم شأنك!!
أما الجمهية الجفاة والمعطلة النفاة فلم يستطيعوا أن يهضموا هذا الموقف الكريم من ربنا العظيم ولم يوفقوا ليُسلّموا له ويفوضوا الأمر إليه، بل أخذوا يتخبطون كالناقة العشواء تصعد وتنزل وتذهب وتجيء، ولا تدري أي السبيل؟!!
وقد أشكلت عليهم هذه الصفة لعدم اعتمادهم عل الأدلة النقلية التي سقناها من السنة المطهرة، وهي -كما قلنا سابقاً قد انفردت بها السنة المطهرة. ثم هي من الصفات الخبرية المحضة التي الأصل فيها الأدلة النقلية، وأما العقلية فتبع لها على حسب المنهج السلفي الذي سبق أن أوضحناه في موضعه من الرسالة. فليس في إثبات الضحك أي محذور لأنه ضحك ليس كمثله شيء كما قلنا فيما مضى من الصفات الخبرية، لأن الباب واحد، وتساق الصفات كلها سوقاً واحداً، وأما قولهم: إن المراد بالضحك الرضى والثواب الجزيل فهي شنشنة نعرفها للفلاسفة، وأولادهم من علماء الكلام. فليست غريبة علينا ولا هي جديدة عليهم. وهذا هو التخبط الذي أشرنا إليه وهم في غنى عنه لو حالفهم التوفيق.
والعجيب من أمرهم أنهم إذا مرت عليهم صفة الرضى أولوها بالثواب أو بإرادة الثواب، وإذا مرت بهم صفة التعجب أو الفرح أولوها كلها إما بالثواب وما في معناه أو بالإرادة،
وكذلك صفة الرضى. وهاهم هنا يؤولون الضحك بالرضى فعلام يدل هذا التصرف؟!!
يدل على ما ذكرناه سابقاً في غير موضع من أن عقيدة القوم عقيدة تقليدية لا تستند إلى دليل أو قاعدة، "سمعنا الناس يقولون شيئاً فقلناه"!!
وهذا المعنى هو الذي دعا في آخر المطاف الإمام أبا الحسن وكبار شيوخ الأشعرية بعده إلى الرجوع عن هذا التخبط إلى منهج ثابت مبني على أساس قوي لا تؤثر فيه الشبهات وهو منهج أهل الحديث والسنة الذي درج عليه سلف هذه الأمة.
وأراد بعضهم أن يتفلسف أكثر فقال: الضحك خفة الروح، فيكون عند تجدد ما يسُر واندفاع ما يضُر. فيقال له: أدركت شيئاً وفاتتك أشياء، إن الضحك الذي تحدثت عنه هو ضحكك وضحك أمثالك من مخلوقات الله، أما ضحك الخالق العظيم سبحانه فلا تُدرك حقيقته لأنك لم تدرك الخالق فكيف تُدرك حقيقة ضحك الخالق، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. وقد تقدمت هذه القاعدة في غير موضع.
الصفة العاشرة: صفة التعجب:
ومن الصفات التي يثبتها ويؤمن بها أهل السنة والجماعة "صفة التعجب" فيصفون الله تعالى بالتعجب، لأنه وصف نفسه بها ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه، وهي من الصفات التي تتجدد حسب مشيئته تعالى وإرادته، فهي فعل من أفعال الله الكثيرة التي تصدر عن حكمة خفية لا يعلمها إلى الله تعالى.
ثم إن الصفة التعجب قد تدل على محبة الله للفعل الذي هو محل التعجب، وهي في هذه الصورة قريبة من معنى الفرح، ومن أمثلة هذا النوع،
قوله صلى الله عليه وسلم: "يعجب ربك من شاب ليست له صبوة" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم:"يعجب ربك من عبده إذا ثار من فراشه ووطائه إلى الصلاة "2، وقوله:"يعجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل" 3، وفي رواية:"عجب ربك من قوم بأيدهم السلاسل حتى يدخلوا الجنة".
كل ذلك على ما يليق بالله، وإذا كان التعجب في حق الإنسان منشأه غرابة الفعل وأنه حدث على شكل يثير العجب والغرابة، لأن الإنسان فوجئ بالفعل الذي هو محل التعجب، إذا كان هذا هو مثار التعجب عند المخلوق، فإن الله تعالى منزه عن هذه المعاني، لأنه سبحانه هو الذي قدر ذلك الفعل الذي هو محل التعجب وقدره، فلا ترد في حقه سبحانه هذه المعاني وتلك اللوازم لتعجب الإنسان. فلا يسعنا إلا أن نقول فيه ما قلناه في صفات الأفعال التي تقدمت، وهو ما قاله الإمام مالك من قبل: "التعجب معلوم المعنى مجهول الكيفية والكُنه، ولكن الإيمان والتسليم واجب والتعمق والتشكك بدعة ومهلكة، والله المستعان.
ثانياً: وقد يدل التعجب على بغض الله للفعل الذي هو محل التعجب ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا} 4، وقوله سبحانه:{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} 5، وقوله
1 رواه أحمد وأبو يعلى بسند حسن عن عقبة بن عامر، راجع المقاصد الحسنة ص: 123، وكشف الخفاء 1/246.
2 أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود وإسناده حسن، قاله المناوي في الجامع الأزهر 2/23.
3 الحديث متفق عليه، وذكره ابن عبد البر في التمهيد.
المراد أسرى الكفار يؤتى بهم مسلسلين فيسلمون ويدخلون الجنة، محقق التمهيد لابن عبد البر الأستاذ عبد الله الصديق.
4 سورة الرعد آية: 5.
5 سورة الصافات آية: 12.
تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} 1، وقوله:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} 2، وقوله:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ} 3.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد يدل التعجب على امتناع الحكم وعدم حسنه". ومثل له بقوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ} 4.
وقد يدل أحياناً على حسن المنع منه وأنه لا يليق به مثله. ومثل له بقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} 5، 6.
والتعجب بأنواعه المشار إليها صفة فعل تقوم بالله تعالى على ما تقدم تفصيله آنفاً. والاستغراب والتأويل غير وارد خشية الوقوع في القول على الله بغير علم لأن التأويل دائماً مبني على الظن والتخمين، لأن المعنى المؤول إليه ظني قطعاً. وهذا ما جعل السلف يلتزمون منهجهم السليم، ولا يحيدون عنه، وهو عدم القول على الله بغير علم، بل التسليم لله في حقائق ذاته وصفاته، وأفعاله، وقوفاً مع النصوص وتأدباً معها بل وتقديراً لله حق قدره.
وقال الشهرستاني - وهو يتحدث عن منهج الإمام مالك والإمام أحمد وغيرهم من أئمة السلف- قالوا: إنما توقفنا في تأويل الآيات لأمرين:
أحدهما: المنع الوارد في التنزيل "في سورة آل عمران في الآية السابعة حيث وصف المؤولين بالزيغ" فنحن نَحْذُر عن الزيغ.
1 سورة البقرة آية: 28.
2 سورة النساء آية: 21.
3 سورة آل عمران آية: 101.
4 سورة التوبة آية: 7.
5 سورة آل عمران آية: 86.
6 استقينا هذه المعاني من بدائع الفوائد لابن القيم 4/10 طبعة مكتبة القاهرة، والتمهيد لابن عبد البر ج 7.
ثانيهما: أن التأويل أمر مظنون "بالاتفاق" والقول بالظن في "صفات البارئ"غير جائز، فربما أولنا الآية على غير مراد البارئ تعالى فوقعنا في الزيغ1.
الصفة الحادية عشرة: صفة الفرح:
صفة الفرح من الصفات الفعلية الخبرية التي انفردت بها السنة دون الكتاب، وهي ثابتة بالسنة الصحيحة التي تلقاها أهل السنة بالقبول، وعقد إجماعهم استناداً إليها على إثباتها، وهذه الصفة تدل بالتضمن على لطف الله بعباده ورحمته لهم، حيث يوفق من يشاء من عباده ليتوبوا فإذا تابوا تقبّل توبتهم وفرح بها فرحاً شديداً ولطيفاً في وقت واحد، إذ يَرُدّ إليه عباده الشاردين من طاعته لئلا يضيعوا، وهو الذي لا تضره معصيتهم ولا تنفعه طاعتهم.
وهذا المعنى هو الذي يقرره لنا رسول الرحمة بقوله عليه الصلاة والسلام: "لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة "، وفي رواية لمسلم:"لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح" 2 اهـ.
وأهل السنة يؤمنون بهذا لحديث لصحته عن رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ويثبتون
1 الشهرستاني: الملل والنحل 1/14، ط. مصطفى البابي الحلبي تحقيق محمد سيد كيلاني -القاهرة.
2 مسلم 4/210-215، فؤاد عبد الباقي، البخاري الدعوات 11/102 فؤاد عبد الباقي.
الصفة التي جاءت فيه، ولا يتعرضون لها بالتأويل كما لا يشبهون صفات الله بصفات خلقه، وهو شأنهم في جميع الصفات. ومعنى الفرح معلوم والكيف مجهول، والبحث عن الكيفية من أنواع البدع المحدثة، والإيمان به من واجبات الدين الإسلامي وأما الخائضون المتعمقون الذي يبحثون عن الكيفية، وإذا عجزوا عن إدراك الكيفية - وهو أمر محتم- فإنهم يلجأون إلى التحريف. والواجب هو الوقوف عند المعنى العام دون تكلف، وقد نُهينا عن التكلف، هذا هو موقف السلف من معنى هذه الصفة وبالله التوفيق.
وأما الخلف فديدنهم معروف، وهو تأويل الصفة بأثرها ولازمها، وهنا قبول التوبة والثواب الجزيل والعطاء الكريم، بدعوى أن حقيقة الفرح مستحيلة على الله لأنها خفة وانفعال وتغير من حال إلى حال وكل ذلك لا يليق بالله تعالى.
والجواب على شبهتهم هذه هو جوابنا على الشبهات السابقة، والقوم لا يكادون يفهمون من نصوص الصفات إلا حقائق صفات المخلوق فيفسرون صفات الله بتلك الحقائق فيقعون في التشبيه ثم يحاولون التخلص مما تورطوا فيه من التشبيه بارتكاب بدعة التأويل والقول على الله يغير علم. هذه حيقيتهم في جميع الصفات أو أكثرها على اختلاف مشاربهم والله المستعان.
الصفة الثانية عشرة: صفة الغصب:
الغضب من صفات الأفعال التي تتعلق بها المشيئة وهي ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ومن الآيات القرآنية التي تثبت هذه الصفة قوله تعالى:
1-
{مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} 1.
2-
{وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} 2.
3-
{وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ} 3.
وهناك عديد من آيات الكتاب المبين في هذه الصفة، ومذهب سائر الأئمة إثباتها، والأحاديث المشار إليها تؤكد ما جاء في هؤلاء الآي من وصف الله بالغضب، وإن هذا الغضب يحدث في وقت دون وقت، ومن ذلك ما جاء في حديث الشفاعة الطويل وهو يخبر عما يقوله الأنبياء اعتذاراً للناس عندما يتقدمون إليهم لطلب الشفاعة منهم، وهم: آدم أوب البشر، ونوح، وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن كل واحد منهم يقول:" إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيري" 4 إلى آخر الحديث الطويل.
والحديث يدل دلالة واضحة على أن إثبات صفة الغضب من دين الرسل جميعاً، لأن الشرائع كلها متفقة في الأصول بيد أن الله جعل لكل واحد منهم شرعة ومنهاجاً. ومحل الشاهد من الحديث:" إن ربي غضب اليوم "واللفظ صريح في أنه قد يحدث في ذلك اليوم غضب لم يحدث مثله قبل ذلك، كما لا يحدث بعده مثله.
- قوله عليه الصلاة والسلام: "من لم يسأل الله يغضب عليه "5، وقد نظم بعضهم هذا المعنى قائلاً:
1 سورة المائدة آية: 60.
2 سورة النساء آية: 93.
3 سورة البقرة آية: 61.
4 رواه أحمد 2/435-436 والبخاري 6/371، 8/395، ومسلم 1/185 من حديث أبي هريرة.
5 أخرجه أحمد 2/442، وصححه الألباني "راجع مشكاة المصابيح رقم الحديث 2236 بتحقيق الألباني".
الله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبُنيّ آدم حين يسأل يغضب
- قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"1.
- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب! وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟!! فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً"2.
يستدل أهل السنة بهذا الحديث على أن يحل رضوانه في وقت دون وقت، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخطُ على من شاء، كم يحل سخطه ثم يرضى ولكن هؤلاء أحل عليهم رضواناً لا يعقبه سخط3.
ما أصدق ما قاله الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: "ولا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام"4.
استناداً إلى هذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة التي آثرنا عدم ذكرها رغبة في الإيجاز، يؤمن السلف وجمهور الأئمة بهذه الصفة ويبقونها على ظاهرها، الظاهر الذي يليق بالله إيماناً منهم بأن النصوص لا
1 مسلم والأربعة عن عائشة رضي الله عنها، وتقدم تخريجه.
2 متفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه راجع: البخاري 11/415، و13/487، ومسلم في الإيمان 1/171، وأخرجه أحدم 3/88، 95.
3 الغضب والسخط والأسف ألفاظ مترادفة ومعناها واحد، القاموس المحيط والتاج.
4 راجع شرح الطحاوية ص: 524.
تدل بظاهرها إلا على ما يليق بالله - خلاف ما يزعمه الزاعمون- أي أنهم لا يؤولونه كما أوله غيرهم. يبد أن إثباتهم لا يصل بهم إلى حد التشبيه والتمثيل -كما قلنا في غير موضع- من الرسالة.
وأما الخلف فلم يوفقوا في هذه الصفة كما لم يحالفهم التوفيق أيضاً في جميع الصفات على اختلاف مشاربهم، فزعموا: أنه ما ثمةَ غضب. وإنما المراد بالغضب المذكور في النصوص لازم الغضب وهو إرادة الانتقام. وعللوا لما ذهبوا إليه بقولهم: إن أصل الغضب غليان دم القلب عند إرادة الانتقام، وذلك مستحيل على الله تعالى، أو بعبارة أخرى: إن حقيقة الغضب الانفعال والتغير من حال إلى حال، وهو أمر لا يليق بالله، إلى آخر تلك التعليلات والأعذار غير المقبولة لدى غيرهم، من أهل السنة والجماعة.
ولدفع هذه الشبهة التي نسجوها من خيوط العنكبوت نقول هنا ما قلناه في رد شبهاتهم السابقة حول الصفات التي تحدثنا عنها سابقاً: وهو أن لوازم صفات المخلوقين التي ذكروها لا تلزم صفات الخالق، إذ لا مناسبة بين صفات الخالق وصفات المخلوق حتى تقاس صفاته سبحانه على صفاتهم، وكما أنهم أثبتوا ذات البارئ دون تفكير في لوازم ذوات المخلوقين، يلزمهم إثبات صفاته ذاتية أو فعلية دون تفكير في لوازم صافت المخلوقين، وهذا الإلزام يلحق أو يلزم جميع النفاة المعتزلة والأشاعرة وأتباعهم.
هكذا نوجز القول في هذه الصفة اكتفاء بما تقدم من المناقشة حول الصفات التي قبلها، لأن الكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر. وبالتالي فإن الكلام في الصفة عامة كالكلام في الذات سلباً وإيجاباً.
ب- الصفات الخبرية:
الصفة الثالثة عشرة: صفة الوجه:
وهي من الصفات الخبرية التي أشكلت على الخلف على الرغم من ثبوتها بصريح القرآن وصحيح السنة، والعقل تابع ومصدق وغير رافض.
يقول الإمام أبو الحسن الأشعري الإمام المتكلم السلفي: "أما بعد: فمن سألنا فقال: أتقولون: إن لله سبحانه وجهاً؟ قيل له: نقول ذلك خلافاً لما قاله المبتدعون، وقد دل على ذلك قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ} "1.
قلت: نضيف إلى الآية التي استدل بها الإمام قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} 2، وقوله عليه الصلاة والسلام:" إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" 3، " وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" 4، وهو قطعة من حديث طويل عند الشيخين في أبواب رؤية الرب تعالى لأهل الجنة وشاهدنا منه ذكر وجه الرب تعالى.
نكتفي بالآيتين الكريمتين والحديثين الشريفين مع وجود غيرهما من أحاديث الرؤية التي تصرح أكثرها بذكر الوجه، لأن العبرة في إثبات صفة من الصفات ليست بكثرة الأدلة، وإنما العبرة بصحة الأدلة وصراحتها، وهذان العنصران متوافران هنا ولله الحمد والمنة، ولذا أطبق السلف وأتباعهم على الإيمان بهذه الصفة كغيرها من صفات الرب تعالى وإثباتها على ما
1 سورة الرحمن آية: 27.
2 سورة القصص آية: 88.
3 رواه مسلم في كتاب الإيمان عن أبي موسى الأشعري وابن ماجه في سننه.
4 رواه الشيخان.
يليق بالله لا يفسرونها بالذات، ولا يطلقون عليها شيئاً من الألقاب التي يرددها النفاة مثل العضو أو الجزء، وغير ذلك من الألقاب التي يطلقونها ليتذرعوا بها إلى نفيها بدعوى أن إثبات هذه الصفة يعني التركيب المستلزم للحاجة والافتقار. وهي صناعة معروفة لا تروج في سوقنا ولله الحمد والمنة، إذ قد شرحنا أمثالها وعرفناها على حقيقتها هذا، وإن الذين ينكرون وجه الله ورؤية وجهه يوم القيامه وكلامه لأهل الجنة، فيا ترى إلَام يسعون؟ ولماذا يعملون؟! وما هي ثمرة كدهم؟! والله المستعان.
الصفة الرابعة عشرة: صفة النفس لله
ومما يجب إثباته لله تعالى: (النفس) لأن الله أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام، وهي كما يليق بالله تعالى، يقول الله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 1، وقول النفاة بأن ذلك من باب المشاكلة مدفوع بنصوص كثيرة وردت في غير المقابلة منها:
1-
قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} 2.
2-
{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 3.
3-
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 4.
4-
وقوله عليه الصلاة والسلام في ثنائه على الله: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"5.
1 سورة المائدة آية: 116.
2 سورة آل عمران آية: 28.
3 سورة الأنعام آية: 54.
4 سورة طه آية: 41.
5 تقدم تخريجه.
5-
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة، وهو قطعة من الحديث القدسي الطويل: "
…
إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" 1.
وهناك غيرها من النصوص الصريحة.
بهذه الأدلة نثبت لله (النفس) فدعوى المشاكلة في الآية الكريمة {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، غير واردة، بل باطلة لأن النصوص الأخرى كلها -كما علمت- وردت دون مقابلة أو مشاكلة. وليس هناك ما يدعو إلى التأويل أو التحريف. إذ شأن النفس كشأن الصفات الخبرية الكثيرة التي تقدم الحديث فيها والله أعلم.
الصفة الخامسة عشرة: صفة اليد
وهذه الصفة -كالتي قبلها من الصفات الخبرية- قد طاشت فيها سهام الخلف عن إصابة الهدف، وأخذوا يفسرونها تفسيراً يساير عقيدتهم، فسروها مرة بالقدرة، ومرة أخرى بالنعمة فارّين - في زعمهم - من التشبية والتجسيم - يا سبحان الله- {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} 2، يقول الله في كتابه المبين:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3، ويقول تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 4، فهل من الجائز أن يقال: لما خلقت (بنعمتي) ؟
الجواب: (لا) بالإجماع، لأن الذي يؤمن به جميع المؤمنين - والخلف منهم- أن نعم الله لا تعد ولا تحصى، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} 5، وهذا
1 أخرجه البخاري في الدعوات 17/157، ومسلم في الذكر 4/2061 ط فؤاد عبد الباقي.
2 سورة البقرة آية: 140.
3 سورة ص آية: 75.
4 سورة المائدة آية: 64.
5 سورة النحل آية: 18.
أولاً.
وهل من الجائز ثانياً أن يقال: لما خلقت (بقدرتي) ؟
الجواب: لا، إجماعاً أيضاً - فيما أعتقد - لأن الذي ندين به نحن وإياهم - فيما أعلم- أن لله قدرة واحدة وباهرة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، لعدم الدليل على التعدد، هكذا يتضح الصواب في المسألة بإذن الله.
وما ذكرناه في تفسير آية (المائدة) يقال في تفسير آية (ص) فإذاً هما يدان تليقان بالله تعالى لا القدرة، لأن القدرة صفة أخرى غير اليد كما علمنا، ولا النعمة لما شرحنا، ولا الجارحة، لأن الجارحة للمخلوق. ولا تشبه يده يد المخلوق. إذ ليس كمثله شيء.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري - وهو يناقش تفسير الخلف لآية (ص) -: "فلو كان الله عز وجل عنى بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، القدرة لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك ميزة، والله عز وجل أراد أن يُرى أن لآدم على إبليس فضلاً إذ خلقه بيده دونه، ولو كان خالقاً لإبليس بيديه كما خلق آدم عليه السلام بيديه لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه، وكان إبليس يقول محتجاً على ربه: فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم بهما، فلما أراد الله عز وجل تفضيله عليه بذلك، قال له موبخاً لاستكباره على آدم أن يسجد له {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} ؟!! فدل على أنه ليس معنى الآية القدر، إذ أن الله عز وجل خلق الأشياء جميعها بقدرته، وإنما أراد إثبات يدين لم يشارك إبليس آدم عليه السلام في أن خلق بهما، وليس يخلو قوله عز وجل:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أن يكون معنى ذلك إثبات يدين (نعمتين) أو يكون معنى ذلك إثبات يدين (جارحتين) أو يكون معنى ذلك إثبات يدين (قُدرتين) أو يكون معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين، لا يوصفان إلا كما وصف الله عز
1 سورة المائدة آية: 120.
وجل. فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين، لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل: عملت بيديّ وهو يعني نعمتيّ، ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين ولا يجوز عند خصومنا أن نعني قدرتين1.
وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع، وهو أن معنى قوله (بيدي) إثبات يدين ليستا جارحتين، ولا قدرتين، ولا نعمتين، لا يوصفات إلا بأن يقال: بأنهما يدان ليستا كالأيدي خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت"2 اهـ.
هذا كلام واضح غني عن التعليق إلا أن الذي ينبغي التنبيه عليه أن اليد في غير هذا السياق قد تأتي بمعنى (النعمة) وتجمع على أيادي يقال: لفلان عليَّ يد أو أيادٍ. ولكن السياق الذي في الآيتين: يأبى هذا المعنى كما ناقش الإمام أبو الحسن رحمه الله.
أما اليد بمعنى القدرة لا أعلم ثبوت هذا المعنى في اللغة، اللهم إلا إذا كان من باب الكناية، والله أعلم، وأما قوله تعالى:{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} 3، فليس لفظ (أيد) هنا جمع يد كما قد يتوهم، وإنما هو مصدر (آد الرجل يئيد أيداً) أي قوي، هكذا قال المفسرون4.
هذا وقد وردت في صفة اليد عدة أحاديث صحاح وحسان ولكننا نرى أن نقتصر على ذكر حديث واحد اتفق على إخراجه الشيخان وهو حديث احتجاج آدم وموسى عليهم السلام، ومحل الشاهد منه:"فقال آدم: يا موسى! اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده"5.
1 هل يجوز عند أهل السنة أو عند الأشاعرة اعتقاد تعدد القدرة والإرادة وغيرهما من الصفات التي لم يرد النص بذلك، والذي نعتقده عدم اعتقاد التعدد إلا فيما ورد به النص.
2 الإبانة في أصول الديانة للإمام السلفي أبي الحسن الأشعري رحمه الله ص: 56.
3 سورة الذاريات آية: 47.
قال ابن بطال عند تفسير قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} في هذه الآية إثبات يدين لله تعالى وهما صفتان من صفات ذاته، وليستا بجارحتين1 اهـ. ثم لو استقرأنا القرآن الكريم لوجدنا أن لفظ (اليد) جاء في القرآن على ثلاثة أنواع:
1-
جاء مفرداً كقوله تعالى {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} 2.
2-
جاء مثنى كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3.
3-
جاء جمعاً كقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 4.
وإذا راجعنا هذه الاستعمالات الثلاثة للبد نجد أن الله إذا ذكر اليد مثناة يضيف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد ويتعدى الفعل بالباء إليهما أي إلى اليدين {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .
وإذا ذكرها بصيغة الجمع أضاف العمل إلى اليد والفعل يتعدى بنفسه لا بالباء {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} .
وأما في حالة الجمع يكون معنى عملت أيدينا أي عملنا نحن، وهو يساوي عملنا وخلقنا ورزقنا وتوضيح ذلك: من الجائز أن يضاف الفعل إلى يد ذي اليد، بدلا من أن يضاف إليه مباشرة، وهو أسلوب معروف عند العرب، وهو كقوله:{بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} 5، و {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 6، وأما إذا أضيف الفعل إليه تعالى ثم عُدّي الفعل بالباء إلى يده مثناة أو مفردة فهذا
1 فتح الباري 11/163.
2 سورة آل عمران آية: 26.
3 سورة ص آية: 75.
4 سورة يس آية: 71.
5 سورة الحج آية: 10.
6 سورة الشورى آية: 30.
مما باشرته يده سبحانه1.
ويشهد لما ذكرنا ما جاء في حديث الشفاعة الطويل في قوله عليه الصلاة والسلام في حق آدم وموسى عليهما السلام، يقال لآدم:"أنت الذي خلقك الله بيده" ويقال لموسى: "أنت الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده"2.
ولا يحتمل المعنى هنا القدرة، وإلا لم يكن للتوراة اختصاص بما ذكر ولا كانت أفضلية لآدم على كل شيء مما خلق بالقدرة كما تقدم في كلام أبي الحسن الأشعري عند الكلام على آية سورة (ص) ، والقصة معروفة لدى طلاب العلم.
وخلاصة ما ذكر فيما تقدم أن هذه الصفة صفة بها العطاء والأخذ والقبض وهي غير القدرة وغير النعمة. نقول ذلك استناداً إلى قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: "يد الله ملأى لا يغيضهما نفقة سحّاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم ينقص ما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع"3 ا. هـ
وقوله عليه الصلاة والسلام: "يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أن الملك أين ملوك الدنيا" 4، والحديث كقوله تعالى:{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5.
ويفهم من كلام بعض أهل العلم أن النسبة التي بين اليد والقدرة كالتي بين الإرادة المحبة إذ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "والذي يلوح
1 مختصر الصواعق المرسلة ص: 36.
2 راجع أحاديث الشفاعة، منها حديث البخاري في التوحيد عن أنس 13/422.
3 هداية الباري في ترتيب البخاري 2/350.
4 المصدر السابق والحديث متفق عليه.
5 سورة الزمر آية: 67.
في معنى هذه الصفة (اليد) أنها قريبة من معنى القدرة إلا أنها أخص منها معنى، والقدرة أعم، ثم قال رحمه الله: كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، وكل شيء أحبه فقد أراده وليس كل شيء أراده أحبه، وكذلك كل شيء حادث فهو واقع بالقدرة، وليس كل شيء واقع بالقدرة واقعاً باليد، فاليد أخص من معنى القدرة، ولذلك كان فيها تشريف آدم"1 اهـ.
قلت: وكذلك كتابة التوراة وغرس جنة الفردوس كما تقدم، وعند التحقيق أن النسبة بين الإرادة والمحبة من باب عموم وخصوص من وجه يجتمعان في إيمان أبي بكر مثلاً فهو مراد ومحبوب، وتنفرد الإرادة في كفر أبي جهل مثلاً لأنه مراد غير محبوب، وتنفرد المحبة في إيمان إبليس لأنه غير مراد وهو محبوب لو وجد بإرادة الله ومشيئته.
وأما النسبة بين القدرة واليد فمن باب العموم والخصوص المطلق يجتمعان في خلق آدم، وما ذكر معه لأنه خلقه بقدرته وصنعه بيده سبحانه كما كتب التوراة بيده وغرس جنة الفردوس بيده أيضاً، وتنفرد القدرة في سائر مخلوقاته التي لم يباشر خلقها بيده ولكن قال لها: كوني فكانت، والله أعلم.
الصفة السادسة عشرة: صفة الأصابع لله تعالى بلا كيف ولا حد
إذا كنا تحدثنا فيما سبق عن الوجه واليد وغيرهما من الصفات الذاتية الخبرية وأثبتنا أن اليد غير القدرة بل هي صفة زائدة قائمة بذاته تعالى فمن المناسب أن نتحدث عن إثبات الأصابع لله تعالى على ما يليق به سبحانه، والأصابع من الصفات الذاتية الخبرية التي انفردت بإثباتها السنة دون الكتاب.
وقد ذكر غير واحد من علماء الحديث صفة الأصابع في كتبهم وتلقوها بالقبول، وفي مقدمة من ذكر أحاديث الأصابع الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحيهما وذكره ابن عبد البر في تمهيده. وقد جمع أكثر طرقه الإمام الدارقطني في رسالته اللطيفة (كتاب الصفات) فانطلاقاً من هذه
1 ابن القيم بدائع الفاويد ص: 6.
الأدلة يثبت أهل السنة الأصابع لله تعالى على ما يليق بالله بلا كيف ولا حد.
أحاديث الأصابع:
روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد أو يا أبا القاسم: إن الله تعالى يمسك السموات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبح، والماء على أصبع، والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن: فيقول: أنا الملك أنا الملك، فضحك رسول الله عليه الصلاة والسلام تعجباً مما قال الحبر تصديقاً له. ثم قرأ قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.
وقد روى هذا الحديث غير واحد من الصحابة منهم: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وقريب منه حديث أبي هريرة عند مسلم، والحديث متفق عليه. إذ قد رواه البخاري في كتاب التوحيد في صحيح وفي معنى هذه الأحاديث المشار إليها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم ولفظه:
"إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها حيث يشاء ثم قال: يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك".
وفي معناه أيضاً حديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه عند مسلم ونصه هكذا: "سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "الميزان بيد الرحمن إن شاء يرفع أقواماً ويضع آخرين- وقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه". وكان يقول رسول
1 سورة الزمر آية: 67.
الله عليه الصلاة والسلام: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وبهذه الأحاديث الصحاح يثبت علماء الحديث وأهل السنة لله تعالى الأصابع بثبوتها صفة لله تعالى خبرية كما تقدم.
وأحاديث صفة الأصابع لم تسلم من تحريف المحرفين بل نالها ما نال غيرها من نصوص الصفات. حيث زعم بعضهم أن الأصابع تخليط من اليهود لأن اليهود مجسمة، وأن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم من كلام الحبر ليس دليلاً على تصديقه لليهودي1، بل هو دليل الكراهة والغضب والاستنكار.
وأنت ترى هذا الكلام ينقصه الشيء الكثير من الإنصاف، وأن مجانبة الصواب فيه واضحة ومكشوفة لكل طالب علم.
وقد نسي المعارضون النافون أو تناسوا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وحديث النواس بن سمعان وليس في إسنادهما يهودي ولا نصراني بحمد الله تعالى، فذهبوا ليتعلقوا بخيط العنكبوت فزعموا أن أحاديث الأصابع فكرة يهودية فلا ينبغي الاعتماد عليها، وفاتهم أنهم يسيئون بهذا التصرف إلى أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين رووا الحديث بعد أن فهموا أن النبي عليه الصلاة والسلام أقر اليهودي على ما أخبر من قدرة الله تعالى حيث يحمل الرب تلك الأشياء المذكورة في الحديث على أصابعه، بل ضحك عليه الصلاة والسلام ضحكاً يدل على التصديق والإعجاب بكلام الحبر ثم أراد أن يزيل عنه الاستغراب والاستعظام فقرأ عليه قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 2 الآية، هكذا فهم الرواة من الصحابة ومن بعدهم وأغرب ما في هذا التصرف محاولة تخطئة الراوي الذي قال:"وتصديقاً للحبر وتعجباً من كلامه" ثم تفسير الضحك
1 استقينا هذه المعاني من شرح الإمام النووي على مسلم، وفتح الباري على البخاري عند عرض أحاديث الأصابع.
2 سورة الأنعام آية: 91.
بالاستنكار والكراهة!! متى علموا بل متى علم المسلمون الذين يدرسون سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه عليه الصلاة والسلام إذا سمع من يصف الله بما لا يليق به أو إذا انتهكت حرمات الله، أو تقوّل أحدٌ على الله بغير علم، متى علموا بأن النبي عليه الصلاة والسلام يعبّر عن ذلك بالضحك؟!! بل المعروف من سيرته عليه الصلاة والسلام أنه في مثل هذه المواقف يغضب بل هو لا يغضب إلا في مثل هذه الظروف عندما تنتهك حرمات الله، ويتقول متقول على الله بغير علم. هذا هو المعروف لدى أهل العلم. لهذا كله فإن محاولة النفاة رد أحاديث الأصابع بعد أن رواها الشيخان: البخاري ومسلم وغيرهما، بذلك السبب الواهي وتناسيهم لأحاديث أخرى فيها ذكر الأصابع بل دعوى بعضهم أن ذكر الأصابع لم يرد في القرآن أو في حديث مقطوع به فإن محاولة النفاة هذه محاولة فاشلة فلا ينبغي أن يتأثر بها طلاب العلم كما علمت. وأما القول: إن الأصابع لم يرد ذكرها في القرآن (فكلمة حق أريد بها باطل) نعم لم يرد ذكر الأصابع في القرآن، فماذا يعني ذلك؟!! هل يعني ذلك بأننا لا نثبت الأصابع لأنها غير مذكورة في القرآن؟!! بل يلزم من ذلك أننا لا نثبت الفرح والضحك ونزول الرب آخر كل ليلة وغيرها من الصفات التي انفردت بها السنة، وهذا مفهوم جهمي صرف كما ترى!!
فعلى أصحاب هذه المحاولة أن يحددوا موقفهم من الصفات التي انفردت بها الأحاديث الصحيحة، إما أن يثبتوها كلها، أو أن ينفوها كلها، وإلا فهم متناقضون ومضطربون. والتناقض والاضطراب من الصفات اللازمة لكل من أعرض عن هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام والتمس الحق والهدى خارج هديه عليه الصلاة والسلام، هذا موقف الذين حاولوا رد الأحاديث.
وأما الذين أثبتوا الأحاديث فلهم موقف آخر. وهو محاولة التأويل بدعوى أن مثل هذه النصوص لا يراد ظاهرها لأن الأدلة العقلية
تأبى، فلا بد من التأويل إلى ما يليق بالله ويقبله العقل. أما هؤلاء فلم يأتوا بجديد بل هو أسلوب تعودناه في مثل هذه المواضع. فيا ترى كيف يكون التأويل بالنسبة للأصابع؟
قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بالأصابع خلقاً يخلقه الله ليُحمّله ما تحمله الأصابع، وقال آخرون: لعل المراد بالأصابع نعمة النفع والدفع أو أثر الفضل والعدل1، إلى آخر تلك التكلفات التي هم في غنى عنها لو وفقوا.
وممن أنكر هذا التحريف والتكلف في معنى الحديث الحافظ ابن حجر في فتح الباري حيث أوضح أن في تصرف هؤلاء المتأولة الطّعن في ثقات الرواة، ورد الأخبار الثابتة، إلى أن قال: ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي للزم فيه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على الباطل وسكوته عن الإنكار- وحاشاه من ذلك، ثم قال الحافظ: وممن أنكر بل تشدد في الإنكار على من ادعى أن الضحك في الحديث كان على سبيل الإنكار، -الإمام ابن خزيمة- بعد أن أورد هذا الحديث في كتاب التوحيد من صحيحه2 اهـ. يا له من موقف غريب!!
هل هؤلاء يدعون أنهم أعلم بالله وما يليق به من رسول الله؟! أو من أصحاب رسول الله أو من التابعين لهم بإحسان وبإيمان؟! حقاً إنه موقف يحتار فيه المرء ولا يدري كيف يفسره!! وعلى كل حال فهذه مواقف
1 الأسماء والصفات للبيهقي ص: 341.
2 فتح الباري شرح صحيح البخاري 17/169.
ثلاثة تمخضت من دراسة أحاديث الأصابع ومواقف الناس منها، وهي كالآتي:
1-
إثبات صفة الأصابع كما جاءت بها السنة.
2-
تأويل الأحاديث الواردة والخروج بها عن ظاهرها.
3-
إنكار الأحاديث وردها بدعوى أنها مخالفة للأدلة العقلية القطعية في زعمهم.
والحق أبلج والباطل لجلج
…
الصفة السابعة عشرة: صفة الساق لله تعالى على ما يليق به:
ورد ذكر صفة الساق في القرآن الكريم في موضع واحد في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} 1.
والملاحظ ورود هذه الصفة مُنكّرة دون أن تضاف إلى الله بخلاف الصفات الأخرى، التي جاءت مضافة إلى الله ومختصة به، ذلك الاختصاص الذي يزيل الإشكال، أو دعوى المشاركة بين الخالق والمخلوق في حقائق الصفات.
وهذا التنكير هو الذي جعل الصحابة والتابعين يختلفون في المراد (بالساق)، هل الساق صفة من صفات الله كالوجه واليد والقدم؟ أو للساق معنىً آخر. روي عن ابن عباس قوله: إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة. وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كلاهما حسن2 اهـ.
وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسير الساق "عن نور عظيم". وقال ابن فورك: معناه ما يتجدد للمؤمنين من العفو والألطاف.
1 سورة القلم آية: 42.
2 ابن حجر فتح الباري نقلاً عن الخطابي 17/200.
ويروى عن المهلب: كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة1.
وذكر ابن القيم اختلاف الصحابة في المراد بالساق، ويرى أنه ليس في ظاهر الآية ما يدل على أنه صفة لله تعالى، لأنه سبحانه وتعالى لم يضف الساق إلى نفسه بل ذكره مجرداً ومُنكّراً كما تقدم2.
ويرى ابن القيم أن الذين يثبتونه صفة لله، إنما يثبتونه بدليل خارجي، وهو حديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو من أحاديث الشفاعة ويميل ابن القيم إلى أن الساق صفة من صفات الله مثل الوجه واليد وغيرهما، وتنكيره للتعظيم والتفخيم.
ويرى ابن القيم أن حمل الآية على الشدة لا يصح ويعلل ذلك لأن في لغة العرب إنما يقال كُشِفَتْ الشدة عن القوم، ولا يقال كشفت عن الشدة، مثل قوله تعالى:{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} ، فالعذاب هو المكشوف في الآية وليس هو المكشوف عنه.
ويرى ابن القيم أن سياق الآية يوم يكشف عن ساق لا يدل على ما قيل إن معنى الساق الشدة. فلذلك يرى أن تُفسّر الآية بحديث أبي سعيد الخدري الذي أشرنا إليه، فيصبح معنى الآية - في ضوء الحديث المذكور:"يوم يكشف الله لعباده عن ساقه فيدعون إلى السجود فيسجد المؤمنون الذي يسجدون لله مخلصين له الدين، أما المنافقون المراءون الذين كانوا يسجدون رياء وسمعة فلا يستطيعون السجود، إذ تصبح ظهورهم طبقاً واحداً فلا يستطيعون الهبوط للسجود". وفي حديث أبي سعيد الخدري جاء قوله عليه الصلاة والسلام: "فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليهم اليوم، وإنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا.
1 المصدر السابق.
2 مختصر الصواعق المرسلة ص: 23.
قال: فيأتيهم الجبار على غير الصورة1 التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا. فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: (الساق) فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهراني جهنم" الحديث.
فانطلاقاً من هذا الحديث الصحيح الذي يثبت لله ساقاً نرى أن الآية من آيات الصفات المفسرة بالسنة لأن الآية جاءت محتملة المعنى حيث جاء الساق مجرداً عن الإضافة المخصصة فجاءت السنة مبينة بأن المراد بالساق هو ساق الرحمن. فنسلك في إثبات الساق مسلك السلف الصالح الذي سلكناه من قبل، وهو إثبات بلا تمثيل ولا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل.
فالكلام في صفة الساق كالكلام في صفة اليد والوجه مثلاً. فكما أن اليد والوجه والقَدَمَ والبصر والعين صفات تليق به تعالى، وليست جوارح وأعضاء وأبعاضاً وأجزاء كصفاتنا بل هي صفات خبرية ثابتة ينتهي علمنا فيها عند المعنى العام دون تكلف لمعرفة كيفيتها، فكذلك الساق صفة لله ثابتة ثيوت تلك الصفات، وعلى غرارها إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، ولأن الكلام في الصفات الخبرية كالكلام في الصفات الذاتية يحتذي حذوه.
وأما الخلاف والنزاع الذي جرى بين الصحابة والتابعين فينبغي أن نعتبره منتهياً بعد ثبوت حديث أبي سعيد الخدري الذي نعده تفسيراً للآية المجملة، ثم نعده فيصلاً في هذه القضية. هذه هي طريقة أهل العلم قديماً وحديثاً، إذ لا يلتفتون إلى أقوال أهل العلم الاجتهادية وآرائهم بعد ثبوت السنة، ولا سيما إذا كانت السنة قد جاءت مفسرة أو مفصلة لما أجمل في القرآن وهذا ما نحن بصدده. وبالله التوفيق.
1 جاء في تفسير الصورة عدة أقوال، ولكن الذي يميل إليه أهل الحديث أن المراد بالصورة الصفات أي يتجلى لهم بصفات غير الصفات التي تجلى لهم بها أول مرة، ويستدل ابن قتيبة بهذا الحديث على إثبات الصورة لله، ولكنها ليست كالصور، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص: 217-221.
أما الحديث فمتفق عليه، ذكره البخاري في كتاب التوحيد، فتح الباري 17/199.
الصفة الثامنة عشرة: صفة العين لله تعالى على ما يليق به سبحانه
العين صفة لله تعالى بلا كيف، وهي من الصفات الخبرية الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة، وقد جاء ذكر العين في القرآن الكريم على حالتين:
1-
ذكرت العين مضافة إلى ضمير المفرد. مثل قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 1.
2-
ذكرت العين بصيغة الجمع، مضافة إلى ضمير الجمع مثله قوله تعالى:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 2.
وذكر العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة فقط، لأن المفرد المضاف يراد به أكثر من واحد. مثل قوله تعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} 3، فالمراد نعم الله المتنوعة التي لا تدخل تحت الحصر والعدّ.
وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} 4، فالمراد بها جميع ليالي رمضان. ولو قال قائل: نظرت بعيني أو وضعت المنظار على عيني. لا يكاد يخطر ببال أحد ممن سمع هذا الكلام أن هذا القائل ليست له إلا عين واحدة. هذا ما لا يخطر ببال أحد أبداً5.
قال الإمام ابن القيم: إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهراً أو مضمراً فالأحسن جمعها مشاكلة للفظ، كقوله تعالى:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 6، و {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ
1 سورة طه آية: 39.
2 سورة القمر آية: 14.
3 سورة إبراهيم آية: 34، والنحل آية:18.
4 سورة البقرة آية: 187.
5 مختصر الصواعق المرسلة ص: 25.
6 سورة القمر آية: 14.
بِأَعْيُنِنَا} 1، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد كقوله تعالى:{بِيَدِكَ الْخَيْرُ} 2، و {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} 3. وإن أضيفت إلى جمع جمعت كقوله تعالى:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 4، وقد تقدم هذا البحث في صفة اليد مستوفى.
وقد ذكرت العين في السنة في قصة المسيح الدجال في حديث عبد الله بن عمر الذي يقول فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينيه، وأن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأنها عنبة طافية" 5، وللحديث سبب وهو أن الدجال ذكر عند النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبر أنه ما من نبي إلا وقد أمر أمته أو نصحهم بالاستعاذة منه، ثم ذكر أن من صفاته أنه أعور العين اليمنى. وأنه على الرغم من دعوى الألوهية وما يجري له من الأمور الخارقة للعادة امتحاناً واستدراجاً فيه عيوب ونقائص، وهو عاجز عن دفع ذلك عن نفسه، فلن يلتبس عليكم الأمر في شأنه لأنه ناقص إذ به عَوَر، وربكم ليس بأعور، بل له سبحانه عينان يبصر بهما لأنه سميع بصير.
وهناك زيادة عند مسلم وبعض أصحاب السنن، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ للناس:" تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت". هذا ملخص قصة المسيح الدجال مع بيان السبب.
قال الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب العقيدة له: أخبر
1 سورة المؤمنون آية: 27.
2 سورة آل عمران آية: 26.
3 سورة الملك آية: 1.
4 سورة يس آية: 71.
5 الحديث متفق عليه، ذكره البخاري في باب ذكر الدجال 16/204، مصطفى البابي، وذكره الإمام مسلم في باب ذكر الدجال 18/ 59-60 شرح النووي.
الله في كتابه وثبت عن رسوله عليه الصلاة والسلام الاستواء على العرش، والنزول، والعين، واليد، والنفس، فلا يُتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى. وقال الطيبي مؤيداً ما قاله السهروردي: هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح1.
وأما إشارته عليه الصلاة والسلام بيده إلى عينيه - وهو يخبر عن عور المسيح الدجال- فإنما تفيد تأكيد المعنى الحقيقي للعين على ما يليق بالله تعالى ولا يفهم منها أن عين الله جارحة كأعيننا بل له سبحانه وتعالى عين حقيقية تليق بعظمته وجلاله وقِدَمِه. وللمخلوق عين حقيقية تناسب حاله وحدوثه وضعفه وليست الحقيقة كالحقيقة، وهذا شأن جميع الصفات التي فيها المشاركة اللفظية مع صفات المخلوق كما تقدم هذا البحث في غير موضع من الرسالة.
روى عكرمة عن ابن عباس عند2 تفسير قوله تعالى: {واصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} ، أنه قال رضي الله عنه بعين الله تبارك وتعالى، قال الإمام البيهقي - بعد رواية قول ابن عباس السالف الذكر: ومن أصحابنا من حمل العين المذكورة في الكتاب على الرؤية. وقال: قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ، معناه بمرأى مني، وقوله:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا، وكذلك قوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، وقد يكون ذلك من صفات الذات. وتكون صفة واحدة، والجمع فيه للتعظيم.
ومنهم من حملها على الحفظ والكلاءة. وقال: إنها من صفات الفعل والجمع فيها شائع، ومن قال بأحد هذين زعم أن المراد بالخبر نفي نقص
1 فتح الباري 17/161 كتاب التوحيد.
2 الأسماء والصفات للبيهقي ص: 313.
العور عن الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين من الآفات والنقائص. ثم قال البيهقي:"والذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة من إثبات العين صفة، لا من حيث (الحدقة) أولى. وبالله التوفيق"1 ا. هـ
وهذا القول الذي اختاره الإمام البيهقي هو الذي عليه سلف الأمة، وأما محاولة بعض الناس حمل النصوص على خلاف ما يظهر من ألفاظها فمحاولة جهمية معروفة.
وأما تفسير من فسر الآيات السابقة بالرؤية مع إنكار صفة العين فشبيهٌ بقول الجهمية القائلين: إنه تعالى: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم. وهو قول مرفوض شرعاً وعقلاً، كما تقدم في غير موضع.
وأما عند أهل السنة فجميع هذه الصفات تساق سوقاً واحداً خبرية أو عقلية. ذاتية أو فعلية فتثبت بلا كيف، ولا يلزم من إثباتها تشبيه ولا تجسيم كما يظن النفاة بل يلزم من تحريف القول فيها التعطيل. وينتج من ذلك تكذيب خبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام. هذا ما يلزم النفاة - ولا محالة - وهم كل من ينفي صفة ثابتة بالكتاب والسنة، أو بالسنة الصحيحة فقط، أدركوا ذلك أو لم يدركوا. والله المستعان.
الصفة التاسعة عشرة: صفد القَدم لله تعالى
هذه الصفة كالتي قبلها من الصفات الخبرية والفعلية محل صراع حادّ بين السلف والخلف.
أما السلف - فهم كعادتهم- يرون أن المقام ليس مقام اجتهاد أو قياس أو استحسان، وإنما هو مقام تسليم لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام وأنه لا قول لأحد مع قول الله وقول رسوله المعصوم عليه الصلاة والسلام، الذي أمره ربه أن يبلغ ما أنزل إليه. فمما بلغه الرسول عن الله لأمته بعضُ
1 راجع الأسماء والصفات للبيهقي، مبحث العين ص: 312 دار إحياء التراث العربي.
أوصاف الجنة والنار، وذلك من الأمور الغيبية التي أطلع الله عليها نبيه عليه الصلاة والسلام، ولا سبيل للإنسان العادي أن يقول فيها قولاً اجتهاداً أو استحساناً.
ومما أخبر الرسول هنا ما نص عليه الحديث الآتي حيث يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " لا يزال يلقى فيها -يعني النار- وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط قط بعزتك وكرمك"1.
ففي مثل هذا المقام التوقيفي لا ينبغي للمرء الناصح لنفسه أن يحاول استخدام قوة عقله أو سلطان فلسفته أو ما ورثه من مشايخه ليقول في هذا النص النبوي قولاً يخالف قول المعصوم، فيفسر الحديث كما يريد ويستحسن، بل عليه أن يقول كما قال الإمام الشافعي:"آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله. وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام"، وفي هذه الصفة (القَدَم) قد صح عنه الحديث السابق آنفاً الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، فما علينا إلا التسليم لرسوله عليه الصلاة والسلام.
وقد ساق الإمام مسلم للحديث المذكور روايات كثيرة، وهو في الأصل متفق عليه وموضوع الحديث - على اختلاف راوياته وطرقه- المحاججة بين الجنة والنار، فالحديث الأول في الموضوع: حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "تحاجّت النار والجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم، فقال الله للجنة: أنت رحمتي
1 انظر: البخاري التوحيد 13/434، ومسلم 4/2186-2188، والصفات للدارقطني 11/17.
أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكم ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط1 فهناك تمتلئ ويزوي بعضها على بعض".
وهذا الحديث رواه غير واحد من الصحابة منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك خادم رسوله الله عليه الصلاة والسلام، وفي بعض رواياته:"حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول: قط قط قط ثلاثاً "، وفي بعضها:"حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط وعزتك"2.
وموقف السلف من معنى الحديث هو أن الحديث من أحاديث الصفات، وأن القدم صفة من الصفات الخبرية التي تمر كما جاءت دون تأويل أو تحريف في النص، ودون تشبيه أو تمثيل لصفات الله بصفات خلقه، فلا تقاس قدمه بأقدام خلقه، ولا رجله بأرجل مخلوقاته، بل يكتفى بالمعنى الوضعي للكلمة دون محاولة لإدراك حقيقة قدمه، وقد عجزنا عن إدراك حقيقة ذاته سبحانه فآمنا وسلمنا لله ولرسوله، هذا موقف لا يتغير ولا يتبدل بالنسبة لأتباع السلف، بل موقف ثابت وهو اتباع النصوص في جميع الصفات خبرية أو غيرها. "اتبعوا ولا تبتدعوا وقد كفيتم"3. وبالله التوفيق.
والحديث بجميع رواياته يدل على أن الله سوف يخلق في الجنة والنار تمييزاً وقدرة على الكلام دون أن يكون لهما آلات التكلم المعتادة، وقد تقدم هذا المبحث في صفة الكلام.
(قط) فيها ثلاث لغات: سكون الطاء، وكسر الطاء بتنوين، وكسرها بلا تنوين، وقد ترد (قد) بالدال بدل الطاء ومعناها: حسبي حسبي، وكفاني وامتلأت. شرح مسلم 17/162.
2 النووي شرح مسلم 17/82-84.
3 عبد الله بن مسعود، وتقدم.
وأما الخلف فقد تكلفوا في تأويل هذا الحديث أكثر من تكلفهم في تأويل أي نص آخر من نصوص الصفات، فتكلفهم هنا يشبه تكلف القرامطة في نصوص المعاد، بل لجميع نصوص الشريعة.
فزعم المتكلمون الخلف هنا أن الحديث -كغيره من نصوص الصفات - يؤول بما يليق بالله - يا سبحان الله - فمتى دلت النصوص بظاهرها على ما لا يليق بالله لو فهمت؟!!
فقال بعضهم: المراد بالقدم هنا المتقدم ومعناه حتى يضع الله تعالى1 فيها ما قدمه لها من أهل العذاب!!
وأنت تلاحظ أن هذا التأويل التقليدي لم يمكنهم من الانتباه للضمير (قدمه) أو (رجله) وأن الذي لا يختلف فيه أهل العلم أن الإضافة تخصص الصفة للموصوف، بمعنى إذا قلنا: علم الله وقدرة الله مثلاً، فلا يشترك علم المخلوق أو قدرته في علم الله المختص بالإضافة بأي نوع من أنواع المشاركة وكذلك قدرته، لأن الاشتراك لا يقع إلا في المطلق الكلي غير المختص لا بالمخلوق ولا بالخالق. وكذلك يقال هنا لأن القدم لم ترد إلا مضافة مختصة ولا يشترك معها شيء من أقدام خلقه، ولا مشابهة بينهما - وهذا التأويل الذي تورط فيه أتباع الفلاسفة لم يفطن لهذا المعنى، وعدم التفطن لهذا المعنى هو سر تخبطهم في جميع الصفات الخبرية والفعلية، وهي قاعدة2 لو علموها لعالجت لهم جميع مشاكلهم وقضت على تخبطاتهم الكثيرة.
وأما الرواية التي فيها: "حتى يضع الله فيها رجله " فقد حاولوا فيها أولاً تضعيف الحديث ليريحوا أنفسهم من ذلك التأويل المستكره والمستنكر ولكنهم لم يفلحوا، لأن الحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه.
قال الإمام النووي: "فقد زعم ابن فورك أن هذه الرواية غير ثابتة عند أهل النقل،
1 راجع الأسماء والصفات للبيهقي، وشرح النووي على مسلم.
2 وقد حقق هذه القاعدة وأوضحها شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية ص:80.
ولكن قد رواها مسلم وغيره في صحيحه".
فلجأوا أخيراً إلى نوع غريب من التأويل حيث قالوا: يجوز أن يراد بالرّجل الجماعة من الناس، كما يقال: رجل من (جراد) أي قطعة منه.
وهو تكلف غني عن الإعلان عنه، بل هو يعلن عن نفسه، والاستشهاد برجْل الجراد أشد غرابة كما ترى، وهو استشهاد يضحك (الحزين) .
وقال بعضهم: المراد بالقدم قوم استحقوها وخُلِقُوا لها، وقالوا: لا بد من صرف لفظة (القَدَمِ) عن ظاهرها لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى1 اهـ.
فمن ذا الذي قال: إن قَدَمَ الله جارحة من الجوارح حتى تضطروا إلى مثل هذه المناقشة واستعمال هذا الأسلوب، بل الذي عليه سلف هذه الأمة - وهم أعلم وأدق وأقدم- أن قَدَمَ الله ووجه الله ويده وعينه وأصابعه، وما في معناها من هذه الصفات الخبرية صفات لله على ما يليق به سبحانه، وليست بجوارح له، ولا نعلم عن كُنهها شيئاً، بل آمنا بها على مراد الله ومراد رسوله من حيث الحقيقة والكُنه. ومعنى الكلمة معلوم من الوضع والكيف مجهول والبحث عن الكيفية بدعة، أحدثها علماء الكلام، والإيمان بها على أنها صفات ذاتية لله واجب من واجبات الدين الإسلامي، ولا ينقضي عجبي عندما أقرأ هذه العبارة التقليدية المتوارثة:"إن الدليل العقلي القطعي يقتضي استحالة قيام الجوارح بالله" أو عبارة قريبة من هذه.
فكيف يعتقد مسلم أن الآيات القرآنية التي أنزلها الله العليم الحكيم، والأحاديث النبوية التي أوحاها إلى رسوله عليه الصلاة والسلام تدل بظواهرها على ما لا يليق بالله أو على ما هو مستحيل على الله، ثم لا يبين
1 شرح مسلم للنووي 17/84.
الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام ما يليق بالله وما لا يليق من كلامه وكلام ربه سبحانه، الذي أنزله عليه وكلفه بالبيان، ويستمر الوضع على اعتقاد ذلك المحال من ظواهر النصوص في عهد الراشدين، ثم في عهد الأمويين وصدر من خلافة العباسيين، فالناس لا تزال تعتقد أن الله تعالى سميع بسمع، وبصير ببصر، وله وجه يليق به، وهو مستوٍ على عرشه، ويدعى من فوق خلقه، وهو ينزل إذا شاء وكيف شاء، ويجيء كيف يشاء يوم القيامة وله عين، وله قَدَمٌ، وكل ذلك لا يؤول ولا يحول بل يبقى على ظاهره الذي هو حقيقته كما يليق بالله، إلى أن جاء شيوخ المتفلسفة وتلامذتهم من علماء الكلام فعلّموا الناس أن اعتقاد ظواهر نصوص الصفات لا يجوز، وهو إما كفر أو فسق لأنه يؤدي إلى اعتقاد ما لا يليق بالله تعالى، وهل قائلوا هذا القول يعتقدون أنهم أعلم بما يليق بالله وما لا يليق من الله ومن رسوله؟ أم ماذا يريدون؟!! إنه تصرف يحتار المرء في معرفة مغزاه.
الصفة المكملة للعشرين: إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة للمؤمنين
هذه الرؤية التي سنتحدث عنها في آخر جولتنا في الحديث عن الصفات الخبرية وصفات الأفعال نود أن تكون مسك الختام للحديث عن تلك الصفات التي يكون الإيمان بها والتسليم لله ولرسوله فيها سبباً للوصول إلى هذه النعمة التي تعتبر – بحق - أعظم نعمة أعدها الله ليكرم بها خواص عباده في دار كرامته. وهم المؤمنون الذين آمنوا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينكروا من ذلك شيئاً بأهوائهم وآرائهم كما فعلت الجهمية والباطنية وجميع الطوائف
المنحرفة في الأصول والفروع. والكلام في هذه المسألة على الوجه التالي:
أولاً: ذكر بعض الآيات الدالة على الرؤية وبيان وجه الدلالة وكلام السلف حولها.
ثانياً: ذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تثبت الرؤية، مع ذكر أقوال بعض السلف لتوضيح معاني النصوص من تفاسيرهم وذكر الأدلة العقلية المؤيدة للأدلة النقلية مع الإجابة على شبه المعارضين النافين للرؤية:
الآية الأولى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، وهذه الآية لو سَلِمَت من تحريف المحرفين، وتدّبرها مؤمن سليم الفطرة وجدها تنادي نداء صريحاً بأن الله تعالى يُرى عياناً بالأبصار - يوم القيامة - وبيان ذلك كالآتي:
إن الفعل (نظر) له عدة استعمالات في اللغة على حسب تعديه بنفسه أو بواسطة حرف جر، فإن عدي بنفسه يكون معناه التوقف والانتظار، وذلك كقوله تعالى:{انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} 2، أي انتظرونا وتوقفوا لنا حتى نقتبس من نوركم، وإن عدي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار. كقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3، وإن عدي بـ (إلى) فمعناه المعاينة بالأبصار، وذلك كقوله تعالى:{انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} 4.
وآية الباب من النوع الأخير بل هي أبلغ في الدلالة على المراد،
1 سورة القيامة آية: 22-23.
2 سورة الحديد آية: 13.
3 سورة الأعراف آية: 185.
4 سورة الأنعام آية: 99.
حيث أضيف النظر إلى الوجه الذي هو محل البصر، وقد فهم هذا المعنى من الآية علماء السلف قاطبة دون أن يشذ منهم أحد، وسوف نتحدث عن موقفهم وفقههم إن شاء الله.
الآية الثانية قوله تعالى: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1، والملاحظ أن هذه الآية من أدلة نفاة الرؤية إلا أن بعض المحققين يرى - ورأيه هو الصواب- أن الآية دلالتها على جواز الرؤية أوضح، بل لا تدل على امتناع الرؤية إلا بنوع من التكلف والتحريف، لأن الله تعالى ذكر هذا الخبر في سياق التمدح. ومن المعلوم بالضرورة وبالنظر السليم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية.
وقد ذكرنا في غير موضعه - نقلاً عن بعض أهل العلم: أن العدم المحض ليس فيه مدح لأنه ليس بكمال. وإنما يكون العدم مدحاً إذا تضمن أمراً وجودياً مثل تمدحه سبحانه بنفي السِّنَة والنوم، لأنه يتضمن كمال القَيّوميّة ونفي الموت لأنه يتضمن كمال الحياة، وهكذا جميع الصفات السلبية التي تَمَدّح الله بها تتضمن أمراً وجودياً على ما شرحنا. ففي هذه المسألة إنما تمدح الله بعدم إدراك أبصار العباد وإحاطتهم به لا بعدم الرؤية، لأنه لو كان لا يُرى لشارك سبحانه العدم وهو الذي لا يُرى، ومشاركة العدم ليست بكمال وليس فيها مدح، بل في ذلك من الانتقاص ما لا يدركه النفاة لجهلهم أو تجاهلهم، وإذا كان من الواجب تنزيه الله عن مشاركة أي مخلوق موجود ومشابهته فيما يختص به ذلك المخلوق فكيف يستسيغ النفاة مشاركة الله للعدم الصرف في خصائصه وهو عدم الرؤية؟ والله المستعان.
وقوله تعالى: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} إنما يدل على غاية عظمته وهي أنه تعالى أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك ولا يحاط به فإن الإدراك
1 سورة الأنعام آية: 103.
هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية. ويشهد لما ذكرنا قوله تعالى حكاية للحوار الذي جرى بين موسى وقومه المؤمنين عندما رأوا فرعون وجنوده من مكان بعيد: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَاّ} 1، ومعلوم من السياق أنه لم ينف الرؤية - وهي واقعة بالفعل- كما أنهم لم يريدوا بقولهم {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، إما لمرئيُّون، ولكنهم كانوا قد خافوا أن هذا الجبار صار بمقربة منهم حتى رأوه سيدركهم ويلحق بهم ويؤذيهم، وهذا المعنى هو الذي نفاه موسى بقوله {كَلَاّ} ، وقد وعده ربه سبحانه أنه لا يخاف دركاً ولا يخشى، إذ يقول سبحانه:{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَاّ تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} 2.
ومما يذكره بعض أهل العلم بهذا الصدد أن الرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يُرى ولا يُدرك. كما أنه يُعلَم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المشهور لهم بالإمامة، قال ابن عباس رضي الله عنه:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} لا تحيط به الأبصار. قال قتادة: هو أعظم من أن تدركه الأبصار. قال عطية العوفي التابعي: ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم ثم تلا قوله تعالى:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ، الآية. ويعني العوفي أن هذا معنى الآية وتفسيرها. ولذلك قال رحمه الله: فالمؤمنون يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم عياناً ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها تحيط به سبحانه إذ كان غير جائز أن يوصف الله عز وجل بأن شيئاً يحيط به. أما هو سبحانه بكل شيء محيط. وهكذا يُسمِعُ كلامه من شاء من خلقه ولا يحيطون بكلامه، وهكذا يَعلم الخلق ما علّمهم ولا
1 سورة الشعراء آية: 61، 62.
2 سورة طه آية: 77.
يحيطون بعلمه1.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: في الإدراك أقوال للعلماء من السلف:
أحدها: لا تدركه الأبصار في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة، ويكون الإدراك بمعنى الرؤية عند هؤلاء.
وثانيها: الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم، ومعنى الإدراك معرفة الحقيقة عند هؤلاء.
وثالثها: أن الإدراك أخص من الرؤية لأن الإدراك بمعنى الإحاطة، ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية2 اهـ.
قال الإمام ابن جرير الطبري عند تأويل هذه الآية: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} :
قال بعضهم: معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها سبحانه، وقال آخرون: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا، وأما في الآخرة فإنها تدركه، وقال أهل هذه المقالة، الإدراك في هذا الموضع الرؤية3 اهـ.
والراجح هو القول الذي تشهد له الأحاديث التي سيأتي ذكرها إن شاء الله لأنها تعتبر تفسيراً للآية كما هو معروف عند أهل العلم من السلف، وهو إثبات الرؤية في الآخرة دون الدنيا، وإن الإدراك المنفي أمر زائد على مجرد الرؤية، وهو الإحاطة، والله أعلم.
1 استقينا هذه المعلومات من بعض كتب ابن القيم، ومن فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، راجع فتح الباري: كتاب التوحيد ص: 195، وما بعدها وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ص: 184-185.
2 الحافظ ابن كثير 2/161 ط مكتبة التراث الإسلامي حلب.
3 الطبري 12/13، تحقيق محمود محمد شاكر وتخريجه.
ومن الآيات التي استدل بها أهل السنة على إثبات الرؤية قوله تعالى: {لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} 1، والآية من الآيات التي يتعلق بها النفاة ظناً منهم بأنها تنفي الرؤية2، إلا أن أهل السنة قلبوا عليهم الحجة، فأثبتوا أن الآية من أدلتهم على إثبات الرؤية عكس ما زعموا. ومن أوجه دلالة الآية على الرؤية ما يلي:
1-
لا يظن بكليم الله موسى عليه السلام أن يسأل الله مالا يليق بالله، بل ما هو من أبطل الباطل في زعمهم. وهو من أعرف الناس بما يليق بالله وما لا يليق به سبحانه.
2-
أن الله تعالى لم ينكر عليه سؤاله، علماً بأنه تعالى قد أنكر على نبيه نوح عليه السلام سؤاله حين سأله نجاة ابنه فقال:{إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 3، فقال:{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} 4، ولو كان سؤال رؤية الله من قبيل نوح نجاة ابنه لأنكر عليه سبحانه كما أنكر على نوح عليه السلام. وعدم الإنكار دل على أنه إنما سأله ممكناً لا مستحيلاً.
3-
أن الله سبحانه أجابه بقوله {لَن تَرَانِي} ، ولم يقل: إني لا أرى أو لست بمرئي أو لا تجوز رؤيتي. أو عبارة قريبة من هذه العبارات التي تدل أن
1 سورة الأعراف آية: 143.
2 وليس لهم حجة لغوية فيما زعموا أن (لن) تفيد التأبيد، كما سيأتي بيان ذلك، ولكنهم زعموا من عند أنفسهم أنها في الأصل للتأبيد وإن استعملت في غير ذلك فاستعمال مجازي، فغاية ما ذكره صاحب الأصول الخمسة القاضي عبد الجبار: أن الله نفى عن نفسه الرؤية بما يفيد التأبيد حقيقه، فالمجاز هو ماجأهم الوحيد صدقت دعوى المجاز أو كذبت، فإذا أرادوا تحريف نصٍ ما أعلنوا بالمجاز ثم فعلوا به من التحريف وتعطيل معناه تحت مظلة التأويل.
3 سورة هود آية: 46.
4 سورة هود آية: 47.
الرؤية غير ممكنة. والفرق بين الأسلوبين واضح لمن تأمل بإنصاف.
وبهذا عرفنا بأنه تعالى يُرى في الوقت الذي حدده سبحانه لرؤيته، وأن نبيه موسى عليه السلام إنما سأله ما هو ممكن، إلا أنه نبهه على أنه لا يقوى على الثبوت أمام التجلي في هذه الدار لضعف قوة البشر في الدنيا، إلا أن الله سوف يمنحهم القوة التي تمكنهم من الثبوت أمام تجلي الرب تعالى فيرونه عياناً ولكن دون إحاطة -كما تقدم- وهذا المفهوم هو الذي اتفق عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على تتابع القرون.
4-
وفي قوله تعالى: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 1، إشارة لطيفة وتنبيه إلى أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت أمام التجلي، فكيف بك وبأمثالك لأنك أضعف من الجبل يا موسى!
هذا
…
وأما دعوى المعتزلة وشيعتهم بأن (لن) تدل على التأبيد فدعوى باطلة تأباها اللغة، فإن (لن) إنما وضعت لنفي المستقبل، فأما التأبيد فإنما يستفاد من قرائن خارجية، وهي لا تفيد التأبيد بنفسها.
قال ابن هشام في أوضح المسالك: (ولن، وهي لنفي سيفعل) أي لنفي المستقبل (ولا تقتضي) تأبيد النفي ولا تأكيده، خلافاً للزمخشري2 اهـ.
وفي هذا يقول ابن مالك في كافيته:
ومن يرى النفي بلن مؤبدا
…
فقوله ارْدُدْ وسواه فاعضدا
فمحاولة تأبيد النفي بلن محاولة جهمية مغرضة، ولكنها غير ناجحة بل مردودة كما قال ابن هشام.
1 سورة الأعراف آية: 143.
2 أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك ص: 577.
ومن أقوى أدلة أهل السنة على إثبات الرؤية قوله تعالى: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} 1، ومن العقوبة التي يعاقب الله تعالى بها الكفار يوم القيامة أنه يحجبهم عن رؤيته، ووجه استدلالنا بالآية أن الله سبحانه وتعالى جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤية الله وعن سماع كلامه، فإذاً إن من أعظم نعم الله على المؤمنين أنهم يرونه عياناً ويسمعون كلامه سماعاً إذ لو لم يره المؤمنون، ولم يسمعوا كلامه، كانوا أيضاً محجوبين عنه تعالى.
وبهذا الأسلوب احتج الإمام الشافعي بالآية وغيره من الأئمة، وفي هذا الصدد يحدثنا الإمام (المُزَني) - وهو من كبار أصحاب الإمام الشافعي- إذ يقول المزني: سمعت الشافعي يقول في قوله تعالى: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} : "فيها دليل على أن أولياءه يرون ربهم يوم القيامة".
ثم يأتي زميله (الربيع بن سليمان) ليؤكد ما حكاه المزني، حيث يقول: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} ؟ فقال الشافعي: لما حجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضى، قال الربيع: فقلت للشافعي: يا أبا عبد الله! وبه تقول؟ قال: نعم، وبه أدين الله. ثم قال الشافعي - وهو يؤكد هذا المعنى -: ولو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى أنه يرى الله لما عبد الله عز وجل2.
وهناك آيات أخرى تدل على إثبات لقاء الله ورؤيته تعالى، وذلك مثل قوله تعالى:{وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ} 3، وقوله تعالى:
1 سورة المطففين آية: 15.
2 حادي الأرواح ص: 185.
3 سورة البقرة آية: 223.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ} 1، وقوله تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} 2، وقوله سبحانه:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ} 3، وهناك آيات أخرى كثيرة تنص على هذا المعنى.
واللقاء عند أهل اللغة يقتضي المعاينة ما لم يكن هناك مانع كالعمى مثلاً.
بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب:
أما الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الإمام ابن القيم أنها وصلت إلى حد التواتر، فسرد منها ثلاثين حديثاً4 مرفوعاً بين صحيح وحسن، بل بعضها مخرجة في الصحيحين أو في أحدهما.
وهناك أحاديث موقوفة وآثار عن الصحابة تُعطى حكم الرفع في اصطلاح المحدثين.
ومن الأحاديث المرفوعة حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في الصحيحين ونصه: "إن أناساً قالوا: يا رسول! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر"؟! قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب"؟ قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك" 5.
ومثله حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ولفظه: كنا جلوساً عند النبي عليه الصلاة والسلام إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته. فإن
1 سورة البقرة آية: 46.
2 سورة الأحزاب آية: 44.
3 سورة الكهف آية: 110.
4 حادي الأرواح ص: 184.
5 فتح الباري 17/195-196 مطبعة البابي الحلبي.
استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا ". وفي حديث آخر له رضي الله عنه: "إنكم سترون ربكم عياناً "1.
لا يخفى أن المقصود من الحديثين وما في معناهما، هو تشبيه الرؤية بالرؤية من حيث الوضوح والحقيقة، وعدم التكلف وعدم وجود التزاحم حال الرؤية ولا يلزم من ذلك تشبيه المرئي بالمرئي إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
ومنها حديث صهيب الرومي رضي الله عنه عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل: تريدون شيئاً أزيدكم؟ يقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟! فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم"2. ثم تلا هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3.
وقال الإمام ابن القيم تعليقاً على هذا الحديث: "وهذا حديث رواه الأئمة عن حماد بن سلمة وتلقوه عن نبيهم بالقبول والتصديق"4.
ولو ذهبنا نسوق كل ما ورد من الآيات والآثار وأقوال أهل العلم سلفاً وخلفاً في موضوع الرؤية مع مناقشتها لو فعلنا ذلك لأدى بنا إلى الخروج عن موضوع الرسالة، لذا نرى الاكتفاء بالنصوص التي أوردناها - فثبوت رؤية الله في الآخرة للمؤمنين أصبح في غاية من الوضوح، ولم يبقَ في المقام خلاف يُعتدّ به.
وليس كل خلاف جاء معتبرا
…
إلا خلاف له حظ من النظر
وفيما يلي نستعرض الآراء في معنى الرؤية.
1 ابن القيم حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص: 188-208.
2 حادي الأرواح ص: 193.
تضامون بالتشديد من الضم أي لا يحصل انضمام بعضكم إلى بعض بسبب الزحام، وبالتخفيف أي لا يلحقكم الضيم وظلم بعضكم بعضاً من الزحام.
3 سورة يونس آية: 26
4 المصدر السابق.
الآراء في معنى الرؤية:
يروي الإمام أبو الحسن الأشعري أن المعتزلة أجمعت على أن الله لا يُرى بالأبصار، ثم اختلفوا فيما بينهم هل يُرى بالقلوب أم لا؟ وقال أكثر المعتزلة أن الله يُرى بالقلوب بمعنى أنه يُعلم1.
وأنكر بعضهم حتى هذا النوع من الرؤية بل صرحت جماعة من المعتزلة والخوارج وطوائف من المُرجئة وبعض الزيدية بأن الله لا يُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة، ولا يجوز ذلك عليه تعالى. وأما الأشعرية فإنهم يثبتون الرؤية بالأبصار في الآخرة ولكن دون مقابلة ودون إثبات للفوقية لله تعالى كما أثبت الله لنفسه {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} ، كما تقدمت في بحث صفة الاستواء أدلة قاطعة في ثبوت الفوقية والعلو لله تعالى، وإثبات الرؤية مع نفي الفوقية فيه نوع من الغموض وعدم الوضوح، إذ لا يعقل إثبات موجود في الخارج ووجوده حقيقي وإثبات رؤيته بالأبصار ثم القول إنه ليس فوق الرائي أو على يمينه أو على يساره أو تحته. هذا كلام يرده كل من يسمعه وهو يعقل ما يسمع.
وأما أهل السنة والجماعة فيؤمنون بأن الله يتجلى لعباده في الموقف وفي الجنة من فوقهم ويخاطبهم ويسلم عليهم ويرونه بأبصارهم كما يرون الشمس ليس دونها سحاب، وهذه المعاني الثلاثة يجب الإيمان بها مجتمعة عملاً بنصوص الكتاب والسنة وخروجاً من الاضطراب، وهي:
1-
العلو والفوقية.
2-
صفة الكلام (الكلام) اللفظي.
3-
الرؤية بالأبصار، وبالله التوفيق.
1 أبو الحسن الأشعري مقالات الإسلاميين ص: 219.
قلت: وهذا المعنى مردود لغة، لأن "رأى القلبية تنصب مفعولين. كأن تقول: رأيت الله أكبر كل شيء، أو رأيت الله مطلعاً على كل شيء". وأما قوله عليه الصلاة والسلام:"ترون ربكم يوم القيامة" لا يحتمل إلا الرؤية البصرية.
ثم اختلف أهل السنة: هل الرؤية في الآخرة خاصة بالمؤمنين أم يراه الكفار والمنافقون كما يرى المؤمنون؟
أقول: أما في الجنة فلا شك أنها خاصة بالمؤمنين إذ هي دارهم الخاصة، وهي دار الطيبين فلا يدخلها إلا المؤمنون الطيبون. فينحصر الخلاف في الرؤية التي تقع في الموقف عند الحساب والتجلي. والقول الذي يرجحه الحافظ ابن حجر أن الرؤية خاصة بالمؤمنين حتى في الموقف، ويجيب على قول من يرى عموم الرؤية استدلالاً بعموم اللقاء والخطاب بقوله: ولا يلزم من كونه "يتجلى للمؤمنين ومن معهم ممن أدخل نفسه فيهم أن تعمهم الرؤية، لأنه سبحانه أعلم بهم. فيُنعِمُ على المؤمنين برؤيته دون المنافقين كما يمنعهم من السجود عندما يكشف عن ساقه كما تقدم"1 ا. هـ
وهناك آراء أخرى في المسألة رأينا عدم الخوض فيها إيثاراً للإيجاز، والله أعلم.
وبعد، أود أن أذيل هذا المبحث - مبحث الرؤية - بأبيات للإمام ابن القيم، صور فيها يوم اللقاء أروع تصوير وأصدقه استنتاجاً من نصوص الكتاب والسنة التي ذكرنا بعضها آنفاً، إذ يقول رحمه الله:
فبينما هُمُ في عَيْشِهم وسرورهم
…
وأرزاقهم تجري عليهم وتُقْسَم
تجلى لهم رب السموات جهرة
…
فيضحك فوق العرش ثم يُسلِّم
سلام عليكم يسمعون جميعهم
…
بآذانهم تسليمه إذ يُسَلِّم
يقول سلوني ما اشتهيتم فكل ما
…
تريدون عندي إنني أنا أرحم
فقالوا جميعاً نحن نسألك الرضا
…
فأنت الذي تُولِي الجميل وترحم
ولله أفراح المحبين عندما
…
يخاطبهم من فوقهم ويُسَلِّم
ولله أبصار ترى الله جهرة
…
فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة
…
أمِن بعدها يسلو المحب المتيم
1 فتح الباري على صحيح البخاري 17/ 194 ط الحلبي القاهرة.
فحيّ على جنات عدن فإنها
…
منازلك الأولى وفيها المخيم
ولله واديها الذي هو موعد الـ
…
مزيد لوفد الحب لو كنت منهم
وحي على يوم المزيد الذي به
…
زيارة رب العرش واليوم موسم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
…
نعود إلى أوطاننا ونسلم
هذا فإثبات الرؤية ليس صفة من صفات الله تعالى لأن الرؤية لا تقوم بالله تعالى، بل المؤمنون هم الذين يرونه سبحانه فالله هو المرئي لهم، فإنما أدخلناها في عداد الصفات المختارة التي جعلنا محل الحديث المفصل. لأنها محل نزاع بين السلف والخلف كما علمت. وبالله التوفيق.