الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: الكلام على الأسماء الحسنى والصفات العلا وبيان الفرق بينهما
بين يدي المبحث
قبل أن نشرع في الكلام على مبحث الأسماء والصفات وتعدادها يحسن بنا أن ننبه على بعض النقاط المهمة التي لها صلة وثيقة بالموضوع.
أ- إن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء والموجود، والقائم بالنفس والمخالف للحوادث، فإن هذه الألفاظ يخبر بها عن الله تعالى، ولا تدخل في باب أسمائه الحسنى، ولفظ (القديم) من هذا الباب لعدم ورود النص به، وباب الأسماء والصفات توقيفي، كما لا يخفى.
ب- إن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه تعالى، بل يطلق عليه منها كمال فقط، وهذا كالمريد والفاعل والصانع عند الإطلاق، بل هو فعال لما يريد.
فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة، فيقال لفاعل الخير فاعل كما يقال لفاعل الشر فاعل، وكذلك المريد والصانع، ولهذا إنما أطلق الله على نفسه من ذلك أكمله.
جـ- لا يلزم من الإخبار عنه تعالى بالفعل مقيداً أن يشتق له منه اسم مطلق كما غلط بعض المتأخرين، فجعل من أسمائه الحسنى، المضل والفاتن والماكر، والمستهزئ والساخر مثلاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة. والله أعلم.
د-لم يرد حديث صحيح يعتمد عليه في تعداد الأسماء الحسنى التسعة والتسعين وحصرها وهي التي من حفظها دخل الجنة، أو في غيرها من أسمائه الكثيرة التي سمى الله بها نفسه فأنزلها في كتابه أو علمها أحداً من خلقه، ولكن اعتماد أهل العلم في ذلك على الكتاب العزيز مع بعض الآثار التي يشهد لها الكتاب، فأسماؤه من كمالاته، وكمالاته لا تدخل تحت الحصر، وقد أطال الكلام بعض أهل العلم في الأسماء الحسنى حتى ذكر ابن العربي في شرح الترمذي عن بعضهم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم1.
?- قال الحافظ ابن حجر في التلخيص - بعد أن ذكر أقوال بعض أهل العلم في تعداد الأسماء الحسنى: "وقد عاودت تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررتها منه تسعة وتسعين اسماً، ولا أعلم من سبقني إلى تحرير ذلك، فإن ما ذكره ابن حزم لم يقتصر فيه على ما في القرآن الكريم" إلى آخر كلامه.
و حديث أبي هريرة في تعداد الأسماء الحسنى الذي اعتمد عليه كثير من الناس في تعداد الأسماء الحسنى مثل القشيري والرازي والقرطبي والغزالي، ضعيف، وعلته (الوليد بن مسلم) والحديث الثاني الذي صححه (الترمذي) أضعف وعلته (عبد العزيز بن حصين) .
قال الحافظ: متفق على ضعفه، ووهّاه البخاري ومسلم2، وقد زلت أقدام كثير من أهل الكلام في هذا المبحث على اختلاف مواقفهم، منهم من أثبت أسماء مجردة
1 انظر لذلك:
1- ابن القيم: بدائع الفوائد 1/183.
2-
وابن جرير الطبري في تفسيره 1/134 بتصرف.
3-
والشوكاني: فتح القدير 2/256، تفسير سورة الأعراف {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
4-
وابن حجر: التلخيص الحبير 4/174-175 كتاب الأيمان.
5-
وتحفة الأحوذي 9/490 طبعة المكتبة السلفية.
2 راجع تحفة الأحوذي 9/490 باب عقد التسبيح باليد، طبعة المكتبة السلفية.
عن المعاني والأوصاف، كأعلام محضة وزعم أن الله سميع بلا سمع، عليم لا علم، مثلاً إلى آخر الصفات.
ومنهم من ينفي الصفات والأسماء، ليزعم تصور وجود ذات مجردة عن الأسماء والصفات معاً، وهو من أفسد مزاعمهم، لأنه ضرب من المحال، فلنسمع الحافظ ابن القيم وهو يناقش هذه المزاعم ويفندها ليكشف عوارهم إذ يقول رحمه الله وهو يتحدث عن دلالة الأسماء على صفات الكمال -:
إن أسماء الله تبارك وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات فهي أسماء وهي صفات، وبذلك كانت حسنى، إذ لو كانت ألفاظاً لا معاني فيها لم تكن حسنى، ولا كانت دالة على مدح ولا كمال ولساغ وقوع الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان، وبالعكس فيقال: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم، واللهم أعطني، فإنك أن الضار المانع، ونحو ذلك.
ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1، ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها، لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2، فعلم أن (القوي) من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة، وكذلك قوله:{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} 3، وساق أمثلة كثيرة من القرآن والأحاديث الصحيحة إلى أن قال: لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنها بأفعالها. فلا يقال: يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد، فإن ثبوت أحكام الصفات فرع من ثبوتها، فإذا
1 سورة الأعراف آية: 180.
2 سورة الذاريات آية: 58.
3 سورة فاطر آية: 10.
انتفى أصل الصفة، استحال ثبوت حكمها، وأيضاً فلو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت كلها سواء ولم يكن فرق بين مدلولاتها: وهذه مكابرة صريحة، وبهت بيّن. فإن من جعل معنى اسم (القدير) هو معنى اسم (السميع البصير) ، ومعنى اسم (التواب) هو معنى اسم (المنتقم) ، ومعنى اسم (المعطي) هو معنى اسم (المانع) ، فقد كابر العقل واللغة والفطرة.
فنفي أسمائه من أعظم الإلحاد فيها: والإلحاد فيها أنواع، هذا أحدها، والثاني تسمية الأوثان بها، كما يسمونها آلهة إلى أن قال رحمه الله: وحقيقة الإلحاد فيها العدول بها عن الصواب فيها، وإدخال ما ليس من معانيها فيها وإخراج حقائق معانيها عنها. هذه حقيقة الإلحاد1 اهـ.
وقال في موضع آخر من كتابه (مدارج السالكين) :
"إن الاسم من أسمائه تبارك وتعالى، كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة2، فإنه يدل دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم. فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن الصفة، ويدل على الصفة الأخرى باللزوم. فإن اسم (السميع) يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة، وعلى الذات وحدها، وعلى السمع وحده بالتضمن، ويدل على اسم (الحي) وصفة الحياة بالالتزام وكذلك سائر أسمائه وصفاته3 اهـ.
1 مدارج السالكين 1/28-30.
2 مدارج السالكين 1/22.
3 أنواع الدلالة اللفظية الوضعية:
تنقسم الدلالة إلى ثلاثة أقسام:
1-
الدلالة المطابقية.
2-
الدلالة التضمنية.
3-
الدلالة الالتزامية.
فالدلالة المطابقية: هي دلالة اللفظ على تمام ما وضع له من حيث أنه وضع له، وذلك مثل لفظ (البيت) على الجدار والسقف معاً، ودلالة لفظ (إنسان) على الحيوان الناطق، ودلالة اسم الله (العليم) مثلاً على ذات الله وعلمه أي دلالة الاسم على المسمى والصفة المشتقة من الاسم نفسه.
وسميت مطابقية لتطابق اللفظ والمعنى، وتوافقهما في الدلالة.
أما الدلالة التضمنية: فهي دلالة اللفظ على جزء ما وضع له في ضمن كل المعنى، مثل دلالة لفظ البيت على الجدار وحده، وعلى السقف وحده، وسميت وضعية لأنها عبارة عن فهم جزء من الكل، فالجزء داخل ضمن الكل أي في داخله، ومن هذا النوع مثلاً دلالة اسم الله (السميع) على ذات الله وحدها، وعلى صفة السمع وحدها، بصرف النظر عن استعمال (الجزء والكل) بل يقال على الصفة والموصوف.
وأما الدلالة الالتزامية: فهي دلالة اللفظ على خارج عن معناه الذي وضع له، مثل دلالة لفظ (الأربعة) على الزوجية، ودلالة لفظ (إنسان) على قبول التعليم مثلاً وعلى التعجب والحركة والسكون، ودلالة اسم الله (القدير) على صفة (الحياة) وعلى العلم وغيرهما من صفات الله تعالى.
يقول المناطقة: يشترط لهذه الدلالة اللزوم الذهني البين مثل لزوم الحياة من العلم والحلم والقدرة مثلاً إذ الميت لا يوصف بهذه الصفات، ويعللون ذلك، لأنها تدل على الخارج عن المعنى الذي وضع اللفظ له، والخارج عن المعنى غير محدود، فلا بد من اللزوم الذهني البين، وقد مثلنا لذلك آنفاً.
ويقول المناطقة: إن بين الدلالة المطابقية والدلالة التضمنية العموم والخصوص المطلق، فإذا وجدت التضمنية وجدت المطابقية دون العكس، أي لا يلزم من وجود المطابقية وجود التضمنية.
استقينا هذه المعلومات (بالمعنى) عن كتاب: المرشد السليم إلى المنطق الحديث والقديم. الطبعة الرابعة، دار الطباعة المحمدية بالقاهرة. د. عوض الله جاد حجازي.
هذا وقد أفاض الحافظ ابن القيم في هذا المبحث في كتابه (مدارج السالكين) بما لعله لا يوجد لغيره مجتمعاً في موضع واحد.
وقد أشار الإمام البيهقي إلى هذا المعنى الذي أفاض فيه الحافظ ابن القيم رحمه الله، حيث يقول:"فلله عَزَّ اسمه، أسماء وصفات، وأسماؤه صفاته، وصفاته أوصافه"1 ا. هـ
وأما الفرق بينهما، فإن الصفات إنما هي من معاني أسمائه الحسنى، والأسماء دالة عليها كما تدل على الذات، إما بالمطابقة أو بالالتزام على ما تقدم بيانه في كلام ابن القيم قريباً. وهذا معنى قول الإمام البيهقي:"وأسماؤه صفاته، وصفاته أوصافه".
من هنا يتضح جلياً بطلان مذهب المعتزلة وتناقضهم، حيث ينفون الصفات مع إثباتهم لأحكامها، لأنه من المعلوم ضرورة إذا عدم الوصف الذي منه الاشتقاق، فالاشتقاق منه مستحيل، فإذا لم يقم العلم والقدرة بذات مثلاً استحال أن نقول: هي
1 الاعتقاد للبيهقي ص: 70 نسخة محققة تقديم وتعليق وتخريج أحمد عصام الطالب، ويعني بذلك أن أسماء الله تعالى متضمنة لصفاته والله أعلم.
عالمة وقادرة، ولست أدري كيف استساغت عقول المعتزلة وهضمت هذا التناقض، حيث يقولون: إن الله تعالى قادر وعالم لكن لا بقدرة ولا بعلم!!
وأنا أعتقد جازماً أن البدوي الجالس أمام خيمته وعند غنمه لو سمع هذا التناقض الذي استساغه العقل المعتزلي، لأنكره ذلك البدوي وسخر منه، لأنه خلاف المنطق، وخلاف العقل السليم الذي يتبلبل بعد بعلم الكلام الاعتزالي وتناقضاته، فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من عباده.
وسوف نورد بعض النصوص التي تدل على الأسماء الحسنى منها:
1-
قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 1.
2-
قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} 2.
3-
قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} 3.
4-
حديث حذيفة بن اليمان الذي يقول فيه: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه قال: "اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت، وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"4.
5-
حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي يقول فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء
1 سورة الأعراف آية: 180.
2 سورة الإسراء آية: 110.
3 سورة طه آية: 8.
4 رواه البخاري الدعوات 11/113، 130، ومسلم 4/2083.
وهو السميع العليم ثلاث مرات فلا يضره شيء" 1.
6-
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة" 2، وزاد في بعض الروايات:" وهو وتر يحب الوتر ".
7-
حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر، وهو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، وفي رواية المغيث بدل: المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعال، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع3، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث الرشيد، الصبور، الكافي" 4 ا. هـ
1 أخرجه أحمد 1/62، والترمذي في الدعوات 5/465 تحقيق إبراهيم عطوة، وأبو داود 5/329، وابن ماجه 2/1273، وقال الترمذي حسن صحيح غريب.
2 أخرجه البخاري 13/377، و 11/214، و5/354.
3 في بعض الروايات: "الرافع"بدل: "المانع".
4 أخرجه الترمذي 5/530-531، وابن ماجه 2/1269-1270، والبيهقي في الأسماء والصفات ص: 3-5، وراجع لتحقيق هذه الرواية فتح الباري 11/214.
قال الإمام البيهقي بعد أن ساق عدة روايات في هذا الباب وفيها: "من أحصاها دخل الجنة "، قال رحمه الله: وليس في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن لله تسعة وتسعين اسماً" نفي غيرها، وإنما وقع التخصيص بذكرها لأنها أشهر الأسماء وأبينها معاني. وفيها ورد الخبر أن من أحصاها دخل الجنة.
وفي رواية سفيان: "من حفظها" وذلك يدل على أن المراد بقوله: "من أحصاها" من عدها. وقيل: من أطاقها بحسن المراعاة لها، والمحافظة على حدودها، في معاملة الرب بها سبحانه، وقيل معناه: من عرفها وعقل معانيها، وآمن بها والله أعلم1 اهـ.
وبعد أن انتهى الإمام البيهقي من سرد الأسماء ذكر معاني الأسماء بالجملة، ثم فصل القول فيها تفصيلاً لم يسبق إليه فيما نعلم حيث نوع الأسماء تنويعاً: نوع يتبع إثبات الباري جل ثناؤه مثل (القديم) 2، وإن كان هذا الاسم غير معدود من أسماء الله الحسنى، ولكنه ذكر بالمعنى لأنه بمعنى "الأول الذي ليس قبله شيء" وقد مثل لهذا النوع بعدة أسماء ثم عقد فصلاً آخر لنوع آخر من الأسماء يتبع إثبات وحدانيته عز وجل ومثّل لهذا النوع بعدة أسماء منها:(الواحد) ومنها (الوتر)(الكافي) إلى آخر تلك الأسماء الكثيرة التي وزعها على عدة فصول في أول كتابه (الأسماء والصفات) .
ومما يشهد للإمام البيهقي فيما ذهب إليه -وهو الحق- من أن أسماء الله
1 الأسماء والصفات للبيهقي ص: 5.
2 ذكر صاحب شرح الطحاوية: أن (القديم) من الأسماء التي أدخلها المتكلمون في أسمائه تعالى وليس هو من أسمائه الحسنى. فإن القديم في لغة العرب هو المتقدم على غيره، وقد وصف به في القرآن (العرجون) (والإفك القديم) (والضلال القديم) وهو مع ذلك لا يؤدي معنى (الأول) الذي ليس قبله شيء. شرح الطحاوية ص:43.
الحسنى لا تنحصر في الأسماء التسعة والتسعين المذكورة في بعض الأحاديث السالفة الذكر التي يفهم منها من أول وهلة أن أسماء الله الحسنى هي هذه فقط، التي يمكن حفظها وإحصاؤها - مما يشهد للإمام فيما ذهب إليه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كثر همه فليقل: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، وفي قبضتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو ألهمت عبادك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، وفي لفظ: في مكنون الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي وجلاء همي وغمي، ما قالها عبد قط إلا أذهب الله غمه وأبدله فرجاً"، وفي بعض النسخ (فرحاً) بالحاء المهملة، رواه رزين1.
والحديث يدل بكل وضوح على أن أسماء الله كثيرة ومتنوعة حسب توزيع الحديث المذكور وهو أمر واضح، لأن كمالات الله لا تتناهى، بل هو موصوف بكل كمال سبحانه {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} 2.
هذا، وإتماماً للفائدة ولإعطاء هذه النقطة ما تستحق من البحث، أنقل هنا ما ذكره الحافظ ابن القيم عند قوله تعالى:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} الآية، لنقف على حقيقة الإلحاد وأنواعه، علماً بأنه قد تقدم بعض ما ذكره هنا فيما أسلفنا.
وهاك ملخص كلامه رحمه الله وهو يتحدث عن معاني الإلحاد-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} 3.
1 مشكاة المصابيح 1/752، وهو حديث صحيح (راجع شرح العقيدة الطحاوية ص: 110) .
2 سورة الكهف آية: 109.
3 سورة الأعراف آية: 180.
ومن أعظم أنواع الإلحاد في أسمائه تعالى إنكار حقائقها ومعانيها والتصريح بأنه مجازات، وهو أنواع: وهذا أحدها.
وثانيها: إنكار الأسماء كلية، وهذا يصدق على الجهمية الذين ينفون الأسماء والصفات معاً، وهم أسوأ حالاً من المعتزلة الذين ينفون الصفات، مع إثباتهم1 للأسماء، ولو شكلياً حيث يزعمون أنه تعالى سميع بلا سمع، عليم بلا علم.
وثالثها: تشبيه الله تعالى في صافته، وفي معاني أسمائه بصفات المخلوقين وأسمائهم، وهذا النوع من الإلحاد يشمل المشبهة الذي يشبهون الله بالمخلوق في أسمائه وصفاته، ويشمل المعطلة الذي يشبهونه أولاً حيث زعموا أنهم لا يفهمون من الأسماء والصفات إلا الحقائق التي تليق بالمخلوق، ثم ينفون أسماء الله وصفاته بدعوى التأويل لأن إثباتها على ظاهرها يوقع في التشبيه ولهذا يقال فيهم: إنهم يشبهون أولاً، ثم يعطلون ثانياً، ويقال: كل مشبه معطل، وكل معطل مشبه، لأن المشبهة قد عطلوا البارئ عما يليق به بتشبيههم إياه بالمخلوق. كما أن المعطلة قد شبهوه بتعطيله عن صفات الكمال - وصفاته كلها كمال- بجمادات لا توصف بأي صفة لا بالعلم، ولا بالبصر مثلاً.
وقد أورد هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية في غير موضع من كتبه كالحموية والتدمرية، وقد أنكر الحافظ ابن القيم وجود طائفة معينة تعتقد أن الثابت لله تعالى من صفاته مماثل للمعاني الثابتة للمخلوق فيجعل هذا مذهباً له ويقف عند هذا الاعتقاد دون تأويل كما فعلت المعطلة، هكذا يرى الإمام ابن القيم، ولكننا إذا راجعنا معتقدات بعض الطوائف المنحرفة في عقيدتها نجد (الهشامية) وهم أتباع هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم (جسم وله نهاية، وله حد، طوله كعرضه وعمقه) إلى آخر كلام طويل كله تشبيه وتجسيم. وزعيمهم (هشام بن
1 راجع المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص: 114 تحقيق محي الدين الخطيب.
الحكم) أول من أظهر إطلاق لفظ (التجسيم) من متكلمة الرافضة1.
وهناك خمسة فرق من الروافض ولكنهم يقولون بالتجسيم مع اختلافهم في الأسلوب والتفسير، وتوجد هشامية أخرى أتباع هشام بن سالم الجواليقي، التي تزعم أن معبودها على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً ودماً، إلى آخر تلك الأوصاف الكفرية، فهما طائفتان جمعهما الإلحاد بالتشبيه والتجسيد وفرقتهما كيفية ذلك التشبيه والصورة.
ولعل الإمام ابن القيم يرى أن معبودهم الذي بتلك الصفات ليس هو رب العالمين -وهو الواقع- حتى يقال: إنهم شبهوا الله بخلقه، ولكنهم اتخذوا معبوداً آخر بتلك الصورة. والله أعلم. وإلا فإنهم قد شبهوا أقبح التشبيه، ثم لم يؤولوا كما أولت المعطلة.
ويجزم الإمام ابن القيم أن المراد بالمشبهة الذين عُنيَ القرآن بالرد عليهم هم أولئك الذين يثبتون للمخلوق علماً كعلم الخالق، وقدرة كقدرة الخالق، وتصرفاً في الكون كتصرفه حتى عبدوا مخلوقاً مثلهم بعد هذا الغلو فيه، كما يعبد الموحد ربه سبحانه بأنواع العبادات من التذلل والخضوع والذبح والنذر وغير ذلك.
ويرى ابن القيم أن هذا هو الواقع من بني آدم قديماً وحديثاً يشبهون أوثانهم وأصنامهم ومعبوداتهم بالخالق. وقطعاً لا يعرف إبّان نزول القرآن غير هذا النوع من التشبيه، وهذا ما يعنيه ابن القيم. وقد ساق عدة آيات مؤيداً بها ما ذهب إليه. مثل قوله تعالى:{وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 2، أي من يساميه ويماثله، وقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3، وقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 4.
1 راجع المنتقى من منهاج الاعتدال ص: 83، ومقالات الإسلاميين ص: 54، وابن حزم في (الفصل) .
2 سورة مريم آية: 65.
3 سورة الإخلاص آية: 4.
4 سورة الشورى آية: 11.
قال ابن القيم - وهو يلخص معنى الآيات الثلاث التي ساقها مؤيداً بها مذهبه وهو الصواب - فيما يظهر لنا- فنفي عن المخلوق مماثلته، ومكافأته ومساماته الذي هو أصل شرط بني آدم، فضرب المتكلمون عن ذلك صفحاً وأخذوا يبالغون في الرد على من شبه الله بخلقه، يقول الإمام ابن القيم:"لا نعلم فرقة من بني آدم استقلت بهذه النحلة وجعلتها مذهباً تذهب إليه، حتى ولا المجسمة المحضة الذين حكى أرباب المقالات مذاهبهم كالهشامية والكرامية1، الذين قالوا: إنه جسم لو يقولوا: إنه مماثل للأجسام بل صرحوا بأن معنى كونه جسماً أنه قائم بنفسه موصوف بصفات"2 اهـ.
وله رحمه الله كلام نفيس في كتابه (شفاء العليل) عند الكلام على حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره أن يقول رحمه الله:
قوله عليه الصلاة والسلام: "أسألك بكل اسم هو لك سميت له نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثر به في علم الغيب عندك".
قال رحمه الله: إن كانت الرواية محفوظة هكذا ففيها إشكال، فإنه جعل ما أنزله في كتابه أو علّمه أحداً من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده، قسيماً لما سمى به نفسه!
ومعلوم أن هذا التقسيم تفصيل لما سمى به نفسه، فوجه الكلام أن يقال: سميت به نفسك، فأنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو
1 الكرامية هي طائفة من المرجئة أصحاب محمد بن كرام، من عقيدتها أن الإيمان هو الإقرار باللسان دون تصديق القلب، والمنافقون عندهم من المؤمنين لأنهم يقرون بألسنتهم اهـ.
مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 1/205، بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
2 هذا خلاف ما ذكره الذهبي نقلاً عن الأشعري في المقالات، وعن ابن حزم في الفصل وأصل الكلام موجود في منهاج السنة، وسبق أن ناقشنا كلام ابن القيم وحاولنا أن يفهم كلامه على أنه لا توجد فرقة يقال لها مشبهة وقت نزول القرآن، وأما بعد ذلك فقد وجدت كما أوضحنا آنفاً في صلب الرسالة.
استأثرت به في علم الغيب عندك. فإن هذه الأقسام الثلاثة تفصيل لما سمى به نفسه.
وأجاب الحافظ على هذا الإشكال بجواب مستفيض وحقق تحقيقاً قلّ ما يوجد له نظير - فيما علمنا- وملخصه هو الآتي:
إن العطف بين هذه الجمل من باب عطف الخاص، لأن كل جملة أخص من التي قبلها، والمعهود في باب عطف الخاص على العام أن يكون بالواو دون سائر حروف العطف إلا أن العطف بـ"أو" على العام له فائدة أخرى غير الفائدة التي في العطف بالواو.
وهي بناء الكلام على التقسيم والتنويع كما بنى عليه تاماً. فيقال: سميت به نفسك فإما أنزلته في كتابك. وإما علمته أحداً من خلقك1 اهـ.
قلت: ولا يستبعد لو قيل: إن "أو" هنا معنى الواو، وهو أسلوب متبع معروف عند أهل اللغة.
ثم انتقل ليذكر لنا فائدة أخرى في الحديث، وملخص ذلك: أن الحديث يدل على أن أسماء الله غير مخلوقة، بل هو الذي تكلم بها وسمى بها نفسه، ولهذا لم يقل: كل اسم خلقته لنفسك، ولو كانت مخلوقة لم يسأله بها. فإن الله (لا يقسم عليه) بشيء من خلقه، فالحديث صريح في أن أسماء الله ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم، ويدل أيضاً على أن الأسماء مشتقة من صفاته، وصفاته قديمة قائمة به تعالى فأسماؤه غير مخلوقة2 اهـ.
فإن قيل: فالاسم عندكم هو المسمى أو غيره؟! قيل: طالما غلط بعض الناس في ذلك وجهلوا الصواب فيه.
1 شفاء العليل باب 27، ص: 276 ط دار المعرفة.
2 المصدر السابق ص: 277، بتصرف.
فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، واستوى الله على عرشه وسمع الله ورأى وخلق فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، أو الرحيم من أسماء الله، وما في هذا المعنى فالاسم ها هنا هو اللفظ الدال على المسمى، ولا يقال غيره لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى، فحق. وإن أريد أن الله كان وليس له أسماء حتى خلق لنفسه أسماء أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد1 اهـ.
ثم واصل كلامه قائلاً قوله: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك " دليل على أن أسماء الله أكثر من تسعة وتعسين، وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره. وعلى هذا فقوله:"إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة" لا ينفي أن يكون له سبحانه غيرها والكلام جملة واحدة2 اهـ.
قلت: وعلى هذا يكون إعراب الجملة هكذا:
لله جار ومجرور حال مقدمة على صاحبها، وتسعة وتسعون مبتدأ3، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم الحال وهو جار ومجرور، وهو المسوغ أيضاً لكون صاحب الحال نكرة، وجملة من أحصاها دخل الجنة خبر المبتدأ.
ويكون المعنى هكذا: تسعة وتسعون اسماً حال كونها ثابتة لله مخبر عنها بدخول الجنة لمن حفظها وأحصاها، مؤمناً بها دون إلحاد فيها، والله
1 شفاء العليل باب 27 ص: 276.
2 المصدر السابق.
3 وهذا الإعراب ليس محل اتفاق عند النحاة، لأن منهم من يمنع أن يكون المبتدأ صاحب الحال، ولو لم يكن نكرة، وإذا كان نكرة فمن باب أولى.
أعلم. وقد أشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري إلى هذا المعنى نقلاً عن الخطابي.
وقد أوضح ابن القيم هذا المعنى بقوله: "كما يقال لفلان مائة عبد أعدهم للتجارة، وله مائة فرس أعدها للجهاد. قلت: ألا ترى أن هذا التركيب لا يمنع أن يكون لزيد عبيد آخرون أعدهم للخدمة، أو يكون له عدد آخر من الفرس أعدها لغرض آخر غير الجهاد.
وكذلك الحال هنا إذ لا مانع أن يكون لله أسماء غير هذا العدد المذكور في الحديث". بل صرح الحافظ ابن القيم أن هذا رأي الجمهور وما خالفهم في ذلك إلا ابن حزم فزعم أن أسماء الله تنحصر في هذا العدد1 اهـ. وسيأتي نص كلامه رحمه الله إن شاء الله.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - وهو يتكلم على حديث أبي هريرة الذي نحن بصدد شرحه: ""لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً " الحديث وقد اختلف في هذا العدد: هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة أو أنها أكثر من ذلك؟ ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة، فذهب الجمهور إلى الثاني ونقل النووي اتفاق العلماء عليه فقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى وليس معناه أنه ليس له اسم غير التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة. فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء اهـ.
ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حبان: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت له نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب
1 شفاء العليل لابن القيم باب 27 بتصرف، والحافظ ابن حجر في الفتح 13/483.
عندك" وعند مالك عن كعب الأحبار في دعاء "أسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم" وأورد الطبري عن قتادة نحوه. ومن حديث عائشة أنها دعت بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام نحو ذلك.
وقال الخطابي في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها من الزيادة، وإنما التخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني. وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله:"من أحصاها" لا قوله: "لله"1.
قلت: وقد تقدم الكلام على هذت الإعراب المشار إليه بالتفصيل، ولله وحده الحمد والمنة، والمعنى الذي ذكره الخطابي2 قد ذكره أيضاً القرطبي3 وابن بطال4 نقلاً عن القاضي أبي بكر الطيب5 وسبق أن نقلناه عن الحافظ ابن قيم الجوزية، وقد نوه أنه رأي الجمهور ولم يخالفهم إلا ابن حزم، رحمه الله: حيث يقول: "قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: وأن له عز وجل تسعة وتسعن اسماً مائة إلا واحداً، وهي أسماؤه الحسنى، ومن زاد شيئاً من عند نفسه فقد ألحد في أسمائه. وهي الأسماء المذكورة في القرآن والسنة" هذا نص كلام أبي محمد. ثم ساق حديث أبي هريرة بإسناده، قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة ألا واحداً، من أحصاها دخل الجنة"، ثم ذكر الزيادة التي يقول:" إنه وتر يحب الوتر "، وهي زيادة صحيحة
1 فتح الباري كتاب الدعوات 13/378-379.
2 هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب المتوفى سنة 388هـ، صاحب معالم السنن.
3 هو محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671هـ، وهو صاحب الجامع لأحكام القرآن.
4 هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال القرطبي المالكي المتوفى سنة 449هـ، وله شرح على صحيح البخاري (انظر معجم المؤلفين 7/87.
5 هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر المعروف بالباقلاني، البصري المتكلم المشهور على مذهب الأشعري، توفي سنة 403هـ، (راجع: وفيات الأعيان 3/400) .
وردت في بعض طرقه قم قال: وقد صح أنها تسعة وتسعون اسماً فقط، ولا يحل لأحد أن يجيز أن يكون له اسما زائد لأنه صلى الله عليه وسلم قال: مائة غير واحد. فلو جاز أن يكون له تعالى اسم زائد، لكانت مائة اسم. ولو كان هذا لكان قوله صلى الله عليه وسلم:"مائة إلا واحداً"(كذباً) ومن أجاز هذا فهو كافر1 اهـ.
عفا الله عن أبي محمد لقد بالغ في هذا الإنكار، والتكفير ليس بالأمر الهين، فنعتذر له قائلين، لعل الذي حمله على هذه المبالغة حرصه الشديد على التقيد بالنصوص، وهو أمر مطلوب بل واجب، ولكنه كان يسعه غير هذا الأسلوب بأن يقول: إن الزيادة غير جائزة ما لم يرد ما يدل عليها، كان يسعه هذا المقدار من التقييد، ولكنه أبى إلا أن يبالغ عفا الله عنا وعنه2.
وأما النص الذي اعتمده الجمهور والذي فهموا منه أن حديث أبي هريرة وما في معناه لا يمنع أن يكون لله اسم آخر أو أسماء وهو حديث ابن مسعود الذي نحن بصدد مناقشته. فقد اتضح من استعراض أقوال أهل العلم ومناقشتهم للحديثين، حديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود اللذين ظاهرهما التعارض قبل استيضاح المراد من حديث أبي هريرة في حفظ عدد كثير من الأسماء الحسنى، اتضح أن الصواب مع الجمهور، وأن التوفيق بين الحديثين بالطريقة التي سلكوها أمر لا بد منه ليمكن العمل بهما معاً، وهي طريقة أهل الحديث المعروفة -والتي بها يمنع التضارب بين النصوص الصحيحة عند ما يظهر لأول وهلة التعارض بينها رحمهم الله.
قال الحافظ ابن حجر: ظاهر كلام (ابن كج) 3 حصر أسماء الله في العدد المذكور، وبه قال ابن حزم، ونوزع. ويدل على صحة قول من خالفه حديث ابن مسعود في الدعاء الذي فيه: " أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك،
1 ابن حزم المحلى 1/30 مسألة 55.
2 ولعل هذا الحديث لم يبلغه رحمه الله.
3 هو القاضي بوسف بن أحمد بن يوسف بن كج الكجي الدنيوري من أئمة الشافعية وصاحب المؤلفات، توفي سنة 405هـ، انظر وفيات الأعيان 6/63.
أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" كما يدل على عدم الحصر أيضاً اختلاف الأحاديث الواردة في سردها، وثبوت أسماء غير ما ذكرت في الأحاديث الصحيحة الأخرى1.
قال القرطبي: "فأسماء الله وإن تعددت فلا تعدد في (ذاته) ولا تركيب لا محسوساً كالجسميات ولا عقلياً كالمحدودات. وإنما تعددت الأسماء بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات. ثم هي من جهة دلالتها على أربعة أضرب:
1-
ما يدل على الذات مجردة، كالجلالة فإنه يدل عليه دلالة مطلقة غير مقيدة. وبه تعرف جميع أسمائه. فيقال: الرحمن مثلاً من أسماء الله ولا يقال: الله من أسماء الرحمن ولهذا كان الأصح أنه اسم علم غير مشتق وليس بصفة2" اهـ
قلت: لا يمنع هذا أن يكون أصل (الله)(إله) وهو المألوه، أي المعبود، وقد تقدم تحقيق ذلك في المبحث الأول.
2-
ما يدل على إضافة أمر ما إليه كالخالق والرازق (مثلا) .
3-
ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير (مثلا) .
4-
ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس (مثلا)3.
1 التلخيص الحبير 4/174.
وملخص التوفيق: أن حديث أبي هريرة يفيد أن الأسماء التسعة والتسعين لها ميزة خاصة، وهي: أن من حفظها وأحصاها، وعرف معناها وعمل بها ودعا الله بها دخل الجنة، وليس فيه ما يدل على أنه تعالى ليست له أسماء غيرها، ويوضح ذلك حديث ابن مسعود إذ يفيد أن لله أسماء علم بعضها بعض عباده، وله أسماء استأثر بعلمها وحده، سبحانه لا يعلمها غيره تعالى. هذا ملخص ما جمعوا به بين الحديثين، والله أعلم.
2 التلخيص الحبير.
3 فالعلي مع دلالته على صفة العلو، فهو يدل أيضاً على نفي النقائص عنه تعالى كالسفول، والحلول والاختلاط بالمخلوقات، والله أعلم.
وهذه اٍلأسماء الأربعة منحصرة في النفي والإثبات1 ا. هـ
قال الفخر الرازي في شرح الأسماء الحسنى: "الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة:
1-
ثابتة في حق الله قطعاً.
2-
ممتنعة قطعاً.
3-
ثابتة ولكن مقرونة بكيفية.
فالقسم الأول: فيه ما يجوز ذكره مفرداً ومضافاً وهو كثير جداً، كالقادر والقاهر. ومنه ما يجوز مفرداً ولا يجوز مضافاً إلا بشرط، كالخالق فيجوز (خالق) ويجوز خالق كل شيء مثلاً ولا يجوز خالق القردة2" اهـ.
قلت: وإنما منع ذلك تأدباً مع الله سبحانه وتقديراً له جل وعلا، وإلا فإن القردة داخلة في عموم قوله:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
ومنه عكسه. يجوز مضافاً، ولا يجوز مفرداً كالمنشئ، ويجوز منشئ الخلق، ولا يجوز منشئ فقط، قلت: لأنه إنما يستعمل في حقه تعالى من حيث المعنى لا لأنه من أسمائه الواردة (لأن أسماء الله توقيفية عند أهل السنة بخلاف المعتزلة) .
وقد استطرد الحافظ ابن حجر إلى ذكر (الاسم الأعظم) الذي إذا دُعي به لا يرد، وذكر اختلاف أهل العلم فيه منهم من أنكره مثل أبي جعفر الطبري، وأبي الحسن الأشعري، وجماعة بعدهما كأبي حاتم ابن حبان، والقاضي أبي بكر الباقلاني، فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض، ونسب ذلك بعضهم لمالك لكراهته أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها من السور (لئلا يظن أن بعض القرآن أفضل من بعض) ، فيشعر ذلك
1 المصدر السابق.
2 الفخر الرازي شرح الأسماء الحسنى ص: 37-38 طبع المكتبات الأزهرية.
باعتقاد نقصان المفضول، وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم، (وجعلوا اسم التفضيل على غير بابه)(وهو أسلوب معروف عند علماء العربية) ، وأن أسماء الله كلها عظيمة.
وقال ابن حبان: "الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك. كما إذا أطلق ذلك في القرآن، المراد به مزيد ثواب القارئ، وقيل: المراد بالاسم الأعظم، كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقاً بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتى له ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق، وعن الجنيد وعن غيرهما.
وقال آخرون: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم، ولم يُطْلِعْ عليه أحداً من خلقه وأثبته آخرون، واضطربوا في ذلك1"اهـ.
ثم ذكر أربعة عشر قولاً فرأيت أن أقتصر على أحد عشر قولاً2 فقط، وهي الأقوال التي تطمئن إليها النفس تقريباً، نسردها فيما يلي:
1-
إن الاسم الأعظم (الله) لأنه لم يطلق على غيره سبحانه، ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى، ومن ثم أضيفت إليه.
2-
(الله الرحمن الرحيم) ولعل مستند هذا القول ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: " أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم، فلم يفعل"، فصلّت ودعت:"اللهم أني أدعوك الله، وأدعوك الرحمن، وأدعوك الرحيم بأسمائك الحسنى كلها، ما علمت منها ومالم أعلم" الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها:"إنه في الأسماء التي دعوتِ بها"، قال الحافظ ابن حجر: سنده ضعيف، وفي الاستدلال به نظر لا يخفى3" اهـ.
1 فتح الباري، كتاب الدعوات 13/481-483.
2 محاولاً اختيار الأقوى فالأقوى من الأقوال من حيث الدليل، فيما يظهر لي والله أعلم.
3 فتح الباري 13/483.
ولعل ذلك النظر الذي أشار إليه الحافظ رحمه الله: أن عائشة إنما دعت بالله، والرحمن، والرحيم، وجميع الأسماء الحسنى ما علمت منه وما لم تعلم.
فالاستدلال بالحديث على بعض ما دعت به دون بقية الأسماء غير وارد. والله أعلم.
3-
(الرحمن الرحيم، الحي القيوم) لما أخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، وفاتحة سورة آل عمران {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} "، أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي، وحسنه الترمذي بل قد (صححه) ، وفيه نظر لأنه من رواية شهر بن حوشب.
4-
(الحي القيوم) أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة: " أن الاسم الأعظم في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه"، قال القاسم الراوي عن أبي أمامة: التمست منها فعرفت أنه (الحي القيوم) ، وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان على صفة العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما.
5-
(الحنان، المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، الحي القيوم) ، ورد ذلك مجموعاً في حديث أنس عند أحمد والحاكم وأصله عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان.
6-
(ذو الجلال والإكرام) أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل. قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: يا ذا الجلال والإكرام) فقال: "قد استجيب لك فسل" واحتج له الفخر الرازي بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية، لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات.
7-
(الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفواً أحد) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، من حديث بريدة، وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك.
8-
(رب رب) أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء وابن عياض، بلفظ (اسم الله الأكبر رب) وأخرجه ابن أبي الدنيا عن عائشة: إذا قال العبد يا رب يا رب، قال الله تعالى:"لبيك عبدي سل تعط "، رواه مرفوعاً وموقوفاً.
9-
دعوة ذي (النون) أخرجه النسائي والحاكم عن فضالة بن عبيد – رفعه - دعوة ذي النون في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ولم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له.
10-
هو مخفي في الأسماء الحسنى ويؤيده حديث عائشة المتقدم لها دعت ببعض الأسماء الحسنى، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "أنه لفي الأسماء الحسنى التي دعوت بها".
11-
كلمة التوحيد، نقله عياض1اهـ.
هكذا ينتهي الكلام على الباب الأول (الأسماء الحسنى والصفات العلى والفرق بينهما) بعد أن أثبتنا أن أسماء الله تعالى مشتقة من صفاته أو تدل على صفاته تعالى على اختلاف أنواعها. والله الموفق.
1 فتح الباري، كتاب الدعوات ج 13، والتلخيص الحبير ج 4 الإيمان.