الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه
للدكتور محمد أمان بن علي الجامي
رئيس شعبة العقيدة بالدراسات العليا بالجامعة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وعطائه الذي لا يستقصى، أحمده كما ينبغي لجلاله، وكريم عطائه، وعظيم سلطانه، وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على نبيه المصطفى وآله وصحبه.
أما بعد: فلما كانت معرفة الله تعالى أول ما يجب على الإنسان في دينه، وكانت هذه المعرفة - لا تتم على الوجه الأكمل- إلا بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله في خلقه، والإيمان بتلك الأسماء والصفات والأفعال، وإقرارها، إذ بها تعرف الله إلى عباده سبحانه.
وعلى الرغم من هذا كله قد تعرض باب الأسماء والصفات لعواصف شديدة هُوجٍ منذ زمن طويل، فنقلت تلك العواصف أشياء كثيرة من أماكنها، وألقت بها في غير مواضعها، فتغيرت بسبب ذلك مفاهيم عديدة، فالتبست مسائل هذا الباب على كثير من الناس، حتى عجز أغلب طلاب العلم عن التمييز، بين الحق والباطل، فربما انعكس عليهم الأمر فرأوا الحق باطلاً، والباطل حقاً، مع العلم أن معرفة الله التي لا تتم إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، هي زبدة دعوة الرسل، وخلاصتها، وعندها تلتقي جميعها مع اختلاف مناهجها وشرائعها، لأن جميع الرسل إنما أرسلوا ليعرفوا الناس ربهم وخالقهم فيعبدوه في ضوء تلك المعرفة، فلما كان باب الأسماء والصفات بهذه المثابة، وله هذه المكانة- وقد تعرض مع ذلك للعواصف التي وصفتها، ووصفت آثارها - جعلت موضوع رسالتي لنيل درجة (الدكتوراه) إن شاء الله معالجة مباحث هذا الباب، بعنوان: (الصفات الإلهية في الكتاب
العام نحو هذا التراث، ولكن ليس هذا محل الحديث عنه فلندعه جانباً.
هذا هو سر اتجاهي إلى هذا الموضوع الذي بين أيدينا كما قلت، إذ تتبعت نصوص الصفات في الكتاب والسنة فحاولت فهمها، كما فهمها السلف الصالح مستنيراً بآثارهم وتفاسيرهم، ثم عرضتها جاعلاً الأدلة النقلية هي الأساس في الاستدلال مع عدم إهدار الأدلة العقلية، هذه طريقتي التي سلكتها في عملي ومنهجي الذي سرت عليه بتوفيق الله.
فشملت محتوياتها مدخلاً للبحث، وسبعة أبواب، وخاتمة.
أما المدخل فقد اشتمل على تسعة مباحث، وتشتمل بعض المباحث على فصول وفقرات.
فتناولت في المبحث الأول بيان معنى السنة لغة واصطلاحاً مع سوق الأدلة اللغوية والشواهد.
كما تحدثت في المبحثين الثاني والثالث عن مسألتي حجية القرآن والسنة في باب العقيدة، وحجية أخبار الآحاد في إثبات الصفات.
ثم تعرضت بالمناسبة في المبحث الرابع لإبطال شبه الذي يزعمون الاكتفاء بالقرآن دون السنة في باب العقيدة وغيره، وبينت بطلان زعمهم عقلاً وشرعاً.
ثم تحدثت في المبحث الخامس عن منهج السلف في إثبات صفات الله تعالى واستعمالهم الأدلة النقلية والعقلية في ذلك، وذكرت القواعد التي ينبني عليها منهجهم، القاعدة الأولى: تقديم النقل على العقل، وقد تحدثت عن هذه القاعدة بإسهاب، القاعدة الثانية: رفض التأويل في باب الأسماء والصفات، خيشة القول على الله بغير علم، وحذراً من الزيغ، لأن المعنى المؤول إليه ظني قطعاً بالاتفاق، القاعدة الثالثة: عدم التفريق بين الكتاب والسنة، لأنهما وحيان من عند الله على تفصيل مذكور في صلب الرسالة.
ثم انتقلت إلى المبحث السادس لأتحدث عن مفهوم الذات الإلهية عند علماء الحديث والسنة، ثم تحدثت في الفقرات التي بعدها عن مفهوم
الإلهية لغة واصطلاحاً، ثم تكلمت عن معنى الصفة والنعت لغة واصطلاحاً، والفرق بينهما، ثم تحدثت عن مفهوم الذات في القرآن، ومفهوم الذات في السنة النبوية.
ثم انتقلت إلى المبحث السابع فتحدثت فيه عن بعض كبار أئمة المسلمين الذين دافعوا عن منهج السلف، وجددوا للناس دينهم وعقيدتهم، وذكرت نماذج من كلامهم، وهم:
- الإمام أحمد بن حنبل.
- والإمام البخاري.
- والإمام الدارمي.
- والإمام تقي الدين أحمد بن تيمية.
- والإمام محمد عبد الوهاب التميمي الذي تحدثت عن آثار دعوته في العالم المعاصر، واستمراريتها.
ثم انتقلت إلى المبحث الثامن، فناقشت فيه المعتزلة والأشاعرة في موقفهم من نصوص الصفات.
وأما في المبحث التاسع فقد تحدثت عن أسباب انتشار العقيدة الأشعرية على الرغم من رجوع الإمام أبي الحسن الأشعري عنها، ثم تحدثت عن توبة كبار شيوخ الأشاعرة الذين رجعوا إلى منهج السلف في آخر المطاف بعد أن قضوا جلّ حياتهم في علم الكلام، وذكرت منهم أبا الحسن الأشعري والجويني الأب والجويني الابن، والشهرستاني، والفخر الرازي، والغزالي رحمهم الله.
ثم انتهيت إلى الأبواب الرئيسية في الرسالة، فتناولت في الباب الأول: الأسماء الحسنى، والصفات العلى بالحديث بإسهاب مبيناً الفرق بين الصفات والأسماء، وتلازمهما.
ثم تحدثت عن أنواع الصفات عند السلف والخلف، في أربع فقرات في الباب الثاني، تحدثت في الفقرة الأولى
عن الصفات السلبية، وفي الفقرة الثانية عن الصفات الثبوتية، وتناولت في الفقرتين الثالثة والرابعة صفات الذات، وصفات الأفعال.
وأما في الفصل الأول من هذا الباب فقد تحدثت عن الصفات الشرعية العقلية، والصفات الخبرية.
وفي الفصل الثاني تكلمت على مسألة التجدد في الصفات والأفعال.
ثم تناولت في الفصل الثالث بيان معاني الصفات الخبرية، وصفات الأفعال عند السلف والخلف بالجملة.
وفي الفصل الرابع تحدثت عن معانيها بالتفصيل بعد أن أطلقت عليها: (الصفاتُ العشرون المختارةُ) تحدثت في فقرة (أ) عن صفات الأفعال، صفة صفة وهي اثنتا عشرة صفة - وفي الفقرة (ب) - تكلمت عن الصفات الخبرية وهي ثماني صفات، وتحدثت عن كل صفة على حدة، مستنداً في كل ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة، وقد بينت سبب اهتمامي بهذه الصفات المختارة هناك.
ثم انتقلت إلى الباب الثالث لأتناول بالبحث العلاقة بين الصفات والذات.
وفي الباب الرابع تحدثت عن طبيعة علاقات الصفات بعضها ببعض من حيث الآثار والمعاني.
وأما في الباب الخامس، فقد بينت في فقرة (أ) حكم من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة، وفصلت القول في ذلك، وأما في فقرة (ب) فتحدثت عن حقيقة الإلحاد في الأسماء والصفات، مع بيان أنواعه مدعماً كل ما ذكرت بأدلة من الكتاب والسنة وذكر الأمثلة من الواقع المُشاهَد.
ثم تكلمت في الباب السادس عن خلاصة المقارنة بين موقف السلف وموقف الخلف من معاني الصفات بصفة عامة.
ثم انتقلت إلى الباب السابع فبينت فيه آثار الصفات الإلهية في النفس البشرية والكون.
والسنة النبوية في ضوء التنزيه والإثبات) ، نعم هذا هو السبب الذي من أجله اخترت هذا الموضوع، لأني تأكدت أن مسائل هذا الباب لم تكن محل عناية ودراسة اليوم -كما يجب- وأن العقيدة السلفية صار يجهلها كثير من شبابنا، ويتصورونها بغير صورتها، ليس العقيدة السلفية (التفويض المطلق) كما يظن كثير منهم، وليست هي تلك الحيرة التي يسمونها (الوقوف) كما يظن البعض الآخر، بل هي شيء آخر وراء ذلك كله، ولكنها سهلة وواضحة كل الوضوح إذا فهمت على حقيقتها، إذ ليس فيها أدنى غموض وهي بريئة من التعقيد والتفلسف.
وهي أن يفهم التالي لكتاب الله معاني نصوص الصفات التي تصف الله تعالى بأنه سميع بصير مثلاً، ويثبتها على ظاهرهما كما يليق بالله، ويثبت له كلاماً حقيقياً يسمع، ووجها كريماً يرى يومَ القيامة ويدين مبسوطتين، إلى آخر الصفات التي سوف تمر بنا في هذه الرسالة، يثبتها ولا يؤولها، فيحرفها بالتأويل (مفوضاً) إلى الله عز وجل حقيقتها وكيفيتها، كيلا يتوهم أن حقيقة سمعه وبصره كحقيقة سمع المخلوق وبصره، ولئلا يتوهم أن إثبات الكلام الحقيقي له سبحانه يلزم منه إثبات مخارج الحروف المعتادة كاللسان والشفتين، ولئلا يظن أيضاً أن إثبات الوجه والقدم واليدين مثلاً يعني إثبات الجوارح له سبحانه، كل ذلك غير وارد، لأن لوازم صفات المخلوق لا تلزم صفات الخالق، كما أن لوازم ذوات المخلوق لم تلزم ذاته سبحانه، إذ لا مناسبة بين الخالق والمخلوق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1.
بل الواجب إثبات هذه الصفات على الوجه الذي يليق بالله عز وجل
1 سورة الشورى آية: 11.
دون تمثيل، أو تشبيه، لأنه تعالى له يد حقيقية يأخذ بها، ويقبض، ويعطي، ويطوي بها السموات كما يليق به سبحانه.
وفي ضوء هذا الشرح والبيان لعقيدة السلف بالاختصار، يلزم كل من يريد أن يفهم هذه العقيدة أن يفرق بين التفويضين اللذين سبق أن أشرنا إليهما.
أحدهما: تفويض المعنى والحقيقة والكيفية معاً بحيث يكون حظ التالي لكتاب الله مجرد سرد النصوص دون فهم لمعانيها بالنسبة لنصوص الصفات، وهو الذي سميناه - فيما تقدم - التفويض المطلق، فنسبة هذا التفويض إلى السلف خطأ، ومنشأ هذا الخطأ أن هذه العقيدة ليست محل عناية ودراسة - كما قلت - وإنما يتحدث الناس عنها حديثاً عابراً وعادياً لا مصدر له، فيقول القائل: إن السلف الصالح لا يفهمون معاني آيات الصفات وأحاديث الصفات، ثم تتناقل الناس هذا النوع من الثناء (الفريد) ومعنى ذلك أن عقيدة السلف لا يتصورها كثير من الناس في الوقت الحاضر، وهذا مما يشغل بال المصلحين المهتمين بشئون المسلمين، ويحزنهم كثيراً، لأن جهل المرء ما يعتقده نحو ربه وخالقه ومعبوده ليس بالأمر الهين، بل هو من الخطورة بمكان.
أما النوع الثاني من التفويض: فهو تفويض الحقيقة والكيفية مع فهم معاني النصوص وتدبرها وتعقلها، وهذا ما يدين الله به السلف قديماً وحديثاً، فَلْيُفْهَم جيداً، لنفرق بين التفويضين، ولبيان هذه الحقيقة لا بد من عرض العقيدة السلفية كما فهمها السلف الذين نزل فيهم القرآن بلغتهم، ويجانب ذلك لا بد من عرض ما يقابلها من الآراء المحدثة المخالفة لأن الأشياء تعرف بأضدادها، كما تعرف بنظائرها - كما يقولون - هذه هي الغاية التي نسعى إليها ونريد -تحقيقها من وراء هذا البحث بإذن الله، وهي تتلخص في نقطتين اثنتين:
1-
عرض العقيدة السلفية على حقيقتها كما فهمها السلف، لذا استخدمنا هذا المنهج التاريخي الاصطلاحي.
2-
عرض الآراء المخالفة لها لأجل المقارنة من باب معرفة محاسن الأشياء بأضدادها، فكان المنهج المقارن هو وسيلتي في هذا المعنى.
ثم إنني حاولت في عرضها أن أجعل الصفات الخبرية وصفات الأفعال التي اختلف فيها السلف والخلف كثيراً نقطة ارتكاز للبحث في موضوعات الرسالة مع عدم إهمال بقية الصفات.
وقد حرصت هذا الحرص للأمور الآتية مستعيناً بالله وحده:
الأمر الأول: هو رجاء أن ينفع الله بما سجلت في هذه الرسالة من المسائل والمناقشات لتصحيح تلك المفاهيم الخاطئة لدى طلبة العلم الذين قد يحتاجون إلى مثل هذه البضاعة المتواضعة، وهم الذين نخاف عليهم من التأثر بذلك الخلط بين منهج السلف ومنهج أهل التفويض والوقوف والحيرة.
الأمر الثاني: الرغبة الشديدة في المساهمة في تخفيف حدة الخلاف بين الفريقين: السلف والخلف المعاصرين ببيان منهج السلف على حقيقته في باب الأسماء والصفات عامة، وفي الصفات المختلف فيها خاصة، لأن منهج السلف أصبح مجهولاً لدى كثير من شبابنا كما قلت، ولأن القضاء على الخلاف أو تخفيفه إنما يكون بعد توفيق الله وعونه ببيان الحقائق بأسلوب صريح وواضح، وذكر المحاسن والمثالب للطرفين، وتنوير الناس في أمرهم في ضوء الواقع، ولقصد النصح والإصلاح والتصحيح.
الأمر الثالث: المساهمة – بالمستطاع - في نشر التراث السلفي الذي خلفه لنا أولئك الرجال الذين صدقت عزائمهم، وخلصت نياتهم في خدمة هذا الدين، فخلفوا لنا تراثاً عظيماً تجب المحافظة عليه، ونشره بين الناس، وردّ الشبه عنه بكل ما نملك من أساليب ووسائل، هنا يحس المرء بالتقصير
ثم انتهيت إلى الخاتمة بتوفيق الله تعالى فسجلت فيها النتائج التي أسفر عنها البحث بتفصيل وإسهاب، هذا ما اشتملت عليه الرسالة من المباحث في أبوابها وفصولها.
فأرجو أن أكون قد وفقت في عرض محتوياتها كما وردت فيها.
وبعد، فلا يسلم - في الغالب الكثير- أي بحث من صعوبات تواجهه، ولكن من فضل الله عليّ وتوفيقه لم يصادف بحثي أي صعوبة عرقلت سيره، أو أثرت في نتائجه، وكل الذي يمكن اعتباره صعوبة هو ما صادف الباحث أحياناً من صعوبة العثور على بعض المراجع والمصادر لبعض النقاط والمسائل فشغل وقته بالتفكير والبحث عنها، في مظانها في المكتبات، ولا سيما بعض المصادر المخطوطة، ولكنني لم أضطر إلى شد الرحل من المدينة المنورة بحثاً عنها خارج المدينة، بل استطعت -بتوفيق من الله- التغلب على ذلك النوع من الصعوبة بتعاون من مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تلك المكتبة الحافلة بالمصادر المطبوعة والمخطوطة، وبعض المكتبات الأخرى في المدينة.
هكذا انتهيت من هذا العمل الذي أسأل الله تعالى أن يجعله مباركاً ومقبولاً لديه سبحانه، أحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأسأله المزيد من فضله، إنه خير مسئول وأكرم معط.
هذا
…
وإن كنت قد أصبت وقدمت ما يحقق الغرض المنشود من بحثي هذا فذلك من فضل الله وتوفيقه سبحانه - وله الحمد والمنة - وإن كانت الأخرى فمن زلات قلمي وتقصيري - وما أكثر تقصيري- فأستغفر الله الغفور الرحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على أفضل رسله، وصفوة أنبيائه محمد وآله وصحبه
…
تمهيد
…
المدخل
المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحاً
السنة لغة:
السنة، والسنن بمعنى واحد، يقال: استقام فلان على سنن واحد، ويقال: امض على (سننك) أي على وجهك، وتنح عن (سنن) الطريق، و (سننه) ثلاث لغات (السنة) السيرة1.
(السنة) : الطريقة قبيحة كانت أو حسنة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"2.
وسن الطريق سنها سنا سار عليها، وقال خالد بن عتبة:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
…
فأول راض سنة من يسيرها
وقال الأزهري: "السنة الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل: فلان من أهل السنة أي من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة"اهـ3.
والسنة من النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها (حكمه، وأمره، ونهيه) مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو نهى عنه، أو ندب إليه قولاً وفعلاً، مما لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال: أدلة الشرع: الكتاب والسنة، أي القرآن والحديث.
1 مختار الصحاح.
2 رواه مسلم في 4/2059 رقم 1017، وأحمد 4/357، 358 من حديث جرير بن عبد الله.
3 تاج العروس.
ومن ذلك حديث في الموطأ: " إني لأَنْسى أو أنسَّى لأَسنَّ" 1، أي إنما أدفع إلى النسيان لأسوق الناس بالهداية إلى الطريق المستقيم، وأبين لهم ما يحتاجون أن يفعلوه إذا عرض لهم النسيان، ويجوز أن يكون من سننت الإبل إذا أحسنت رِعْيَتَها، والقيام عليها.
ومنه نزل المحصب، "ولم يسنَّه" أي نزول المحصب، أي لم يجعله سنة يعمل بها، وقد يفعل الشيء لسبب خاص فلا يعم غيره، وقد يفعل لمعنى، فيزول ذلك المعنى، ويبقى الفعل على حاله متبعاً، كقصر الصلاة في السفر للخوف، ثم استمر القصر مع عدم الخوف، صدقة من الله على عباده، كما ورد في السنة.
ومن حديث ابن عباس: " رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسنه " أي لم يسنَّ فعله لكافة الأمة، ولكن لسبب خاص، وهو أن يُرى المشركين قوة الصحابة، وهو مذهب ابن عباس، وأما غيره فيرى أن الرمل في طواف القدوم سنة باقية، وعليه العمل بين المسلمين.
ومن ذلك: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب "2، يعني المجوس في أخذ الجزية منهم، وقد ساق أبو السعادات (ابن الأثير) طائفة كبيرة من أمثلة هذا النوع، وقال الراغب: سنة النبي صلى الله عليه وسلم طريقته التي كان يتحراها، وسنة الله عز وجل طريقة حكمه وطريقة طاعته، نحو قوله تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} 3، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} 4، وقوله تعالى:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} 5.
1 رواه مالك في الموطأ بلاغا 1/121.
2 أخرجه مالك في الموطأ 1/207.
3 سورة الفتح آية: 23.
4 سورة فاطر آية: 43.
5 سورة الكهف آية: 55.
وقال الزجاج: أي معاينة العذاب، وقال شَمَّر:(السنة في الأصل) سنة الطريق، وهي طريقة سنها أوائل الناس، فصارت مسلكاً لمن بعدهم1.
ورجل مسنون الوجه ملمسه، وقيل: حسنه وسهله، وقيل: الذي في وجهه وأنفه طول، (والسنين) كأمير ما يسقط من الحجر إن حككته2اهـ.
المعنى الاصطلاحي:
يطلق جمهور علماء الحديث (السنة) على ما يقابل البدعة، فيقولون: فلان على السنة إذا كان عمله وتصرفاته الدينية وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال: فلان على خلاف السنة، أو فلان مخالف للسنة إذا كان مبتدعاً، وعاملاً على خلاف هديه عليه الصلاة والسلام.
يقول الإمام النووي رحمه الله: " (السنة) سنة النبي عليه الصلاة والسلام وأصلها الطريقة، وتطلق سنته عليه الصلاة والسلام على الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم"3 اهـ.
هذا إطلاق من إطلاقات السنة عند المحدثين، وتطلق السنة على المندوب، وهو خلاف الواجب. قال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات:"قال جماعة من أصحابنا في أصول الفقه: السنة، والمندوب والتطوع والنفل، والمرغب فيه والمستحب، كلها بمعنى واحد، وهو ما كان فعله راجحاً على تركه، ولا إثم في تركه يقال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أي: شرعه، وجعله شرعاً4"اهـ.
1 تاج العروس.
2 المصدر السابق.
3 تهذيب الأسماء واللغات 2/156.
4 المصدر نفسه 2/156.
هذا اصطلاح جمهور الفقهاء على اختلاف مذاهبهم غالباً، وقد يتوسع في استعمال السنة حتى تشمل فعل الخلفاء الراشدين المهديين، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"1، إلا أنها إذا أطلقت عند المحدثين تنصرف - غالباً- إلى أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، وأفعاله وتقريراته.
والسنة بهذا المعنى أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهي القسم الثاني.
فالسنة إذاً صنو القرآن، ومنزلة من عند الله (معنى)، ويشهد لما ذكرنا القرآن الكريم نفسه إذ يقول الله تعالى في حق نبيه عليه الصلاة والسلام:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 2، والآية كما ترى صريحة في أن كلام الرسول وحديثه فيما يبلغ عن الله من التشريع ليس حديثاًَ عادياً ينطق به عليه الصلاة والسلام كما يشاء، ولكنه كلام ينطق به بوحي من الله، فأمره عليه الصلاة والسلام من أمر الله سبحانه، ونهيه من نهيه، وما أحله مثل ما أحل الله، وما حرَّمَه مثل ما حرَّمه الله وهكذا.
وأما القسم الأول من قسمي الوحي فهو القرآن الكريم، وهو من عند الله لفظاً ومعناً، لأنه كلامه الذي خاطب به نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام، وهو المصدر الأول للعقيدة والشريعة والحجة القاطعة.
الفرق بينهما:
الفرق بين القرآن والسنة واضح كما يظهر مما ذكرنا آنفاً من حيثية
1 أخرجه أحمد 4/126، والدارمي 1/44، وأبو داود 5/14، والترمذي 5/44، وابن ماجه 1/15، 16، وابن أبي عاصم في السنة 1/31، والحاكم 1/95-97 في حديث طويل من حديث العرباض بن سارية، وصححه الترمذي والحاكم والذهبي والألباني.
2 سورة النجم آية: 3، 4.
واحدة، وهي أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، متعبد بتلاوته، ولا تصح الصلاة إلاّ به، وهو من المعجزات الخالدة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد أعجز بلغاء العرب وأقعدهم.
وأما السنة فهي من عند الله من حيث المعنى، وأما ألفاظها فمن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتعبد بتلاوتها، ولا تصح الصلاة بها، وليست بمعجزة ويجوز روايتها بالمعنى بشروطها.
وأما من حيث ثبوت الأحكام بها، والاستدلال بها في فروع الشريعة وأصولها فلا فرق بين القرآن والسنة من هذه الحيثية، إذا ثبتت السنة عند أهلها بالطريقة المعروفة عندهم.
وأما الأحاديث القدسية - وإن كانت من عند الله لفظاً ومعنى - على خلاف في ذلك لأنهم مختلفون في تعريف الحديث القدسي- إلا أنها مثل الأحاديث النبوية في عدم التعبد بتلاوتها، وعدم صحة الصلاة بها، وأما من حيث ثبوت الأحكام والعقائد بها فهي مثل القرآن والسنة الصحيحة على ما تقدم1.
هذا ما سنتناوله بالبحث إن شاء الله.
1 راجع المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن القيم ص40 تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار السلام - القاهرة.
المبحث الثاني: حجية القرآن والسنة في باب العقيدة
إنه لموقف يثير تساؤلا؟!!
هل من الجائز أن يبحث مسلم استسلم لربه، وتعاليم نبيه عن حجية القرآن والسنة، أو عدم حجيتهما وهو لا يزال مسلما؟!!
هل من الجائز أن يتوقف كاتب مسلم في صلاحية القرآن والسنة للاستدلال بهما في باب العقيدة، بينما هو يستدل بما يظن أنه معقول العقليين دون أدنى توقف؟!!
الجواب: لا.
إن هذه النهاية التي انتهى إليها أمر العقيدة الإسلامية هي التي تجعلنا نكتب تحت هذا العنوان حيث أصيب كثير من المثقفين من أبناء المسلمين باضطراب في عقائدهم. ذلك الاضطراب الذي أساسه إعراضهم عن كتاب ربهم، وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام1، إذ صار حظهما عندهم تقديس ألفاظهما تقديساً شكلياً مع هجرانها في العمل والتحكيم وعدم الرجوع إليها لأخذ أسس العقيدة منهما.
1 وربما يعود أيضاً إلى أثر الثقافة الغربية والمناهج التعليمية التي خططها ونفذها دعاة التغريب في العالم الإسلامي. ولعل أول أهدافهم توهين الصلة بالكتاب والسنة وإبعادهما عن الزاد العلمي والثقافي الذي ينبغي أن يصبح في المكانة الأولى من اهتمام المسلم.
هما اتجاهان متناقضان: العناية التامة بألفاظ القرآن والسنة يحفظهما عن ظهر قلب، وطبعهما أحسن طباعة، ونشرهما بين القراء، وتخصيص مدارس ومعاهد وكليات لهما، وتخصيص إذاعة خاصة تعرف بـ (إذاعة القرآن الكريم) في بعض العواصم العربية والإسلامية، وهو أمر لم يسبق له نظير في التاريخ، وهو اتجاه كريم يستحق التقدير والإعجاب، ويقابل ذلك إعراض تام عنهما، وعزلهما عن حياة الأمة العامة والخاصة، مع الانحلال التام والبعد عن تعاليمهما ومبادئهما إلا من شاء الله، وقليل ما هم، وإذا أردنا أن نعرف تاريخ بدء هذا الانقسام، فلا بد من الرجوع إلى الوراء.
وبعد نشأة (علم الكلام) في العصر العباسي، في أواخر عصر بني أمية انقسم الناس ثلاث فرق في هذا الباب:
1-
أتباع السلف الصالح التابعون لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سلك مسلكهم، واقتفى أثرهم من أهل الحديث في كل عصر ومصر، الذين نرجو أن يكونوا هم الفرقة الناجية. وطريقتهم الإيمان بكل ما جاء في الكتاب والسنة من شريعة وعقيدة، وإثبات صفات الله الواردة فيهما على ظاهرها اللائق بالله دون التورط في التأويل ظناً وتخميناً، ودون تشبيه وتمثيل جرأة على الله إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1، وهم أيضاً يقولون بالآيات الكونية الدالة على وجود الله العليم الحكيم، وأفعاله الصادرة عن حكمة بالغة كما لا يهملون الأدلة العقلية، إذ لا يجوز تعطيل العقل في مجال العقيدة وغيرها، لأن العقل أساس التكليف، ومناط الأهلية، إلا أنه لا يجوز أن يتجاوز حدوده ويتجاهل وظيفته، ويجمح في مجال الخيال الفاسد، والأوهام الكاذبة بعيداً عن نور الوحي.
والخيال والوهم لا يصلحان أساساً للعقيدة والمعرفة الصحيحة
1 سورة الشورى آية: 11.
حتماً1، علماً بأن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح2.
2-
فريق يؤمن بالجملة بالله وبكلامه (القرآن) ، وبسنة نبيه إيماناً فاتراً خالياً عن الحرارة والحلاوة. وهذا الفريق يستدل على ما آمن به من كمالات الله - في حدود تصوره- بالأدلة العقلية التي يسميها بالبراهين القطعية، ولا يرى الاستدلال بأدلة الكتاب والسنة، بدعوى أنها أدلة ظنية لا تفيد العلم اليقيني. وهو موقف أهل الكلام بالجملة علماً بأنهم فرق شتى، وقد تسربت بعض عقائدهم، ودخلت على الأشاعرة المتأخرين من حيث لا يعلمون، وسيأتي تفاصيل ذلك إن شاء الله.
3-
فريق يبدأ عقيدته من ذهن خال، فيأخذ في التفكير والبحث الدقيق ليصل بتفكيره وبحثه إلى الإيمان، بعد أن يقطع أشواطاً طويلة في التأني والسير خطوة خطوة حتى يصل للإيمان بأي شيء، أدى إليه تفكيره، فيؤمن به ويسميه حقيقة. يشبه بعض الكتاب هذا الفريق بقاضٍ عدل عرضت عليه قضية ما وهو خالي الذهن، فجعل يستمع إلى أقوال الخصوم وحججهم، حتى يدرك موقع الحق من عرض حججهم، فيحكم بينهم بما أدى إليه اجتهاده، بعد ذلك العرض الطويل من أقوال الخصوم وحججهم، وهؤلاء هم الفلاسفة الذين يسمون أنفسهم (بالحكماء) في الوقت الذي يسمون فيه غيرهم بالعوام، وقد يثبتون واسطة أحياناً، وهم علماء الكلام كما يقول أبو الوليد بن رشد:(إن علماء الكلام ليسوا بالعلماء -الحكماء- وليسوا من العوام) بل يسميهم (جدليين) .
هكذا تفرق المسلمون في موقفهم من أدلة الكتاب والسنة، وهو الذي دعانا للكتابة في هذا الموضوع (حجية القرآن والسنة في مبحث العقيدة) .
1 أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام ص: 67.
2 وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه القاعدة كتاباً، وهو مطبوع على هامش منهاج السنة باسم (موافقة العقل للنقل، وهو كتاب درء تعارض العقل والنقل الذي حققه الدكتور محمد رشاد سالم، وتم طبعه ونشره بواسطة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض) .
وبعد: فالقرآن والسنة هما المصدران الأساسيان لكل بحث في العقيدة، لأنهما وحيان من الله، ويمثلان الرسالة التي كلف الله بها رسله المختارين من البشر، لتكون رابطة بين السماء والأرض، وتحمل إلى سكانها أخبار السماء، أحكاماً ربانية وتعليمات وتوجيهات إلهية.
وقد كانت تلك الرسالات متحدة في أصول الدين والإلهيان، إذ كانت كلها تنادي أول ما تنادي:{اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1.
إذ كانت كلها تخرج من مشكاة واحد أي (من عند الله) ، ولو كانت من مصادر متعددة لاختلفت وتضاربت، ولكنها كانت متنوعة ومختلفة في الشريعة والمناهج. حيث جعل الله لكل نبي ورسول شرعةً ومنهاجاً، يناسب أحوال وظروف أمته رحمة منه سبحانه ولطفاً، إنه لطيف بعباده.
ولقد كان كل نبي يبعث إلى قومه وبلسان قومه في ضوء منهج معين، وتشريع محدود ومؤقت. {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} 2 واستمرت هذه السنة هكذا مدة من الزمن طويلة لحكمة يعلمها العليم الحكيم {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} 3.
ولما حان الوقت الذي أراد الله أن يختم فيه رسالاته إلى أهل الأرض اختار من بين عباده نبيه المصطفى محمداً من أمة أمية (العرب) ، وقد كانت على فطرتها السليمة دون أن تتأثر بأي حضارة من الحضارات القائمة في ذلك الوقت، الحضارة الفارسية، والرومانية، والهندية، وغيرها، اختاره ليرسله إلى الناس كافة، وليختم به الرسالات، وبعد تمهيدات وإرهاصات مرّت عليه في صباه بعثه إلى الناس كافة، وأنزل عليه كتابه الأخير الذي ختم به الكتب السماوية (القرآن الكريم) .
1 سورة الأعراف آية: 59.
2 سورة فاطر آية: 24.
3 سورة الفتح آية: 23.
وقد وصفه بأنه كتاب مبارك1، وأنه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 2. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 3، ولقد تكفل الله حفظ هذا الكتاب، إذ يقول عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 4، ووكل تبيانه إلى رسوله، وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يقول جل وعلا: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 5، وشهد له سبحانه أنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى في بيانه هذا وأداء أمانة الرسالة: {إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} 6، ولما كانت هذه مكانته وهذا شأنه أوجب الله طاعته، وحرم معصيته، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، إذ يقول عز من قائل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 7، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 8، فأمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول بعض أهل العلم عند تفسير هذه الآية: "أعاد الفعل مع طاعة الرسول إعلاناً بأن طاعته عليه الصلاة والسلام تجب استقلالاً، من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً سواء كان ما
1 انظر: سورة الآنعام آية: 6، وسورة الأنبياء آية: 21، وسورة ص آية:29.
2 سورة فصلت آية: 42.
3 سورة المائدة آية: 16.
4 سورة الحجر آية: 9.
5 سورة النحل آية: 44.
6 سورة النجم آية: 4، 5.
7 سورة محمد آية: 33.
8 سور النساء آية: 59.
أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه صلى الله عليه وسلم أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: ثم أمر الله تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله، إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك الرد خير لهم في العاجل وأحسن تأويلاً في العاقبة".
و (شيء) في قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} ، نكرة في سياق الشرط، تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دُقِّه وجُلِّه، ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه، فإنه من الممنوع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، وهو إجماع بين أهل العلم، وهذا يدل على أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيماناً، ولكنهم بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة1اهـ.
هذا.. ولا يشك مسلم مهما انحطت منزلته العلمية، وضعفت ثقافته، وضحلت معرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ما أنزل الله عليه من القرآن، ذلك لأن الإيمان بأن الله أنزل القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه بلغه كما نزل، وأنه بيّن للناس، وأوضح ما يحتاج إلى البيان والإيضاح، وأنه دعا الناس إلى معرفة الله بصفات الكمال، ولم يفتر عن الدعوة إلى الله وإلى تعريف العباد بربهم حتى التحق بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم.
1 إعلام الموقعين للحافظ ابن القيم بتصرف 1/48.
إن هذا المقدار من الإيمان من أصول هذا الدين وأساسه الذي ينبني عليه ما بعده من واجبات الدين وفروضه، إذا كنا نؤمن هذا الإيمان - ويجب أن نؤمن- فأين نجد بيانه عليه الصلاة والسلام، الذي به يتحقق امتثاله لتلك الأوامر؟
{بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} 1، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ} 3.
الجواب: نجد ذلك في سنته المطهرة التي هي خير تفسير للقرآن بعد القرآن، والتي قيض الله لها من شاء من عباده فصانوها، وحفظوها من كل قول مختلق، وكل معنى مزيف، ودونوها منقحة مصداقاً لقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 4 كما تقدم.
والذكر المنزل المحفوظ هو القرآن الكريم في الدرجة الأولى، والسنة تدخل في عموم الذكر عند التحقيق، وإنعام النظر وبيان ذلك:
إذا كان القرآن الكريم محفوظاً بنص الآية السابقة، فإن السنة المطهرة محفوظة أيضاً بدلالتها نفسها، وتوضيحه كالآتي:
1-
إنها داخلة في عموم الذكر، لأنها تذكّر، كما أن القرآن يُذَكّر.
2-
حفظ الله للقرآن الكريم يتضمن حفظ السنة لأنها بيان وتفسير له فحفظها من حفظه، وعلى كل حال فإن السنة المطهرة محفوظة ولا شك، وهو أمر يكاد أن يكون ملموساً لمس اليد، إذ قيض الله لها رجالاً أمناء ونقاداً أذكياء يدركون من العلل الخفية ما يعجز عن إدراكها غيرهم، منهم من قاموا بدراستها وحفظها سنداً ومتناً، وجمعها، ومنهم من عمدوا إلى غربلتها وتصفيتها حتى يتبين المقبول من المردود. ومنهم من دققوا في أحوال الرواة
1 سورة المائدة آية: 67.
2 سورة النحل آية: 44.
3 سورة النحل آية: 125.
4 سورة الحجر آية: 9.
حتى إنهم يدرسون أحوالهم راوياً راوياً، بل حتى إنهم ليعرفون آباءهم وأجدادهم ومشايخهم، وتلامذتهم الذين حدثوا عنهم إلى آخر تلك الخدمة الفريدة التي قدمت ولا تزال تُقدم للسنة المطهرة، ولله الحمد والمنة.
ومن خدمتهم للسنة أنهم قسموا الأحاديث إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
القسم الأول: الحديث الصحيح، وهو الحديث المسند القوي الذي يتصل بإسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط، من أول السند إلى منتهاه، وقد سَلِمَ من العلل والشذوذ، ومتى قالوا: هذا حديث صحيح، فمعناه: أنه اتصل سنده مع توافر سائر الأوصاف فيه، وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في توافر هذه الصفات فيه، أو لاختلافهم في اشتراط بعض هذه الأوصاف.
ثم إن الحديث الصحيح نفسه ينقسم إلى متفق عليه، ومختلف فيه، كما يتنوع إلى مشهور وغريب.
ويتفاوت الصحيح من حيث القوة أيضاً، فأقواه ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري وحده ثم ما انفرد به مسلم، وهكذا.
وقد يحكم بعضهم على سند بعينه أنه أصح الأسانيد على الإطلاق، فيرى الإمام إسحاق بن راهويه أن أصح الأسانيد كلها ما رواه الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر، ويوافقه على ذلك الإمام أحمد بن حنبل.
ويرى أبو بكر بن أبي شيبة أن أصح الأسانيد كلها: الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي.
بينما يرى الإمام البخاري صاحب الصحيح - وهو أول من صنف في الصحيح - أن أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر، وبنى على ذلك الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي أن أجل الأسانيد:
الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، واحتج بإجماع أصحاب الحديث على أنه لم يكن في الرواة عن مالك أجل من الإمام الشافعي رحمهم الله ورضي عنهم1.
هذا نوع من تلك الأنواع الكثيرة من خدمة السنة النبوية والاهتمام بها.
القسم الثاني: الحديث الحسن وقد عرفه بعضهم بأنه الذي عرف مخرجه واشتهر رجاله، بينما عرفه البعض الآخر بأنه الذي اشتهر رواته بالصدق والأمانة غير أنهم لم يبلغوا درجة رجال الصحيح، أي قد نقصت درجاتهم في الحفظ والإتقان عن درجات رجال الصحيح2.
فهذان النوعان يحتج بهما عند جمهور أهل العلم، لأن المدار عندهم على صحة الإسناد، وقد تحقق ذلك في النوعين مع التفاوت المشار إليه، ولا فرق عند الاحتجاج بين الصحيح والحسن لما ذكرنا من أن المدار على الصحة.
أما القسم الثالث: فهو الحديث الضعيف بأقسامه الكثيرة، وهو الحديث الذي لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح، ولا صفات الحديث الحسن المذكورات3. وقد بلغت أقسامه عند بعضهم إلى خمسين قسماً.
وهذا القسم مستبعد عن الاحتجاج به لا في الأصول ولا في الفروع اللهم إلا إذا كان الضعف يسيراً وتعددت طرقه فيرتفع عندئذ إلى درجة الحسن، فيقال له الحسن لغيره للتفريق بينه وبين الحسن لذاته4.
1 مقدمة ابن الصلاح ص: 8-9.
2 قال الإمام ابن تيمية: والترمذي أول من قسم الأحاديث إلى صحيح وحسن وغريب وضعيف، لم يعرف قبله عن أحد، لكن يقسمون الأحاديث إلى صحيح وضعيف، كما يقسمون الرجال إلى ضعيف وغير ضعيف اهـ.
شرح الحديث: إنما الأعمال بالنيات، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية 2 في الحديث، مكتبة المعارف الطائف ص:20.
3 المصدر السابق ص: 20.
4 انظر مقدمة ابن الصلاح ص: 17.
وهذه العناية بالشطر الأول من الحديث (وهو الإسناد) إذا أضيفت إلى الاهتمام بالشطر الآخر وهو (المتن) تدلنا دلالة واضحة على أن الله قد حفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما حفظ كتابه لأنها شارحة لكتابه، وتفسير له، كما تقدم بيان ذلك، وتعتبر المحافظة على الإسناد، وضبط الأحاديث باباً مهماً من الدين، حيث لا تجوز الرواية إلا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز، بل قد يكون واجباً فضلاً من أن يعد من الغيبة المحرمة1، لأن هذا الجرح نوع من النصح والذب عن الشريعة المطهرة، فيقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام:"الدين النصيحة"، وقد روى عبدان بن عثمان عن ابن المبارك أنه كان يقول:"الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"، ويقول العباس بن أبي رزمة2: سمعت عبد الله بن المبارك "يقول: بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد".
فشبه الحديث بالحيوان ذي القوائم، فكما أن الحيوان لا يقوم بغير قوائم، فكذلك الحديث لا يقوم بغير الإسناد، فتحت هذه العناية البالغة بالإسناد والمتن معاً وصلت إلينا السنة المطهرة، ثم إن هذا الإسناد الذي ينقل إلينا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة الدقيقة لا تتمتع به أية ملة أخرى، لا اليهودية ولا النصرانية، بل الإسناد من خصوصيات هذه الأمة المحمدية.
يقول صاحب كتاب (الوضع في الحديث) : "والإسناد بنقل الثقة عن مثله إلى النبي صلى الله عليه وسلم خصوصية لهذه الأمة المحمدية، امتازت به عن سائر الأمم، فإن اليهود ليس لهم إلى نبيهم إلا الإسناد المعضل، ولا يقربون إلى نبيهم
1 النووي، شرح مسلم 1/86.
2 رزمة بكسر الراء وسكون الزاء وفتح الميم، مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي 1/88.
موسى عليه السلام قربنا لنبينا عليه الصلاة والسلام، بل الانقطاع بينهم وبينه بأكثر من ثلاثين نفساً، فغاية أسانيدهم تبلغ إلى شمعون ونحوه. وأما النصارى فلا يعرفون الإسناد إلا ما قيل في تحريم الطلاق"1.
قال محمد بن حاتم بن المظفر: "إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم قديمها وحديثها إسناد موصول"2.
فإذا كان كتاب الله محفوظاً -كما علم- وإذا كانت سنة نبيه محفوظة أيضاً -كما شرحنا، ثم عرفنا موقف خير هذه الأمة- وهم الصحابة والتابعون من نصوص الكتاب والسنة، حيث لا يعمدون إلى غيرها للاستدلال، ولا يلتمسون الهدى فيما سواها. ونحن على يقين أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأولها إنما صلح بالتمسك الصادق لهدي الكتاب والسنة عقيدة وشريعة كما نحن على يقين ثابت أنه لا يصبح اليوم ديناً ما لم يكن ديناً أمس، فإذا كان ذلك كذلك فقد وجبت حجية كتاب الله، وحجية سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بما لا يترك مجالاً للشك والتردد وأن تلك الحجية ثابتة في الأحكام والعقيدة على حد سواء إذ لا يوجد مبرر أو مصور للتفريق بين الأحكام والعقيدة حتى تصبح للعقيدة فئات خاصة من الأدلة غير الفئات التي يستدل بها في إثبات الأحكام، وتتخصص العقيدة في الأدلة العقلية ولا حظ لها في الأدلة النقلية إلا ما كان من باب الاتفاق أو الاستئناس لها.
وفي اعتقادي الجازم أن هذا التصرف من مبتدعات العصر العباسي وما بعده، وهو من منتجات مدرسة (علم الكلام) الذي لا يتجاوز تاريخ ميلاده العهد العباسي، ويذكرني هذا التصرف ما كان يقوله عبد الله بن
1 د. عمر بن حسن فلاته الوضع في الحديث 2/11.
2 المصدر السابق.
مسعود لتلامذته: "عليكم بالأمر العتيق"1، ويقول أيضاً:"اتبعوا ولا تبتدعوا، وقد كفيتم"2، والذي نعتقده وندين الله به - وهو المعقول أيضاً- أن كل ما صح الاستدلال به على الأحكام من النصوص الصريحة، والأحاديث الصحيحة، يصح الاستدلال بمثله في العقيدة في إثبات صفات الله تعالى وأسمائه وأفعاله، وما يتعلق بأفعال العباد، بل على كل ما يجب الإيمان به في الدين، ومن يفرق بين هذه الأبواب في أدلتها فيطالب بالدليل ولا دليل، فإذاً يصح الاستدلال بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة كما صح في الأحكام، وهذا هو المطلوب.
وأما دعوى المعارض (علماء الكلام) أنها أدلة لفظية عرضة للنسخ والتخصيص والتقييد، فلا يتم الاستدلال بها في هذا الباب، فهي ثرثرة نحفظها لعلماء الكلام الذين شغلهم الكلام عن العلم، فلا ينبغي أن يلقى لها بال، لأن جانب العقيدة لا يمكن أن يقع فيه نسخ وتغيير، وهذا التصرف لا يعرف قبل العصر العباسي، ولا يكاد يدور في رأس أحد من المسلمين قبل ذلك، إذ ليس من الدين ولا من مقتضى العقل الصريح، والفطرة السليمة ألاّ يستدل في المطالب الإلهية بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ليستدل عليها بقول العلاّف، والنظاّم، وابن أبي دُؤاد وأمثالهم، وما ذلك إلا لتزهيد الناس في نصوص الكتاب والسنة، بينما الواجب الذي يقتضيه الإيمان دعوة الناس إلى الاعتصام بهما فقط دون التفات إلى غيرهما، ولا سيما في باب العقيدة وهو باب يجب ألا يتجاوز فيه الكتاب والسنة، كما قال الإمام أحمد رحمه الله في أثناء المناقشة أيام المحنة.
1 السنة لمحمد بن نصر المروزي ص: 23، مطابع دار الفكر بدمشق، وانظر أيضاً: سنن الدارمي 1/54، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/7.
2 أخرجه وكيع في الزهد رقم 315، وأحمد في الزهد ص: 162، والدارمي 1/69، ومحمد بن وضاح القرطبي في البدع ص: 10، وأبو خيثمة في العلم ص:122.
قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني: إسناده صحيح.
وما أحسن ما حكاه الحسن بن صالح العباداني عن أحد العباد (سهل بن عبد الله التستري) قال: دخلت على سهل بن عبد الله التستري فقلت له: أوصني أيها الشيخ يرحمك الله فإني أريد الحج، فقال لي: أوصيك، وواعظك معك؟ فقلت: ومن واعظي يرحمك الله؟ قال: الكتاب المنزل، فقلت له: الكتاب كبير وفيه مواعظ وتخويف، فعظني يرحمك الله قال: بسم الله الرحمن الرحيم {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 1، قال: ثم قال: استمسك بما سمعت ترشد، قال: فوالله لقد دلتني هذه الآية على كل خير2 ا. هـ
يستفاد من هذه القصة ما يأتي:
1-
إصرار ذلك العابد الكبير على أن كتاب الله خير واعظ ولا ينبغي العدول عنه إلى غيره وأن كل من طلب علماً ينتفع به في دينه، يجب أن يرشد ويشجع على التمسك بكتاب الله، ولا ينبغي للوعاظ والعلماء والمشايخ تزهيد الناس في كتاب الله بترغيبهم في التماس الحق والهدى والعقيدة السليمة في غيره، بل الواجب ترغيب الناس في التمسك بكتاب الله المنزل مشروحاً بالسنة المطهرة التي لا يستغني عنها كل مفسر لكتاب الله لأنها صنو القرآن، ووحي مثله في باب التشريع ووجوب الاتباع.
2-
حسن اختيار سهل بن عبد الله التستري، حيث اختار للسائل (آية المعية) ليشعر السائل عند تلاوتها أن الله معه بعلمه، والاطلاع عليه، ومحيط به، ولا يخفى عليه من أمره وتصرفاته شيء حيثما كان في سفره وحضره، وهي معية عامة، وسيأتي الكلام مفصلاً عن صفة المعية إن شاء الله.
1 سورة المجادلة آية: 7.
2 المعارضة والرد لسهل بن عبد الله التستري تحقيق ونقد وتعليق الدكتور محمد كمال جعفر، ص:75.
هكذا يجب أن يكون الوعاظ والعلماء والدعاة، لئلا ينصرف الناس عن كتاب الله وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى السفسطة والجدل الكلامي الذي أصبح حجاباً منيعاً بين كثير من المتأخرين وبين كتاب ربهم وسنة نبيهم.
وما أروع قول الإمام مالك إمام دار الهجرة وأحد أئمة الدنيا الأربعة في عصر تابع التابعين، إذ يقول رحمه الله:"أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء"1، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى إن شاء الله.
ومن كل ما تقدم يتضح أن علماء المسلمين في هذا الشأن -سلفاً وخلفاً- ينظرون إلى السنة نظرهم إلى الكتاب من حيث الاستدلال بها، فيستدلون بالسنة حيث يستدلون بالقرآن دون أن يفرقوا بين الآحاد والمتواتر، وسوف نتحدث في المبحث التالي في هذه النقطة مستعينين بالله.
1 انظر: حلية الأولياء 6/324، وسير أعلام النبلاء 8/88، ورسالة الفتوى الحموية الكبرى ص: 32، بتصحيح وتعليق الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة.
المبحث الثالث: مدى حجية أخبار الآحاد في إثبات الصفات
الأخبار المقبولة التي تثبت بها الأحكام والأمور الخبرية العلمية تنقسم إلى أربعة أقسام:
أحدها: أخبار متواترة لفظاً ومعنى.
وهي الأخبار التي يرويها عدد كبير غير محصور في عدد معين، ولكنه يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، وهم معروفون بالضبط والعدالة والثقة وغيرها من الصفات المعتبرة عند علماء هذا العلم الشريف.
والحديث الذي يرويه هذا العدد بهذه الصورة يسمى متواتراً لفظاً ومعنى، وله أمثلة كثيرة معروفة في موضعها ومن أبرزها حديث الرؤية، وقد رواه ثلاثون صحابياً كما ذكر الحافظ ابن القيم في كتابه (حادي الأرواح) ، وساق كل حديث بعد أن أفرد له فصلاً مستقلاً في الكتاب المذكور.
وثانيها: أخبار متواترة معنى، وإن لم تتواتر بلفظ واحد، وله أمثلة كثيرة مثل أحاديث العلو والاستواء، وأحاديث إثبات العرش نفسه حيث نقلت هذه الأخبار بعبارات مختلفة من طرق كثيرة، يمتنع معها التواطؤ على الكذب عقلاً وعادة، وأمثلتها كثيرة، وقد تناقلها خيار من خيار من سلف هذه الأمة واستمر الأمر إلى يوم الناس هذا.
وثالثها: أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة، وهي من قبيل الآحاد عند علماء هذا الشأن.
رابعاً: أخبار الآحاد مروية بنقل رواة عدول ضابطين من أول السند إلى آخره.
أما القسم الأول والثاني، فحجيتهما محل إجماع عند أهل العلم، من سلف هذه الأمة إلا ما كان من العقليين الذين لا يقيمون وزناً للأدلة النقلية مهما تواترت، قال في شرح الطحاوية: قسمت المعتزلة والجهمية والروافض والخوارج الأخبار إلى قسمين:
1-
المتواتر
2-
الآحاد.
فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة، لأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات.
وأما الآحاد قلا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طرقها، ولا من جهة متنها، "ثم قال الشارح رحمه الله: فسدوا على القلوب معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية، وبراهين يقينية، وهي في الحقيقة كسراب بقيعة بحسبه الظمآن ماء"إلى آخر كلامه1.
هذا موقف كبرى الطوائف الإسلامية -كما يقولون- هنا يحق لي أن أتساءل: ما الفرق بين قول الذين يقولون: إن شريعة القرآن غير صالحة اليوم لتطبيقها. إذ هناك قوانين وضعها الخبراء المختصون، وهي من أصلح ما يوجد لهذا الوقت، إذ هي تساير الحياة المتطورة التي نعيشها، وإن كنا نؤمن بأن القرآن من عند الله، وأن السنة النبوية المطهرة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ولكننا لا نرى تطبيق شريعتهما للظروف التي ذكرناها أو ذكرنا بعضها.
ما الفرق بين هذا الموقف وبين موقف الذين يقولون: إن الآيات
1 شرح الطحاوية ص: 256 ط الامتياز القاهرة.
القرآنية والأحاديث المتواترة لا نشك أنها قطعية الثبوت عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأحاديث، ولكننا نعتقد أن هذه الأدلة اللفظية ظنية لا تفيد اليقين فلا نرى الاستدلال بها -على سبيل الاستقلال- في باب العقائد بل نرى وجوب الاستدلال بالأدلة القطعية، وهي الأدلة العقلية.
هل هناك فرق بين الموقفين؟! لا يمكن أن يجاب إلا بـ (لا) .
إذاً فما معنى الإيمان بالقرآن وبمن أنزل عليه القرآن؟! إن لم يكن معناه التصديق بأن القرآن كلام الله، وأن السنة وحي من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الغرض من إنزالهما هو العمل بهما عقيدة وأحكاماً وأخلاقاً وسلوكاً ثم تطبيق ذلك عملياً، هذا هو المعنى الصحيح للإيمان بالكتاب والسنة.
ولهذا نرى أن عبارة القوم ينقض آخرُها أولَها، إذ لا معنى لكونها قطعية الثبوت ظنية الدلالة إلا رفض النصوص بهذا الأسلوب المخدّر، هذا ما نفهمه من تلك العبارة التقليدية التي يرددها بعض علماء الكلام، وبعض الأصوليين الذين تأثروا بعلم الكلام، وهي قولهم:
(إن الأدلة اللفظية قطعية الثبوت ظنية الدلالة) فخلافهم لا تأثير له في الإجماع لأنهم قد اتبعوا غير سبيل جمهور أهل العلم الذين يرون أن الأدلة النقلية هي العمدة في جميع المسائل الدينية، وتعتبر الأساس في هذا الباب وغيره، والأدلة العقلية تابعة لها، وسوف لا تخالفها عند حسن التصرف فيهما.
وأما القسمان الثالث والرابع فالذي عليه عمل المسلمين في الصدر الأول وما يليه من عصور التابعين الاحتجاج بهما إذا صحت، وتلقتها الأمة بالقبول مستدلين بها في كل باب في الأمور الخبرية وغيرها، وقد كان مدار الاحتجاج بالأخبار عندهم الصحة فقط، ولا شيء غير الصحة.
ولو رجعنا إلى الماضي إلى ما كان عليه العمل في عصر النبوة، والعصور التي تلت ذلك العصر لرأينا الشيء الكثير مما يشهد لما ذكرنا، وإليك بعض تلك الشواهد والأمثلة:
1-
حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم".
قال الإمام الشافعي معلقاً على هذا الحديث: "فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته، وحفظها وأدائها (امرأ) يؤديها و (الامرأ) واحد1: دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال وحرام يجتنب، وحد يقام ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا".
واستدلال الإمام الشافعي بهذا الحديث على قبول أخبار الآحاد في غاية الوضوح حيث لم يشترط الرسول صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه
1 ولفظة (امرئ) هذه التي وردت في حديث نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها
…
فيها الهمزة همزة وصل، المراد به الرجل، ومؤنثه: امرأة، وقد تطلق اللفظة ويراد بها الإنسان، ويكون شاملاً للذكر والأنثى، وحركة الراء تابعة لحركة الهمزة، فتضم وتفتح وتكسر تبعاً للراء، فيقال: جاء امرؤ، ورأيت امرأ، ومررت بامرئ، مثل قوله تعالى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ، وقوله:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ، وقوله:{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} .
انظر: دراسة حديث: "نضر الله امرأ
…
" للشيخ عبد المحسن العباد.
عدداً قليلاً أو كثيراً، بل ندب شخصاً واحداً ليسمع حديثه ويؤدي ما سمع، ويشمل ذلك الأحكام والعقائد بما في ذلك إثبات صفات الله تعالى1.
ب- حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في قصة تحويل القبلة قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ أتاهم آت فقال: إن رسول الله قد أنزل عليه قرآن، وقد أُمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة"2.
والمصلون في مسجد قباء جماعة من الصحابة وهم أهل سابقة في الإسلام، وأصحاب فقه في الدين، وقد كانوا متجهين إلى قبلة يؤدون فريضة الصلاة، والاستقبال فيها شرط لصحتها، وقد استقبلوا قبلتهم تلك بفرض من الله، ولو كانوا يعتقدون أن خبر الواحد لا يفيد العلم، لما تركوا قبلتهم القديمة إلى قبلة جديدة لم يعلموها إلا بخبر شخص واحد، وهم لم يلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ، ولم يسمعوا الآية التي نزلت لتحويل القبلة.
وهذا التصرف من أولئك السادة يدل دلالة واضحة -وهم يعيشون في عصر نزول الوحي- أن خبر الواحد الثقة تقوم به الحجة، وهو مفيد للعلم قطعاً، والله أعلم.
والمفرق بين الأحكام والعقيدة من حيث الاستدلال يطالب بنص صحيح وصريح وأنى له ذلك؟!!
جـ- حديث أنس بن مالك في تحريم الخمر قال: "كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شراباً من بطيخ وتمر، فجاءهم
1 الحديث صحيح متواتر، أخرجه الحميدي في مسنده 1/47، والشافعي في الرسالة ص: 401، 402، وبدائع المنن 1/14، وأحمد رقم 4517 بتحقيق أحمد شاكر، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ص: 988، والترمذي 5/34، وابن ماجه1/85.
راجع للتفصيل: دراسة نضر الله امرأ سمع مقالتي تأليف الشيخ عبد المحسن العباد، ط المدينة المنورة.
2 أخرجه مالك في الموطأ 1/506، وأحمد 2/16، 113، والبخاري 8/173، 174، 175، 375، و13/232، ومسلم 1/86.
آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت"1.
فهؤلاء نخبة من أصحاب رسول الله كانوا على شراب كان حلالاً لهم أن يشربوه، فجاءهم آت يخبرهم بتحريمه، فبادر صاحب الجرار أبو طلحة بتكسيرها دون توقف، وقبل أن يقول هؤلاء، أو أحد من الحاضرين لمن أخبرهم بتحريم الخمر أنهم على حلها حتى يلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبينوا الأمر، لأن المخبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد العلم.
كل ذلك لم يقع، ولكن الذي وقع أن القوم علموا بأن الحجة قائمة عليهم بحرمة الخمر، وأنه لا يجوز لهم أن يشربوا منها بعد هذا الخبر، فأقلعوا عن شرب الخمر بل كسروا جرارها وأراقوها امتثالاً للتحريم الذي علموه بخبر الواحد.
د- حديث بعث معاذ بن جبل إلى اليمن داعية ومفتياً وحاكماً، وفي مقدمة ما يدعو الناس إليه توحيد الله بالعبادة، وهو أصل الأصول وأساس الدين، وهو فرد واحد في منطقته التي يقوم فيها بالدعوة، وتعليم الناس ما فرض الله عليهم ويأخذ منهم ما وجب عليهم من الزكاة، بينما يعمل علي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري في مناطق أخرى في اليمن، كل على حدة، وكل واحد تقوم به الحجة في جهته2.
وهناك عدد كبير من رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم في الآفاق دعاةً وولاةً ومفتين، ومبلغين عن رسول الله ما بعث به، ومن هذا القبيل أمراء السرايا وحملة كتبه، ورسائله عليه الصلاة والسلام إلى الملوك والأمراء في الأقطار
1 أخرجه البخاري 1/36 - 37 و13/241، ومسلم 3/1572.
2 أخرجه البخاري 8/60 و13/347.
والأمصار، وهم عدد كبير جداً.
يقول الإمام الشافعي في رسالته: "بعث في دهر واحد اثني عشر رسولاً إلى اثني عشر ملكاً يدعوهم إلى الإسلام".
ومن راجع السنة وكتب السير يجد أمثلة كثيرة لهذا النوع من الأخبار التي يحملها شخص واحد أو أشخاص معدودون بعثوا إلى المسلمين في عهد النبوة وبعده، ولم يقل أحد من المبعوث إليهم للمبعوثين، والرسل والأمراء:"نحن لا نقبل أخبار الآحاد، أو لا تقوم علينا الحجة بأخباركم هذه لأنها دون التواتر"، كل ذلك لم يقع ولا بعضه.
وهؤلاء الدعاة المبعوثون مثل معاذ وزملائه كعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري إلى مناطق مختلفة في اليمن، وأولئك الأمراء والرسل إنما يبلغون عن رسول الله جميع ما بعث به من الدين، فروعاً وأصولاً في الأمصار.
وسبق أن قلت في بعض النقاط السابقة: أن من يدعى أو يزعم أن للعقيدة من إثبات الصفات وغيرها أدلة معينة غير الأدلة التي يستدل بها على الأحكام، فعليه دليل فيما يدعيه، وليس هناك دليل ولا بينة، وكل دعوة ليست عليها بينة فهي غير مقبولة قطعاً، والله الموفق.
ذكر نصوص بعض الأئمة في إفادة خبر الواحد العلم:
وقد ذكر عدد غير قليل من أهل هذا الشأن أن أخبار الآحاد تفيد العلم نذكر منهم الأئمة التالية أسماؤهم:
1-
الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المتوفى سنة 179هـ.
2-
الإمام الشافعي، المتوفى سنة 204هـ.
3-
أصحاب الإمام أبي حنفية مثل أبي يوسف ومحمد بن الحسن.
4-
داود بن علي الظاهري وأصحابه كأبي محمد بن حزم.
5-
أحمد بن حنبل في رواية عنه،1 المتوفى سنة 241هـ.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن مكانة علم الحديث عند السلف وأهل الحديث: "فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه الأخبار العلم بطريقتها، ومعرفة حال رواتها، وفهم معناه، حصل له (العلم الضروري) الذي لا يمكنه دفعه، ولهذا كان أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة قاطعين بمضمون هذه الأحاديث شاهدين بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم جازمين بأن من كذّب بها، أو أنكر مضمونها فهو كافر مع علم من له اطلاع على سيرتهم وأحوالهم بأنهم من أعظم الناس صدقاً وأمانة وديانة، وأوفرهم عقولاً وأرشدهم تحفظاً وتحرياً للصدق، ومجانبة للكذب، وأن أحداً منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه، ولا شيخه ولا صديقه، وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريراً لم يبلغه أحد سواهم، لا من الناقلين عن الأنبياء، ولا من غير الأنبياء، وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم، وأولئك شاهدوا من فوقهم كذلك وأبلغ حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أحسن الثناء، وأخبر برضاه عنهم، واختياره لهم واتخاذه إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة
…
إلى أن قال رحمه الله: وقول هؤلاء الكادحين في أخباره وسنته يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين، بمنزلة قول أعدائه يجوز أن يكون الذي جاءه به شيطان كاذب، وكل أحد يعلم أن أهل الحديث أصدق الطوائف كما قال عبد الله بن المبارك:(وجدت الدين لأهل الحديث) ، والكلام للمعتزلة، والكذب للرافضة، والحيل لأهل الرأي، وسوء الرأي والتبديد لآل بني فلان".وإذا كان أهل الحديث عالمين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذه الأخبار وحدّث بها في الأماكن والأوقات المتعددة، وعلمهم بذلك ضروري، لم يكن
1 مختصر الصواعق المرسلة ص: 474.
قول من لا عناية له بالسنة والحديث: وأن هذه أخبار آحاد لا تفيد العلم مقبولاً عليهم، فإنهم يدعون العلم الضروري وخصومهم إما أن ينكروا حصوله لأنفسهم أو لأهل الحديث، فإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث كانوا مكابرين لهم على ما يعلمونه من أنفسهم بمنزلة من يكابر غيره على ما يجده في نفسه من فرحه وألمه، وخوفه وحبه1.
ومن كل ما ذكرنا يتضح دون شك أن أخبار الآحاد تقوم بها الحجة في إثبات الصفات، وهو ما عليه المحققون من الأئمة الأربعة، وغيرهم كثير كما تقدم، ولا عبرة لفلسفة المتفلسفين وثرثرة أتباعهم من المعتزلة الذين شغلهم الكلام عن النظر في نصوص الكتاب والسنة والاهتداء بهما، بل أخذوا يلتمسون الهدى في غيرهما حتى استولت عليهم الحيرة، وانتهت حياة كبارهم إلى الحسرة والندم، وتحذير الناس عن الخوض في علم الكلام، والتوصية بالرجوع إلى الفطرة، حتى قال قائلهم:(من جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي) 2، وسيأتي مزيد بحث لهذه النقطة إن شاء الله.
هكذا نثبت بتوفيق الله حجية القرآن والسنة في باب الأحكام الفقهية والعقيدة على حد سواء، وأنه لا يفرق بين الكتاب والسنة من حيث الاستدلال بهما، كما أثبتنا أنه لا فرق في كل ما ذكرنا بين المتواتر وبين الآحاد.
1 مختصر الصواعق المرسلة ص: 471، 472.
2 انظر: رسالة فتوى الحموية الكبرى، وشرح العقيدة الطحاوية.
مبحث الرابع: إبطال شبه الزاعمين الاكتفاء بالقرآن
بعد أن استعرضنا الأدلة النقلية والعقلية لإثبات حجية القرآن والسنة في باب العقيدة، بل أثبتنا أنه لا فرق بين الأحاديث المتواترة وبين أخبار الآحاد في هذا الباب.
نرى أن نتبع ذلك بمناقشة موقف أولئك الذي ضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهم الذين زعموا وجوب الاكتفاء بالقرآن دون السنة، أو جواز ذلك في باب الأسماء والصفات خاصة وفي إثبات جميع الأحكام عامة، فنقول وبالله التوفيق:
إبطال شبه الزاعمين الاكتفاء بالقرآن دون السنة:
على الرغم من إجماع الأمة الإسلامية على أن السنة صنو القرآن، وأنها هي الحكمة المذكورة في القرآن في عديد من الآيات، وعلى الرغم مما هو معروف من أن الدين الإسلامي مستمد من الكتاب والسنة معاً عقيدة وأحكاماً، على الرغم من كل ذلك لم تسلم السنة من أقلام بعض المتهورين المتطرفين، ولفرط جهلهم أطلقوا على أنفسهم (القرآنيون) أي العاملون بالقرآن -في زعمهم- المكتفون به، المستغنون عن السنة، هذا تفسير كلمة (القرآنيون) بناء على زعمهم، ولكن التفسير المطابق لواقعهم إذا نظرنا إلى تصرفاتهم أنهم المخالفون للقرآن، اتباعاً للهوى، وتقليداً لبعض الزنادقة1، التقليد الأعمى، لأنهم في واقعهم قد خرجوا على القرآن
1 الزنديق: من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، القاموس المحيط.، وبهذا المعنى الزنديق والمنافق لفظان مترادفان.
بخروجهم على السنة، لأنهما كالشيء الواحد من حيث العمل بهما، إذ السنة تفسير القرآن، ولأن القرآن نفسه يدعو إلى الأخذ بالسنة والعمل بها إيجاباً وسلباً، إذ يقول الله عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} 1، والأمر بأخذ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يشمل كل ما صحت به السنة المطهرة من الأحكام وإثبات صفات الله وإثبات المعاد وغير ذلك، ورد في القرآن أو لم يرد لأن ذلك من مقتضى الإيمان بالرسول ورسالته، ومما لا شك فيه أنه لا يتم الإيمان بالقرآن إلا بالإيمان الصادق بمن أنزل عليه القرآن، والإيمان به صلى الله عليه وسلم إنما يعني تصديقه في أخباره واتباع أوامره ونواهيه، وقد أوجب الله طاعته على وجه الاستقلال في قوله تعالى:{أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} 2.
وهو أمر لا يختلف فيه اثنان مسلمان، وأما هؤلاء القرآنيون الجدد فليس لهم سلف فيما ذهبوا إليه إلا غلاة الرافضة3 والزنادقة الذين في قلوبهم مرض كراهة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن أصحاب رسوله.
وهؤلاء الروافض مرضى القلوب زعموا - وبئس ما زعموا- وجوب الاكتفاء بالقرآن والاستغناء عن السنة مطلقاً في أصول الدين وفروعه، لأن الأحاديث في زعمهم رواية قوم كفار حيث كانوا يعتقدون أن النبوة إنما كانت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأن جبريل أخطأ فنزل بها إلى محمد صلى الله عليه وسلم بدل أن ينزل بها إلى علي رضي الله عنه، وهذا الزعم الفاسد والقولة الجريئة هي أساس شبهة الروافض في رد الأحاديث النبوية، وهي شبهة مختلقة كما ترى.
1 سورة الحشر آية: 7.
2 سورة النساء آية: 59.
3 الرافضة: فرقة من الشيعة بايعوا زيد بن علي، ثم قالوا له: تبرأ من الشيخين فأبى، وقال: كانا وزيرين لجدي، فتركوه ورفضوه وانفضوا عنه، والنسبة رافضي، وهذا سبب تسميتهم الرافضة.
ومن لوازم رأيهم الفاسد هذا أن أمر الوحي مضطرب، فلا يصدر من لدن عليم حكيم الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بل يتصرف فيه ملك الوحي كما يشاء ويختار، ينزل بالوحي على من يشاء ويعدل عمن يشاء بالوحي، كما يفهم من قول هؤلاء الروافض أن ملك الوحي نفسه غير معصوم أو غير أمين على الوحي وعلى أداء أمانة الرسالة، إذاً فما مدى إيمان الروافض بالله أولاً، ثم بالملائكة والنبيين عامة، وبخاتم النبيين خاصة، وبالكتاب الذي نزل عليه؟!!
وبعد: فلقد حاول هؤلاء الزنادقة والروافض إزالة السنن من الوجود والقضاء عليها -لو استطاعوا- أو أن يجعلوا وجودها وجوداً شكلياً فاقداً للقيمة، إلا أنهم لم ينالوا خيراً، ولم يستطيعوا أن ينالوا من السنة شيئاً، فانقلبوا خاسرين ومهزومين، مثلهم كمثل الذي يحاول قلع جبل أحد مثلاً فأخذ يحوم حوله وفي سفحه لينقل من أحجاره حجراً حجراً ظناً من أنه يمكنه بصنيعه هذا قلع الجبل وإزالته من مكانه، أو كالذي يغترف من البحر اغترافاً بيده أو بدلوه محاولاً بذلك أن ينفد البحر أو ينقص.
وما من شك أن هذا المسكين سوف تنتهي أوقاته ويجيء أجله المحدود والمحتوم، والجبل باق مكانه شامخاً ليصعد أصحاب الخبرة ويترددوا بين شعابه، ليعثروا على ما قد يخفى على غيرهم، بين تلك الشعاب المتنوعة التي لا يفطن لها غيرهم إذ لكل ميدان رجال.
كما يبقى البحر ثابتاً مكانه ليغوص الغواصون من رجال هذا الشأن، فيخرجوا للناس اللآلئ والدرر من مسائل علم الحديث النافعة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، هذه نهاية محاولة الروافض ومن يسيرون في ركابهم وقد أرادوا أن يجدوا ما يتعللون به من الأخبار التي تشهد لما ذهبوا إليه من قريب أو من بعيد، فعثروا في أثناء بحثهم على كلام باطل بطلان مذهبهم ونصه هكذا: "ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه
فإني لم أقله"، وكل من له نظر في هذا العلم الشريف يدرك أن هذا الكلام ليس من منطق الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا يظهر عليه نور النبوة كما ترى، وعلى الرغم من ذلك فإن القوم قد طاروا به فرحاً، ظناً منهم أنه نافع لهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينفلتوا بحديثهم هذا من أيدي حراس السنة الذين لم تنم عيونهم الساهرة حفاظاً على السنة بل عثروا على حديثهم ذلك، فأعلنوا عنه أنه من أباطيلهم ودسائسهم، حتى عرفه الناس على حقيقته بعد أن سجلوه في كتبهم، فأجروا له عمليتهم الخاصة، وفندوه وجرحوه وعرّوه أمام القراء حتى انكشف حاله، فلله الحمد والمنة.
يقول السيوطي في رسالته الطليقة (مفتاح الجنة) 1: "قال البيهقي: باب بطلان ما يحتج به بعض من رد السنة من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء في عرض السنة على القرآن، قال الشافعي رحمه الله: احتج عليّ بعض من رد الأخبار بما روى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأنا لم أقله "2، فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير أو كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية. اهـ كلام الشافعي.
قال البيهقي: أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا اليهود، فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس فقال:" بأن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني ".
قال البيهقي: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس صحابياً،
1 ص: 214 وما بعده.
2 قال ابن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا الحديث، وانظر كلام أهل العلم حول الحديث في إرشاد الفحول ص:33.
فالحديث منقطع1.
وقال الشافعي: ليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين معنى ما أراد خاصاً أو عاماً، وناسخاً ومنسوخاً. ثم التزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن الله قبل، ثم ذكر السيوطي بقية كلام البيهقي حول الحديث، وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي نقولاً كثيرة في هذا الصدد نختار منها الآتي:
1-
قال البيهقي: قال الإمام الشافعي رحمه الله: "سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل نص الكتاب.
ثانيها: ما أنزل فيه جملة كتاب، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرضها عاماً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد.
ثالثها: ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه له ورضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من التشريع، لأن الله تعالى ذكره قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} 2، وقال:{وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 3، فما
1 خالد بن أبي كريمة، قال الحافظ ابن حجر: صدوق يخطئ ويرسل. التقريب 1/218.
وأبو جعفر هو: عبد الله بن صور المدائني، قال أحمد وغيره: أحاديثه موضوعة، وقال النسائي والدارقطني: متروك. ميزان الاعتدال 2/504.
2 سورة النساء آية: 29.
3 سورة البقرة آية: 275.
أحل وحرم مما بين فيه عن الله كما بين في الصلاة، ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فثبتت سنته بفرض الله تعالى1.
ومنهم من قال: كل ما سن، وسنته هي الحكمة التي ألقيت في روعه من الله تعالى" انتهى كلام الشافعي.
وقال الشافعي في موضع آخر: "كل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل اتباعه طاعته، والعدول عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقاً، ولم يجعل له في اتباع سنن نبيه مخرجاً".
قال البيهقي: "باب ما أمر الله به من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والبيان أن طاعتَه طاعتُه"، ثم ساق الآيات التالية: قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 2، وقال عزّ من قائل:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} 3، إلى غيرهما من الآيات البينات التي مضمونها أن طاعةَ رسوله طاعتُه سبحانه، وأن معصيتَه معصيتُه تعالى.
ثم أورد البيهقي رحمه الله: حديث أبي رافع رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أُلفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه يقول: لا أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"4.
1 وللإمام الشافعي كلام مقارب في الرسالة ص: 20 تحقيق أحمد شاكر.
2 سورة الفتح آية: 10.
3 سورة النساء آية: 80.
4 أخرجه أحمد 6/8، وأبو داود 5/12، والحاكم 1/108، والترمذي 5/36، وصححه الترمذي، كما صححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
ومن حديث المقدام بن معدي كرب قال:" (إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء يوم خبير كالحمار الأهلي وغيره" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يقعد رجل على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله"1.
ثم قال البيهقي رحمه الله: وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد.
ومما قاله الإمام البيهقي في هذا المقام: "ولولا ثبوت الحجة بالسنة لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته بعد تعليمه من شهده أمر دينهم: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" 2.
هذا
…
وإذا كانت شبهة الروافض والزنادقة في رد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم زاعمين الاكتفاء بالقرآن ما تقدم ذكره من موقفهم العدائي من الصحابة فما حجة القرآنيين الجدد؟ فليس لهم شبهة تذكر إلا ما كان من حب الظهور، ولو على حساب الكفر برسول الله، أو مجرد التقليد الأعمى، أو ما كان من عداء كامن للإسلام لم يمكن إظهاره إلا في هذه الصورة، ومهما يكن من أمرهم فإن القرآنيين الجدد أصل مذهبهم راجع إلى ما كان عليه غلاة الروافض.
وقد عرفت شبهتهم فبئس التابع والمتبوع أو المُقَلِّد والمُقَلَّد.
وبعد أن ذكر الإمام السيوطي في رسالته (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) شبهتهم تلك قال مستهجناً لها ومستقبحاً: "ما كنت أستحل حكايتها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا الرأي الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار إلى أن قال: وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة، وتصدى الأئمة وأصحابهم للرد عليهم في دروسهم
1 أخرجه أحمد 4/131، 132، وأبو داود 5/12، والترمذي 5/36، وابن ماجه 1/6، والحاكم 1/109، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.
2 من حديث أبي بكر في خطبة حجة الوداع، أخرجه: أحمد 5/37، 39، والبخاري 1/157، 158، ومسلم 3/1305، 1306، والدارمي 2/67، وابن ماجه 1/85.
ومناظراتهم وتصانيفهم"1.
ثم ساق من نصوص كلامهم الشيء الكثير في الرسالة المذكورة، ولابن خزيمة كلام نفيس في هذا المعنى2.
وبعد: فدعوى الاكتفاء بالقرآن ومحاولة الاستغناء عن السنة إنما تعني الاستغناء عن الإسلام، أي تعني (الكفر) بأسلوب ملتو غير صريح لأمر مّا، فأصحاب هذه الفكرة لا حظّ لهم في الإسلام ما لم يراجعوا الإسلام من جديد.
وبعد أن استعرضنا أدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض أهل العلم في أن السنة صنو القرآن، ولا يفرق بينهما، فلنناقش هؤلاء الزاعمين عقلياً ومن واقع حياة المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم، فهل يمكنهم الاكتفاء بالقرآن دون أن يجدوا أنفسهم مضطرين لمراجعة السنة في كثير من عباداتهم ومعاملاتهم حيث يجدون في السنة تفصيل ما أجمل في القرآن وما أكثره، وتقييد ما أطلق وعمم فيه.
بل ربما وجدوا أحكاماً جديدة هم بحاجة إليها لم يرد ذكرها في القرآن كما يجدون بعض الصفات الإلهية جاءت بها السنة ولم يرد لها ذكر في القرآن، إن الواقع الذي يعيشه المسلمون يجيب على هذا التساؤل وفي القرآن آيات يأمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس القرآن الذي أنزل عليه إذ يقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 3، ويقول سبحانه:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 4، ويقول سبحانه آمراً لاتباعه وحاثاً لهم على طاعته:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} 5، {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} 6.
1 مفتاح الجنة للسيوطي ص: 3.
2 التوحيد لابن خزيمة ص: 47، مراجعة خليل هراس وتعليقه.
3 سورة المائدة آية: 67.
4 سورة النحل آية: 44.
5 سورة الحشر آية: 7.
6 سورة النساء آية: 80.
وهذه الأوامر القرآنية والتوجيهات الإلهية تشير إلى أن هناك بياناً يقوم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن على أتباعه طاعته، وأن يأخذوا ما يأتي به ويأمرهم به، وعليهم أن ينتهوا عما ينهاهم عنه، لأن طاعته من طاعة الله عز وجل، ولأنه:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} .
وإذا أردنا أن نسوق أمثلة للأحكام التي أشرنا إليها لوجدنا الشيء الكثير منها: أن الصلاة للأحكام التي أشرنا إليها لوجدنا الشيء الكثير منها: أن الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، جاءت في القرآن مجملة هكذا:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ، فيا ترى كيف يقيم القرآنيون الصلاة؟! فسوف لا يجدون صفة الصلاة وكيفيتها، وبيان عدد ركعاتها ومحل الجهر والسر فيها، وغير ذلك من هيئات الصلاة إلا في السنة الفعلية أو القولية، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى هذا المعنى:"صلوا كما رأيتموني أصلي "1.
ولو تركنا الكلام في الصلاة، وانتقلنا إلى الزكاة لوجدنا القرآن قد أجمل أمر الزكاة كما أجمل أمر الصلاة، إذ نجد القرآن يقول:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3، لتقوم السنة ببيان الأموال التي تجب فيها الزكاة، وبيان أنصبة الزكاة، والمقدار المأخوذ من كل نصاب على اختلاف الأموال، وهكذا نجد في باب الصيام أحكاماً لم ترد في القرآن، وبينتها السنة، منها: حكم من أتى امرأته في نهار رمضان وهو صائم ما الذي يجب عليه؟ ومن أكل في رمضان أو شرب ناسياً ماذا يصنع؟ هل يتم صيامه أو يفطر؟
أما الحج فمؤتمر إسلامي عام وضع له القرآن الخطوط العريضة، فقامت السنة ببيان تفاصيله من أوله إلى آخره، ولو تتبعنا الأبواب الفقهية من
1 صحيح البخاري الأذان 2/252 مع الفتح.
2 سورة النور آية: 56.
3 سورة الأنعام آية: 141.
باب الطهارة إلى آخر باب في الفقه لوجدنا السنة وهي تبين ما أجمل في القرآن، أو تأتي بجديد على ضوء الآيات السالفة الذكر.
ولو تركنا الأحكام الفقهية وانتقلنا إلى مباحث العقيدة لوجدنا للسنة دورها الذي لا ينكره إلا من يجهلها أو لا يؤمن بها إذ نجد صفات الله تعالى إما ثابتة بالكتاب والسنة معاً، مع الدليل العقلي التابع للدليل النقلي، وإما ثابتة بالسنة الصحيحة، ولم يرد لها ذكر في القرآن الكريم مثل الفرح والضحك والنزول والقَدَم مثلاً.
فلا أظن الزاعم الاكتفاء بالقرآن يجد مفراً بعد هذا البيان إلا إلى أحد أمرين:
1-
الإيمان والاستسلام وهو خير له وأسلم بأن يعامل السنة معاملته للقرآن باعتبارها تفسيراً للقرآن.
2-
الكفر بالقرآن والسنة معاً دون محاولة تفريق بينهما وهو غير عملي، كما ترى ويمكن أن يقال: إنه إيماني شكلي ببعض الوحي، وكفر سافر ببعض.
المبحث الخامس: منهج السف في إثبات صفات الله تعالى وأسمائه
بعد أن أثبتنا حجية كل من الكتاب والسنة في باب العقيدة دون تفريق بين الأحاديث المتواترة وأخبار الآحاد من حيث الاستدلال بها، ثم ناقشنا الزاعمين الاكتفاء بالقرآن دون السنة وأبنّا بطلان منهجهم. فجدير بنا أن نتحدث عن منهج السلف في إثبات صفات الله تعالى وأسمائه، وقبل أن نشرع في شرح المنهج وذكر قواعده فلنعرف من هم السلف؟
عندما نطلق كلمة السلف إنما نعني بها من الناحية الاصطلاحية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حضروا عصره فأخذوا منه هذا الدين مباشرة غضاً طرياً في أصوله وفروعه. كما يدخل في هذا الاصطلاح التابعون لهم الذين ورثوا علمهم قبل أن يطول عليه الأمد، والذين شملتهم شهادة الرسول لهم وثناؤه عليهم بأنهم "خير الناس" حيث يقول صلى الله عليه وسلم:" خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 1، كما يشمل الاصطلاح تابعي التابعين.
وهو لفظ مصطلح عليه، وقد ظهر هذا الاصطلاح، واشتهر حين ظهر النزاع ودار حول أصول الدين بين الفرق الكلامية، وحاول الجميع الانتساب إلى السلف وأعلن أن ما هو عليه هو ما كان عليه السلف الصالح، فإذاً لا بد أن تظهر والحالة هذه أسس وقواعد واضحة المعالم
1 أخرجه أحمد في مسنده 4/427، والبخاري مكرراً في عدة مواضع 5/285، ومسلم 4/1964، 1965، عن غير واحد من الصحابة عائشة رضي الله عنها وابن مسعود وأبي هريرة وعمران بن حصين.
وثابتة للاتجاه السلفي حتى لا يلتبس الأمر على كل من يريد الاقتداء بهم، وينسج على منوالهم ويمكن إيجاز تلك القواعد فيما يلي:
القاعدة الأولى: تقديم النقل على العقل:
ولكن تقريرنا بأن النقل مقدم على العقل لا ينبغي أن يفهم منه أن السلف ينكرون العقل والتوصل به إلى المعارف، والتفكير به في خلق السموات والأرض وفي الآيات الكونية الكثيرة لا، ولكنهم لا يسلكون في استعمال العقل الطريقة التي سلكها علماء الكلام في الاستدلال بالعقل وحده في المطالب الإلهية من محاولة الاكتفاء به أحياناً، لو استطاعوا، أو تقديسه بحيث يقدمونه على كلام الله خالق العقل والعقلاء، وعلى سنة رسوله التي هي وحي الله.
بل إن السلف من منهجهم لا يدعون التعارض بين الدليلين، بل ينفون هذا التعارض الذي يصطنعه علماء الكلام المتأثرون بفلسفة اليونان، علماً بأن المسلك الذي سلكه علماء الكلام هو في الواقع مسلك الفلاسفة غير الإسلاميين في الأصل الذين لا يثبتون النبوات، ولا يرون أن إرسال الرسل، وما جاءوا به من نصوص الصفات، ونصوص المعاد أنها حقائق ثابتة. فكان أقوى شيء عندهم في الاستدلال على إثبات الأمور "العقل" ما أثبته العقل فهو الثابت، وما نفاه العقل فهو المنفي، فورثوا التركة لعلماء الكلام.
أما المؤمنون الذين يؤمنون بالأنبياء وبالكتب المنزلة عليهم وبما جاء فيها، ويؤمنون أن الرسل كلفوا أن يبينوا للناس ما أنزل إليهم من ربهم:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} 1الآية، المؤمنون الذين يؤمنون هذا الإيمان فلا يجوز لهم أن يعرضوا عما جاءهم من ربهم من الكتاب والحكمة، وعن بيان رسولهم ليلتمسوا الهدى في غيره، ويعتمدوا في إثبات الصفات على عقول
1 سورة المائدة آية: 67.
الفلاسفة، أو عقول تلامذتهم المتأثرين بهم. ولو وصفوها أنها أدلة عقلية قطعية وبراهين يقينية، وهي في حقيقتها بضاعة غير "إسلامية" وهم يعلمون من أين جاءت، ومتى جاءت، ومن جاء بها، كما أشرنا آنفاً، ثم إنهم نصبوا العداء بينها وبين الوحي، فقد أغنى الله المؤمنين بكتابه المبين وسنة نبيه الأمين عن تكلف المتكلفين، ومن الوقوع في العنت معهم1.
وبالاختصار: إن السلف إنما يقدمون الأدلة النقلية على الأدلة العقلية إيماناً منهم بأن الله أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب من عنده، وكلفهم ببيان ما يحتاج إلى البيان "لأمر له شأنه" وهو أن ما جاء في هذه الكتب، وبلغته الرسل يغني عن كل شيء. وأما غيره فلا يغني عنه. هذه النقطة هي "سر المسألة" فلا يسع الخلف إلا اتباع السلف على أساس أنهم أعلم وطريقتهم أحكم وأسلم.
وكل خير في اتباع من سلف
…
وكل شر في ابتداع من خلف2
ما أصدق مضمون هذا البيت علماً أن قائله خلفي، وكأنّ الناظم يشير بهذا البيت إلى الحديث الشريف الذي يقول فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام:" كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
وأما ما يسوقه بعض علماء الكلام من مصطلحاتهم الكلامية، فيطلق عليها أنها أدلة قاطعة، فلا ينبغي أن تسلم هذه الدعوى، ولا سيما إذا عارضوا بها آيات قرآنية أو سنة نبوية صحيحة، -وهو الغالب عليه- للأسباب الآتية:
السبب الأول: أن كبار أئمتهم قد أدركوا خطورة هذا الموقف على "إيمانهم" فرجعوا في آخر حياتهم عن هذا المسلك إلى منهج السلف الذي
1 راجع صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام للسيوطي 1/223، تحقيق د. سامي النشار وسعاد علي عبد الرزاق، مجمع البحوث الإسلامية.
2 صاحب جوهرة التوحيد.
نحن بصدد بيانه وفي مقدمتهم الإمام أبو الحسن الأشعري الذي عاش أربعين عاماً في الاعتزال، وهو إمامهم ثم تاب الله عليه فتاب. وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة إن شاء الله عند الترجمة لبعضهم.
السبب الثاني: لا يجوز شرعاً، ولا يستساغ عقلاً أن يعارض كلام الخالق العليم بالمصطلحات التي وضعها المخلوق الجاهل الضعيف. وخاصة إذا تصورنا أن واضعي هذه المصطلحات من غير المسلمين في الغالب الكثير، كما أشرنا آنفاً.
السبب الثالث: أن موافقتهم فيما ذهبوا إليه تؤدي إلى الاستخفاف بأدلة الكتاب والسنة وأنها لا قيمة لها، حيث لا يستدل بها على وجه الاستقلال، وإنما تعرض عرضاً شكلياً -كما هو الواقع، وللأسف لدى كثير من الكلاميين على الرغم من إيمانهم في الظاهر.
فلا بد من العمل بهذه النصوص بالاستدلال بها ليصدق الإيمان بها، هذا ما يعنيه الإيمان بالكتاب والسنة.
ومما يوضح ما ذهبنا إليه من أن القاعدة الأساسية عند السلف في باب الأسماء والصفات "تقديم النقل على العقل" موقف عبد العزيز المكي في حواره مع بشر المريسي بين يدي المأمون، حيث حرص عبد العزيز على بيان منهج السلف وتحديده قبل الشروع في الحوار ليكون هو الأساس والمرجع عندما يختلف هو وبشر أثناء الحوار، ولما طالبه المأمون أن يوضح أصل ذلك المنهج أبان بإيجاز حيث تلا قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1.
1 سورة النساء آية: 59.
ثم بيّن أن هذه طريقة اختارها الله لعباده المؤمنين وأدّبهم بها وعلمهم أنه لا يسعهم عند التنازع في أي شيء إلا الرجوع إلى كتابه وإلى رسوله في حياته عليه الصلاة والسلام، وإلى أخباره وسنته بعد وفاته لحل النزاع. وكل ما خالفهما يجب رفضه وعدم الالتفات إليه. ثم قال: فقد تنازعنا أنا وبشر وبيننا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن الإيمان بالله واليوم الآخر والإيمان بالكتاب نفسه وجوب الرجوع إليهما. مكتفين بهما حكماً لحل نزاعنا. فأقر المأمون هذا المنهج الذي عرضه المكي، وحقيقته: تقديم النقل على العقل، واعتبار النقل مرجعاً أساسياً في باب الأسماء والصفات، بل وفي كل باب.
والذي يدلنا على أن هذا هو منهج السلف ومذهبهم أن الصحابة نقلوا إلينا القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم. نقل مصدق غير مرتاب في صدق قائله وصدق ما يقوله وينقله، ثم لم يؤولوا ما يتعلق منه بالصفات من الآيات والأحاديث، بل كانوا ينكرون بعنف على من يتتبع الغوامض من نصوص هذا الباب، وربما ضربوه1 لئلا يفتن الناس بالتأويل، فدل ذلك على أن منهجهم هو اتباع النقل فقط مع عدم تأويله2.
فخلاصة قواعدهم:
1-
تقديم النقل.
2-
عدم التأويل.
3-
عدم التفريق بين الكتاب والسنة.
وسوف نفصل ذلك في الصفحات التالية إن شاء الله.
ولقد كان اللاحق منهم يحرص على فهم هذا المنهج من السابق منهم ويأخذ بتفسيره ولا يخالفه، ويأخذ الأوائل قدوة، لأن الوحي كان ينزل بين
1 إشارة إلى ما فعله عمر بن الخطاب حيث ضرب "صبيغاً"، ثم نفاه إلى البصرة وأمر الناس بعدم مجالسته، وصبيغ على وزن أمير وهو ابن عسيل وقصته معروفة.
2 راجع: منهج علماء الحديث والسنة للدكتور مصطفى حلمي ص: 122، ط دار الدعوة الإسكندرية.
أظهرهم، فكانوا أعلم بتفسيره ممن بعدهم.
ويروي لنا في هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية ما كان يقوله الإمام مالك بن أنس نقلاً عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم جميعاً حيث يقول عمر: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال الطاعة لله، وقوة على دين الله، وليس لأحد من خلق الله تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها. من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاّه الله ما تولّى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً"1.
وهو كلام يلقي ضوءاً واضحاً على ما أشرنا إليه آنفاً أن اللاحق منهم يقتدي بالسابق. ثم إنهم كانوا متفقين غير مختلفين في أصول الدين، ولم تظهر فيهم البدع والأهواء، وهم أهل الحديث وحفاظه ورواته وعلماؤه المتبعون للآثار، لا الآراء وذلك سبيل المؤمنين2، واقفين عند قوله تعالى:{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} 3.
ومن سبيلهم في باب الاعتقاد، الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم لا يزيدون ولا ينقصون ولا يفسرونها فيما يخالف ظاهرها الذي يظهر من وضع اللفظ العربي، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين، بل يمرونها كما جاءت ويردون علم حقيقتها إلى قائلها، مع اعتقاد أنها على الحقيقة وكثير ما يحيل التابعون ومن بعدهم من سألهم أو أراد أن يفهم ما أشكل عليهم يحيلونهم على علم الصحابة، والأمثلة على ذلك كثيرة في كلام الأئمة من التابعين ومن بعدهم.
ومن هذا السياق يتبين الفرق بين طريقتهم التي تُخضِع العقل للنقل
1 ابن تيمية: الحموية الكبرى ص: 32، تحقيق محمد عبد الرزاق حمزة.
2 ابن تيمية مجموع الفتاوى 9/279.
3 سورة النساء آية: 115.
وبين طريقة المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة الذين يقدمون العقل على النقل، ويؤولون نصوص الكتاب والسنة حتى توافق العقل في زعمهم، والنصوص الصحيحة لا تخالف العقل الصريح كما سيأتي.
القاعدة الثانية: رفض التأويل1. ولفظ التأويل قد صار مستعملاً في ثلاثة معان على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بتعدد الاصطلاحات:
أحدها: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين - من المتكلمين- أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل النصوص، وهو الذي يرفضه أتباع السلف الصالح قديماً وحديثاً، لأنه يؤدي إلى القول على الله بغير علم.
النوع الثاني: التأويل الذي هو بمعنى التفسير والبيان، وهو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن كابن جرير وغيره.
النوع الثالث: التأويل الذي بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} 2، وأمثلة هذا النوع كثيرة في القرآن، ولا سيما ما يتعلق بأخبار المعاد3.
فالتأويل في اصطلاح المتكلمين إنما يعني اتخاذ العقل أصلاً حتى يكون النقل تابعاً له، فإذا ما ظهر تعارض بينهما - في زعمهم- فينبغي تأويل النص حتى يوافق العقل.
1 لأن المعنى المؤول إليه ظني بالاتفاق، كما قال الشهرستاني نقلاً عن بعض أئمة السلف، كالإمام مالك وأحمد، فلا يجوز القول في حق الله وفي صفاته بالظن، والتأويل المرفوض هو تأويل علماء الكلام الذي معناه الحقيقي التحريف فالتعطيل، وسيأتي كلامه في صلب الرسالة ص:433.
2 سورة الأعراف آية: 53.
3 راجع: ابن تيمية الحموية الكبرى ص: 33.
ولم يعلموا - أو هم يتجاهلون- أن الحجة العقلية الصريحة لا تعارض الحجة الشرعية الصحيحة. بل يمتنع تعارضهما إلا إذا كان هناك فساد في أحدهما أو فيهما جميعاً1، علماً بأن العقل إنما هو أمر معنوي يقوم بالعاقل سواء سمي عارضاً أم صفة، وليس هو عيناً قائمة بنفسها كما يعتبرها بعض الفلاسفة2.
فالسلف يحتكمون إلى النصوص في كل شيء كتاباً وسنة، ويكتفون بها، ولا يعارضونها بالأدلة العقلية كما ذكرناه آنفاً.
القاعدة الثالثة: عدم التفريق بين الكتاب والسنة
يرى السلف أن السنة تبين الكتاب وتوضحه وتفسره، بل السنة خير تفسير يفسر به القرآن بعد القرآن، بل قد يتوقف فهم بعض ما أجمل في القرآن إلا بواسطة السنة، وقد ترد أحكام بل صفات من صفات الله تعالى في السنة غير مذكورة في الكتاب، فيجب الأخذ بهما معاً دون محاولة تفريق بينهما، لأنها وحي من عند الله من حيث المعنى. ولقد رأينا السلف كيف استغرقوا في القرآن تلاوة وحفظاً وعكوفاً على تفسيره وتفهمه، منفذين أحكامه ومستنبطين منه القواعد في النظر العقلي، ومستمدين منه حقائق عالم الغيب هذا.
ويتضح مما تقدم أن مدلول السلفية أصبح اصطلاحاً معروفاً يطلق على طريقة الرعيل الأول، ومن يقتدون بهم في تلقي العلم، وطريقة فهمه، وبطبيعة الدعوة إليه، فلم يعد إذاً محصوراً في دور تاريخي معين، بل يجب أن يفهم على أنه مدلول مستمر استمرار الحياة وضرورة انحصار الفرقة الناجية في علماء الحديث والسنة، وهم أصحاب هذا المنهج، وهي لا تزال باقية إلى يوم
1 ابن تيمية مجموع الفتاوى 9/279 مطابع الرياض.
2 د. مصطفى حلمي، قواعد المنهج السلفي ص: 35-46، ط دار الأنصار بالقاهرة 1396هـ/1976م.
القيامة، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي منصورين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم"1.
وموقفهم من هذا المبحث واضح مما تقدم وهو الاتباع المطلق لأنه مبحث توفيقي لا يخضع للاجتهاد أو الاستحسان أو القياس، بأن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تحريف للنصوص باسم التأويل، ودون تشبيه لصفاته بصفات خلقه، انطلاقاً من قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3، وهنا ثلاث نقاط ينبغي أن نعتبرها أسساً في هذا الباب:
1-
إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله:{أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} 4، كما لا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى فيه:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 5.
2-
تنزيه الله عز وجل من مشابهة الحوادث في صفاته في ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 6، والآية تشتمل على التنزيه لله والإثبات معاً كما ترى.
3-
عدم محاولة إدراك حقيقة صفاته كما لم تدرك حقيقة ذاته سبحانه إيماناً بقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} 7، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 8.
1 أخرجه أحمد 4/93، والبخاري في العلم 1/164، وفرض الخمس 6/217، والاعتصام بالكتاب والسنة 13/293، ومسلم 4/1524 من حديث معاوية رضي الله عنه.
2 سورة الشورى آية: 11.
3 سورة الإخلاص آية: 4.
4 سورة البقرة آية: 140.
5 سورة النجم آية: 3، 4.
6 سورة الشورى آية: 11.
7 سورة طه آية: 110.
8 انظر أضواء البيان 3/304، تفسير سورة الأعراف.
ومن التزم بهذه الأسس الثلاثة لا يكاد يتورط فيما تورط فيه المعطلون لصفات الله بدعوى التنزيه، ولا يقع في التشبيه بالمبالغة في الإثبات بل هو دائماً على الحق الذي هو وسط بين الطرفين. وهو الذي عليه أئمة المسلمين بل كل إمام من الأئمة المشهود لهم بالإمامة يدعو إلى هذا المنهج فإليك نموذجاً من كلام بعضهم وهو شرح لما كان عليه الأمر عند الرعيل الأول:
أ- قال الإمام الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون- نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات. نقل هذا التصريح عن الإمام الأوزاعي الإمام البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات"1، وهو تصريح يدل على إجماع التابعين المبني على إجماع الصحابة المستند إلى صريح الكتاب وصحيح السنة في صفة الاستواء وغيرها من الصفات الواردة في الكتاب والسنة.
والإمام الأوزاعي -كما يصفه شيخ الإسلام ابن تيمية- أحد الأئمة الأربعة الذين كانوا في عصر تابع التابعين وهم:
1-
مالك بن أنس بالحجاز المتوفى سنة 179هـ.
2-
الأوزاعي بالشام المتوفى سنة 157هـ.
3-
الليث بن سعد بمصر المتوفى سنة 175هـ.
4-
الثوري بالعراق المتوفى سنة 161هـ.
وذكر الأوزاعي هذا الإجماع عندما ظهر جهم بن صفوان منكراً كون الله تعالى فوق عرشه، بل نافياً جميع صفات الله تعالى ذكره ليعرف الناس أن ما نادى به جهم مخالف لما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة
1 الأسماء والصفات ص: 408.
وصحح ابن تيمية إسناده في الفتوى الحموية الكبرى، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 8/355، وفي العلو كما في مختصره للألباني ص:138.
والتابعين، ومصطدم من منهجهم لئلا ينطلي على عامة الناس دعواه بأن ما انتهى إليه مؤيد بالبراهين العقلية التي هي في واقعها وهميات وخيالات لا حقيقة لها.
ب- سئل الإمام محمد بن شهاب الزهري "المتوفى سنة 125" والإمام مكحول "توفي وله بضع عشرة سنة بعد المائة" سئلا عن تفسير أحاديث الصفات؟ فقالا: أمروها كما جاءت.
وروي مثل هذا الجواب عن الإمام مالك، والليث، والثوري، فقالوا جميعاً في أحاديث الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف.
والزهري ومكحول -كما يصفهما الإمام ابن تيمية- من أعلم التابعين، ووصف الأربعة الذين تقدم ذكرهم، وهم مالك وزملاؤه أنهم أئمة الدنيا في عصر تابع التابعين. وفي الوقت الذي يحثون على المنهج السلفي، فإنهم يحذرون الناس عن منهج أهل الكلام. فهذا الإمام الشافعي يقول في ذم أهل الكلام والتنفير عنه:"حكمي في أهل الكلام أن يُطاف بهم في القبائل والعشائر ويضربوا بالجريد، ويُقال: هذا جزاء من ترك كتاب الله واتبع علم الكلام"1اهـ.
أما الإمام مالك2 فما أروع ما قاله! في هذا الصدد، إذ يقول رحمه الله:"أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام لجدل هؤلاء؟! "3.
وبعد: فلو أن مسألة من المسائل الفقهية الفرعية نالت مثل هذا
1 انظر قوله في مناقب الشافعي للبيهقي 1/462.
2 تقدم قوله.
3 ابن تيمية، مجموع الفتاوى 5/29-31 بالمعنى.
الاتفاق من هؤلاء الأئمة الأعلام دون أن يشذ عنهم أو يخالف أحد تضر مخالفته اعتبرت مسألة إجماعية. وعيب على كل من يخالف هذا الإجماع وأنكر عليه العامي قبل العالم، فلا غرو إذا أنكر أتباع السلف على من يخرج على هذا المنهج الذي أجمع عليه الصحابة وعلماء التابعين، كما علمنا من كلام الإمام الأوزاعي رحمه الله.
المبحث السادس: مفهوم الذات الإلهية عند علماء الحديث والسنة
بعد أن أوضحنا منهج السلف في إثبات صفات الله تعالى وأسمائه، وأبنّا أن منهجهم لا يتجاوز الكتاب والسنة.
سنستعرض فيما يأتي الاصطلاحات التالية مرتبة:
1-
مفهوم الذات الإلهية عند علماء الحديث والسنة.
2-
ثم نتحدث عن معنى الإلهية لغة وشرعاً.
3-
نتبع ذلك بالكلام على معنى الصفة الإلهية لغة واصطلاحاً.
4-
ثم نتناول بالبحث مفهوم الذات في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة.
أما مفهوم الذات الإلهية عند علماء الحديث والسنة:
فذاته تعالى كاملة الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه أحد، فلا تشبه ذاته ذوات خلقه بل لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه.
وذاته موصوفة بجميع الكمالات التي لا تعد ولا تحصى، وإلى هذا المعنى يشير رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حيث يقول في بعض دعائه وتضرعاته وهو ساجد لله سبحانه:"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" 1، وزعمت المعتزلة - وبئس ما زعموا- أن اتصافه تعالى بالصفات يتنافى والواحدانية، أو على حد تعبيرهم أن وصفه تعالى بصفات زائدة على
1 أخرجه مالك 1/167، وأحمد 6/58، ومسلم 1/352، وأبو داود 1/547، والترمذي 4/524 و5/562، وابن ماجه 2/1263 من حديث عائشة رضي الله عنها.
الذات يؤدي إلى تعدد القدماء. وهو ينافي التوحيد، والمراد بالتوحيد هنا "التوحيد" في مفهوم المعتزلة الذي سيأتي ذكره وتفسيره عند الكلام على أصولهم الخمسة المعروفة1، وهو مفهوم خاطئ كما لا يخفى على كل من له إلمام بالموضوع.
بل الممنوع الذي لا يساير التوحيد الصحيح هو إثبات ذوات قديمة لا إثبات ذات موصوفة بصفات الكمال. قال صاحب المواقف: "إن الكفر إثبات ذوات قديمة لا إثبات ذات وصفات"2، وشبهة المعتزلة -كما ترى- شبهة واهية وغير معقولة، إذ لا يتصور عقلاً، موجود في الخارج وهو مجرد عن الصفات، وعلى هذا يكون وجود واجب الوجود عندهم وجوداً ذهنياً لا خارجياً. تعالى الله عما زعموا علواً كبيراً.
وأما علم حقيقة ذاته وكيفيتها فأمر لا سبيل إليه لأي مخلوق، إذ ليس من الجائز أن يحيط المخلوق بالخالق علماً وإدراكاً لحقيقته ذاتاً ووصفاً، وصدق الله حيث يقول:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} 3، {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} 4، قال صاحب المواقف:"إن ذاته مخالفة لسائر الذوات، فهو منزه عن المثل والند، تعالى عن ذلك علواً كبيراً"، ثم قال: "قال قدماء المتكلمين: ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة:
1-
الوجوب
2-
الحياة.
3-
العلم التام
وعند أبي هاشم تمتاز بحالة خامسة وهي الموجبة لهذه الأربعة يسمونها
1 انظر ص: 147.
2 الأيجي في المواقف ص: 280.
3 سورة طه آية: 110.
4 سورة الإسراء آية: 85.
"بالإلهية"، ثم قال صاحب المواقف:"لنا لو شاركه غيره في الذات لخالفه بالتعيين ضرورة الاثنينية، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز"1 ا. هـ
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد نقلاً عن السهيلي اللغوي: "وأما الذات فقد استهوى أكثر الناس ولا سيما المتكلمين، القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة. ويقولون: ذات البارئ هي نفسه، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته. ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في قصة إبراهيم: "ثلاث كذبات كلهن في ذات الله" 2، وقول خبيب: "وذلك في ذات الإله"3، قال: وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا، ولو كان كذلك لجاز أن يقال عند ذات الله واحذر ذات الله، كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} 4، وذلك غير مسموع، ولا يقال إلا بحرف "في" الجارة وحرف "في" للوعاء، وهو معنى مستحيل على نفس البارئ تعالى، إذا قلت: جاهدت في الله تعالى وأحببتك في الله تعالى محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة، لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء. وإنما هو على حذف المضاف أي في مرضاة الله وطاعته، فيكون الحرف على بابه كأنك قلت: هذا محبوب في الأعمال التي في مرضاة الله وطاعته، وأما أن تدع اللفظ على ظاهره فمحال.
وإذا ثبت هذا فقوله في ذات الله أو في ذات الإله إنما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله، فذات وصف للديانة، وكذلك هي في الأصل، موضوعها نعت لمؤنث. ألا ترى فيها تاء التأنيث وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف بالإضافة إلى الله تعالى عز وجل، لا
1 المواقف في علم الكلام ص: 269.
2 أخرجه البخاري 6/338 من حديث أبي هريرة.
3 أخرجه البخاري 7/379.
4 سورة آل عمران آية 28، 30.
عن نفسه سبحانه، وهذا هو المفهوم من كلام العرب، ألا ترى إلى قول النابغة:
يجلهم ذات الإله ودينهم
فقد بان غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيف إليه"اهـ كلام السهيلي.
وقال الحافظ ابن القيم معلقاً على هذا الكلام ومستحسناً: "وهذا من كلامه من المرقصات فإنه أحسن فيه ما شاء".
وأصل هذه اللفظة هو تأنيث "ذو" بمعنى صاحب، فذات كذا صاحبة كذا في الأصل. ولهذا لا يقال ذات الشيء إلا لما له صفات ونعوت تضاف إليه فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات والنعوت، ولهذا أنكر جماعة من النحاة منهم ابن "هان" وغيره على الأصوليين قولهم "الذات"، وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا كما لا يقال "الذو" في "ذو" وهذا إنكار صحيح، والاعتذار عنهم أن لفظة الذات في اصطلاحهم قد صارت عبارة عن نفس الشيء وحقيقته وعينه، فلما استعملوها استعمال النفس والحقيقة عرفوها باللام وجردوها، ومن هنا غلطهم السهيلي. فإن الاستعمال، والتجريد أمر اصطلاحي لا لغوي، فإن العرب لا تكاد تقول رأيت الشيء لعينه ونفسه، وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب ومن جهته. وهذا كجنب الشيء. إذا قالوا: هذا في جنب الله لا يريدون إلا فيما ينسب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته لا يريدون غير هذا البتة. فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة، ظن من ظن أن هذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام:"ثلاث كذبات في ذات الله" وقول خبيب رضي الله عنه:
"وذلك في ذات الإله"، فغلط واستحق التغليط، بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى:{يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} 1، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال هاهنا: فرطت في نفس الله وحقيقته. ويحسن أن يقال: فرطت في ذات الله كما يقال: فعل كذا في ذات الله، وقتل في ذات الله، وصبر في ذات الله، فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة التي يثنى على مثلها الخناصر. اهـ2.
1 سورة الزمر آية: 56.
2 بدائع الفوائد للحافظ ابن القيم 2/7-8.
الفصل الأول: معنى الإلهية لغة وشرعاً
قال أهل اللغة: إن "إله" فعال بمعنى مفعول، مثل كتاب بمعنى مكتوب، وإمام بمعنى مؤتم به، فيكون معناه "معبود" ويقال:"أَلَه" يألَهُ بالفتح فيهما "إلهةً" أي عبادة وفيه قراءة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما {ويذرك وإلاهتك} بكسر الهمزة أي عبادتك. وكان يقول: إن فرعون كان "يعبد" ومنه قولهم "الله" أصله "إلاه" على فعال بمعنى مفعول لأنه مألوه أي معبود، فلما دخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام و"إلَاهَةُ" اسم للشمس غير مصروف بلا ألف ولام، وربما صرفوه وأدخلوا عليه الألف واللام، فقالوا:"الإلَاهَةُ" كأنهم سموها "الإلَاهَةَ" لتعظيمهم لها وعبادتهم إياها، ومنه بيت لِمَّية بنت عتبة بن الحارث:
تروحنا من اللعباء قسرا
…
فأعجلنا الإلَاهَةَ أن تؤويا
على مثل ابن أمية فانْعَياه
…
تشقُّ نواعِمُ البشر الجُيوبا1
الآلهة الأصنام سموها بذلك لاعتقادهم أن العبادة مستحقة لها وأسماؤهم تتبع اعتقادهم لا ما عليه الشيء في نفسه "التأله" التنسك والتعبد، تقول:"أَلَهَ" أي تحير وبابه "طَرَبَ" وأصله وَلَه يَوْله وَلَهَا2 ا. هـ ويقال: أله بالمكان كفرح إذا أقام، ومنه قول الشاعر:
أَلِهْنا بدار تبين رسومها
…
كأن بقاياها وشوم على اليد3
1 تاج العروس.
2 مختار الصحاح.
3 تاج العروس.
والإله ينطلق على المعبود بحق وباطل وأما "الله" لا ينطلق إلا على المعبود بالحق1 اهـ.
وهذه المعاني اللغوية تلتقي كلها عند الآتي:
إن لفظة "إله" مأخوذة من التأله، وهو التعبد وجمعه آلهة "وإله والآلهة" ينطلقان على كل ما عُبد بأي نوع من أنواع العبادات ولو كان المعبود جماداً.
وأما لفظ الجلالة "الله" فلا ينطلق إلا على المعبود بالحق، وهو خالق السماوات والأرض، ومدبر الأمر فيهما سبحانه.
وهذا ما يعنيه الاستثناء في قولنا نحن المؤمنين: "لا إله إلا الله" لأن المعنى نفي استحقاق العبادة عن جميع الآلهة وإثباتها لله وحده، أي لا معبود بحق إلا الله، لأنه الخالق الرازق {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} 2، وهو سبحانه موصوف بجميع الكمالات، ومنزه عن جميع النقائص فعيادة غيره معه أو دونه تعتبر تنقصاً له سبحانه، لأن في ذلك تشبيه المخلوق الضعيف العاجز بالخالق القادر على كل شيء القوي المتين الغني عن كل شيء، الغني وصف ذاتي له سبحانه. كما أن الفقر والعجز والضعف أوصاف ذاتية للمخلوق.
من هنا تعلم وجه خطأ أولئك الذين يفسرون كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" بـ"لا خالق إلا الله" أو رازق أو شبه ذلك من معاني الربوبية التي لم يختلف فيها أحد من بني آدم عبر التاريخ الطويل.
والتفريق بين توحيد العبادة الذي دلت عليه كلمة التوحيد، وبين توحيد الربوبية الذي لم يقع فيه نزاع كما تقدم أمر ضروري، وتوحيد الربوبية إنما يبحث ليستدل به على توحيد العبادة الذي عجز عن تحقيقه كثير من الناس في هذا العصر، واختلط عليهم الأمر، والله المستعان.
1 المصدر السابق.
2 سورة النحل آية: 17.
فالتفسير المشار إليه مخالف للغة العربية التي نزل بها القرآن كما ترى، فلا يلتفت إليه لأنه يتضمن تجاهل حقيقة التوحيد الذي طبقت عليه دعوة الرسل جميعاً والذي اصطدموا من أجله مع أقوامهم وهو توحيد العبادة أي إفراد الله بالعبادة كما انفرد بالربوبية سبحانه.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: "اسم "الله" دال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى بالدلالات الثلاث:
أ- فإنه دال على الإلهية المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له سبحانه مع نفي أضدادها عنه تعالى، وصفات الإلهية هي صفات الكمال المنزه عن التشبيه والمثال، وعن العيوب والنقائص، ولهذا يضيف الله تعالى الأسماء الحسنى إلى هذا "الاسم العظيم" كقوله تعالى:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 1، ويقال: الرحمن الرحيم، القدوس، والسلام، والعزيز، والحكيم، من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن ولا من أسماء العزيز ونحو ذلك.
ب- فعلم أن اسم "الله" مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها بالإجمال. والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله.
جـ- واسم "الله" دال على كونه مألوهاً، معبوداً، تألهُهُ الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه من الحوائج والنوائب وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته المتضمنتين لكمال الملك والحمد2.
وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم الجميع صفات كماله، إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
وصفات الجلال والجمال أخص باسم "الله" وصفات الفعل والقدرة،
1 سورة الأعراف آية: 180.
2 وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل الثاني إن شاء الله.
والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة، وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم "الرب" وصفات الإحسان والجود والبر والحنان، والمنة والرأفة واللطف أخص باسم "الرحمن""1 اهـ.
وكلام الحافظ ابن القيم غني عن التعليق لوضوحه في بيان العلاقة أو النسبة بين الربوبية والإلهية. وقال رحمه الله في موضع آخر في كتابه مدارج السالكين: "إن توحيد الربوبية باب لتوحيد الإلهية، فإن أول ما يتعلق القلب بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية كما يدعو الله عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج به عليهم، ويقررهم به ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية، وفي هذا المشهد يتحقق مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، يقول الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} "2.
هذا، وإن توحيد الربوبية محل إجماع البشر، ولا فرق بين مؤمنهم وكافرهم، بل كلهم يؤمنون بربوبيته، وإن أشرك من أشرك في عبادته.
وأما الصراخ المنكر والقول الهجين الذي سمعته الدنيا لأول مرة في الآونة الأخيرة3، والذي ينادي بكل وقاحة، بإنكار وجود الله تعالى مكابرة، وأنه ليس هو الذي خلق هذا الكون، وأن الدين إنما يقصد به تخدير الشعوب إلى آخر تلك المغالطة، فإنها تهدف إلى تضليل متعمد إذ لا مستند له من العقل والفطرة السلمية بله الشرع، ولا أرى مناقشته هنا.
وهل يناقش من ينكر وجود الشمس وهي طالعة؟!! وكيف ينكر وجود الخالق من هو مخلوق له وآية من آياته؟!!
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه واحد
1 مدارج الساكين 1/32.
2 سورة الزخرف آية: 87، وانظر مدارج السالكين 1/411.
3 هذا الكلام يعني بالنسبة للعصر الحديث، فلا يَرِدُ موقف الدهرية الذين أخبر عنهم القرآن حيث كانوا يقولون: نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. ومن كانوا في معناهم مثل الطبيعيين القائلين في تفسير الوجود "المادة والصدفة" ويعتبر موقف الماركسيين جديداً بهذا الاعتبار أي باعتبار هذا العصر.
الفصل الثاني: معنى الصفة والنعت لغة واصطلاحاً
المعنى اللغوي:
يقال: وصف الشيء يصفه وصفاً أي نعته، وهذا صريح في أن الوصف والنعت مترادفان، وقد أكثر الناس القول في الفرق بينهما ولا سيما علماء الكلام، وهو مشهور، ولا داعي للإطالة فيه. وفي اللسان: وصف الشيء له وعليه إذا حلاه، وقيل: الوصف مصدر، والصفة الحلية. وقال الليث: الوصف وصفك الشيء بحليته ونعته، والوصّاف العارف بالوصف1اهـ.
الوصيف "كأمير" الخادم أو الخادمة، أي غلاماً كان أو جارية، وربما قالوا للجارية: وصيفة والجمع وصائف، وجمع الوصيف وصفاء. وفي الأثر:"نهى عن بيع العُسَفَاء والوُصَفَاء"، وفيه حديث أم أيمن:"إنها كانت وصِيفَةً لعبد المطلب"2اهـ.
استوصف الطبيب لدائه سأله أن يصف له ما يتعالج به، والصفة كالعلم والجهل والسواد والبياض. وأما النحويون فليسوا يريدون هذا، بل الصفة عندهم النعت أي المشتقات كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة3اهـ.
1 لسان العرب مادة "وصف".
2 تاج العروس، والنهاية لابن الأثير.
3 مختار الصحاح.
المعنى الاصطلاحي:
والصفة في اصطلاح المتكلمين حال وراء الذات، أو ما قام بالذات من المعاني والنعوت وهي في حق الله تعالى نعوت الجلال والجمال والعظمة والكمال، كالقدرة والإرادة والعلم والحكمة.
والصفة غير الذات وزائدة عليها من حيث مفهومها وتصورها، بيد أنها لا تنفك عن الذات، إذ لا نتصور في الخارج ذاتاً مجردة عن الصفات، هذا وإن صفات الله تعالى توقيفية فلا مجال فيها للاجتهاد والاستحسان، بل الواجد الوقوف عند ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، قال الإمام أحمد في هذا الصدد:"لا يتجاوز الكتاب والسنة"، إذ لا يصف الله اعلم بالله من الله، ولا يصفه في خلقه أعلم من رسوله عليه الصلاة والسلام. ولا يقال في صفاته: هي مجاز بل صفاته كلها حقيقة على ما يليق بالله سبحانه، كما أن صفات خلقه حقيقة، حقيقة تناسب حالهم وضعفهم وحدوثهم. فليست الحقيقة كالحقيقة كما هو الشأن في الذات، لأن ذات الله حقيقة، حقيقة تليق به سبحانه، وذوات المخلوقات حقيقة أيضاً، والحقائق مختلفة هنا وهناك.
فليعلم ذلك لأنه مقام مهم، ومزلة أقدام زلّت فيها أقدام كثير من علماء الكلام، والله المستعان.
فإيماننا بصفات الله تعالى على وفق إيماننا بذاته تعالى، وهو إيمان إثبات وتسليم لا تكييف فيه ولا تشبيه، وبالتالي لا تحريف فيه ولا تعطيل، بل إيماننا بالله وبصفاته في ضوء قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1، وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
1 سورة الشورى آية: 11.
يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 1، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 2، وما في هذا المعنى من نصوص الكتاب والسنة التي تدل على التنزيه الكامل مع إثبات الصفات إثباتاً لا يصل إلى التشبيه والتجسيم.
وهذه النصوص تتفق مع الأدلة العقلية التي تدعو إلى الإيمان بجميع كمالات الرب تعالى بالجملة، كمال الذات، وكمال الصفات، وكمال الأفعال.
ولا فرق فيما ذكرنا عند السلف بين صفات الذات كالقدرة والإرادة، والعلم مثلاً، وبين صفات الأفعال كالاستواء والنزول والمجيء لأنها كلها جاءت بها نصوص الكتاب والسنة، والعقل السليم لا يرفض ذلك، بل يبادر إلى قبوله.
فمن غير الجائز إذاً التفريق بين ما جمع الله في كتابه، أو فيما أوحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام.
1 سورة الإخلاص آية: 1-4.
2 سورة مريم آية: 65.
الفصل الثالث: مفهوم الذات في القرآن الكريم
تحدث القرآن عن الذات الإلهية في عديد من الآيات "دون تصريح بلفظ الذات" وكثيراً ما يصدر الحديث باسم "الله" فالله علم على الذات العلية مثل:
- قوله تعالى: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} 1.
- وقوله تعالى: {اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 2.
- وقوله تعالى: {اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} 3.
- وقوله تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} 4.
- وقوله تعالى: {اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} 5.
- وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} 6.
- وقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 7.
- وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 8.
- وقوله تعالى: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} 1.
- وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} 2.
- وقوه تعالى: {الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 3.
فالله والرحمن وغيرهما من أسماء الله إنما هي أعلام دالة على ذات الله تعالى، وهي مع كونها أعلاماً دالة على الذات، وهي أيضاً أوصاف كمال.
وآيات أخرى كثيرة، هذا، وليس بين المؤمنين بالله وبكتابه وبرسوله عليه الصلاة والسلام، وما جاء به من الهدى خلاف في أن مقام الإلهية فوق كل مقام. وأن ذاته سبحانه فوق كل الذوات، وأن له سبحانه الكمال المطلق في ذاته وصفاته.
ثم إنه من غير الجائز عقلاً وشرعاً محاولة إدراك حقيقة ذاته، وصفاته بل العجز عن الإدراك هو الإدراك كما يحكى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه4.
هذا
…
وذات الله - مع أنها فوق أن تدرك، وفوق أن تحد - قد وصفت في القرآن بصفات كثيرة، كالإرادة والعلم، والقدرة وغيرها، وهي صفات كمال الكمال المطلق، ومع هذا فلا بد أن تضاف هذه الصفات إلى
1 سورة الصافات آية: 126.
2 سورة الزمر آية: 23.
3 سورة الرحمن آية: 1-4.
4 مقدمة ابن خلدون ص: 435. يقال إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سئل بم عرفت ربك؟ فقال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي، فقيل له: وهل يتأتى لبشر أن يدركه؟ فقال: "العجز عن الإدراك إدراك". من كتاب حل الرموز ومفتاح الكنوز لشارح الفصوص 21، لانقطع بصحة القصة لأنها بلا سند، ولكن للاطلاع والبحث.
"ذات" كما تضاف مثل هذه الصفات وغيرها إلى ذاتنا مع الفارق البعيد بين كمالها في ذات الإله، ونقصها في ذات الإنسان.!!
وقد جاء في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تضيف إلى الله صفات فعل تدل على الإيجاد كقوله تعالى: في أول ما نزل من الكتاب: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1، ففي الآيات تعريف بذات الله، وأنها تخلق وتعلم، وكقوله تعالى:{اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 2، وقوله تعالى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ} 3، وقوله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 4، فذات الإله ذات توصف بالسمع وتوصف بالرؤية وتوصف بالعزة والحكمة {إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء* هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5، وأكثر فواصل القرآن تنتهي غالباً بصفة من صفات الله تعالى، أو بالمزاوجة بين صفتين من صفاته.
ومن النوع الأول:
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} 6، {وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا} 7.
1 سورة العلق آية: 1-5.
2 سورة الرعد آية: 8-9.
3 سورة الشورى آية: 19.
4 سورة المجادلة آية: 1.
5 سورة آل عمران آية: 5-6.
6 سورة النساء آية: 32.
7 سورة النساء آية: 126.
ومن النوع الثاني:
وهو الأعم الأغلب، قوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} 1، وقوله:{إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2.
هذا
…
وقد كان السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم يتلون كتاب الله ويستمعون إلى آيات الكتاب وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فما وقفوا موقف تساؤل أو حيرة أمام صفة من صفات الله، ولا وقع في تفكيرهم أن "الذات" شيء وأن الصفات شيء، أو أنهما وجهان لحقيقة واحدة، أو غير هذا مما دار حوله الجدل واشتد فيه الخصام بين جماعات المسلمين بعد أن مضى عهد الراشدين ودخلت في الإسلام مذاهب وآراء وفلسفات، مع الذين دخلوا في دين الله من فرس وروم وبربر وهنود وغيرهم.
هكذا نترك هذه الفقرة بهد أن استعرضنا نصوصاً من الكتاب العزيز في ذات الله تعالى مع الإشارة إلى موقف المسلمين الأولين من الصحابة والتابعين ومن اقتنع بمنهجهم من أهل العلم، لنرى في الفصل التالي كيف أفصحت السنة عن "ذات الله"، ولنرى هناك أقوالاً لبعض الأنبياء وبعض الصحابة مع النهي عن التفكير في ذات الله لينحصر التفكير في مخلوقات الله التي هي من آياته تعالى.
1 سورة الفرقان آية: 6 وردت عدة مرات.
2 سورة البقرة آية: 115.
الفصل الرابع: مفهومات الذات في السنة النبوية
وقد وردت عدة أحاديث فيها إطلاق لفظ "الذات"، وإثباتها الله تعالى ومن ذلك:
أ- حديث أبي هريرة1 عند البخاري، حيث يقول الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام:"لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث كذبات، اثنين منهن في ذات الله عز وجل"2.
1-
قوله: إني سقيم.
2-
قوله: بل فعله كبيرهم هذا.
3-
قوله لسارة هي أخته خوفاً عليها من سلطان جبار وسارة زوجته والقضية مستوفاة في صحيح البخاري.
ب- حديث أبي هريرة في قصة خبيب الأنصاري عندما قتله المشركون حيث قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
…
على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزع3
1 صحيح البخاري يراجع فتح الباري كتاب أحاديث الأنبياء 7/200، مطبعة البابي الحلبي وأولاده.
2 خصها بذلك لأن قصة سارة وإن كانت أيضاً في ذات الله، ولكن تضمنت حظاً لنفسه ونفعاً له بخلاف الاثنتين الأخريتين، فإنهما في ذات الله محضاً، وفي رواية هشام بن حسان: أن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات، كل ذلك في ذات الله. راجع فتح الباري 7/201 ط الحلبي.
3 فتح الباري كتاب التوحيد 17/152.
والقصة مذكورة ومكررة في صحيح البخاري في كتاب الجهاد، وفي المغازي، وفي كتاب التوحيد أخيراً.
ج- حديث ابن عباس: "تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله" روي مرفوعاً وهو ضعيف، وروي موقوفاً، قال الحافظ ابن حجر: وسنده جيد.
د- حديث أبي الدرداء: "لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله"، قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات إلا أنه منقطع.
ثم قال الحافظ: ولفظ "ذات" في الأحاديث المذكورة بمعنى من أجل أبو بمعنى حق، وأردف قائلاً: ومثله قول حسان:
وإن أخا الأحقاف إذ قام فيهم
…
يجاهد في ذات الإله ويعدل
وهو كقوله تعالى حكاية عن قول القائل: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ثم قال الحافظ: فالذي يظهر أن المراد جواز إطلاق لفظ "ذات" لا بالمعنى الذي أحدثه المتكلمون، ولكنه غير مردود إذا عرف أن المراد به النفس لثبوت لفظ النفي في الكتاب العزيز1 اهـ.
هذا
…
وقد تقدم تحقيق لفظ "ذات" من حيث اللغة وفي اصطلاح المتكلمين نقلاً عن الحافظ ابن القيم في أول هذا المبحث2.
1 فتح الباري 17/153.
2 راجع ص 74.
المبحث السابع: الحديث عن بعض المدافعين عن منهج السلف
إن منهج السلف الصالح في إثبات صفات الله تعالى وأسمائه على الرغم من وضوحه وعدم غموضه لم يسلم من أقلام غلاة النفاة الذين يرون أن إثبات صفات الله وأسمائه هو عين التشبيه والتجسيم. ولا يتم تنزيه الله تعالى عما لا تليق به إلا بنفي الصفات عند بعضهم، وبنفي الصفات والأسماء معاً عند البعض الآخر، بل لم يسلم المنهج حتى من بعض الصفاتية الذين يثبتون بعض الصفات أو أكثرها ولكنهم يرون وجوب تأويل بعض الصفات الأخرى، وقد استهدف منهج السلف هؤلاء جميعُهم على اختلاف مناهجهم فنالوا من المنهج، ورموا السلفيين بالتشبيه والتجسيم، وهم بريئون عن ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وفيما يلي نتحدث عما قام به عدد من أئمتنا من الجهود للدفاع عن منهج السلف والسلفيين.
المدافعون عن منهج السلف:
ابتدأت آراء الجهمية في القرن الثاني من الهجرة النبوية، ثم انتشرت في المائة الثالثة، وتولى إذاعتها والدعاية لها والكتابة فيها بشر المريسي المتوفى سنة 218هـ، ويقال: إنه فقيه ومتكلم إلا أنه اجتمعت فيه أمراض عدة ينسب إلى المرجئة أحياناً، وينسب أحياناً أخرى إلى الجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان ويذكر الإمام ابن تيمية أن أصل الجهمية يرجع إلى عناصر دخيلة على الإسلام، لأن جهم بن صفوان المتوفى سنة 281هـ أخذ مقالته عن الجعد بن درهم، وأن الجعد أخذها عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت، وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم
اليهودي، ويذكر أنه من يهود اليمن. أما الجعد بن درهم فهو من أرض حران التي كانت فيها عناصر كثيرة من الصابئة والفلاسفة، ومن ثم فإن مقالة الجهمية ترجع إلى عناصر فلسفية وصابئية ويهودية.
وقد أخذ الفارابي المتوفى سنة 339هـ نفسه عن فلاسفة حران، كما أخذ جهم بن صفوان عن البوذية أو السمنية1.
ولما انتشرت آراء الجهمية ومذهبها في التعطيل وإنكار الصفات وفي القول بخلق القرآن، تصدى لها الأئمة من سلف هذه الأمة بالرد وبيان ضلالها وانحرافها2.
منهم من كتب في ذلك كتاباً أو كتباً، ومنهم من نقلت عنه عبارات وجمل تدل على الاستنكار، وكل ذلك يوضح لنا أن أئمة السلف لم يأل جهداً في الرد على منكري الصفات من يوم ظهورها، وسوف نقدم فكرة موجزة عن بعض هؤلاء الأئمة مع ذكر نموذج من كلامهم، وفي مقدمتهم:
أ- الإمام أحمد بن حنبل، وهو الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، وقد ترجم لهذا الإمام غير واحد من المؤرخين، وذكروا جميعاً أنه رحمه الله حملته أمه (بمرو) وولدته (ببغداد) في شهر ربيع الأول سنة 164هـ وقد كان أبوه والي بلدة (سرخس) وتوفي والده سنة 179هـ فنشأ ببغداد، وتولت أمه تربيته، وظهرت عليه لوائح النجابة في صباه.
ويذكر المترجمون: أنه من شدة رغبته في أخذ علم الحديث، كان يذهب إلى المساجد مبكراً حتى إن أمه تشفق عليه وتطلب منه أن يتأخر حتى يصبح الناس وينتشر ضوء النهار3، وذكر بعض من ترجم له أن الإمام أحمد لم يقتصر في طلب العلم على علماء بلده بغداد فقط، بل إنه رحل إلى كل من الكوفة، والبصرة ومكة، والمدينة المنورة، واليمن والشام بل
1 السمنية: طائفة من أصحاب التناسخ. ومن القائلين بقدم العالم، وينكرون المعاد والبعث، مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ص:270.
2 عقائد السلف د. النشار، د. عمار الطالبي ص: 7-8.
3 المصدر السابق بتصرف في العبارة ص: 9.
إنه رحل إلى بلاد فارس، وخراسان، وأخيراً عاد إلى بغداد، وتفيد المصادر أيضاً أن الإمام أحمد بدأ في الاشتغال بالحديث، وعمره ست عشرة سنة.
المحنة
وكان الإمام أحمد كغيره من أهل الحديث والسنة يذهب إلى أن الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، وأن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود يوم يرفعه الله.
وعندما قامت للمعتزلة دولة قوية بتولي الخليفة السابع من خلفاء بني العباس الخليفة (المأمون) بلغ الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة ذروته، وتلك الفتنة التي عرفت في التاريخ باسم (المحنة) كان فيها للإمام أحمد موقف معروف في تاريخ الأمة الإسلامية، إذ وقف فيها موقفاً فريداً عجز كثير من الأئمة والعلماء الثبات فيه. وملخصها ما يرويه المؤرخون والمترجمون للإمام أحمد: أن الخليفة (المأمون) قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق، وأوقعوه في الباطل إذ زينوا له القول (بخلق القرآن) ، ونفي صفات الله عز وجل، والخوض في المطالب الإلهية بعيداً عن نصوص الكتاب والسنة، بل إنه ضرب صفحاً من النصوص زاعماً بأنها لا تفيد اليقين متأثراً بفكرة المعتزلة1.
قال البيهقي: "ولم يكن في خلفاء بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف، ومنهاجهم، فلما تولى المأمون الخلافة اجتمع به هؤلاء المعتزلة فحملوه على نفي الصفات والقول بخلق القرآن"اهـ.
وكل الذين تحدثوا عن المحنة يتفق كلامهم بأن الخليفة المأمون أتِيَ مِنْ قِبَلِ بطانة السوء، من أئمة الاعتزال، وتورط في مشكلة هزت خلافته لأنه لم يأخذ الأمر
1 استقينا هذه المعلومات (بالمعنى) عن ابن كثير في البداية والنهاية وابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد. ترجمة الإمام أحمد.
بِرَويّة وحكمة لحل المشلكة، وهي مشكلة يحلها العلماء بالمناقشة والحوار الحر، ومقارعة الدليل بالدليل، بل نصب نفسه داعية لا يرد له قول، ولا يعصى له أمر مستغلاً في ذلك سلطانه العريض. وفي عام 218هـ كتب المأمون إلى نائبه وواليه ببغداد (إسحاق بن إبراهيم بن مصعب) يأمره أن يدعو الناس إلى القول (بخلق القرآن) هكذا بهذه الجرأة ودون مقدمة أو تمهيد.
ولم يسع الوالي إلا الامتثال فجمع مجموعة من أئمة الحديث، وبعض القضاة والفقهاء، فدعاهم إلى ذلك القول الخطير، فامتنعوا فأخذ يتهددهم بالضرب وقطع المرتبات بالنسبة للموظفين منهم، فأقر كثير منهم مكرهين، وأصر على الامتناع جماعة، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل الذي صمد في موقفه لم يزعزعه التعذيب، ولم تأخذ بقلبه تلك الفتنة، ولم يبال بسلطان الخليفة وما يملكة من أنواع التعذيب، ويذكر بعض من ترجم له أن الخليفة المأمون توفي (بطرسوس) قبل أن يصل إليه الإمام أحمد، وهو محمول إليه، ثم رد إلى بغداد، واستمر الامتحان أمام المعتصم ثم الواثق ثم بقي الإمام بعد موت الخلفاء الثلاث، وقد ماتت معهم المحنة، وبقي الإمام بعدهم لنشر السنة التي عذب من أجلها وليرفع صوته بنصوص الصفات من جديد، وقد أتى الله بالفرج في عهد (المتوكل) وقضى بذلك على بقية البدعة ولذلك لقبه أهل عصره (ناصر السنة وقامع البدعة) فاستحق لقب (إمام أهل السنة) وقد ساعده الخليفة المتوكل الذي أعلن برفع (المحنة) وأمر بنشر أحاديث الصفات بما في ذلك صفة الكلام، التي هي بيت القصيد في الموضوع.
وبمناسبة انتشار آراء أهل البدع، صرح الإمام أحمد وأوضح موقفه من نصوص الصفات فيما يرويه ابنه عبد الله بن أحمد، ومن ذلك قوله رحمه الله:"هذه الأحاديث نرويها كما جاءت"، وقوله:"إن ما يرجع إلى عالم الغيب لا ينبغي الخوض فيه، وإنما نفوض أمره إلى الله". ومن كلامه: "من صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة إرجاء ما غاب عنه من الأمور إلى الله"، كما جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أهل الجنة يرون ربهم"، فيصدقها
ولا يضرب لها الأمثال، ووقف الإمام من أهل الكلام موقفاً معارضاً فقال:"لا تجالسوا أهل الكلام وإن ذَبّوا عن السنة"، وقال أحمد:"صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة: من شهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأقر بجميع ما جاءت به الأنبياء والرسل. وعقد قلبه على ما ظهر من لسانه ولم يشك في إيمانه ولم يكفر أحداً من أهل التوحيد بذنب. وأرجأ من غاب عنه من الأمور إلى الله. وفوض أمره إلى الله"
…
الخ.
وقد عدد الإمام صفات كثيرة يرى أنها من صفات أهل السنة والجماعة لئلا يلتبس الأمر على من يريد معرفتهم ويميز بينهم وبين أهل البدع الذين يتصفون عادة بأضداد هذه الصفات.
وإذا ما تحدثنا عن المحنة وصبر الإمام أحمد فيها يَجْدُرُ بنا أن نذكر نموذجاً من أسئلة الامتحان ليتصور القارئ صورة المحنة ولو بعض التصور، والي بغداد يسأل والإمام أحمد يجيب:
إسحاق: ما تقول في القرآن؟
الإمام أحمد: هو كلام الله.
إسحاق: أمخلوق هو؟
الإمام أحمد: هو كلام الله لا أزيد على هذا.
إسحاق: ما معنى أنه تعالى سميع بصير؟
الإمام أحمد: هو كما وصف نفسه.
هذه بعض الأسئلة التي يوجهها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب والي بغداد الذي كلف من طرف المأمون بامتحان العلماء وشيوخ الحديث والسنة، وقد ثبت الإمام أحمد أمامها ونجح في الامتحان نجاحاً نال به أعلى (وسام) يناله عالم سلفي وهو (وسام الإمامة) إذ لقبه أهل عصره العارفون بموقفه لمعرفتهم كيف أبقى الله بع على العقيدة بصبره وثباته (بإمام أهل السنة وقامع البدعة) .
هكذا نوجز ترجمة هذا الإمام اقتصاراً على ما يتلاءم وبحثنا، رحمه الله وجزاه عن السنة وأهلها خير الجزاء.
وقد خلف الإمام أحمد للمكتبة الإسلامية كتباً ورسائل كثيرة ونافعة، ومن أبرزها (مسند الإمام) المعروف، الذي تغني شهرته عن التعريف وله كتابه الفريد الذي كتبه رداً على الزنادقة والجهمية إذ يعتبر من أهم ما كتب في مجاله، وقد ناقش فيه الإمام المشككين في القرآن الذين يتأولونه على خلاف ظاهره، وقد دافع الإمام في هذا الكتاب عن المنهج السلفي خير دفاع، فجزاه الله خير ما جازى به المجاهدين.
مواقف الإمام
وبعد أن استعرضنا نبذة من حياة الإمام أحمد واستعرضنا أيضاً طرفاً من المحنة، وما جرى بينه وبين خصومه في مشكلة خلق القرآن، فلنسمع صوت الإمام وهو في حوار (حيّ) مع الجهمية حيث يدافع عما يعتقده السلف في صفات الله، فلنأخذ مقتطفات من كلامه في مبحث الرؤية، وصفة العلو، والمعية فتعال بنا لنحضر الحوار ثم لنستمع إليه بقلب حاضر وكأنك تسمع الصورة الصوتية للإمام وهو يناقش بأسلوبه الخاص ولغته القوية. وقد بوب الإمام لكل موضوع يجري فيه الحوار إذ يقول مثلاً:
بيان ما جحدت الجهمية من قول الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، قال الإمام أحمد رحمه الله: فقلنا لهم: لم أنكرتم أن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم؟! فقالوا: لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ربه لأن المنظور إليه معلوم موصوف. لا يرى إلا شيء يفعله. فقلنا: أليس الله يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، قالوا: إن معنى {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 2،
1 سورة القيامة آية: 22-23.
2 سورة القيامة آية: 23.
أنها تنظر1 الثواب من ربها وإنما ينظرون إلى فعله وقدرته، وتلوا آية من القرآن:{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} 2، فقالوا: إنه حيث قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} ، إنهم لم يروا ربهم، ولكن المعنى ألم ترَ إلى فعل ربك، فقلنا: إن فعل الله لم يزل العباد يرونه، وإنما قال:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، فقالوا: إنما تنظر الثواب من ربها، فقلنا: إنها مع من تنظر الثواب هي ترى ربها. فقالوا: إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وتلوا آية من المتشابه من قوله الله جل ثناؤه:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 3، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف معنى قول الله:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ، وقال:"إنكم سترون ربكم" 4، وقال الله لموسى:{لَن تَرَانِي} ، ولم يقل: لأن أرى، فأيهما أولى أن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:"إنكم سترون ربكم " أو قول الجهمي حين قال: لا ترون ربكم؟! والأحاديث بأيدي أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم لا يختلف فيها أهل العلم.
وبعد: إنّ القارئ يدرك أن الإمام يشير إلى أن الإدراك المنفي في قوله تعالى: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ، أمر زائد على الرؤية وهذا المعنى في غاية الوضوح، لأن العباد عندما يرون ربهم لا يدركونه أو لا يحيطون به، كما أنهم يعلمون ربهم ويؤمنون به، ولا يحيطون به علماً ومعرفة، وقد يتصور هذا المعنى حتى في مخلوق من مخلوقات الله تعالى. فمثلاً إنك ترى الشمس دون شك، وهي في ضحى النهار ولكن لا تحيط بها إحاطة من كل وجه، وهي خلق من خلق الله تعالى ولله المثل الأعلى، فلا غرابة في إثبات الرؤية من مجموع
1 من الانتظار لا من النظر أي تنتظر الثواب، وتتوقعه.
2 سورة الفرقان آية: 45.
3 سورة الأنعام آية: 103.
4 أخرجه الشيخان والترمذي، وهو قطعة من حديث طويل من حديث أبي هريرة، وفي معناه حديث جابر عند مسلم.
الآيات والأحاديث مع نفي الإدراك، كما نفت آية سورة الأنعام {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} . والله أعلم.
فلنعد إلى سماع الحوار مرة أخرى في الموضوع نفسه، حيث يقول الإمام أحمد رحمه الله: وحديث سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد في قوله الله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 1.
قال: النظر إلى وجه الله: ومن حديث ثابت البناني عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: "إذا استقر أهل الجنة في الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة! إنّ الله قد أذن لكم في الزيادة، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله لا إله إلا هو".
ثم قال الإمام: وإنا لنرجو أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله، لأن الله قال للكفار:{كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} 2، فإذا كان الكافر يحجب عن الله، والمؤمن يحجب عن الله، فما فضل المؤمن على الكافر؟ والحمد لله الذي لم يجعلنا مثل جهم وشيعته، وجعلنا ممن اتبع ولم يجعلنا ممن ابتدع والحمد لله وحده3.
هكذا رأينا كيف كان الإمام أحمد يدافع عن منهج أهل السنة والجماعة، في هذا الباب الخطير الذي ضل فيه كثير من المتأخرين ممن وقعوا فريسة لآراء أهل الكلام من الجهمية وشيعتهم، ولعل القارئ أدرك من طريق الحوار أن شيوخ الحديث وأئمة السنة يجيدون طريقة الاستدلال بالنصوص بأسلوب استنباطي ومنطقي دقيق. وليس الأمر كما يزعم خصومهم من أنهم (نَصِيّون) يحفظون النصوص، وليسوا بعقليين، أي لا يعمدون إلى ذكر الأدلة
1 سورة يونس آية: 26.
2 سورة المطففين آية: 15.
3 نقلنا هذا الحوار من عقائد السلف تحقيق د. النشار وعمار ص: 85-86، كتاب الرد على الزنادة والجهمية للإمام أحمد بن حنبل.
العقلية، بل لا يزيدون على سرد النصوص فقط. ولو سايرنا الإمام إلى آخر حواره الطويل، لرأينا كيف يضرب الأمثال التي تقرب المعاني إلى الأذهان، وتعين على الفهم. فلنسمع مثلاً إلى هذا النموذج من كلام الإمام وهو يفسر قوله تعالى:{وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 1، يقول الإمام رحمه الله: وإنما معنى قوله: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} يقول: وهو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان. ولا يكون علم الله في مكان دون مكان. وذلك قوله تعالى:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} 2.
ثم قال الإمام رحمه الله: ومن الاعتبار3 في ذلك لو أن رجلاً كان في يده قدح من (قوارير) صاف وفيه شراب صاف، كان يصير ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله - وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه، ثم قال خصلة4 أخرى: لو أن رجلاً بنى داراً بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وهو خارج كان بن آدم لا يخفى عليه كم بيتاً في داره، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله - وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع ما خلق وعلم كيف هو، وما هو من غير أن يكون في شيء مما خلق5.
هكذا يحلل الإمام معنى الآية ليقربه إلى أفهام القراء، وهكذا يفهم
1 سورة الأنعام آية: 3.
2 سورة الطلاق آية: 12
3 أي مثال ذلك.
4 أي مثال آخر.
5 عقائد السلف ص: 94.
أئمة الحديث معاني النصوص مع القدرة على البيان الشافي والدقة في ضرب الأمثلة، ولله الحمد والمنة.
بمثل هذا المثال وهذا التحليل نضرب في وجوه أرباب الكلام والمتفلسفة الذين يزعمون أن أئمة الحديث والسنة بمثابة الأميين الذين يرددون النصوص ولا يفقهون لها معنى.
ولقد أثبت الأمام بهذا الحوار المؤيد بالأمثلة أن الله تعالى فوق عرشه بائن من خلقه، وهو معهم بعلمه وسيأتي لهاتين الصفتين مزيد بحث إن شاء الله عند الكلام على معاني الصفات في الأبواب اللاحقة.
ب- أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري بن إبراهيم الجعفي
ولد - الإمام البخاري- كما يحدثنا المترجمون في بلدة (بخارى) من بلاد ما وراء النهر، قرب (سمرقند) ، وهذه المناطق تقع حالياً تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي، والله المستعان.
ويذكر المترجمون له أن الإمام ولد في 13 من شهر شوال لعام 194هـ من أسرة جمع الله لها بين الصلاح والتقى والثراء والعلم، وتوفي والده وهو لا يزال طفلاً وتولت أمه تربيته (وحَدبتْ) عليه ورعته خير رعاية، وقد حجت به أمه وهو صغير ثم تركته بمكة فرجعت إلى بخارى، فبقي الطفل بجوار بيت الله الحرام، ليطلب العلم ويجالس شيوخ الحديث والعلم، في الحرم الشريف، فأخذ العلم على أيدي شيوخ مشهورين في بلده وغير بلده، ويحدثنا الإمام نفسه أنه حفظ كتب ابن المبارك وكتب وكيع وهو ابن ست عشرة سنة1، ومن أشهر شيوخه إمام أهل السنة والجماعة وقامع البدعة الإمام أحمد بن حنبل كما يحدثنا الإمام البخاري أنه لقي أكثر من ألف رجل من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر، وخراسان، وأخبرنا أنهم ما كانوا
1 ابن حجر، هدي الساري ص:194.
يختلفون في أن الدين أو الإيمان قول وعمل، وأن القرآن كلام الله، وقد زار الإمام البخاري بلداناً كثيرة في طلب العلم، وتردد إلى بعض البلدان أن من مرة منها بغداد حيث يوجد شيخه الكبير الإمام أحمد بن حنبل. أما مكة فقد أقام بها ستة أعوام، وحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح1. وخرج كتابه (الجامع الصحيح) ، من نحو ستمائة ألف حديث. وصنفه في ستة عشر عاماً، وهو أصح كتاب بعد كتاب الله عند أهل العلم والمعرفة2.
وللإمام البخاري كتاب مستقل ناقش فيه الجهمية في صفة الكلام والاستواء خاصة، وفي بقية الصفات عامة، وأورد فيه كلام أهل العلم من شيوخه وغيرهم.
1 المصدر السابق.
2 المصدر السابق ص: 489.
موقف الإمام البخاري من الجهمية في صفة الاستواء والعلو
يحكي البخاري عن عبد الله بن المبارك، وهو أحد مشايخه الكبار حيث يقول ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا، بل على العرش استوى، وقيل له: كيف تعرف ربك؟ قال: فوق سماواته على عرشه، وقال لرجل منهم: أتظنه خالياً منه؟ فبهت الآخر. وقال من قال: (لا إله إلا هو) مخلوق، فهو كافر، وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية1.
وقد ألف البخاري كتاباً سماه (خلق أفعال العباد) تحدث فيه عن القرآن الكريم، ورد فيه ما زعمت المعتزلة من أن القرآن مخلوق بأسلوب يشبه جداً أسلوب شيخه الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله في رده على الزنادقة والجهمية. وقد قال البخاري في هذا الكتاب:"نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وأني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم"2.
يقال إنه قد نسب إلى الإمام البخاري أنه كان يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، ولما سئل عن ذلك أجاب بقوله: القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة. والامتحان بدعة3، وكان رحمه الله يكره التعمق والتنقيب عن النقاط الغامضة في هذه المسألة وغيرها من المسائل التي تتعلق بالأسماء والصفات وأفعال العباد، بل يرى الاكتفاء بظاهر النصوص بعد
1 عقائد السلف ص: 120.
2 عقائد السلف ص: 123.
3 هدي الساري ص: 203.
فهمها على حد فهم السلف الصالح رحمهم الله، ومن أطلع على ما حققه في صحيحه في كتاب التوحيد وكتاب الدعوات وغيره في مسائل هذا الباب يدرك أنه من الأئمة المدافعين عن منهج السلف الصالح الذي يجهله كثير من المتأخرين مع ثنائهم العاطر على السلف الصالح، يعرفونهم ويجهلون منهجهم، إنه تناقض غريب، (والله المستعان) .
قال سعيد بن عامر1: "الجهمية أشر قولاً من اليهود والنصارى، وقد أجمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان على أن الله تبارك وتعالى على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء".
جـ- الإمام عثمان بن سعيد الدارمي:
وهو ذلك الأديب الفقيه والمحدث المعروف، وقد أخذ الحديث عن أئمة كالجبال في علوم الحديث مثل يحيى بن معين، وعلي بن المديني وأمثالهما.
ويقول بعض من ترجم له إنه أخذ من شيوخ لا يعدون كثرة، وقد توفي هذا الإمام الفذ في بابه في سنة 280هـ ودفن ببلدة (هراة) 2، وقد ألف الإمام الدارمي كتاباً في الرد على الجهمية وصفه بعض أهل العلم بأنه من أقوى ما كتب في هذا الباب أسلوباً ومن أمتنها حجة. ويكفي فخراً لهذا الإمام، أن الإمام ابن تيمية كان يوصي بقراءة كتابين من كتبه وهما:
1-
كتاب الرد على الجهمية.
2-
كتاب النقض على بشر المريسي.
ويصفهما بأنهما من أجل الكتب المصنفة في السنة، وأنفعها لكل
1 هو الإمام الثقة أبو محمد الضبعي البصري، شيخ أحمد وإسحاق وابن معين من رجال الكتب الستة، توفي سنة 208هـ. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 1/351.
2 عقائد السلف ص: 44 نشار وعمار.
وهراة مدينة عظيمة مشهورة من أمهات مدن خراسان آنذاك. تقع غربي أفغانستان، فتحها الأحنف بن قيس. راجع معجم البلدان 8/451.
طالب سنة، مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون. كما أثنى عليهما الإمام ابن القيم بمثل ثناء شيخه ابن تيمية، وفي الكتابين المذكورين تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما1.
أما الكتاب الآخر فقد ألفه ليرد فيه على بعض أتباع بشر المريسي الذي كتب الرد على الإمام الدارمي في كتابه (الرد على الجهمية) ، ثم رد الإمام بهذا الكتاب على شيخهم ورئيسهم بشر المريسي، وناقش فيه المريسي لا صاحب الكتاب لأن صاحب الكتاب كان يورد كلام المريسي وحججه ويستدل بها لأنه عمدته في الرد الذي كتبه. هكذا ذكروا، قال الإمام الدارمي في مطلع كتابه الذي رد فيه على المريسي: أما بعد، فقد عارض مذهبنا في الإنكار على الجهمية من بين ظهرانيهم معارض، وانتدب لنا منهم مناقض ينقض ما روينا فيهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفاسير المضل المريسي الجهمي
…
الخ2اهـ.
وقد ناقش الإمام الدارمي في هذا الكتاب المريسي خاصة وأهل الاعتزال عامة مناقشة حادة ومفحمة في تأويلاتهم وتلاعبهم بالنصوص. فعقد باباً في أسماء الله وأوضح أنها غير مخلوقة كما عقد باباً خاصاً في صفة النزول، فأجاد فيه وأفاد، وباباً آخر في مبحث السمع والبصر، وإثبات الرؤية في الدار الآخرة، وهو: معتقد أئمة السلف قاطبة، وقد أكثر من التبويب للصفات الخبرية وغيرها إمعاناً منه في الرد على المريسية والجهمية في تأويلاتهم.
1 اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص: 110.
2 الرد على المريسي ضمن عقائد السلف ص: 46 تحقيق د. نشار، وعمار.
وقد كان منهجه في عرض الصفات وسوقها منهجاً سلفياً واضحاً، إذ يفصل في الإثبات مع الإجمال في النفي على طريقة القرآن الكريم، فمثلاً يقول: "يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويغضب، ويحب، ويبغض، ويكره، ويضحك، ويأمر، وينهى، ذو الوجه الكريم، والسمع السميع، والبصر البصير، والكلام المبين، واليدين
…
الخ. ثم قال: - بعد أن ساق مجموعة من الصفات على النمط الذي ذكرنا-: "فبهذا الرب نؤمن، وإياه نعبد، وله نصلي ونسجد، فمن قصد بعبادته إلى إله بخلاف هذه الصفات فإنما يعبد غير الله، وليس معبوده بإله. (كفرانه لا غفرانه) 1 ا. هـ
وقال الإمام الدارمي في كتابه الذي رد فيه على الجهمية: (باب الإيمان بالعرش) : وهو أحد ما أنكرته المعطلة، ثم قال: قال أبو سعيد: "وما ظننا أن نضطر إلى الاحتجاج على أحد ممن يدعي الإسلام في إثبات العرش والإيمان به، حتى ابتلينا بهذه العصابة الملحدة في آيات الله، فشغلونا بالاحتجاج لما لم تختلف فيه الأمم قبلنا. وإلى الله نشكو ما أوهت هذه العصابة من عرى الإسلام، وإليه نلجأ وبه نستعين2اهـ.
هكذا ناقش الدارمي الجهمية بحرارة وبلهجة يظهر عليها التأثر الشديد من ذلك الإلحاد الذي فاجأه من حيث لا يتوقع. والمريسية التي ناقشها الإمام الدارمي ورد شبهها من أشد الطوائف الاعتزال تطرفاً، كما لا يخفى على كل مطلع على طوائف أهل الكلام.
1 الرد على المريسي ضمن عقائد السلف ص: 47 تحقيق د. نشار، وعمار.
2 المصدر السابق ص: 263.
ولذا لا ينبغي أن يستغرب أن يناقشهم الإمام الدارمي بتلك الشدة وبهذه اللهجة القوية، لأن موقف القوم وتصرفاتهم مثير دون شك، رحم الله ذلك الإمام الغيور وأمثاله من الأئمة المدافعين عن منهج السلف الذين خلدوا بجهادهم ودفاعهم المنهج، ليبقى ما بقيت الحياة.
ومما يمتاز به المنهج السلفي، أن الذين ينهجونه لا يختلفون إلا في الأسلوب والتعبير على اختلاف أزمنتهم ومشاكلهم. وذلك راجع لوحدة المصدر لدعوتهم، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة الموضحة لمعاني النصوص إذ هم الذين حضروا نزول الوحي وفهموا النصوص فور نزولها، قبل أن يطول عليها العهد، ولذلك يحرص اللاحقون من السلف أن يقتدوا بالسابقين كما تقدم عند الحديث عن منهج السلف في إثبات الصفات.
وقد رد الدارمي في كتابه (الرد على الجهمية) على دعاة الضلال من المعطلة وعلى المغرضين من ذوي الديانات الأخرى، وله جهاد معروف ودفاع مشكور أجزل الله له المثوبة على جهاده.
د- شيخ الإسلام ابن تيمية:
هو الإمام المجتهد السلفي المحدث المفسر البارع، وقد ترجم له غير واحد من العلماء، فذكروا أنه ولد ببلدة (حران) ، ثم حمل إلى دمشق، وهو ابن سبع سنين فنشأ بها، وكانت ولادته في ربيع الأول سنة 661هـ1.
ومما ذكروا في ترجمته أنه كان شديد العناية بالحديث، وقد دار على الشيوخ ونسخ الأجزاء وخرّج، وانتقى وبرع في الرجال، وعلل الحديث، وفقهه، وفي جميع علوم الإسلام. واطلع على الفلسفة، والمنطق فبرع فيهما وأخذ ينقض المنطق بشدة، ويرد على الفلاسفة بأسلوبهم وقواعدهم، ولقد
1 الذهبي تذكرة الحفاظ 4/149.
كان شديد الاهتمام بشئون المسلمين العامة، فجاهد في الله بسيفه، وقلمه وبذل للمسلمين النصح والإرشاد. وقد حدث الإمام ابن تيمية في المسجد الأموي بدمشق كثيراً، وله فيه (كرسي) خاص يحدث عليه، وليس من عادته أن يعظ الناس من على المنبر أو يخطب خطبة الجمعة، وإنما كان المعروف عنه التدريس والتأليف والإجابة على الأسئلة والحوار العلمي.
وقد حدث بدمشق وفي مصر وكان معروفاً بالشجاعة والإقدام أيام حروب التتار. بل هو من المجاهدين المعدودين الذين جمعوا بين علوم عصرهم، وكان كثير النصح للولاة والسلاطين، بل كان يحثهم على الجهاد والدفاع عن العقيدة الإسلامية. ولما برز ابن تيمية في جميع الميادين، وأكثر من الدعوة إلى تصحيح العقيدة وإصلاح الأحكام، ومحاربة البدع وأنواع الشرك المنتشرة بين عوام المسلمين، ونقد علم الكلام وبين عواره وكشف عن شطحات المتصوفة، وإلحاد وحدة الوجود، ودعا إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة، وتعظيم هدي الرسول، وألا يقدم قول أحد على سنته، وكان يدعو إلى عدم التقيد بمذهب معين، بل على المسلم أن يدور مع الحق حيث دار.
كان يدعو إلى الإسلام بهذا الأسلوب الذي لم يكن شائعاً في بيئته، وعلى ذلك المنهج العام الذي عليه عامة الناس، دون أن يختار مجلاً لدعوته دون مجال. ولما فعل ذلك قامت قيامة المتكلمة والمتصوفة والمتفلسفة. وانضم إليهم بعض المتعصبين من المتفقه الذي هزت هذه الدعوة السلفية شعبيتهم الواسعة، فخافوا على مناصبهم ومراكزهم، وقد امتحن الشيخ بسبب دعوته الصريحة والقوية، فأوذي حتى سجن بقلعة القاهرة والإسكندرية وقلعة دمشق مرتين، وأخيراً توفي بها في 20 من شهر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (728هـ) .
ولقد كان ابن تيمية شديداً في نقض الفلاسفة، وقد بدد أوهامهم وأثبت لهم عدم صلاحية أدلتهم في المطالب الإلهية، فكان يقول رحمه الله:
"العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل، والفرع. ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده. فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة، والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم بل أوضح ابن تيمية في مناسبات عديدة في كثير من كتبه أن آراء الفلاسفة أمشاج من الإلحاد والكفر والزندقة، وقد خاف من خطرها على الدين والفكر، فركز عليها في جهاده ودفاعه، ولقد كان عصره عصراً مائجاً بالآراء المتباينة، والمذاهب المتضاربة، والعقائد المتنابذة التي أشرنا إليها سابقاً.
1-
من فلاسفة يخضعون لأرسطو وأفلاطون، ويقولون بقدم العالم.
2-
من متصوفة متأثرة بالفلاسفة أو هم أبناؤهم بل هُمْ هُمْ.
وقد تطول غلاتهم في الحلول المطلق. وكان هذا من الميادين التي ركز عليها شيخ الإسلام في جهاده.
3-
ومن جهمية جريئة يعطلون صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة، غير مبالين بالنصوص، وهم من ألد أعداء شيخ الإسلام، وإليهم وجه جلّ اهتمامه.
4-
الأشاعرة الذين كانوا يزعمون التوفيق بين المعتزلة، وبين منهج السلف، ولكنهم لم يفلحوا إذ ليس من الممكن التوفيق بين الحق والباطل، بل الواجب الانتصار للحق وإزهاق الباطل.
5-
كما يوجد في عصره باطنيون غامضون يتلوّنون بألوان مختلفة، ويتقمصون لكل جماعة قميصاً يناسب ميولهم ويرضيهم، ويتشكلون طوائف متعددة إلا أنهم يجمعهم غرض واحد، وهو محاولة القضاء على الإسلام لو استطاعوا.
وبهذه المناسبة نذكر تعريف القياس ووجه منع استعماله في المطالب الإلهية، مع بيان النوع الجائز استعماله، وهو القياس الأولي.
تعريف القياس
القياس في اللغة التقدير. يقال: قست الثوب بالذراع إذا قدرته.
وأما في الاصطلاح فهو حمل فرع على أصل في حكم بينهما. هذا واحد من تعريفاته، وله أركان أربعة، كما يظهر في التعريف:
1-
أصل
2-
فرع
3-
علة
4-
حكم.
وله أقسام كثيرة، ومن أقسامه: قياس التمثيل، وقياس الشمول:
فالأول: هو إثبات حكم جزئي معين لجزئي آخر لمشابهة بينهما. كقولهم: النبيذ حرام كالخمر لجامع بينهما، وهو الإسكار.
وأما الثاني: وهو قياس الشمول فيمكن أن يقال في تعريفه: إنه إثبات حكم كلي لكلي آخر، لما بينهما من المشابهة. كقولهم: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم.
وإذا أردنا معرفة سبب إنكار علماء السلف، - وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية - استعمال هذه الأقيسة في المطالب الإلهية ترجع إلى تعريف القياس عامة وإلى تعريف التمثيل والشمول خاصة، لنستعرض أركان القياس في جميع تلك الأقيسة، فتكون النتيجة أن الأقيسة كلها تشتمل على فرع يلحق بالأصل، وعلى المشابهة بين الملحق وبين الملحق به، وهي العلة التي لا يتم القياس المنطقي إلا بها.
فكل هذه الإجراءات غير جائزة في حق الله تعالى لأنه تعالى ينزه أن يكون أصلاً في حكم حتى يلحق به غيره، كما ينزه أن يكون فرعاً لغيره يشترك معه في العلة إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، وإنما يستعمل في حقه تعالى القياس الأولي وحقيقته: أن كل كمال ثبت وليس فيه
نقص بوجه من الوجوه فالله أولى به، لأن معطي الكمال أولى به مع التفاوت بين تلك الكمالات، والله أعلم.
وبعد: فهؤلاء وأشباههم هم الذين خاصمهم الإمام ابن تيمية، ولكنه كان كريماً في خصومتهم وعادلاً في الحكم عليهم، إذ ليس لديه هدف في خصومته ودفاعه إلا النصرة للعقيدة الإسلامية المستهدفة من جميع تلك الطوائف، وهو خبير بهم، وفاهمٌ لمذهبهم فهما دقيقاً1.
هكذا كان يعيش الإمام ابن تيمية في ذلك العصر المائج بتلك الآراء مجاهداً ناصحاً ومدافعاً مع التجلد والصبر، ولقد رمته تلك الطوائف من قوس واحد، ونصبوا له العداء، وحبكوا حبال السعاية لدى السلاطين، ولهذا العداء الجماعي نتائجه الطبيعية من سجن وامتحان وأنواع من الإيذاء.
ولعل الفرية البطوطية من أهم نتائج ذلك العداء، ولقد أخِذَتْ الفرية قضية مسلمة في مختلف العصور يروونها ويتوارثونها، هي مروية في رحلة ابن بطوطة المعروفة، وممن تورط في حكايتها ونشرها أصحاب (دائرة المعارف الإسلامية) التي ترجمت إلى العربية في مصر وملخصها قول ابن بطوطة عن شيخ الإسلام ابن تيمية:"وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر"، والذي يثبت أن الرواية مجرد فرية، لأن ابن تيمية كان في السجن في ذلك الوقت الذي زعم ابن بطوطة أنه سمعه وهو يعظ الناس.
يقول الشيخ محمد بهجة البيطار: إن ابن بطوطة لم يسمع من ابن تيمية، ولم يجتمع به، إذ
1 ابن تيمية نقض المنطق ص: 7-9، تحقيق محمد حامد الفقي.
كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام 726هـ، وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان في ذلك العام، ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة عام ثمان وعشرين وسبعمائة (728هـ) فكيف رآه ابن بطوطة على منبر الجامع، وسمعه يقول بالنزول
…
الخ1اهـ.
هؤلاء الأئمة الأربعة: الإمام أحمد، والإمام البخاري، والإمام الدارمي، والإمام بن تيمية، ثم الإمام ابن عبد الوهاب الذي ستأتي ترجمته، هم الذين وقع اختيارنا عليهم من بين العلماء المدافعين عن المنهج السلفي في عصور مختلفة.
ولو راجعنا تراجم كبار الأئمة كأبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والإمام مالك، والليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وابن عيينة، والشافعي، والحمادين، وابن الماجشون، لوجدناهم يعبرون عن استيائهم واستنكارهم لموقف علماء الكلام من نصوص الصفات، وعدم اعتبارها أصلاً في المطالب الإلهية، فمثلاً نسمع الإمام أبا حنيفة فيما يروى عنه روايته أبو مطيع: عمن قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض قال: لقد كفر، لأن الله يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2، وعرشه فوق سبع سمواته، قال أبو مطيع: قلت: فإن قال إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا يدري العرش في السماء أم في الأرض، قال الإمام: وهو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل3.
1 بهجة البيطار: حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ص: 36-44، وعبد الصمد شرف الدين: مجموعة ابن تيمية، ط بومبائي - الهند.
2 سورة طه آية: 5.
3 ابن تيمية، الفتوى الحموية الكبرى ص: 37، تفسير شيخ الإسلام ص:22.
وقال كل من الإمام الزهري ومكحول والأوزاعي ومالك والثوري والليث بن سعد قالوا عن الأخبار التي جاءت في الصفات: أمروها كما جاءت، وفي رواية قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، وقد حكى الأوزاعي إجماع علماء التابعين على ذلك1.
إذ حكى ذلك عندما ظهر مذهب جهم بن صفوان الذي ينكر كون الله فوق عرشه، وينفي جميع صفاته تعالى، حكى الأوزاعي ذلك ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف ما يدعو إليه جهم وأتباعه، وهذا محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة يقول: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق والمغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف وتشبيه، إلى أن قال: فمن قال بقول جهم، فقد فارق الجماعة، لأنه قد وصفه بصفة (لاشيء) وما حكاه الإمام الأوزاعي من إجماع التابعين المبني على إجماع الصحابة المستند إلى الكتاب والسنة، ثم ما حكاه محمد بن الحسن من إجماع علماء المشرق والمغرب على موقفهم من نصوص الصفات، كل ذلك يغنينا عن نقل أقوال الأئمة قولاً قولاً. لذا نرى الاكتفاء بما ذكرنا من أقوال أكثرهم.
من مراجعة كل ما تقدم نستطيع أن نستخلص معالم منهج ابن تيمية في الآتي:
1-
إثبات الاتفاق بين الدليل العقلي والدليل النقلي، وهو ما ينوه به ويدعو إليه في أكثر كتبه ورسائله في الغالب الكثير.
2-
رفض التأويل والمصطلحات الكلامية والفلسفية - ومحاولة إخضاعها للمعاني التي جاء بها الكتاب والسنة. ويدعو شيخ الإسلام دائماً إلى التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات إسلامية بدلاً من تلك الألفاظ الأجنبية المحدثة، والتي فيها إجمال واشتباه محير.
1 الفتوى الحموية الكبرى ص: 40، راجع مختصر العلو ص: 142، وتقدم.
3-
نقض المنطق وهدمه واستبعاده، مستخدماً في ذلك كله أسلوبهم الخاص ليخاطبهم بما يعقلون. وأما من حيث الاتفاق بين الدليلين العقلي والنقلي فيرى شيخ الإسلام أن الاختلاف بين الدليلين راجع لأحد أمرين:
1-
ضعف الدليلين معاً.
2-
ضعف أحدهما.
وأما إذا كان كل منهما صحيحاً وصريحاً فلا يجوز اختلافهما1.
وهذا هو منهج أولئك الأئمة من قبله كالإمام أحمد إمام الأئمة، والإمام البخاري إمام الحديث، والإمام الدارمي المجاهد الكبير وغيرهم، وهؤلاء وغيرهم ممن سار هذا المسار قديماً وحديثاً تجدهم لا يختلفون في أصل المنهج على اختلاف عصورهم وأحوالهم وظروفهم، وإن اختلفوا في التعبير والأسلوب والشدة واللين كما تقدم2، وهو الذي نهجه من بعدهم الإمام محمد بن عبد الوهاب، كما سنراه عند ترجمته وعند الاطلاع على رسائله التي كان يبعث بها للدعوة إلى هذا المنهج.
ويمتاز ابن تيمية بكثرة الجبهات التي يجابهها وحده مما جعله يتسلح بنوع أسلحتهم حتى يتمكن من الدفاع عن المنهج السلفي بلغتهم وبنوع أسلحتهم، كما حمله والذين جاءوا من بعده على الخوض في غوامض علم الكلام وفلسفة الفلاسفة مضطرين.
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب
…
فما حيلة المضطر إلا ركوبُها
ولكن الدارس لمنهجهم يدرك أن منهجهم يتسم بالارتباط التام بالكتاب والسنة. وإنما خاضوا ذلك النوع من الخوض ليفسروا - بلغة
1 استقينا هذه المعلومات من كتاب منهج علماء الحديث والسنة للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع بالإسكندرية.
2 راجع ترجمة الدارمي.
القوم - ما غمض على المتكلمين. من معاني الصفات مع المحافظة على أصل المنهج السلفي الجامع بينهم وبين من سبقهم من أئمة السلف الأولين.
هـ- الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب التميمي رحمه الله:
ولادته
…
نشأته. طلبه للعمل. ورحلاته. اشتغاله بالدعوة أثناء طلبه للعلم. عودته إلى بلده، وملازمته لوالده للازدياد من العلم. عكوفه على كتب ابن تيمية وابن القيم، وتأثره بهما، استمرار دعوته بعده. آثارها في العالم المعاصر، محلياً وخارجياً.
أما ولادته: فقد ولد ابن عبد الوهاب في بلدة (العيينة) سنة 1115هـ، الموافق 1703م.
أما نشأته فقد نشأ في حجر والده عبد الوهاب، وهو أحد أعيان علماء البلد والقاضي فيه، وعرف في صغره برجاحة العقل وحصافته، وقوة الذاكرة، فحفظ القرآن الكريم قبل عشر سنين، وبلغ الاحتلام قبل تمام الثانية عشرة من عمره وذكر بعض من ترجم له: أن والده عبد الوهاب قال: رأيته أهلاً للصلاة بالناس فقدمته في هذا السن، وزوجه في ذلك العام1.
وأما طلبه للعلم: فقد طلب العلم على والده حيث قرأ عليه بعض الكتب في الفقه الحنبلي، وشيئاً من التفسير والحديث، ثم رحل رحلة طويلة في طلب العلم، حيث سافر إلى مكة، فحج البيت في أوله رحلته للعلم، ثم سافر إلى المدينة بعد الحج فزار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فأقام بها ليطلب العلم على علمائها وكان بالمدينة آنذاك من العلماء الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف آل سيف، وهو في الأصل من أهل
1 ترجمة محمد بن عبد الوهاب ص: 16-20، طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، للشيخ أحمد بن حجر، قاضي المحكمة بقطر.
نجد، بل قالوا: إنه من أعيان بلد (المجمعة) فلازمه الشيخ محمد بن عبد الوهاب فتفقه على يده فرأى فيه ابن سيف النبل والذكاء فتفرس فيه الخير، فأحبه واعتنى به كثيراً وبذل جهده في تعليمه، وكان الشيخ ابن سيف يرى الطالب الشاب يتألم مما يراه من تعلق الناس بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلوهم فيه عند الزيارة والسلام عليه، إذ يدعونه عليه الصلاة والسلام من دون الله.
كما أدرك الشيخ منه تألمه الشديد مما عليه أهل نجد من عقائد باطلة، وعادات جاهلية، فازداد الشيخ ابن سيف في حبه وتقديره والحفاوة به، إذ ربطت بينهما رابطة العقيدة، فقدمه الشيخ لبعض العلماء بالمدينة كالشيخ محمد حياة السندي، وعرفه به، وبما يكنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من عقيدة صافية، وبما تجيش به نفسه في كراهة الجاهلية الشائعة في كل مكان من أنواع البدع والشرك بنوعيه.
تروي بعض المصادر أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب تضايق ذات يوم مما يسمعه من الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم فكاد ينفجر غيظه، فقال للشيخ محمد حياة السندي: ما تقول يا شيخ في هؤلاء؟ فأجابه الشيخ على الفور: {إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1.
ودرس الشيخ مدة إقامته بالمدينة على غير واحد من العلماء منهم الشيخ علي أفندي الداغستاني، والشيخ إسماعيل العجلوني، والشيخ عبد اللطيف العقالقي الإحسائي وغيرهم، وعند عزمه على السفر أخذ إجازة علمية من شيخه عبد الله آل سيف وغيره من الذين حضر عليهم، فأجازوه في صحيح البخاري، ومسند الإمام الشافعي والسنن الأربعة، وغيرها من كتب الحديث.
فغادر الشيخ المدينة إلى نجد ثم البصرة ثم الشام، فأقام بالبصرة مدة
1 سورة الأعراف آية: 139.
من الزمن، فحضر على جماعة من علماء البصرة، وفي مقدمتهم الشيخ محمد المجموعي واستفاد من هذا الشيخ كثيراً في فروع اللغة العربية والحديث.
فأدرك الشيخ المجموعي أن ابن عبد الوهاب ليس بطالب علم عادي، بل أنه داعية يتهيّأ للقيام بالدعوة والإصلاح، وأنه شديد الغيرة يتألم مما يشاهده هنا وهناك من الأعمال التي لا يقرها الإسلام من الأعمال الوثنية والبدع، فأحبه المجموعي وقربه وشجعه، فأخذ الداعية ابن عبد الوهاب يكتب رسائل في الدعوة ويباحث الناس وينشر فيهم الدعوة، وهو لا يزال طالباً، فأخذ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويشدد الإنكار على عبدة القبور فأوذي بسبب ذلك حتى أخرج من البلد، فأوذي بعده شيخه المجموعي رحمهما الله.
تذكر بعض المصادر التي ترجمت للشيخ أنه أخرج من البصرة وقت الهجيرة وهو يمشي على قدمية، فتوجه إلى (الزبير) وكان يهلك من شدة الظمأ في شدة الرمضاء، فساق الله له رجلاً من أهل الزبير يسمى (أبا حميدان) ، فرآه من أهل العلم والصلاح، فحمله على حماره حتى أوصله إلى بلدة (الزبير) .
ولم يقم الشيخ في الزبير كثيراً فتوجه إلى الشام، فطلب العلم هناك، ثم رجع إلى نجد، إلا أنه عرّج على الإحساء، فنزل عند بعض علماء الإحساء، الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي، فدرس عليه مدة من الزمن، واستفاد منه.
عودته إلى نجد للدعوة والإصلاح:
وبعد هذه الرحلة العلمية الموفقة التي استفاد منها فوائد جمة حيث ازداد من العلم والمعرفة ودرس أحوال المسلمين في عدة بلدان وأدرك حاجة
المسلمين الماسة إلى الإصلاح العام والتصحيح الجذري الفوري لعقيدتهم نحو ربهم وخالقهم وموقفهم من نبيهم الذي بعث لهدايتهم وموقفهم من كتاب ربهم الذي هجروه، إذ لا يرجعون إليه لا لمعرفة عقيدتهم وأحكامهم، بل أدرك الشيخ وتأكد أثناء جولته في كثير من البلدان المجاورة، ومما شاهده في وطنه في نجد أن الأمة بحاجة إلى معرفة دينها من جديد، معرفة تامة في أصوله وفروعه، ثم تطبيق شريعته في حياتها العامة. وأن هذه الفوضى التي تعيشها الأمة لا بد أن تنتهي وتختفي لتستبدل بحياة إسلامية صحيحة شاملة لجميع نواحي الحياة.
وانطلاقاً من هذا الإدراك صمم الشيخ على القيام بالدعوة الإصلاحية العامة مستعيناً بالله.
بدأ الشيخ دعوته في بلده (حريملا) بتصحيح عقيدة الناس فيما يتعلق بعبادة الله، وأنكر عليهم تعلقهم بغير الله وصرف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله مثل النذر، والذبح، والخوف، والرجاء، مما هو منتشر في البلد آنذاك. وقد كان هذا النوع من الإصلاح جديداً على الناس ومفاجأة لهم فقوبلت الدعوة في أول الأمر بالاستنكار والرد والجدال، يقول بعض الكتاب -وهو يصف موقف الشيخ عندما بدأ يدعو الناس إلى الله وموقف الناس منه-: حقاً إن الموقف دقيق حرج يحتاج إلى شجاعة ماضية، وإلى إيمان لا يبالي بالأذى في سبيل إرضاء الله وإرضاء الحق الذي اقتنع به، وسبيل إنقاذ البشرية المعذبة، كما يحتاج إلى عدة كاملة من قوة اللسان وإصابة البرهان، ليواجه ما يجابهه من شبهات واعتراضات، لا بد منها، ثم إلى مؤازر قوي يحمى ظهره ويدافع عن دعوته1اهـ.
1 ابن حجر: ترجمة محمد بن عبد الوهاب ص: 21 طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
والموقف كما وصفه الكاتب جِدُّ حرج، إلا أن الله ثبت الشيخ على الدعوة على الرغم من كل العقبات والصعوبات التي واجهة الدعوة، وحاولت إيقافها من الداخل في أسرته قبل أن يتبينوا الأمر، ومن الخارج من المغرضين أصاحب الأهواء، ولكن الله سلم، فلم تقف الدعوة منذ بدأت بل استمر الشيخ يجاهد بلسانه وقلمه صابراً محتسباً. وكان والده ممن نازعه في أول الأمر وكذلك أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، ولكن بعض المصادر أثبتت اقتناعهما بالدعوة أخيراً والرجوع إلى الحق.
ولما تكرر إيذاؤه (بحريملا) وأراد بعض السفهاء أن يفتكوا به، غادر الشيخ (حريملا) إلى بلده ومسقط رأسه (العيينة) ، وكان يحكمها آنذاك (الأمير عثمان بن حمد بن مُعَمّر) ، فرحب بالشيخ وبدعوته. ونصحه الشيخ كثيراً ليصبر ويحتسب، لأنه لا بد أن يؤذى وشرح له دعوته، وأنها قائمة على الكتاب والسنة، وأنها تعني أول ما تعني تطهير العقيدة والأخلاق، وتصحيح الأحكام، وأن القائمين على هذه الدعوة لا يريدون إلا وجه الله، والثواب في الدار الآخرة من الله وحده.
فاقتنع الأمير فأخذ الشيخ في الإصلاح العملي، فأمر بقطع بعض الأشجار التي كانت تعبد وتعظم، وهدم قبة كانت على قبر (زيد بن الخطاب) ، كل ذلك بمساعدة الأمير ابن معمر، وأخيراً أقام الشيخ (الحد) على امرأة اعترفت بالزنا عدة مرات أمامه بعد ما تأكد من صحة عقلها ورغبتها في (التطهير) .
وبعد هذه الواقعة اشتهر أمر الشيخ وذاع صيته في كل مكان في نجد وما جاورها1. فبلغ خبره وإصلاحاته بعض الأمراء الذين لهم مكانة ومنزلة لدى ابن معمر، وأتباعه وبينهم مصالح متبادلة، فكاتبوا ابن معمر بالاستنكار إلى أن أثروا فيه، فرجع عن مؤازرة الشيخ تحت تهديد بعض أولئك الأمراء، وهو حاكم الإحساء (ابن عُرَيْعِر) فأمر بإخراج الشيخ
1 ترجمة محمد بن عبد الوهاب ص: 22 للشيخ أحمد بن حجر قاضي المحكمة بقطر.
ممن بلده. فغادر الشيخ (العيينة) إلى (الدرعية) سنة 1158، فنزل على بعض أعيان الدرعية يقال له:(عبد الرحمن بن سويلم) وبعد أيام علم به أمير الدرعية الأمير (محمد بن سعود) ، فجاء إلى الشيخ مع بعض إخوانه وأتباعه فزاروا الشيخ فدعاهم إلى التمسك بعقيدة التوحيد الخالص، وبين لهم أن التوحيد هو الذي بعث الله الرسل من أجله، وأنه قد ضعف اليوم في قلوب الناس، وتلا عليهم عدة آيات من القرآن، ودعا للأمير، ورجا من الله أن يكون إمام يجتمع عليه المسلمون بعد ذلك التفرق، وأن تكون له السيادة والملك لذريته من بعده. فشرح الله صدر الأمير محمد بن سعود، فقبل الدعوة، وأحب الشيخ، وبشره بالنصرة والوقوف معه على من خالفه في دعوته وإصلاحه. وتعاهدا وقدم كل واحد منهما ما لديه من الشروط، فواصل الشيخ عمله في الدعوة والإصلاح، والأمير يتابع الدعوة حاملاً سيفه على من يعاند الحق، فظهر أمر الشيخ وانتشرت دعوته فوفدت عليه الوفود، حتى ندم ابن معمر على ما فعل فجاء إلى الشيخ فاستسمح الشيخ رحمه الله فسامحه فأقبل الناس على العلم والعبادة والجهاد.
ثم أخذ الشيخ يراسل الرؤساء والأمراء والقضاة. فمنهم من أطاع فرجع إلى الحق، ومنهم من عاند وسخر من الدعوة. وتلك سنة الله في خلقه التي لا تتبدل ولا تتغير منذ بدأت الدعوة على وجه الأرض.
هكذا بدأ ابن عبد الوهاب دعوته وإصلاحه، فنشر العلم وألف كتباً ورسائل أكثرها كانت في توحيد العبادة الذي يرى الشيخ - كما هو الواقع- أن حاجة الناس إليه أمس من حاجتهم إلى أي علم آخر.
ولما علم الشيخ أن بعض المغرضين أشاعوا عنه خلاف واقعه في دعوته في عقيدته، في موقفه من الأئمة، وفي عقيدته في القضاء والقدر، وموقفه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل موقفه من التمسك بالسنة، وعقيدته في الأسماء
والصفات. لما علم ذلك كتب رسائل كثيرة في هذه المسائل وغيرها وأرسلها في الأقطار، حتى تعرف الناس حقيقة دعوته وعقيدته. وقد سجلت أكثر هذه الرسائل أو كلها في كثير من تراجم الشيخ. ولما أن أكثر موضوعات تلك الرسائل لا تتصل بموضوع بحثي، ولأن نقلها أو تلخيصها يؤدي إلى التطويل الممل، أكتفي بنقل رسالة واحدة هي في صميم بحثنا (رسالته في الأسماء والصفات) أنقلها بنصها لأن ذلك أبلغ في المراد.
بعد البسملة والحمد لله:
الذي نعتقده وندين الله به، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة وأصاحبهم رضي الله عنهم.
وهو الإيمان بآيات الصفات وأحاديثها، والإقرار بها، وإمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تعطيل، قال الله تعالى:{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} 1.
وقدر الله لأصحاب نبيه، ومن تبعهم بإحسان، الإيمان، فعُلِم قطعاً أنهم المراد بالآية الكريمة، قال الله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} 2، وقال الله تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 3.
فثبت بالكتاب أن من اتبع سبيلهم فهو على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فمن سبيلهم في الاعتقاد: الإيمان بصفات الله وأسمائه
1 سورة النساء آية: 115.
2 سورة التوبة آية: 100.
3 سورة الفتح آية: 18.
التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله، أو على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام من غير زيادة عليها ولا نقصان منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير ولا تأويل لها، بما يخالف ظاهرها ولا تشبه بصفات المخلوقين، بل أمروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها ومعناها إلى المتكلم بها1، وأخذ ذلك الأخر عن الأول، ووصى بعضهم بعضاً بحسن الاتباع، وحذرونا عن اتباع طريق أهل البدع والاختلاف الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 2، وقال:{وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3.
والدليل على أن مذهبهم ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار رسول الله عليه الصلاة والسلام، نقل مصدق لها، مؤمن بها، قابل لها، غير مرتاب فيها، ولا شاك في صدق قائلها، ولم يؤولوا ما يتعلق بالصفات منها، ولم يشبهوا بصفات المخلوقين، إذ لو فعلوا شيئاً من ذلك لنقل عنهم، بل زجروا من سأل عن المتشابه وبالغوا في كفّه تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب4.
ولما سئل مالك رحمه الله عن الاستواء، أجاب بمقالته المشهورة، وأمر بإخراج الرجل.
وهذا الجواب من مالك في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات،
1 أي علم كيفيتها وكنهها: أما معناها اللغوي فمعروف من الوضع العربي للكلمة فمعاني الصفات معروفة، وإنما التفويض في الكيفية والكنه هذا الذي عليه سلف الأمة قديماً وحديثاً.
2 سورة الأنعام آية: 159.
3 سورة آل عمران آية: 105.
4 إشارة ما فعله عمر بن الخطاب حين ضرب صبيغ بن عسيل الذي كان قد شغل الناس بالسؤال عن المتاشابه مثل فواتح بعض السور، ثم نفاه إلى البصرة ونهي الناس عن مجالسته (صون المنطق للسيوطي) .
مثل النزول والمجيء واليد والوجه، وغيرها.
فيقال في النزول: النزول معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا يقال في سائر الصفات، إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة.
وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله تعالى، فقال: حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحُدّه، وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تتعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام اهـ.
وثب عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يصفون ربهم بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله، وشهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقلته العدول الثقات، ولا يعتقدون بها تشبيها بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية.
وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومنّ عليهم بالتفهيم والتعريف، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واكتفوا في نفي النقائص بقوله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1، وبقوله:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2.
وثبت عن الحميدي شيخ البخاري وغيره من أئمة الحديث أنه قال: "أصول السنة: فذكر منها أشياء وقال: ما نطق به القرآن والحديث، مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الإخلاص: 3-4.
مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} 1، ومثل:{وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 2، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نرده ولا نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة.
ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . ومن زعم غير هذا فهو جهمي.
فمذهب السلف - رحمة الله عليهم - إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، كما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، ولا تشبيه، فكذلك الصفات، وعلى هذا مضى السلف كلهم.
ولو ذهبنا نذكر كل ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لطال الكلام جداً، فمن كان قصده الحق، وإظهار الصواب اكتفى بما قدمناه. ومن كان قصده الجدال والقيل والقال، لم يزده التطويل إلى الخروج عن سواء السبيل والله الموفق اهـ.
وبعد: فهذه واحدة من تلك الرسائل التي كان الشيخ يشرح فيها دعوته ويبين عقيدته في باب الأسماء والصفات، وله رسائل أخرى أوضح فيها موقفه وعقيدته في الأبواب الأخرى، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وفي هذه الرسالة أثبت الشيخ أن من سبيل الصحابة الإيمان بصفات الله وأسمائه دون تأويل ودون تجاوز للكتاب والسنة. هذه طريقة الإمام أحمد بن حنبل ومنهجه، حيث يقول:"لا يتجاوز الكتاب والسنة في باب صفات الله" أو عبارة قريبة منها. أعود فأقول: أثبت الشيخ أن هذا سبيلهم ومذهبهم بقوله:
"والدليل على أن مذهبهم ما ذكرنا أنهم نقلوا إليها القرآن العظيم،
1 سورة المائدة آية: 64.
2 سورة الزمر آية: 67.
وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقل مصدق لها، مؤمن بها، قابل لها، غير مرتاب فيها، ولا شاك في صدق قائلها. ولم يؤولوا ما يتعلق بالصفات منها". إلى آخر ذلك الاستدلال الدقيق الذي يدل على فقه عميق، وهو يشبه كما ترى أسلوب شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستدلال وتلميذه ابن القيم رحمهم الله جميعاً اللذين تخرج الشيخ على كتبهما كما تقدم.
وعلى الرغم مما كتبه الشيخ من الكتب والرسائل فقد كثر النزاع حول دعوته ولا سيما في المسائل الآتية التي ركز الشيخ عليها:
1-
توحيد العبودية، ويقال له الألوهية أيضاً، وقد كتب الشيخ في هذا التوحيد عدة رسائل وكتباً لأهميته وكتب فيه بعده أولاده وأحفاده بتوسع، وشرح بعضهم بعض كتب الشيخ في هذا التوحيد كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله قريباً.
2-
منع التوسل المبتدع مع إقراره بالتوسل المشروع1.
3-
منع شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، بقصد العبادة في مكان ما. ولا يدخل في المنع سفر طلب العلم أو سفر التجارة وزيارة الأحياء كشيوخ العلم وعباد الله الصالحين، وما في معنى هذه الأسفار مما لا يقصد فيه مكان، بل مَنْ في المكان أو ما في المكان.
4-
منع البناء على القبور وكسوتها وإسراجها، والعكوف عندها، لأن ذلك باب إلى الشرك وذريعة له كما هو معروف.
1 ثبت بالاستقراء أن التوسل ينقسم إلى قسمين: مشروع: وهو التوسل إلى الله بالإيمان والعمل الصالح، وبأسمائه، وبدعاء الرجل الصالح والأمثلة معروفة في كتب السنة.
والقسم الثاني: التوسل المبتدع، وهو الذي أنكره الشيخ، وينكره جميع الدعاة قديماً وحديثاً، وهو ما يفعله العوام وأمثال العوام من التوسل بذوات الصالحين وجاههم ومنزلتهم عند الله. والمسألة معروفة ومشروحة في بابها. ومع إيماننا بجاه الصالحين وكرامتهم عند الله فإن التوسل بجاههم وكرامتهم ومنزلتهم عند الله غير مشروع، وهو أمر لا يخفى على طالب العلم.
5-
توحيد الأسماء والصفات، وهو الذي سجلنا فيه رسالته التي شرح فيها ذلك الشرح الوافي.
6-
إنكار البدع المستحدثة في العبادة وهي أنواع كثيرة ومعروفة.
وقد سبق الشيخَ في إنكارها غيرُ واحد من أهل العلم، كابن وضاح والشاطبي وغيرهما مستدلين بمثل قوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". "ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"1.
فهذه أمهات المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الشيخ وعلماء وقته. ولا يزال النزاع مستمراً، وإن كان قد خَفّت حدتُه كثيراً كما يظهر جلياً.
استمرار الدعوة بعد وفاته، ووفاة مؤازرها:
توفي الإمام المؤازِر للدعوة محمد بن سعود رحمه الله سنة 1179هـ، ثم توفي الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب سنة 1206 رحمه الله. وهل ماتت الدعوة بموتهما أو تأثرت؟ (لا) .
مما يلاحظ في التاريخ أن أي دعوة يقوم بها بعض المصلحين أو المجددين تموت أو تضعف ثم تتلاشى مع الزمن، إذا مات صاحب الفكرة ومنشئ تلك الدعوة.
وهناك دعوة لا تموت يموت الداعية المسئول عن الدعوة، فإذاً لا بد من معرفة الفرق بين الدعوة التي تموت بموت صاحبها، والدعوة التي تبقى بعده، بل تسير ولا تقف وتعمل عملها ولبيان ذلك نقول:
هما دعوتان:
1-
دعوة أنشأها مفكر مّا بعد أن فكر كثيراً وخطط ووضع لدعوته شروطاً ولوائح، حيث رأى أنها صالحة لخدمة الأمة، أو لخدمة جماعة من
1 فتح الباري - السلفية- كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على جور 5/301، صحيح مسلم: كتاب الأقضية 12/16.
الناس، ثم سعى في إقناع مجموعة من الناس بفكرته وصالحيتها، وبيان أهدافها، فاتبعوه فصاروا من حزبه وأنصار دعوته، فلا يخلو الأمر بالنسبة لاستمرارية هذه الدعوة أو عدم استمراريتها بعد موت صاحبها من إحدى حالتين:
الحالة الأولى: أن يموت صاحب الدعوة قبل أن يربي له من يخلفه، ويقود الدعوة من بعده. ففي هذه الحالة تموت الدعوة فور موت صاحب الفكرة، ولا محالة في قضية مسلمة عقلاً.
الحالة الثانية: أن يكون صاحب الفكرة، وقد وجد من يخلفه وهو مؤهل للقيادة ومتفاعل مع الدعوة. ففي هذه الحالة قد تحيى الدعوة فترة من الزمن قد تطول، وقد تقصر، ولكنها تتلاشى مع الزمن وتتأثر وتفقد قيمتها، ثم تختفي. والتاريخ خير شاهد على ما قلت. لأن أساسها (فكرة) رجل وتخطيط بشر، والمفكر المخطط لها قد مات وانتهى، فهي إذاً لا بد أن تنتهي ولا محالة.
والشواهد كثيرة في واقع العالم المعاصر ولا حاجة إلى سردها، بل أستحسن إجمالها. لأنتقل فوراً - بعد هذا الاستطراد- إلى الدعوة التي نحن بصدد الحديث عنها.
2-
الدعوة الثانية: دعوة قام بها مصلح مجدد بيد أن معنى التجديد هنا يختلف عن معناه في الدعوة الأولى، فالدعوة الأولى -كما قلنا- أساسها فكرة بشر، وهي تحاول أو تدعي أو تأتي أما الدعوة الثانية فأساسها دين إسلامي ثابت وقائم بالفعل، ولكن صاحبها لاحظ أن المسلمين هجروا تعاليمه أو بعضها إذ رآهم هجروا كتاب الإسلام (القرآن) وأهملوا سنة نبيهم، فلم يعد القرآن مرجعاً لهم في عقيدتهم، وفي عباداتهم ومعاملاتهم وغير ذلك، ولم تكن السنة ذات قيمة
لديهم ومكانة. فدعاهم إلى العودة إلى الإسلام ليفهموا القرآن كما فهمه سلفهم، ويفسروه بالسنة كما فعل الأولون، ويطبقوا أحكامه ويعتقدوا عقيدته. وهذا هو معنى التجديد بالنسبة للدعوة الثانية. فليست الدعوة فكرة أو اختراعاً أو استحساناً قام به مفكر أو مصلح من عند نفسه مجتهداً لقصد الإصلاح.
فمثل هذه الدعوة سوف تبقى بعد موت من قام بها، ودعا إليها -لأنها ليست (فكرة) كما قلت، وإنما هي دعوة إلى الله، وإصلاح ما فسد من شئون المسلمين وربطهم بإسلامهم ليسعدوا به في الدارين.
فدعوة ابن عبد الوهاب من النوع الثاني - كما ترى- لهذا فإنها لم تمت بموت مؤازرها، والمدافع عنها بحسامه، الأمير محمد بن سعود، ثم مات المجدد المصلح الإمام محمد بن عبد الوهاب والدعوة الإسلامية السلفية باقية، وستبقى بإذن الله ما بقي الإسلام الذي هو أساس دعوته، وقام بتجديده بالعمل به وتطبيق شريعته لأنها دعوة إلى الإسلام لا إلى (فكرة رجل) كما سبق أن بينا.
ولما توفي الإمام المجدد، وقبله الأمير المؤازر سَلّمَا (الأمانة) أمانة الدعوة والإصلاح، وأمانة مؤازرتها والدفاع عنها ورعايتها، إلى أيد أمينة، وهي أيدي ذريتهما المباركة. فقام علماء آل الشيخ وتلامذتهم - تحت رعاية ملوك وأمراء آل سعود ومؤازرتهم- بمواصلة مسيرة الدعوة، فلا تزال الدعوة بخير وعلى أحسن حال -بتوفيق الله- وتسير سيراً حثيثاً حتى بلغت اليوم إلى أماكن وأقطار ما كان يُظن أنها تبلغها في عرض الدنيا وطولها. وستواصل سيرها - بإذن الله وتوفيقه - حتى تزحزح جميع الأفكار الهدامة المعارضة لها، ليعم نور التوحيد الخالص أرجاء الدنيا لأن العاقبة للمتقين.
آثار الدعوة في البلاد السعودية:
لدعوة محمد بن عبد الوهاب آثار محلية في البلاد السعودية -وآثار
خارجية. أما الآثار المحلية فمن أبرزها وأعمها نفعاً للبلاد والعباد:
أ- (قيام دولة إسلامية سلفية في قلب الجزيرة العربية) التي أعلنت أن دستورها (القرآن الكريم) وحكمت بشريعة الإسلام فعلاً وحافظت على المقدسات الإسلامية - مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومكنها الله في الأرض، فأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، فمنحها الله من المنعة والمهابة والتوفيق ما لم يعط غيرها، فتمتع شعبها بما لم يتمتع به أي شعب آخر من نعمة الأمن والاستقرار والرفاهية في الحياة. كل ذلك بفضل الله تعالى ومنه وكرمه، ثم بفضل تحكيم شريعة الإسلام والتمسك بالعقيدة الإسلامية، والدفاع عنها ومؤازرتها، وتشجيع القائمين عليها.
ولم توجد في العالم المعاصر دعوة إسلامية قامت على منهجها دولة إسلامية غير دعوة محمد بن عبد الوهاب. وكأن الله علم -والله هو العليم- من الإمامين: ابن سعود، وابن عبد الوهاب، الصدق والإخلاص له سبحانه في عملهما، فحقق لهما أمنيتهما فحقق على أيديهما للأمة السعودية هذا الخير، ثم بارك لهما في ذريتهما حتى واصلت المسيرة فها هي الآثار تتحدث بنفسها.
هكذا تجسدت تلك الدعوة السلفية في قيام الدولة السعودية الإسلامية السلفية في قلب الجزيرة العربية لتكون ملجأ لكل مضطهد في دينه في أي أرض، ولله الحمد والمنة.
ب- المنهج الدراسي المتبع في السعودية:
التزمت الحكومة السعودية أن يكون المنهج المقرر بالنسبة للمواد الدينية (المنهج السلفي) في جميع مراحل التعليم، أي من المرحلة الابتدائية إلى الدراسات العليا.
فالشاب السعودي يبدأ في دراسة العقيدة على المنهج السلفي من السنة الأولى الابتدائية، ثم يستمر في دراسة العقيدة والشريعة الإسلامية
على المنهج نفسه بتوسع متفاوت ومطرد إلى درجه (دكتوراه) كما ينهج هذا المنهج الطلاب الوافدون من خارج البلاد للدراسة في الجامعات السعودية، ليتخرجوا على ذلك المنهج السلفي، وليطبقوه في بلادهم إذا رجعوا إليها ويرشدوا أمتهم إلى الخير، ويدعوهم إلى المنهج السلفي الذي أصبح غريباً لدى الكثيرين، ويدرس الطالب في المرحلة الجامعية الفرق والأديات والمذاهب الهدامة للاطلاع والازدياد من المعرفة، ومن باب:
عرفت الشر لا للشر لكي أتقيه
…
من لم يعرف الشر وقع فيه
فلا يوجد في الجامعات السعودية -ولن يوجد إن شاء الله- منهج آخر يزاحم المنهج السلفي -كما أشرنا سابقاً- وذلك ثمرة جهاد الإمام المصلح الذي قضى على كل بدعة محدثة فإذاً يعتبر – بحق - المنهج السلفي من أعظم آثار تلك الدعوة المباركة. ومما يحرص عليه المربون دائماً أن يكون المنهج الدراسي صالحاً، لأن المنهج الصالح له أهميته وله نتائجه في تنشئة الأجيال.
فإذا كان المنهج صالحاً والمعلم صالحاً، وقدوة حسنة، فقد تمت للتلميذ سعادته التعليمية، فينشأ شاباً صالحاً، وعضواً نافعاً في المجتمع.
فالمجتمع الذي يتكون من مثل هؤلاء الشباب الصالحين الذين يتخرجون على أيدي الرجال الصالحين، ودرسوا ذلك المنهج السلفي الصالح، هو المجتمع المسلم حقاً الذي يفهم معنى الإسلام ويعتني به، ولا يرضى عنه بديلاً.
وإذا تحققت هذه المعاني بإذن الله فيكون الفضل لله سبحانه أولاً، ثم للمصلح الذي دعا الناس إلى هذا الخير وذلك الهدى فيكون له أجر كل من عمل بذلك المنهج الذي دعا إليه، ولا ينقص من أجور العاملين شيء من الأجر، هكذا بشر الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام دعاة الحق حيث
يقول: "من دعا إلى هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة"، ويقول عليه الصلاة والسلام:"الدال على الخير كفاعله".
فنرجو للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يكون له مثل أجر كل من عمل بهذا المنهج السلفي بعده، إذ تعتبر دعوته حجر الأساس لما يتمتع به اليوم المجتمع السعودي من سلامة العقيدة والاستقامة على الدين وتطبيق الشريعة الإسلامية فيه، وما يتمتع به الطلاب السعوديون والوافدون على الجامعات السعودية من دراسة ذلك المنهج الصالح البريء من تلك السموم التي دست في كثير من المناهج الدراسية في كثير من الجامعات في العالم المعاصر، كما نسأل الله تعالى أن يثيب ذلك الإمام المجاهد محمد بن سعود وذريته المباركة، ملوك وأمراء آل سعود ويزيدهم من التوفيق وينصرهم وينصر بهم الإسلام.
آثار الدعوة في العالم المعاصر:
إن دعوة محمد بن عبد الوهاب تعتبر - كما يقول بعض الكتاب المعاصرين -: هي الشعلة الأولى لليقظة الإسلامية الحديثة، في العالم الإسلامي كله1.
ولقد تأثر بهذه الدعوة التي وصفها هذا الكاتب - بما سمعنا - رجال لامعون في العالم العربي، وغيره في ميدان الإصلاح. نلاحظ ذلك في أقطار كثيرة، في مصر والشام وفي العراق، والقارة الهندية، وقارة أفريقيا، وفي اليمن على تفاوتهم في التأثر والاستفادة من الدعوة. فنذكر على سبيل المثال (جمال الدين القاسمي) بالشام، و (الشوكاني) باليمن. والشيخ عثمان فوديو بأفريقيا، وكان هذا في أوائل الدعوة عندما كانت تذاع حولها دعاوى مضللة.
1 انظر الأعلام للزركلي 6/257.
أما الآن فقد ظهرت آثارها واضحة في العالم كله، حيث فتحت لها آفاق واسعة في أفريقيا، وانتشر منهجها انتشاراً يلفت النظر، فأخذت بعض المدارس الأهلية بل أكثرها تدرس نفس المتبع في المدارس السعودية. وهو المنهج السلفي الذي تحدثنا عنه في الصفحة السابقة، وكذلك الحال في القارة الهندية، حيث توجد في بعض ولايات الهند وفي باكستان مدارس وجامعات أهلية تدرس المنهج نفسه في جميع المواد الدينية، وكثر الذين ينهجون المنهج السلفي في القارتين الهندية والأفريقية من عامة الناس، ويعرفون في الهند وباكستان (بأهل الحديث) ، وفي بعض البلدان يعرفون بالسلفيين، وبأنصار السنة المحمدية، وكلهم يدعون الناس إلى العودة إلى العقيدة السلفية والعمل بالشريعة الإسلامية عقيدة وأحكاماً.
ولنشاط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، دور بارز في انتشار الدعوة السلفية في تلك المناطق النائية في أفريقيا وشرق آسيا، وفي بعض الدول العربية.
يتمثل ذلك في الطلاب الذي يفدون على هاتين الجامعتين من تلك الجهات فيتخرجون منها كل عام بالعشرات، ثم يعودون إلى أوطانهم لنشر الدعوة وتعليم الناس دينهم عقيدة وشريعة، فنسأل الله تعالى أن يرزق القائمين على تلك الجامعات الإخلاص ويتقبل منهم عملهم، إنه سميع مجيب.
المبحث الثامن: مناقشة موقف المعتزلة والأشاعرة من نصوص الصفات
حقيقة المعتزلة والأشاعرة:
قبل أن نشرع في مناقشة المعتزلة والأشاعرة في موقفهم من نصوص الصفات نستحسن أن نقول شيئاً عن حقيقتهم وعن أسباب التسمية لكل من الطائفتين.
أولاً: الأشاعرة طائفة من أهل الكلام ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري الإمام المتكلم المعروف، وهذا اللقب ينصرف عند الإطلاق إلى أولئك الذين اتبعوه في فترة انتسابه إلى ابن كلاب، ولذا قد نطلق عليهم أحياناً "الأشعرية الكلابية".
أما قبل ذلك فهو معتزلي بل إمام في الاعتزال نحواً من أربعين سنة، كما سيأتي. وبعد توبته من عقيدة الاعتزال وملازمته لابن كلاب فترة من الزمن رجع في آخر أيامه إلى مذهب السلف، فالمنتسبون إلى الأشعرية الآن هم أصحاب الطور الثاني.
ثانياً: المعتزلة هم طائفة من أهل الكلام خالفت جمهور المسلمين في كثير من المعتقدات فهم أتباع أولئك الذين عرفوا بالجرأة على تأويل النصوص وعدم التقيد بظواهرها، مثل واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد وأمثالهما.
وأما اعتزالهم فيدور على القواعد التالية:
القاعدة الأولى: القول بنفي صفات الله تعالى ذاتية أو فعلية بحيث لا يبقى إلا الوجود الذهني فيسمون ذلك توحيداً.
القاعدة الثانية: القول في القدر بغير علم، حتى نفوا علم الله للأشياء أزلاً وكتابته للأمور كلها فتقديره لها بمقتضى حكمته.
القاعدة الثالثة: القول بالمنزلة بين المنزلتين، أي تنزيل مرتكب الكبيرة في منزلة وهمية بين الكفر والإيمان!
القاعدة الرابعة: الخوض فيما جرى بين الصحابة من الأمور الاجتهادية التي قد أدت إلى الحرب والقتال1، تلك الأمور التي سكت عنها المسلمون قائلين:
وما جرى بين الصحاب نسكت
…
عنه وأجر الاجتهاد نُثْبِت2
وأما سبب تلقيبهم بهذا اللقب، فإنه اعتزال واصل بن عطاء، ومعنى ذلك ما تذكره بعض المصادر التي تتحدث عن الفرق، أن واصل بن عطاء كان في مجلس الحسن البصري، حين سئل الحسن عن جماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العلم الصالح عندهم ليس شرطاً في الإيمان
…
الخ، فأخذ الحسن يفكر، وقبل أن يجيب قال واصل: أنا أقول: إن صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلق ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن البصري، فأصغوا إليه فاستمالهم، فقال الحسن: اعتزل عنا (واصل) ، فسمي هو وأصحابه (معتزلة) 3، لأنهم اعتزلوا المسلمين في كثير من معتقداتهم كما اعتزلوهم في مجالسهم وفارقوهم.
وقيل: إن من أول من سماهم بهذا الاسم قتادة بن دعامة السدوسي (الأكمه) حين دخل مسجد البصرة، فإذا هو بعمرو بن عبيد ونفر معه، قد اعتزلوا حلقة الحسن، فلما صار
1 شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار تحقيق د. عبد الكريم عثمان مكتبة وهبة، والشهرستاني في الملل والنحل.
2 أحمد بن رسلان الشافعي في خاتمة (الزبد) .
3 ابن خلكان في وفيات الأعيان 3/248.
معهم - وهو لا يبصر- عرف أنها ليست حلقة الحسن، فقال: إنما هم المعتزلة.
وهناك سبب آخر يذكره أهل العلم، وليس ببعيد من الأول: وهو اعتزالهم الطوائف الأخرى في حكم مرتكبي الكبيرة مثل المرجئة والخوارج وغيرهم.
وقريب من هذا ما قاله البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) حيث قال: ثم حدث في أيام الحسن البصري وواصل بن عطاء خلاف في القدر، وفي المنزلة بين المنزلتين، وانضم إلى واصل عمرو بن عبيد في بدعته فاعتزلا إلى سارية من سواري مسجد البصرة، فقيل لهما ولأتباعهما: معتزلة، لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أن الفاسق من أمة الإسلام ليس بمؤمن ولا كافر1.
وقال بعضهم: المعتزلة نسبة إلى الاعتزال، وهو (الاجتناب) والجماعة المعروفة بهذه العقيدة إنما سموا بهذا الاسم لأن أبا عثمان عمرو بن عبيد لما أحدث ما أحدث من البدع، واعتزل مجلس الحسن البصري وجماعة معه سموا (معتزلة) 2، وهناك رأي آخر، وهو أنهم سموا معتزلة لقولهم: إن صاحب الكبيرة اعتزل عن الكافرين والمؤمنين، فالمعتزلة على هذا هم القائلون باعتزال صاحب الكبيرة عن الكفار والمؤمنين معاً، هذا بعض ما قيل في أسباب تسمية المعتزلة بهذا الاسم.
أصولهم الخمسة:
لما تكونت المعتزلة بالطريقة التي ذكرناها وضعوا لهم أصولاً خمسة، امتازوا بها من بين الناس وعرفوا بها، ودعوا إليها بكل جرأة، وهي:
1-
التوحيد.
1 البغدادي الفرق بين الفرق ص: 20-21.
2 وفيات الأعيان لابن خلكان 3/248.
2-
المنزلة بين المنزلتين.
3-
العدل.
4-
الوعد والوعيد.
5-
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذه الأصول الخمسة يتفق عليها جميع طوائف المعتزلة على اختلاف بينهم بل لا يعتبر معتزلياً من لم يؤمن بها على تفسيرهم الفلسفي، ولو ادعى أنه منهم.
يقول الخياط وهو أحد زعمائهم في القرن الثالث: "وليس يستحق أحد اسم (الاعتزال) حتى يجمع القول بالأصول الخمسة، فإذا اكتملت فيه هذه الخصال فهو معتزلي"1اهـ.
ومن تلك الأصول عندهم (التوحيد) حيث فسروه تفسيراً خاصاً وفلسفياً، وبالغوا في تحليله - في زعمهم- وفي فلسفته إلى أقصى حد وصوروا للناس معنى التوحيد بأنه سلوب محض، يقشعر جسم المؤمن الذي يقدر الله حق قدره عند قراءتها أو سماعها وهي سلوب لا تتضمن أي مدح أو كمال كقولهم: ليس بجسم ولا بذي عرض، ولا طول2، إلى آخر تلك السلوب التي أسرفوا فيه إسرافاً.
ومن ثم نسب إليهم هذا التوحيد بهذا التفسير، وفي رأينا إنه ليس بتوحيد، بل هو شيء آخر غير التوحيد وإلا فلو بقي التوحيد في تصوره الصحيح وتفسيره الإسلامي السليم، الذي يتضمن النفي والإثبات والكمال المطلق لله، لما خصوا به لأنه بهذا المعنى معتقد كل مسلم، ولأنه معنى (لا إله إلا الله) بهذا المفهوم وهي كلمة التوحيد، هذا وإن الذي حمل القوم على هذا المعنى الفلسفي للتوحيد أنهم زعموا أن في القرآن آيات تتناقض في ظاهرها، إذ هناك آيات تدل على التنزيه مثل قوله تعالى:
1 شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص: 40، تحقيق عبد الكريم عثمان.
2 مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ص: 216، تحقيق محي الدين عبد الحميد.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وآيات ظاهرها يدل على التجسيم مثل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} كما زعموا أن هناك آيات تدل على أنه ليس في جهة معينة، مثل قوله تعالى:{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} ، وآيات ظاهرها يدل على الجهة مثل قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} ، هكذا زعموا، ما أفسده من زعم، وما أفظعه من جهل مركب جريء.
التنزيه عند المعتزلة:
والتنزيه في نظرهم نفي صفات الكمال، وصفات الله كلها صفات كمال وتعطيل البارئ عما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله المصطفى مثل السمع والبصر والعلم والعلو والمجيء لفصل القضاء يوم القيامة، فهو عكس التنزيه الصحيح لأنه إثبات تلك الصفات التي سبق ذكرها وغيرها من الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة، وفي رأيهم أن كل من يثبت صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله المصطفى فهو مجسم ومشبه ممثل، والموحد عندهم هو ذلك الجريء الذي ينفي جميع الصفات بدعوى أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء.
إنها حقائق معكوسة، وهذا يعني أن القوم لا يقيمون أدنى وزن للنصوص كما يدل بالمقابل على مدى غلوهم في تنزيه العقول وتقديسها والركوع أمامها إذا اعتبروها أنها هي الحكم والمرجع لمعرفة ما يليق بالله، وما لا يليق به، ولمعرفة ما يجوز في حقه تعالى وما يمتنع، وقد صرحوا بهذا المعنى في غير موضع فيما نقل عنهم. وإن الدارس لكتبهم يدرك أن القوم آمنوا بالعقول إيمان غيرهم بالنصوص، وإلا فكيف يسوغ لمن يؤمن بأن القرآن منزل من عند الله حقيقة، وأن السنة أوحاها الله إلى نبيه المختار الذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 1، كيف يسوغ لمن يؤمن هذا
1 سورة النجم آية: 3، 4.
الإيمان أن يزعم أن في نصوص الكتاب والسنة ما يدل بظاهره على التجسيم؟ مدعين أنهم هم الذين استطاعوا وحدهم تصحيح ذلك التعبير الخاطئ بتأويلهم تلك النصوص تأويلاً يشبه التصحيح والتوجيه والاستدراك على الله يا سبحان الله {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} 1.
ومن عدم التوفيق أن القوم أخطأوا في معنى (التنزيه) وهذا الخطأ هو الذي أوقعهم في الأخطاء الناتجة منه، من اتهام النصوص، بدلالتها على التجسيم أو على أنه تعالى محصور في جهة معينة، وغيرها من تلك العبارات الجريئة.
التنزية عند السلف وبيان خطأ المعتزلة:
حقيقة التنزيه أن ينفي عن الله ما لا يليق بالله شرعاً، وعقلاً، كالولد والوالد والشريك، والند والتشبيه والتجسيم وغير ذلك مما نزه عنه نفسه في كتابه أو على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام.
والله منزه عن كل ذلك، لكماله في ذاته وصفاته في وحدانيته وقيوميته، ولغناه المطلق عن كل ما سواه في الوقت الذي يحتاج إليه كل ما عداه، وهذا التنزيه في ضوء قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 3، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} 4، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 5، وهل يوجد تنزيه أبلغ من هذا؟ وهو مشتمل على إثبات صفات الكمال، مع نفي ما لا يليق به سبحانه من معاني النقص والحاجة التي تتنافى والكمال المطلق لله سبحانه، هذا هو التنزيه الحقيقي عند أتباع القرآن والسنة.
1 سورة البقرة آية: 140.
2 سورة الشورى آية: 11.
3 سورة مريم آية: 65.
4 سورة طه آية: 110.
5 سورة الإخلاص آية: 1-4.
وقد عرفنا قبلُ معنى التنزيه عند المعتزلة. وخلاصته الإيمان بذاته تعالى مجردة عن جميع الصفات، بل موصوفة بأنواع من السلوب التي تجعل وجود الله وجوداً ذهنياً لا حقيقه له في الخارج، أو وجوداً مجرداً أشبه بالوجود الذي وصفه به أرسطو (التأمل المحض) أي الخيال المحض.
يتضح من كل ما تقدم أن القوم أعطوا لأنفسهم حرية مطلقة لا تقف عند حد ليتصرفوا في النصوص كما يريدون، وليقولوا ما يشاءون من رد للأحاديث بدعوى أنها من الآحاد، أو تضعيف لها على خلاف القواعد المتبعة عند أهل هذا العلم أو طرحها جانباً بدعوى مخالفتها للبراهين العقلية القاطعة، هكذا أصبح رد الأحاديث من أسهل الأمور عندهم.
وأما الآيات القرآنية فليس وزنها أثقل من وزن الأحاديث بكثير، لأنها خاضعة لقوانينهم الكلامية وفلسفتهم اليونانية، التي سيطرت على عقولهم، وزينت لهم سوء تصرفاتهم وعملهم في نصوص الكتاب والسنة بالتحريف فيها، وإخضاعها لعقولهم التي أصبحت الدليل المعول عليه في دينهم.
والقاعدة عند أهل السنة والجماعة أنه (لا يثب قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، وفي هذا المعنى روى الإمام البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمهما الله أنه قال:"من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"1اهـ. وهو كلام جامع ونافع كما ترى، بإذن الله.
وهذا هو الموقف السليم شرعاً وعقلاً لأن التسليم للمتكلم في معرفة مراده أمر ضروري عقلاً إذ دلالة اللفظ على المعنى إنما هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وما عناه في نفسه لا تعرف إلا بدلالة
1 شرح الطحاوية ص: 219، وأخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
اللفظ بالوضع ابتداء، إلا إذا أخبر أنه أراد خلاف ذلك المعنى الذي دل عليه اللفظ، أو دل عليه بقرينة واضحة.
ومن زعم أنه قد يفهم من كلام المتكلم خلاف ما دل عليه اللفظ دون إخبار منه أو دلالةٍ عليه بقرينة تبين أنه أراد خلاف ظاهر اللفظ، فخرج باللفظ عن ظاهره بتأويل وتكلف -كما تفعل المعتزلة- فقد أبعد النجعة، وأخطأ الطريق، وقال على الله بغير علم، وارتكب كبيرة من كبائر الذنوب إذ يقول الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 1، ويقول عز من قائل:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} 3.
وفي ضوء هؤلاء الآيات يحدد المسلم موقفه من كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام وكلام غيرهما بحيث يلتزم اتباع ما أوحاه الله إلى رسوله قرآنا وسنة.
وما سواهما من كلام سائر الناس ومعقولاتهم4 يجب عرضه على ذلك الكلام الموحى من عند الله العليم الحكيم فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 5؟!
ومما يوضح ذلك أن هؤلاء المعتزلة الذين يرون وجوب تأويل نصوص الصفات تأويلاً يشبه الإنكار والرد على الله سبحانه يرون في الوقت ذاته
1 سورة الأعراف آية: 33.
2 سورة الإسراء آية: 36.
3 سورة الحج آية: 8.
4 ليس غرضنا مهاجمة العقل أو الأدلة العقلية، وإنما غرضنا بينان أن المعتزلة لا تقيم وزناً للأدلة النقلية، وهو تصرف خاطئ.
5 سورة يونس آية: 32.
الإيمان بنصوص المعاد دون أي تأويل، بل ينكرون على من يؤولها أشد الإنكار من الباطنية الذين يزعمون أن لكل نص باطناً، يختصون بفهمه وحدهم، ولا سبيل لغيرهم إلى فهمه.
محاججة الباطنية للمعتزلة:
ولو قالت الباطنية: - وهي تحاجج المعتزلة - إن تأويلنا لنصوص المعاد نظير تأويلكم لنصوص الصفات، بل إن نصوص الصفات أكثر وأصرح، فإذا جاز تطرق التأويل إليها فهو إلي غيرها أقرب تطرقاً، ولو حاججتهم الباطنية في هذا التناقض لوجدت المعتزلة مغلوبة مفحمة، وهو شأن كل مبطل أنكر على خصمه شيئاً، وحاول كسر باب غيره بحجر ناسياً أن باببه من (زجاج) قابل للكسر، ولنوضح المقام أكثر فأكثر نضرب مثلاً آخر فنقول:
محاججة المعتزلة للأشاعرة:
وللمعتزلة أن يحاججوا الأشاعرة بالأسلوب نفسه في تفريقهم بين الصفات بإمرار صفات الذات التي يثبتونها على ظاهرها على ما يليق بالله، وهي الصفات السبع التي يطلقون عليها صفات المعاني، مع دعوى وجوب تأويل صفات الأفعال كالاستواء والنزول والمجيء مثلاً، للمعتزلة أن يلزموا الأشاعرة بأحد موقفين للخروج من هذا التناقض.
1-
تأويل جميع الصفات دون تفريق بين الصفات الفعلية والصفات الذاتية طرداً للباب، وهي الطريقة العملية مع بطلانها.
2-
أن يغلقوا باب التأويل ويمروا نصوص الصفات على ظاهرها على ما يليق بالله فيلحقوا بالمثبتة من سلف هذه الأمة الذين عافاهم الله مما ابتلي به غيرهم من التناقض لتسليمهم لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام هذا المنهج السليم الموافق للعقل السليم والنقل الصحيح، ولسلامة هذا المنهج وبعده من التناقض ومن التكلف رجع إليه كثير من علماء الكلام في آخر حياتهم كما سيأتي.
ولأبي الوليد الأندلسي موقف فريد من المؤولة الذين يسرفون في التأويل كالمعتزلة ويدعون الناس إلى الأخذ بتأويلهم ويضرب لذلك مثلاً رائعاً حيث يقول: "ومثال من أول شيئاً من الشرع وزعم أن ما أوله هو ما قصد الشرع وصرح بذلك التأويل للجمهور، مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب العظيم لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من الناس، فزعم أن بعض تلك الأدوية، الذي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت العادة أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أريد به دواء آخر مما يمكن أن يدل عليه بذلك الاسم باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، وجعل في بدل الدواء الذي ظن أنه الذي قصده الطبيب، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه المتأول، ففسدت به أمزجة كثير من الناس، فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب، فرأوا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير النوع الأول، فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين، فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة، فعرض منه للناس نوع رابع من المرض، غير الأمراض المتقدمة، فلما طال الزمان بهذا المركب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها، عرض منه للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس، ثم قال أبو الوليد: وهذه هي حال الفرقة الحادثة في هذه الطريقة مع الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلاً غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه الذي قصده الشرع، حتى تمزق كل ممزق، وبعد جداً عن موضعه الأول.
ولما علم صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام أن مثل هذا يعرض - ولا بد - في شريعته قال: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة"1اهـ.
نقول تعليقاً على هذا المثل المضروب للمتأولة: "اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً". وأبو الوليد له تجربة طويلة مع علماء الكلام وله معهم صولة وجولة، فهو خير من يشهد لهم أو عليهم.
واستشهادنا بكلامه لا يعني أنه محل رضانا مطلقاً، بل يؤخذ من كلامه ويرد كغيره من الرجال، بل هو فيلسوف أرسطي ومع ذلك له كلام يؤخذ بل يقدر كما رأيت.
وقريب مما أنكره ابن رشد على أهل الكلام من الإسراف في التأويل، قول سهل بن عبد الله التستري حيث يقول:
لا يخرجنكم تنزيه الله إلى التلاشي ولا يخرجنكم تثبيته إلى الجسد، أي التجسيد (الله يتجلى كيف يشاء)2.
1 الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة بتحقيق مصطفى عبد الجواد عمران الطبعة الثالثة في 1388هـ.
وقد ذكر الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري المتوفى سنة 360هـ في كتابه (الشريعة) لهذا الحديث عدة روايات نختار منها رواية واحدة وهي التي يقول فيها بسنده عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قال حين صلى الظهر بالناس - بمكة شرفها الله تعالى- فقال: ألا إن رسول الله عليه الصلاة والسلام قام فينا فقال: " ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة"، ثم قال رحمه الله: رحم الله عبداً حذر هذه الفرق، وجانب البدع، واتبع ولم يبتدع، ولزم الأثر، وطلب الطريق المستقيم، واستعان بمولاه الكريم. (الشريعة 18) .
2 راجع المعارضة والرد لسهل بن عبد الله التستري المتوفي 283هـ، تحقيق وتعليق الدكتور كمال جعفر ص:75.
الخلاصة:
ولو فحصنا الموقف جيداً لظهر لكل ذي لب فهيم مزود بالإنصاف و (الإنصاف من الإيمان) 1 أن كل من رد النقل الصحيح بدعوى أنه دليل لفظي لا يفيد اليقين، فقد رد العقل الصريح - وهو لا يشعر- ولم يبق لديه دليل يستدل به أو يحاجج به، إذ مما اتفق عليه العقلاء أن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، علماً بأن النقل هو الأصل لأنه من المتفق عليه أن العقل لا سبيل له لإثبات المطالب الإلهية، على سبيل الاستقلال، بل الطريق لإثبات الصفات ينحصر في التالي:
1-
صفات يكون إثباتها بالنقل والعقل معاً، وهي كثيرة مثل صفة الحياة والقدرة، والعلم والعلو مثلاً، وهي المعروفة عند الأشاعرة بصفات المعاني.
2-
صفات يكون إثباتها بالنقل فقط، ولولا النقل لعجز العقل عن إثباتها مثل صفة النزول والمجيء والاستواء على العرش مثلاً، ولا توجد صفة يتم إثباتها عن طريق العقل فقط دون النقل، فالقسمة إذاً ثنائية فقط، كما ترى.
وعلى هذا فإن ما تزعمه المؤولة من المعتزة وأشباههم، من أن الدليل العقلي وهو العمدة في باب الصفات، بحيث لو تعارض العقل والنقل قدم العقل، لأنه الأصل، فزعم باطل، لما عرفنا مما تقدم من عدم التعارض بين الدليلين.
1 استناد لقول عمار بن ياسر رضي الله عنه إذ يقول: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان:
1-
الإنصاف من نفسك.
2-
بذل السلام للعالم.
3-
الإنفاق من الإقتار.
صحيح البخاري، كتاب الإيمان باب إفشاء السلام من الإسلام، بشرح فتح الباري 1/103 الطبعة السلفية بتحقيق عبد الباقي.
وهذه خلاصة ما كان عليه سلف هذه الأمة، كما أوضحنا في بيان منهج السلف في إثبات الصفات وهو واضح جداً كما تقدم.
أما المعتزلة فنختم مناقشتهم بالآية الكريمة من سورة النجم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} 1، لإعراضهم كلياً عن النصوص واستخفافهم بها من الغلو في تقديس آراء الفلاسفة والركوع أمامها
…
كما يظهر جلياً أنهم قطعوا علاقتهم بسلف الأمة إذ تراهم دائماً ينهجون منهجاً مخالفاً لمنهج السلف الصالح الذي هو التقيد بالكتاب والسنة مع اعتقاد أن العقل في حال سلامته يتبع النقل ولا يخالفه.
1 سورة النجم آية: 23، والآية وإن كانت في الأصل في غير المسلمين ولكنها تجر ذيلها على كل من يتعمد مخالفة ما جاءه من الهدى واتبع هواه، تتناول كل مخالف بحسب مخالفته، لأن العبرة في النصوص بعموم اللفظ وإن اختلفت الجهات لا بخصوص السبب
…
وهي قاعدة مدونة لدى الأصوليين وفي علوم القرآن والحديث.
المبحث التاسع: الفصل الأول: سبب انتشار العقيدة الأشعرية واشتهارها
في أثناء مناقشتنا موقف المعتزلة والأشاعرة تبين لنا أن الأشاعرة على الرغم من إثباتهم كثيراً من الصفات الذاتية، إلا أنهم ليسوا على منهج السلف الصالح في موقفهم من كثير من نصوص الصفات، إذ رأيناهم يتصرفون في النصوص بأهوائهم فيفرقون بينها، منها ما يجب تركها على ظاهرها، على ما يليق بالله تعالى، وهي النصوص التي تتضمن الصفات التي يسمونها صفات المعاني، والصفات السلبية والصفة النفسية، ومنها ما يجب تأويلها ولا يجوز إبقاؤها على ظاهرها في زعمهم لأن ظاهرها يدل على ما لا يليق بالله. بل يزعمون أن ذلك الظاهر غير مراد لله تعالى، وهي النصوص الواردة بالصفات الخبرية وصفات الأفعال ولهم تناقض ينفردون به في بعض الصفات مثل صفة الكلام وإثبات رؤية الله تعالى، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه.
ومع كل ما ذكر نرى انتشار العقيدة الأشعرية بشكل ملموس بل اشتهارها بين جمهور المسلمين بأنها عقيدة أهل السنة والجماعة، وما هي أسباب هذا الذيوع؟!
يذكر بعض المختصين المهتمين بشأن العقيدة الإسلامية لهذا الانتشار والشهرة الأسباب التالية:
أ- كثرة الحق الذي عندهم بالنسبة للباطل الكثير الذي عند غيرهم، لأنهم يثبتون كثيراً من الصفات مثلاً، وزد على ذلك أن موقفهم من الصحابة يوافق موقف أهل السنة والجماعة، وموقفهم من نصوص المعاد موقف سليم أيضاً، وقد سلمت نصوص المعاد عندهم مما أصيبت به عند غيرهم من الباطنية ومن تأثر بهم من التحريف الذي سماه أهله تأويلاً ليقبل. وقد انخدع بهم كثير من علماء الفقه والحديث، فوافقهم في بعض ما ابتدعوه.
ب- استعمالهم الأدلة العقلية في مواجهة المعتزلة مما أكسبهم الشعبية مع ما في طريقتهم من كثير البدع1.
جـ- ضعف الآثار النبوية في تلك العصور، والآثار هي التي تنير للناس سبيل الحق حتى لا يقعوا في الشبهات والبدع، على الرغم من كونها مدونة في الصحاح والمسانيد، لأن اشتغال الناس بها ليس بالمستوى المطلوب، إذ كان العمل في الغالب بآراء الفقهاء واجتهاداتهم.
د- العجز والتفريط الواقعان في المنتسبين إلى السنة والحديث، حيث يروون تارة ما لا يعلمون صحته من الآثار والأحاديث وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور2. ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي وقعت كثيراً من الناي في التفويض المحض.
1 ولا يعني ذلك أن الأشاعرة على الحق في كل شيء، أو أن ما لديهم من العقليات أقوى وأظهر، لا، بل أخطاؤهم أكثر من صوابهم لأنهم لا يثبتون إلا بعض صفات الذات، ويتلاعبون بالنصوص فيما عداها كما هو معروف.
2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/33.
هـ- انتساب الأشعري إلى معتقد إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله في آخر أمره كما سيأتي بيان ذلك.
و اعتناق بعض الحكام عقيدته واعتبارها عقيدة أهل السنة والجماعة والدفاع عنها والدعوة إليها بشدة إلى درجة استباحة دم من خالفها كما فعل (تومرت وأتباعه في المغرب) ، وستأتي الإشارة إلى هذه النقطة قريباًَ.
بهذه الأسباب توارثت الناس هذه الطريقة المزدوجة التي تشتمل على بعض الحق وفيها الشيء الكثير من الباطل، فانتشرت في مصر والشام والعراق باسم عقيدة أهل السنة والجماعة حيث (خلا الميدان لأبي حمدان) كما يقول المثل السائر، ولم يوجد لها منازع في تلك العصور فانتقلت العقيدة من العراق إلى المغرب بواسطة بعض الرحالات من المغرب ونشرها بين المغاربة فأخذها المغاربة بحماس شديد وبقوة حتى استباحوا دم كل من يخالف تلك العقيدة1.
فمجموع هذه الأسباب هي التي جعلت العقيدة الأشعرية تنتشر هذا الانتشار الواسع فتشتهر هذه الشهرة العالمية بيد أن الحق لا يعرف بالانتشار ولا بالاشتهار بل للحق ميزان يوزن به، وللباطل علامات يعرف بها.
وبعد: هل آن الأوان لنمكن شبابنا من دراسة العقيدة السلفية المستندة إلى الكتاب والسنة بدلاً من هذه الآراء المضطربة التي لا تستند في الغالب الكثير إلى الوحي، ولكن إلى خيالات علماء الكلام التي سموها قطعيات، تسمية للأشياء بغير أسمائها لتروج وتستساغ.
1 المقريزي في خططه 2/358.
الفصل الثاني: حديث مستفيض عن كبار شيوخ الأشاعرة ومنهج السلف
كبار شيوخ الأشاعرة والمنهج السلفي1:
وإذا كان بعض الكتاب المعاصرين أخطأوا في تصور حقيقة مذهب السلف والسلفيين - كما تقدم - فلنثبت هنا طائفة من كلام بعض أهل العلم من أولئك الذين أكرمهم الله بالتوبة عن علم الكلام في آخر أعمارهم، فتحدثوا عن مذهب السلف وأثنوا عليه بما هو أهله، وفي مقدمتهم ذلكم:
1-
الإمام المقدم أبو الحسن الأشعري:
الذي تغني شهرته عن ترجمته، وقد نقل غير واحد من أهل العلم بالتاريخ وعلم الرجال، رجوع أبي الحسن الأشعري عن الاشتغال بعلم الكلام2، إلى الانتصار لمذهب السلف والدفاع عنه وأنه ألف في ذلك مؤلفات من أهمها آخر كتاب ألفه في إثبات صفات الله تعالى دون تفريق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية، وبعبارة أخرى بين الصفات العقلية والصفات الخبرية السمعية وهو كتابه (الإبانة في أصول الديانة) وستأتي قريباً بعض النقول من هذا الكتاب إن شاء الله.
1 قد يرد هنا سؤال -وهو وجيه- لماذا ترجمنا لبعض أعلام الأشاعرة ولم نفعل ذلك بالنسبة للمعتزلة، الجواب: ليس الغرض من الترجمة لهؤلاء الأئمة كونهم أعلام الأشاعرة وشيوخهم، بل الغرض بيان موقفهم من منهج السلف، وأنهم رجعوا إليه في آخر المطاف وأثنوا عليه خيراً بل بعضهم دعا إليه، مثل الجويني (الأب) كما سيأتي تفصيل ذلك، هذا هو سبب اختيارنا هؤلاء الأئمى للترجمة لهم والحديث عما انتهى إليه أمرهم، بعد تلك الجولة الطويلة في علم الكلام.
2 واتصاله بابن كلاب الذي أخذ عنه هذه العقيدة المعروفة اليوم بالعقيدة الأشعرية، وهي في الواقع عقيدة كلابية، ثم أعلن أبو الحسن رجوعه عن الكلابية إلى مذهب السلف والانتصار له والدفاع عنه
…
الخ.
وممن ذكر توبة الإمام أبي الحسن الأشعري، الحافظ ابن عساكر المتوفى 571هـ في كتابه (تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري) ، وقام في هذا الكتاب بالدفاع عن الإمام وعقيدته وزيف كل ما قيل في عقيدته وأثبت رجوعه عن الاعتزال بعد أنا أقام عليه 40 سنة وكان لهم إماماً، ثم ذكر قصة رجوعه بالتفصيل مما يدل على أنه لم يترك مذهب الاعتزال إلا بعد أن خَبَرَه، وأدرك حقيقته واطلع على عواره من فساد الاعتقاد والجرأة علي الله وعلى كتابه وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، ثم تاب الله عليه فتاب، فحسنت توبته، فصار بمثابة كتابي أسلم وحسن إسلامه بعد أن أدرك عوار اليهودية أو النصرانية، فأخذ يبين للناس فساد اعتقادهم فهو أعدى الخلق إلى أهل الذمة، وأبو الحسن كذلك أعدى الخلق إلى المعتزلة، ولذلك يشنعون عليه وينسبون إليه الأباطيل افتراء عليه كعادة أهل الباطل قديماً وحديثاً.
وممن ذكر رجوع أبي الحسن عن اعتزال إلى مذهب السلف أبو العباس بن خلكان1، حيث قال: كان أبو الحسن الأشعري معتزلياً، ثم تاب، ومنهم الحافظ ابن كثير صاحب التفسير المعروف2 إذ يقول: إن الأشعري كان معتزلياً فتاب منه بالبصرة فوق المنبر، ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم، ومنهم الحافظ الذهبي3 وأخيراً جاء المحدث المصري والسلفي الأثري محب الدين الخطيب ليؤكد تلك النقول في تعليقه على المنتقى4 حيث يقول محب الدين رحمه الله: إن الأشعريين منسوبون إلى أبي الحسن الأشعري، وقد علمتَ أن أبا الحسن الأشعري كانت له ثلاثة أطوار:
1 المتوفى سنة 681هـ في كتابه: (وفيات الأعيان.)
2 المتوفى سنة 774هـ في كتابه: (البداية والنهاية 11/187.)
3 في كتابه: (العلو للعلي الغفار) الذهبي المتوفى 748هـ.
(مختصر منهاج السنة) للإمام ابن تيمية ص: 43.
أولها: انتماؤه إلى المعتزلة.
ثانيها: خروجه عليهم ومعارضته لهم بأساليب متوسطة بين أساليبهم ومذهب السلف.
والطور الثالث: انتقاله إلى مذهب السلف وتأليفه في ذلك كتابه (الإبانة في أصول الديانة) وأمثاله، وقد أراد أن يلقى الله على ذلك اهـ.
وقال رحمه الله في موضع آخر في تعليقه على المنتقى: أما الأشعرية اسم المذهب المنسوب إلى أبي الحسن الأشعري في علم الكلام، فكما أنه لا يمثل الأشعري ما كان عليه في طور اعتزاله فإنه ليس من الإنصاف أن تلصق به الأشعرية بعد أن رجع إلى عقيدة السلف التي أراد أن يلقى الله بها، بل إن المذهب الأشعري المنسوب إليه إنما ينسب إلى ما كان عليه ابن كلاب البصري المتوفى سنة 240هـ كما أوضح ذلك تقي الدين ابن تيمية في كتابة (العقل والنقل) 2/5 طبعة الشيخ حامد الفقي رحمه الله، ثم عدل أبو الحسن في آخر حياته عن كثير من تلك التأويلات وأثبت جميع الصفات، وأمرّها دون تأويل، وأثبتها دون تشبيه على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهكذا ختم الله له بالحسنى1.
وهاك بعض النقول من أول كتابه (الإبانة) :
باب في إبانة قول أهل الحق والسنة: ثم قال رحمه الله وهو يعلن إنكار ما قالته طائفة من أهل الكلام ويبين ما يقوله هو وأهل الحق والسنة:
"فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، ودياناتكم التي به تدينون؟ قيل له: قولنا الذي نقول به، ودياناتنا التي ندين بها: التمسك
1 راجع المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي تعليق محب الدين الخطيب ص: 41-43.
بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وفتاوى عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أظهر به الحق، ورفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيْف الزائفين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم مفخم.
ثم قال الأشعري رحمه الله: فجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته وكتبه
…
إلى أن قال: وما رواه الثقات عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لا نرد من ذلك شيئاً، ثم استطرد قائلاً: وأن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، وأن له وجهاً كما قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ} 2، وأن له يدين بلا كيف كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3، وكما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 4، وأن له عينين بلا كيف كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 5، وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاً.
وأن لله علماً كما قال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 6،، وكما قال:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَاّ بِعِلْمِهِ} 7، ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجمهية والخوارج، ونثبت لله قوة كمال قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 8، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأنه لم يخلق شيئاً إلا وقد قال له: كن كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} 9، إلى آخر كلامه.
ومن أراد مزيد الاطلاع على درر
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة الرحمن آية: 27.
3 سورة ص آية: 75.
4 سورة المائدة الآية: 64.
5 سورة القمر آية: 14.
6 سورة النساء آية: 166.
7 سورة فصلت آية: 47.
8 سورة فصلت آية: 15.
9 سورة النحل آية: 40.
كلامه المدعم بآيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، فعليه بالإبانة التي تحدثنا عنها ونقلنا منها بعض النقول وغيرها مثل مقالات الإسلاميين.
2-
الإمام الجويني (الأب) :
وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين المتوفى سنة 438هـ، وقد كان إمام في التفسير والفقه والأصول، بل له يد طولى في أكثر العلوم المعروفة في زمانه، وقد تخرج على يده خلق كثير وفي مقدمتهم ولده إمام الحرمين الذي يأتي ذكره بعده إن شاء الله، وقد ألف في كثير من العلوم، وأما الذي يهمنا هنا فرسالته اللطيفة، وهي عظيمة الفائدة تحت عنوان (رسالة في إثبات الاستواء والفوقية ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد، وتنزيه البارئ عن الحصر والتمثيل والكيفية) ، هكذا بهذا العنوان الطويل وهي ليست طويلة بل صغيرة جداً، لا تتجاوز (15) صفحة ولكنها تعالج وتحقق نقاطاً تعجز عن تحقيقها بل عن تصورها كثير من الموسوعات على سعتها.
والرسالة المذكورة تعالج صفة الفوقية والاستواء وصفة الكلام، وهاتان الصفتان قد ضل فيهما كثير من علماء الكلام واضطرابهم فيهما أسوأ من اضطرابهم فيما عداهما، وقد وصف المؤلف الحيرة التي استولت عليه عندما ظهر له الحق في هاتين الصفتين، وغيرهما من الصفات الخبرية التي يصعب على أهل الكلام سماعها فضلاً عن إثباتها كما سنرى عندما ننقل منها بعض النقول لنستشهد بها على ما نقول حول عقيدته وموقفه من علم الكلام بعد رجوعه. وميزة هذا الإمام أنه لم يمنعه التعصب والتقليد من اتباع الحق لما تبين له الحق بل اتبعه وأعلن به ودعا إليه، وجادل فيه شيوخه، وهو موقف لا يوفق له كل من عرف الحق. ولقد كانت دعوته ومناقشته لشيوخه تحمل في طياتها الشفقة عليهم والتلطف بهم دون أن يتهجم عليهم
أو يهاجمهم ويعنف عليهم وهو ديدن العلماء العاملين الذين همهم بيان الحق والدعوة إليه دون تجريح أو تنفير عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"1، ولهذا المعنى الذي أشرت إليه والميزة التي نوهت بها أود أن أورد مقتطفات من كلامه ومختارات من عباراته في رسالته الموجهة إلى شيوخه وإخوانه.
وسوف أثبت هذه المقتطفات في آخر الرسالة إن شاء الله ملحقاً لها.
3-
الجويني (الابن) :
وهو إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف المتوفى سنة 478هـ، ينسب الإمام إلى مسقط رأس أبيه بلدة (جوين) بفارس، لأنه لما مات والده عبد الله بن يوسف جلس ولده عبد الملك مجلسه للتدريس فانتقلت إليه هذه النسبة، وقيل: كان عمره عشرين سنة عندما جلس للتدريس في مجلس والده، ولقب بإمام الحرمين لأنه كما قيل: جاور مكة أربع سنوات كان خلالها يناظر ويدرس، ثم عرج على المدينة المنورة.
وقد ألف الإمام الجليل مؤلفات كثيرة في فنون مختلفة، ومما يتصل ببحثنا هذا من مؤلفاته كتابه الكبير (الغياثي) ألفه لغياث الدولة الذي هو نظام الملك (الوزير) وهو الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي أبو علي الوزير العادل صاحب المدارس التي عرفت باسمه (النظامية) وأحد الزهاد العباد المعروفين، وناصر السنة وأهلها وحامي الفقهاء من بطش المبتدعة والزنادقة وأحد فقهاء الشافعية.
تولى الوزارة للسلطان (السلجوقي)(ألب أرسلان) ثم من بعده لابنه ملكشاه. ولد الوزير سنة 408هـ وتوفي سنة 485هـ.
1 أخرجه البخاري في كتاب العلم، من حديث أنس بن مالك 1/172 ط الحلبي.
كما أن الكتاب (الغياثي) منسوب لهذا الوزير الصالح الحسن بن علي الملقب (غياث الدولة) ، فقد نسبت العقيدة النظامية إليه، لأنه يلقب أيضاً (نظام الملك) ونستحسن أن نثبت هنا بعض كلام الإمام نقلاً عن كتابه الكبير (الغياثي)، قال الإمام الجويني في الكتاب المذكور (رقم 279 ص190) :
"ومن رام اقتصاداً، وحاول ترقياً عن التقليد واستبداداً فعليه بما يتعلق بعلم التوحيد من الكتاب المترجم (بالنظامي) ، فهو محتو على لباب للباب، وفيه سر كل كتاب في أساليب العقول"1.
والذي أذكره الآن لائقاً بمقصود هذا الكتاب، أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذهب السلف السابقين قبل أن نبغت الأهواء وزاغت الآراء وكانوا رضي الله عنهم ينهون عن التعرض والتعمق في المشكلات والإمكان في ملابسة المعضلات والاعتناء بجمع الشبهات وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، إلى أن قال:"وما كانوا ينكفون رضي الله عنهم عما تعرض له المتأخرون عن عِيِّ وحَصْرِ، وتبلد في القرائح، هيهات قد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً وأرجحهم بياناً، ولكنهم استيقنوا أن اقتحام الشبهات داعية الغوايات، وسبب الضلالات، فكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلون، وإليه مدفوعون. فإن أمكن حمل العوام على ذلك فهو الأسلم"2 ا. هـ
وقال الإمام في العقيدة النظامية ص: 22-23: "وذهبت طائفة إلى
1 الكتاب المذكور ليس بذلك المستوى الذي يدل عليه كلام المؤلف، بل هو دون ذلك بكثير، لأنه لم يسلم من تناقض كتب علم الكلام. كما يظهر ذلك لكل مطلع على الكتاب المذكور، وهو يفرق بين الغث والسمين:"أقول هذا القول لبيان الواقع، ولبذل النصح للقارئ".
2 الغياثي.
التعطيل من حيث تقاعدت عقولهم عن درك حقيقة الإله، فظنوا أن ما لا يحويه الفكر منتف، ولو وقفوا لعلموا أنه لا تبعد معرفة موجود مع العجز عن درك حقيقته.
والذي ضربناه من الروح مثلاً يعارض به هؤلاء، فليس لوجود الروح خفاء وليس إلى درك حقيقته سبيل ولا طريق إلى جحد وجوده للعجز عن درك حقيقته، الأكمه يعلم بالتسامع والاستفاضة الألوان ولا يدرك حقيقتها، فهذا سبب زيغ المعطلة وهم على مناقضة المشبهة.
وأما فئة الحق فهدوا إلى سواء الطريق، وسلكوا جُدُد الطريق وعلموا أن الجائزات تفتقر إلى صانع لا يتصف بالصفات الدالة على الافتقار وعلموا أنه لو اتصف الصانع بها لكان شبيهاً بمصنوعاته، ثم لم يميلوا إلى النقي من حيث أن يدركوا حقيقة الإله، ولم يتعدوا موجوداً يجب القطع به مع العجز عن درك حقيقته، إذ وجدوا في أنفسهم مخلوقاً لم يستريبوا في وجوده، ولم يدركوا حقيقته، ونحن الآن نذكر عبارة حرية بأن يتخذها مولانا في هذا الباب هجيراً فهي لعمري المنجية في دنياه وأخراه، فنقول: من نهض لطلب مدبره، فإن اطمأن إلى وجود انتهى إليه فكره فهو مشبه، وإن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل، وإن قطع بموجود واعترف بالعجز عن درك حقيقته فهو موحد، وهو معنى قول الصديق رضي الله عنه إذ قال:"العجز عن درك الإدراك إدراك". فإن قيل فغايتكم إذا حيرة ودهشة، قلنا العقول (عاجزة) في درك الحقيقة قاطعة بالوجود المنزه عن صفات الافتقار" اهـ.
قلت: فإمام الحرمين عبد الملك قد سلك مسلك والده الإمام أبي محمد الجويني في إعلانه أن فهم السلف هو الحق وحده فيما يعتقد العبد نحو ربه سبحانه، وما سواه باطل لا محالة لأنه إما تشبيه أو تعطيل أو توقف وهو
يشبه أباه في هذا الموقف بالجملة "من يشابه أبه فما ظلم" وإن لم يبلغ درجة أبيه، حيث يوجد في كلامه بعض الثغرات التي يستطيع أن ينفذ منها بعض المغرضين المنحرفين ليعبثوا بكلامه بالتحريف فيه، وحمله على غير محمله، لخلاف كلام والده فإنه لم يترك مدخلاً لداخل يدرك ذلك من يقارن بين ما جاء في العقيدة النظامية للجويني (الابن) وما جاء في (رسالة إثبات الاستواء والفوقية للجويني)(الأب) وعلى كل حال فإن إمام الحرمين بحر لا ساحل له في علمه تدل على ذلك كتب التراجم ومؤلفاته المتنوعة، وكان رحمه الله يكره التقليد والتعصب، ومما نقل عنه قوله:"لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الطاهرة، وركبت البحر الخضَم وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق. وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد" اهـ.
وقد نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه عبارات صارخة بالندم والتوبة ومتضمنة للنصيحة لأصحابه من علماء الشافعية - لو سمعوا نصيحته- إذ يقول رحمه الله:
"يا أصحابنا: لا تشتغلوا بعلم الكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ، ما اشتغلت به. وقال عند موته: (لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، كل ذلك اجتهادٌ في طلب الحق، فالآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان"1.
وهي عبارات، كما ترى في غاية الصراحة في الندم والتوبة ولعل الله تقبل توبته ولا عذر لأصحابه بعد ذلك في بقائهم في أحضان علم الكلام وقد وضح لهم أنه ضار غير نافع
…
والله الموفق.
1 الحموية الكبرى والتدمرية.
4-
أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي الملقب بحجة الإسلام (505هـ) :
بدأ في طلب العلم في بلده طوس، ثم قدم نيسابور فتردد على دروس إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، فلازمه وجد في طلب العلم حتى تخرج في مدة قريبة وبرز في الفقه والأصول وعلم الكلام، ونبغ نبوغاً منقطع النظير حتى كان الجويني يعتز به إلى أن توفي رحمه الله وبعد وفاة شيخه خرج الغزالي من نيسابور إلى بلدة يقال لها (العسكر) ولقي الوزير (نظام الملك) فأكرمه وعظمه وبالغ في إكرامه إلى أن فوض إليه التدريس في مدرسته النظامية (ببغداد) ، وللوزير مدارس تسمى (بالنظامية) في عديد من البلاد والمدن رحمه الله.
وللإمام الغزالي مؤلفات كثيرة في مختلف العلوم، ومما يتصل ببحثنا هذا من مؤلفاته كتابه اللطيف (إلجام العوام عن علم الكلام) الذي أشاد فيه بمذهب السلف، وتحدث عن حقيقته مبيناً أنه هو الحق وأن من خالف السلف فهو مبتدع لأنه مذهب الصحابة والتابعين، وقد أُخِذَ من الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، فكل خير في اتباعهم وكل شر في الابتداع بعدهم، وقد تحدث فيه بإسهاب عن مذهب السلف وحقيقة مذهب السلف هو الاتباع دون الابتداع.
وللإمام الغزالي رسالة سماها (بغية المريد في رسائل التوحيد) وهي جملة رسائل مفيدة وجليلة ومشتملة على كثير من المعاني اللطيفة وما يجب على المخلوق للخالق جلَّ شأنه وعلى ما يجب معرفته على كل إنسان من علم التوحيد.
وقد تحدث فيها عن تنزيه الخالق، وأنه لا يشبهه شيء، ولا يشبه شيئاً، وكل ما خطر بالبال والوهم والخيال من التكييف والتمثيل، فإنه سبحانه منزه
عن ذلك. وقد نص في هذه الرسالة على نفي شبهة خطرة وهي: ما قد يتوهمه بعض الناس من أن إثبات الاستواء على العرش يلزم منه أن العرش يحمل الرب سبحانه وتعالى الله عما زعموا علواً كبيراً، وهو جملة من الأخطاء التي يتورط فيها أولئك الذين لا يكادون يفهمون صفات الله سبحانه وتعالى إلا كما يفهمون صفات خلقه من التحديد والإحاطة بالحقائق. وفي نفي هذا الوهم يقول الإمام الغزالي:"وليس العرش بحامل له سبحانه، بل العرش وحملته يحملهم لطفه وقدرته، وأنه تقدس عن الحاجة إلى مكان قبل خلق العرش وبعد خلقه، وانه يتصف بالصفات التي كان عليها في الأزل".
وقال في موضع آخر من الرسالة نفسها: "وهو سبحانه مقدس من صفات المخلوقين، منزه وهو في الدنيا معلوم وفي الآخرة مرئي، كما نعلمه في الدنيا، بلا مثل ولا شبه، لأن تلك الرؤية لا تشابه رؤية الدنيا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} "1.
وسبق أن نقلنا بعض عباراته عن كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام، وما هنا أوسع)2.
5-
أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم الشهرستاني:
ولد سنة 467هـ وتوفي سنة 548هـ وهو فقيه شافعي متكلم، وله مؤلفات كثيرة في الفقه. وهو صاحب الملل والنحل، وكتاب في علم الكلام لعله آخر مؤلفاته (نهاية الإقدام في علم الكلام) 3 وهو الذي ذم فيه علم الكلام وحذر منه وأوضح أن علم الكلام إنما يورث الحيرة، وليس لدى أربابه
1 بغية المريد في رسائل التوحيد.
2 والإمام الغزالي على الرغم مما نقلنا عنه في كتابه إلجام العوام وغيره، لم يسلم من الاضطراب، يعرف ذلك من اطلع على كتابه:(المضنون به على غير أهله) وقد اضطرب فيه كثيراً بأسلوب فلسفي غامض.
3 وفيات الأعيان 4/273.
يقين في عقيدتهم. وقد أثبت في أول الكتاب المذكور بيتين في وصف حال أهل الكلام قائلاً:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
…
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر
…
على ذقن أو قارعاً سن نادم
ولم يذكر أن البيتين لمن؟ وسواء كان هذا كلامه أو كلام غيره، فإنه ينص بهذين البيتين على سوء حال أهل الكلام، وما ينتهي إليه أمرهم من الحيرة والضلال، واضطراب العقيدة. فنسأل الله تعالى العافية والسلامة.
6-
أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني الرازي المولد، الملقب فخر الدين المعروف بابن الخطيب الفقيه الشافعي:
قال فيه صاحب وفيات الأعيان: إنه فريد عصره ونسيج1 وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات، وعلم الأوائل وله تصانيف كثيرة ومفيدة في فنون عدة، ولعل أقرب كتاب من كتبه الكثيرة إلى الموضوع الذي نحن بصدده، كتابه في المعقولات (كفاية العقول) وكتاب (البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان) . ومما يقال: إنه يحفظ (الشامل) لإمام الحرمين في علم الكلام، هذا، وذكر صاحب وفيات الأعيان أن له في الوعظ اليد البيضاء، ويعظ باللسانين العربي والعجمي، إلى أن قال: ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة.
وقد نظم بعض الأبيات في وصف حال أهل الكلام بعد أن تاب الله عليه فتاب، قائلاً:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
…
وحاصل دنيانا أذى ووبال
1 المرجع السابق 4/249.
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
هذا وقد ذكر الإمام فخر الدين أنه اشتغل في علم الأصول على والد ضياء الدين عمر، وأخذ والده على أبي القاسم الأنصاري، وأخذ الأنصاري على إمام الحرمين أبي المعالي وهو على الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وهو على الشيخ أبي الحسين الباهلي وتتلمذ الباهلي على شيخ السنة أبي الحسن الأشعري
…
الخ
ولقد طوف هذا الإمام في علم الكلام ما طوف وخب ووضع، ثم تاب الله عليه فتاب -فيما يظهر لنا من كلامه- وقد نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه، بعض العبارات التالية:"لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، ورأيت أقرب الطرق، طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، و {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 2، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 3، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} 4، ثم قال في حسرة وندامة: "ومن جرب تجربتي عرف معرفتي"5 ا. هـ
وبعد: فليس بغريب ولا عجيب أن يصاب هؤلاء الأئمة الفضلاء الذين تحدثنا عنهم بذلك الداء، داء علم الكلام والخوض في صفات الله ظناً وتخميناً في تلك العصور الخالية، إذ اشتغلوا به طلباً للحق، كما قال الإمام الجويني أبو المعالي وأكثر ما حملهم على ذلك الخوض مع مصادمته
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة فاطرة آية: 10.
3 سورة الشورى آية: 11.
4 سورة طة آية: 110.
5 من الحموية الكبرى لابن تيمية.
لنصوص الكتاب والسنة، تلك النصوص التي تثبت لله صفات الكمال -وصفات الله كلها كمال- الذي حملهم على ذلك في الغالب الكثير هو التقليد، تقليد شيوخهم لما لهم من المنزلة والمكانة في نفوسهم، ولما أراد الله لهم اتباع الحق أعانهم على مخالفة مشايخهم وزملائهم وأصدقائهم إيثاراً للحق الذي اتضح لهم من تدبر آيات الكتاب العزيز ومن النظر في السنة المطهرة، كما صرح بذلك والد إمام الحرمين أبو محمد الجويني في رسالته التي تحدثنا عنها عند ترجمته، نعم ليس بغريب أن يحصل كل ما حصل وذلك بتقدير الله تعالى وإرادته الكونية، ثم تاب الله عليهم فتابوا بتوفيق الله، لأن المرض الغريب الطارئ قد ينتشر بين الناس فجأة قبل أن تعرف أعراضه لجهل الناس بحقيقته حتى يقابلوه بالوقاية قبل نزوله ثم بالعلاج إذا نزل، ولكن العجيب والمثير للدهشة أن يعرف وخطورته بإخبار أولئك المرضى الذين تحدثوا - بعد أن عافاهم الله - عن سوء حالهم ووحشتهم عندما كانوا مصابين، فقدموا للناس واجب النصح وحذروهم من أن يتعرضوا لأسباب ذلك المرض، وبعد هذا كله يأتي أناس يتجاهلون تلك النصائح والتحذير فيتعرضوا لأسباب المرض، فيمرضون ثم يتجاهلون مرضهم فلا يسرعون إلى العلاج، بل يبقون حتى تشتد عليهم وطأة المرض ولا يزال يفتك بهم من حيث لا يشعرون أو من حيث يشعرون.
هذا هو حال علم الكلام ومثل علماء الكلام بعد توبة إمامهم أبي الحسن الأشعري ومن بعده من كبار أئمة علماء الكلام الذين تابوا وتحدثوا عن مآل علم الكلام، وأوضحوا عواره وحذروا الناس من قربانه بعبارات صريحة لا سيما ما جاء في نصيحة الإمام الجويني أبي محمد والد إمام الحرمين، وما جاء في كلام الإمام الغزالي، وقد تقدم ذلك كله مفصلاً وبعد:
يتضح جلياً من دراسة أطوار حياة هؤلاء الأئمة الذي تقدم ذكرهم ومعرفة ما انتهى إليه أمرهم، ومعرفة نوع العقيدة التي ختم الله لهم بها
حياتهم وهي العقيدة التي كان يعتقدها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، من كل ذلك يتضح لك دون شك أن العقيدة الأشعرية المعروفة اليوم عند الناس هي التي رجع عنها الإمام أبو الحسن الأشعري، ومن ذكروا بعده من كبار الشيوخ، فإذاً نسبه هذه العقيدة إلى أبي الحسن الأشعري نسبة غير صحيحة، لأنه لا يمثلها بعد أن رجع عنها قطعاً كما لا يمثل الاعتزال الذي كان إمام فيه إلى أن رجع عنه، فمن الإنصاف ألا ينسب إليه ما كان عليه في الطور الثاني، ثم رجع عنه بل هو معدود من أعيان أئمة السلف.
الباب الأول: الكلام على الأسماء الحسنى والصفات العلا وبيان الفرق بينهما
بين يدي المبحث
قبل أن نشرع في الكلام على مبحث الأسماء والصفات وتعدادها يحسن بنا أن ننبه على بعض النقاط المهمة التي لها صلة وثيقة بالموضوع.
أ- إن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء والموجود، والقائم بالنفس والمخالف للحوادث، فإن هذه الألفاظ يخبر بها عن الله تعالى، ولا تدخل في باب أسمائه الحسنى، ولفظ (القديم) من هذا الباب لعدم ورود النص به، وباب الأسماء والصفات توقيفي، كما لا يخفى.
ب- إن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه تعالى، بل يطلق عليه منها كمال فقط، وهذا كالمريد والفاعل والصانع عند الإطلاق، بل هو فعال لما يريد.
فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة، فيقال لفاعل الخير فاعل كما يقال لفاعل الشر فاعل، وكذلك المريد والصانع، ولهذا إنما أطلق الله على نفسه من ذلك أكمله.
جـ- لا يلزم من الإخبار عنه تعالى بالفعل مقيداً أن يشتق له منه اسم مطلق كما غلط بعض المتأخرين، فجعل من أسمائه الحسنى، المضل والفاتن والماكر، والمستهزئ والساخر مثلاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة. والله أعلم.
د-لم يرد حديث صحيح يعتمد عليه في تعداد الأسماء الحسنى التسعة والتسعين وحصرها وهي التي من حفظها دخل الجنة، أو في غيرها من أسمائه الكثيرة التي سمى الله بها نفسه فأنزلها في كتابه أو علمها أحداً من خلقه، ولكن اعتماد أهل العلم في ذلك على الكتاب العزيز مع بعض الآثار التي يشهد لها الكتاب، فأسماؤه من كمالاته، وكمالاته لا تدخل تحت الحصر، وقد أطال الكلام بعض أهل العلم في الأسماء الحسنى حتى ذكر ابن العربي في شرح الترمذي عن بعضهم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم1.
?- قال الحافظ ابن حجر في التلخيص - بعد أن ذكر أقوال بعض أهل العلم في تعداد الأسماء الحسنى: "وقد عاودت تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررتها منه تسعة وتسعين اسماً، ولا أعلم من سبقني إلى تحرير ذلك، فإن ما ذكره ابن حزم لم يقتصر فيه على ما في القرآن الكريم" إلى آخر كلامه.
و حديث أبي هريرة في تعداد الأسماء الحسنى الذي اعتمد عليه كثير من الناس في تعداد الأسماء الحسنى مثل القشيري والرازي والقرطبي والغزالي، ضعيف، وعلته (الوليد بن مسلم) والحديث الثاني الذي صححه (الترمذي) أضعف وعلته (عبد العزيز بن حصين) .
قال الحافظ: متفق على ضعفه، ووهّاه البخاري ومسلم2، وقد زلت أقدام كثير من أهل الكلام في هذا المبحث على اختلاف مواقفهم، منهم من أثبت أسماء مجردة
1 انظر لذلك:
1- ابن القيم: بدائع الفوائد 1/183.
2-
وابن جرير الطبري في تفسيره 1/134 بتصرف.
3-
والشوكاني: فتح القدير 2/256، تفسير سورة الأعراف {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
4-
وابن حجر: التلخيص الحبير 4/174-175 كتاب الأيمان.
5-
وتحفة الأحوذي 9/490 طبعة المكتبة السلفية.
2 راجع تحفة الأحوذي 9/490 باب عقد التسبيح باليد، طبعة المكتبة السلفية.
عن المعاني والأوصاف، كأعلام محضة وزعم أن الله سميع بلا سمع، عليم لا علم، مثلاً إلى آخر الصفات.
ومنهم من ينفي الصفات والأسماء، ليزعم تصور وجود ذات مجردة عن الأسماء والصفات معاً، وهو من أفسد مزاعمهم، لأنه ضرب من المحال، فلنسمع الحافظ ابن القيم وهو يناقش هذه المزاعم ويفندها ليكشف عوارهم إذ يقول رحمه الله وهو يتحدث عن دلالة الأسماء على صفات الكمال -:
إن أسماء الله تبارك وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات فهي أسماء وهي صفات، وبذلك كانت حسنى، إذ لو كانت ألفاظاً لا معاني فيها لم تكن حسنى، ولا كانت دالة على مدح ولا كمال ولساغ وقوع الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان، وبالعكس فيقال: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم، واللهم أعطني، فإنك أن الضار المانع، ونحو ذلك.
ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1، ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها، لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2، فعلم أن (القوي) من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة، وكذلك قوله:{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} 3، وساق أمثلة كثيرة من القرآن والأحاديث الصحيحة إلى أن قال: لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنها بأفعالها. فلا يقال: يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد، فإن ثبوت أحكام الصفات فرع من ثبوتها، فإذا
1 سورة الأعراف آية: 180.
2 سورة الذاريات آية: 58.
3 سورة فاطر آية: 10.
انتفى أصل الصفة، استحال ثبوت حكمها، وأيضاً فلو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت كلها سواء ولم يكن فرق بين مدلولاتها: وهذه مكابرة صريحة، وبهت بيّن. فإن من جعل معنى اسم (القدير) هو معنى اسم (السميع البصير) ، ومعنى اسم (التواب) هو معنى اسم (المنتقم) ، ومعنى اسم (المعطي) هو معنى اسم (المانع) ، فقد كابر العقل واللغة والفطرة.
فنفي أسمائه من أعظم الإلحاد فيها: والإلحاد فيها أنواع، هذا أحدها، والثاني تسمية الأوثان بها، كما يسمونها آلهة إلى أن قال رحمه الله: وحقيقة الإلحاد فيها العدول بها عن الصواب فيها، وإدخال ما ليس من معانيها فيها وإخراج حقائق معانيها عنها. هذه حقيقة الإلحاد1 اهـ.
وقال في موضع آخر من كتابه (مدارج السالكين) :
"إن الاسم من أسمائه تبارك وتعالى، كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة2، فإنه يدل دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم. فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن الصفة، ويدل على الصفة الأخرى باللزوم. فإن اسم (السميع) يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة، وعلى الذات وحدها، وعلى السمع وحده بالتضمن، ويدل على اسم (الحي) وصفة الحياة بالالتزام وكذلك سائر أسمائه وصفاته3 اهـ.
1 مدارج السالكين 1/28-30.
2 مدارج السالكين 1/22.
3 أنواع الدلالة اللفظية الوضعية:
تنقسم الدلالة إلى ثلاثة أقسام:
1-
الدلالة المطابقية.
2-
الدلالة التضمنية.
3-
الدلالة الالتزامية.
فالدلالة المطابقية: هي دلالة اللفظ على تمام ما وضع له من حيث أنه وضع له، وذلك مثل لفظ (البيت) على الجدار والسقف معاً، ودلالة لفظ (إنسان) على الحيوان الناطق، ودلالة اسم الله (العليم) مثلاً على ذات الله وعلمه أي دلالة الاسم على المسمى والصفة المشتقة من الاسم نفسه.
وسميت مطابقية لتطابق اللفظ والمعنى، وتوافقهما في الدلالة.
أما الدلالة التضمنية: فهي دلالة اللفظ على جزء ما وضع له في ضمن كل المعنى، مثل دلالة لفظ البيت على الجدار وحده، وعلى السقف وحده، وسميت وضعية لأنها عبارة عن فهم جزء من الكل، فالجزء داخل ضمن الكل أي في داخله، ومن هذا النوع مثلاً دلالة اسم الله (السميع) على ذات الله وحدها، وعلى صفة السمع وحدها، بصرف النظر عن استعمال (الجزء والكل) بل يقال على الصفة والموصوف.
وأما الدلالة الالتزامية: فهي دلالة اللفظ على خارج عن معناه الذي وضع له، مثل دلالة لفظ (الأربعة) على الزوجية، ودلالة لفظ (إنسان) على قبول التعليم مثلاً وعلى التعجب والحركة والسكون، ودلالة اسم الله (القدير) على صفة (الحياة) وعلى العلم وغيرهما من صفات الله تعالى.
يقول المناطقة: يشترط لهذه الدلالة اللزوم الذهني البين مثل لزوم الحياة من العلم والحلم والقدرة مثلاً إذ الميت لا يوصف بهذه الصفات، ويعللون ذلك، لأنها تدل على الخارج عن المعنى الذي وضع اللفظ له، والخارج عن المعنى غير محدود، فلا بد من اللزوم الذهني البين، وقد مثلنا لذلك آنفاً.
ويقول المناطقة: إن بين الدلالة المطابقية والدلالة التضمنية العموم والخصوص المطلق، فإذا وجدت التضمنية وجدت المطابقية دون العكس، أي لا يلزم من وجود المطابقية وجود التضمنية.
استقينا هذه المعلومات (بالمعنى) عن كتاب: المرشد السليم إلى المنطق الحديث والقديم. الطبعة الرابعة، دار الطباعة المحمدية بالقاهرة. د. عوض الله جاد حجازي.
هذا وقد أفاض الحافظ ابن القيم في هذا المبحث في كتابه (مدارج السالكين) بما لعله لا يوجد لغيره مجتمعاً في موضع واحد.
وقد أشار الإمام البيهقي إلى هذا المعنى الذي أفاض فيه الحافظ ابن القيم رحمه الله، حيث يقول:"فلله عَزَّ اسمه، أسماء وصفات، وأسماؤه صفاته، وصفاته أوصافه"1 ا. هـ
وأما الفرق بينهما، فإن الصفات إنما هي من معاني أسمائه الحسنى، والأسماء دالة عليها كما تدل على الذات، إما بالمطابقة أو بالالتزام على ما تقدم بيانه في كلام ابن القيم قريباً. وهذا معنى قول الإمام البيهقي:"وأسماؤه صفاته، وصفاته أوصافه".
من هنا يتضح جلياً بطلان مذهب المعتزلة وتناقضهم، حيث ينفون الصفات مع إثباتهم لأحكامها، لأنه من المعلوم ضرورة إذا عدم الوصف الذي منه الاشتقاق، فالاشتقاق منه مستحيل، فإذا لم يقم العلم والقدرة بذات مثلاً استحال أن نقول: هي
1 الاعتقاد للبيهقي ص: 70 نسخة محققة تقديم وتعليق وتخريج أحمد عصام الطالب، ويعني بذلك أن أسماء الله تعالى متضمنة لصفاته والله أعلم.
عالمة وقادرة، ولست أدري كيف استساغت عقول المعتزلة وهضمت هذا التناقض، حيث يقولون: إن الله تعالى قادر وعالم لكن لا بقدرة ولا بعلم!!
وأنا أعتقد جازماً أن البدوي الجالس أمام خيمته وعند غنمه لو سمع هذا التناقض الذي استساغه العقل المعتزلي، لأنكره ذلك البدوي وسخر منه، لأنه خلاف المنطق، وخلاف العقل السليم الذي يتبلبل بعد بعلم الكلام الاعتزالي وتناقضاته، فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من عباده.
وسوف نورد بعض النصوص التي تدل على الأسماء الحسنى منها:
1-
قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 1.
2-
قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} 2.
3-
قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} 3.
4-
حديث حذيفة بن اليمان الذي يقول فيه: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه قال: "اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت، وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"4.
5-
حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي يقول فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء
1 سورة الأعراف آية: 180.
2 سورة الإسراء آية: 110.
3 سورة طه آية: 8.
4 رواه البخاري الدعوات 11/113، 130، ومسلم 4/2083.
وهو السميع العليم ثلاث مرات فلا يضره شيء" 1.
6-
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة" 2، وزاد في بعض الروايات:" وهو وتر يحب الوتر ".
7-
حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر، وهو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، وفي رواية المغيث بدل: المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعال، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع3، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث الرشيد، الصبور، الكافي" 4 ا. هـ
1 أخرجه أحمد 1/62، والترمذي في الدعوات 5/465 تحقيق إبراهيم عطوة، وأبو داود 5/329، وابن ماجه 2/1273، وقال الترمذي حسن صحيح غريب.
2 أخرجه البخاري 13/377، و 11/214، و5/354.
3 في بعض الروايات: "الرافع"بدل: "المانع".
4 أخرجه الترمذي 5/530-531، وابن ماجه 2/1269-1270، والبيهقي في الأسماء والصفات ص: 3-5، وراجع لتحقيق هذه الرواية فتح الباري 11/214.
قال الإمام البيهقي بعد أن ساق عدة روايات في هذا الباب وفيها: "من أحصاها دخل الجنة "، قال رحمه الله: وليس في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن لله تسعة وتسعين اسماً" نفي غيرها، وإنما وقع التخصيص بذكرها لأنها أشهر الأسماء وأبينها معاني. وفيها ورد الخبر أن من أحصاها دخل الجنة.
وفي رواية سفيان: "من حفظها" وذلك يدل على أن المراد بقوله: "من أحصاها" من عدها. وقيل: من أطاقها بحسن المراعاة لها، والمحافظة على حدودها، في معاملة الرب بها سبحانه، وقيل معناه: من عرفها وعقل معانيها، وآمن بها والله أعلم1 اهـ.
وبعد أن انتهى الإمام البيهقي من سرد الأسماء ذكر معاني الأسماء بالجملة، ثم فصل القول فيها تفصيلاً لم يسبق إليه فيما نعلم حيث نوع الأسماء تنويعاً: نوع يتبع إثبات الباري جل ثناؤه مثل (القديم) 2، وإن كان هذا الاسم غير معدود من أسماء الله الحسنى، ولكنه ذكر بالمعنى لأنه بمعنى "الأول الذي ليس قبله شيء" وقد مثل لهذا النوع بعدة أسماء ثم عقد فصلاً آخر لنوع آخر من الأسماء يتبع إثبات وحدانيته عز وجل ومثّل لهذا النوع بعدة أسماء منها:(الواحد) ومنها (الوتر)(الكافي) إلى آخر تلك الأسماء الكثيرة التي وزعها على عدة فصول في أول كتابه (الأسماء والصفات) .
ومما يشهد للإمام البيهقي فيما ذهب إليه -وهو الحق- من أن أسماء الله
1 الأسماء والصفات للبيهقي ص: 5.
2 ذكر صاحب شرح الطحاوية: أن (القديم) من الأسماء التي أدخلها المتكلمون في أسمائه تعالى وليس هو من أسمائه الحسنى. فإن القديم في لغة العرب هو المتقدم على غيره، وقد وصف به في القرآن (العرجون) (والإفك القديم) (والضلال القديم) وهو مع ذلك لا يؤدي معنى (الأول) الذي ليس قبله شيء. شرح الطحاوية ص:43.
الحسنى لا تنحصر في الأسماء التسعة والتسعين المذكورة في بعض الأحاديث السالفة الذكر التي يفهم منها من أول وهلة أن أسماء الله الحسنى هي هذه فقط، التي يمكن حفظها وإحصاؤها - مما يشهد للإمام فيما ذهب إليه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كثر همه فليقل: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، وفي قبضتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو ألهمت عبادك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، وفي لفظ: في مكنون الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي وجلاء همي وغمي، ما قالها عبد قط إلا أذهب الله غمه وأبدله فرجاً"، وفي بعض النسخ (فرحاً) بالحاء المهملة، رواه رزين1.
والحديث يدل بكل وضوح على أن أسماء الله كثيرة ومتنوعة حسب توزيع الحديث المذكور وهو أمر واضح، لأن كمالات الله لا تتناهى، بل هو موصوف بكل كمال سبحانه {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} 2.
هذا، وإتماماً للفائدة ولإعطاء هذه النقطة ما تستحق من البحث، أنقل هنا ما ذكره الحافظ ابن القيم عند قوله تعالى:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} الآية، لنقف على حقيقة الإلحاد وأنواعه، علماً بأنه قد تقدم بعض ما ذكره هنا فيما أسلفنا.
وهاك ملخص كلامه رحمه الله وهو يتحدث عن معاني الإلحاد-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} 3.
1 مشكاة المصابيح 1/752، وهو حديث صحيح (راجع شرح العقيدة الطحاوية ص: 110) .
2 سورة الكهف آية: 109.
3 سورة الأعراف آية: 180.
ومن أعظم أنواع الإلحاد في أسمائه تعالى إنكار حقائقها ومعانيها والتصريح بأنه مجازات، وهو أنواع: وهذا أحدها.
وثانيها: إنكار الأسماء كلية، وهذا يصدق على الجهمية الذين ينفون الأسماء والصفات معاً، وهم أسوأ حالاً من المعتزلة الذين ينفون الصفات، مع إثباتهم1 للأسماء، ولو شكلياً حيث يزعمون أنه تعالى سميع بلا سمع، عليم بلا علم.
وثالثها: تشبيه الله تعالى في صافته، وفي معاني أسمائه بصفات المخلوقين وأسمائهم، وهذا النوع من الإلحاد يشمل المشبهة الذي يشبهون الله بالمخلوق في أسمائه وصفاته، ويشمل المعطلة الذي يشبهونه أولاً حيث زعموا أنهم لا يفهمون من الأسماء والصفات إلا الحقائق التي تليق بالمخلوق، ثم ينفون أسماء الله وصفاته بدعوى التأويل لأن إثباتها على ظاهرها يوقع في التشبيه ولهذا يقال فيهم: إنهم يشبهون أولاً، ثم يعطلون ثانياً، ويقال: كل مشبه معطل، وكل معطل مشبه، لأن المشبهة قد عطلوا البارئ عما يليق به بتشبيههم إياه بالمخلوق. كما أن المعطلة قد شبهوه بتعطيله عن صفات الكمال - وصفاته كلها كمال- بجمادات لا توصف بأي صفة لا بالعلم، ولا بالبصر مثلاً.
وقد أورد هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية في غير موضع من كتبه كالحموية والتدمرية، وقد أنكر الحافظ ابن القيم وجود طائفة معينة تعتقد أن الثابت لله تعالى من صفاته مماثل للمعاني الثابتة للمخلوق فيجعل هذا مذهباً له ويقف عند هذا الاعتقاد دون تأويل كما فعلت المعطلة، هكذا يرى الإمام ابن القيم، ولكننا إذا راجعنا معتقدات بعض الطوائف المنحرفة في عقيدتها نجد (الهشامية) وهم أتباع هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم (جسم وله نهاية، وله حد، طوله كعرضه وعمقه) إلى آخر كلام طويل كله تشبيه وتجسيم. وزعيمهم (هشام بن
1 راجع المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص: 114 تحقيق محي الدين الخطيب.
الحكم) أول من أظهر إطلاق لفظ (التجسيم) من متكلمة الرافضة1.
وهناك خمسة فرق من الروافض ولكنهم يقولون بالتجسيم مع اختلافهم في الأسلوب والتفسير، وتوجد هشامية أخرى أتباع هشام بن سالم الجواليقي، التي تزعم أن معبودها على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً ودماً، إلى آخر تلك الأوصاف الكفرية، فهما طائفتان جمعهما الإلحاد بالتشبيه والتجسيد وفرقتهما كيفية ذلك التشبيه والصورة.
ولعل الإمام ابن القيم يرى أن معبودهم الذي بتلك الصفات ليس هو رب العالمين -وهو الواقع- حتى يقال: إنهم شبهوا الله بخلقه، ولكنهم اتخذوا معبوداً آخر بتلك الصورة. والله أعلم. وإلا فإنهم قد شبهوا أقبح التشبيه، ثم لم يؤولوا كما أولت المعطلة.
ويجزم الإمام ابن القيم أن المراد بالمشبهة الذين عُنيَ القرآن بالرد عليهم هم أولئك الذين يثبتون للمخلوق علماً كعلم الخالق، وقدرة كقدرة الخالق، وتصرفاً في الكون كتصرفه حتى عبدوا مخلوقاً مثلهم بعد هذا الغلو فيه، كما يعبد الموحد ربه سبحانه بأنواع العبادات من التذلل والخضوع والذبح والنذر وغير ذلك.
ويرى ابن القيم أن هذا هو الواقع من بني آدم قديماً وحديثاً يشبهون أوثانهم وأصنامهم ومعبوداتهم بالخالق. وقطعاً لا يعرف إبّان نزول القرآن غير هذا النوع من التشبيه، وهذا ما يعنيه ابن القيم. وقد ساق عدة آيات مؤيداً بها ما ذهب إليه. مثل قوله تعالى:{وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 2، أي من يساميه ويماثله، وقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3، وقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 4.
1 راجع المنتقى من منهاج الاعتدال ص: 83، ومقالات الإسلاميين ص: 54، وابن حزم في (الفصل) .
2 سورة مريم آية: 65.
3 سورة الإخلاص آية: 4.
4 سورة الشورى آية: 11.
قال ابن القيم - وهو يلخص معنى الآيات الثلاث التي ساقها مؤيداً بها مذهبه وهو الصواب - فيما يظهر لنا- فنفي عن المخلوق مماثلته، ومكافأته ومساماته الذي هو أصل شرط بني آدم، فضرب المتكلمون عن ذلك صفحاً وأخذوا يبالغون في الرد على من شبه الله بخلقه، يقول الإمام ابن القيم:"لا نعلم فرقة من بني آدم استقلت بهذه النحلة وجعلتها مذهباً تذهب إليه، حتى ولا المجسمة المحضة الذين حكى أرباب المقالات مذاهبهم كالهشامية والكرامية1، الذين قالوا: إنه جسم لو يقولوا: إنه مماثل للأجسام بل صرحوا بأن معنى كونه جسماً أنه قائم بنفسه موصوف بصفات"2 اهـ.
وله رحمه الله كلام نفيس في كتابه (شفاء العليل) عند الكلام على حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره أن يقول رحمه الله:
قوله عليه الصلاة والسلام: "أسألك بكل اسم هو لك سميت له نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثر به في علم الغيب عندك".
قال رحمه الله: إن كانت الرواية محفوظة هكذا ففيها إشكال، فإنه جعل ما أنزله في كتابه أو علّمه أحداً من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده، قسيماً لما سمى به نفسه!
ومعلوم أن هذا التقسيم تفصيل لما سمى به نفسه، فوجه الكلام أن يقال: سميت به نفسك، فأنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو
1 الكرامية هي طائفة من المرجئة أصحاب محمد بن كرام، من عقيدتها أن الإيمان هو الإقرار باللسان دون تصديق القلب، والمنافقون عندهم من المؤمنين لأنهم يقرون بألسنتهم اهـ.
مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 1/205، بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
2 هذا خلاف ما ذكره الذهبي نقلاً عن الأشعري في المقالات، وعن ابن حزم في الفصل وأصل الكلام موجود في منهاج السنة، وسبق أن ناقشنا كلام ابن القيم وحاولنا أن يفهم كلامه على أنه لا توجد فرقة يقال لها مشبهة وقت نزول القرآن، وأما بعد ذلك فقد وجدت كما أوضحنا آنفاً في صلب الرسالة.
استأثرت به في علم الغيب عندك. فإن هذه الأقسام الثلاثة تفصيل لما سمى به نفسه.
وأجاب الحافظ على هذا الإشكال بجواب مستفيض وحقق تحقيقاً قلّ ما يوجد له نظير - فيما علمنا- وملخصه هو الآتي:
إن العطف بين هذه الجمل من باب عطف الخاص، لأن كل جملة أخص من التي قبلها، والمعهود في باب عطف الخاص على العام أن يكون بالواو دون سائر حروف العطف إلا أن العطف بـ"أو" على العام له فائدة أخرى غير الفائدة التي في العطف بالواو.
وهي بناء الكلام على التقسيم والتنويع كما بنى عليه تاماً. فيقال: سميت به نفسك فإما أنزلته في كتابك. وإما علمته أحداً من خلقك1 اهـ.
قلت: ولا يستبعد لو قيل: إن "أو" هنا معنى الواو، وهو أسلوب متبع معروف عند أهل اللغة.
ثم انتقل ليذكر لنا فائدة أخرى في الحديث، وملخص ذلك: أن الحديث يدل على أن أسماء الله غير مخلوقة، بل هو الذي تكلم بها وسمى بها نفسه، ولهذا لم يقل: كل اسم خلقته لنفسك، ولو كانت مخلوقة لم يسأله بها. فإن الله (لا يقسم عليه) بشيء من خلقه، فالحديث صريح في أن أسماء الله ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم، ويدل أيضاً على أن الأسماء مشتقة من صفاته، وصفاته قديمة قائمة به تعالى فأسماؤه غير مخلوقة2 اهـ.
فإن قيل: فالاسم عندكم هو المسمى أو غيره؟! قيل: طالما غلط بعض الناس في ذلك وجهلوا الصواب فيه.
1 شفاء العليل باب 27، ص: 276 ط دار المعرفة.
2 المصدر السابق ص: 277، بتصرف.
فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، واستوى الله على عرشه وسمع الله ورأى وخلق فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، أو الرحيم من أسماء الله، وما في هذا المعنى فالاسم ها هنا هو اللفظ الدال على المسمى، ولا يقال غيره لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى، فحق. وإن أريد أن الله كان وليس له أسماء حتى خلق لنفسه أسماء أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد1 اهـ.
ثم واصل كلامه قائلاً قوله: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك " دليل على أن أسماء الله أكثر من تسعة وتعسين، وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره. وعلى هذا فقوله:"إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة" لا ينفي أن يكون له سبحانه غيرها والكلام جملة واحدة2 اهـ.
قلت: وعلى هذا يكون إعراب الجملة هكذا:
لله جار ومجرور حال مقدمة على صاحبها، وتسعة وتسعون مبتدأ3، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم الحال وهو جار ومجرور، وهو المسوغ أيضاً لكون صاحب الحال نكرة، وجملة من أحصاها دخل الجنة خبر المبتدأ.
ويكون المعنى هكذا: تسعة وتسعون اسماً حال كونها ثابتة لله مخبر عنها بدخول الجنة لمن حفظها وأحصاها، مؤمناً بها دون إلحاد فيها، والله
1 شفاء العليل باب 27 ص: 276.
2 المصدر السابق.
3 وهذا الإعراب ليس محل اتفاق عند النحاة، لأن منهم من يمنع أن يكون المبتدأ صاحب الحال، ولو لم يكن نكرة، وإذا كان نكرة فمن باب أولى.
أعلم. وقد أشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري إلى هذا المعنى نقلاً عن الخطابي.
وقد أوضح ابن القيم هذا المعنى بقوله: "كما يقال لفلان مائة عبد أعدهم للتجارة، وله مائة فرس أعدها للجهاد. قلت: ألا ترى أن هذا التركيب لا يمنع أن يكون لزيد عبيد آخرون أعدهم للخدمة، أو يكون له عدد آخر من الفرس أعدها لغرض آخر غير الجهاد.
وكذلك الحال هنا إذ لا مانع أن يكون لله أسماء غير هذا العدد المذكور في الحديث". بل صرح الحافظ ابن القيم أن هذا رأي الجمهور وما خالفهم في ذلك إلا ابن حزم فزعم أن أسماء الله تنحصر في هذا العدد1 اهـ. وسيأتي نص كلامه رحمه الله إن شاء الله.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - وهو يتكلم على حديث أبي هريرة الذي نحن بصدد شرحه: ""لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً " الحديث وقد اختلف في هذا العدد: هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة أو أنها أكثر من ذلك؟ ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة، فذهب الجمهور إلى الثاني ونقل النووي اتفاق العلماء عليه فقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى وليس معناه أنه ليس له اسم غير التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة. فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء اهـ.
ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حبان: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت له نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب
1 شفاء العليل لابن القيم باب 27 بتصرف، والحافظ ابن حجر في الفتح 13/483.
عندك" وعند مالك عن كعب الأحبار في دعاء "أسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم" وأورد الطبري عن قتادة نحوه. ومن حديث عائشة أنها دعت بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام نحو ذلك.
وقال الخطابي في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها من الزيادة، وإنما التخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني. وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله:"من أحصاها" لا قوله: "لله"1.
قلت: وقد تقدم الكلام على هذت الإعراب المشار إليه بالتفصيل، ولله وحده الحمد والمنة، والمعنى الذي ذكره الخطابي2 قد ذكره أيضاً القرطبي3 وابن بطال4 نقلاً عن القاضي أبي بكر الطيب5 وسبق أن نقلناه عن الحافظ ابن قيم الجوزية، وقد نوه أنه رأي الجمهور ولم يخالفهم إلا ابن حزم، رحمه الله: حيث يقول: "قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: وأن له عز وجل تسعة وتسعن اسماً مائة إلا واحداً، وهي أسماؤه الحسنى، ومن زاد شيئاً من عند نفسه فقد ألحد في أسمائه. وهي الأسماء المذكورة في القرآن والسنة" هذا نص كلام أبي محمد. ثم ساق حديث أبي هريرة بإسناده، قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة ألا واحداً، من أحصاها دخل الجنة"، ثم ذكر الزيادة التي يقول:" إنه وتر يحب الوتر "، وهي زيادة صحيحة
1 فتح الباري كتاب الدعوات 13/378-379.
2 هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب المتوفى سنة 388هـ، صاحب معالم السنن.
3 هو محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671هـ، وهو صاحب الجامع لأحكام القرآن.
4 هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال القرطبي المالكي المتوفى سنة 449هـ، وله شرح على صحيح البخاري (انظر معجم المؤلفين 7/87.
5 هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر المعروف بالباقلاني، البصري المتكلم المشهور على مذهب الأشعري، توفي سنة 403هـ، (راجع: وفيات الأعيان 3/400) .
وردت في بعض طرقه قم قال: وقد صح أنها تسعة وتسعون اسماً فقط، ولا يحل لأحد أن يجيز أن يكون له اسما زائد لأنه صلى الله عليه وسلم قال: مائة غير واحد. فلو جاز أن يكون له تعالى اسم زائد، لكانت مائة اسم. ولو كان هذا لكان قوله صلى الله عليه وسلم:"مائة إلا واحداً"(كذباً) ومن أجاز هذا فهو كافر1 اهـ.
عفا الله عن أبي محمد لقد بالغ في هذا الإنكار، والتكفير ليس بالأمر الهين، فنعتذر له قائلين، لعل الذي حمله على هذه المبالغة حرصه الشديد على التقيد بالنصوص، وهو أمر مطلوب بل واجب، ولكنه كان يسعه غير هذا الأسلوب بأن يقول: إن الزيادة غير جائزة ما لم يرد ما يدل عليها، كان يسعه هذا المقدار من التقييد، ولكنه أبى إلا أن يبالغ عفا الله عنا وعنه2.
وأما النص الذي اعتمده الجمهور والذي فهموا منه أن حديث أبي هريرة وما في معناه لا يمنع أن يكون لله اسم آخر أو أسماء وهو حديث ابن مسعود الذي نحن بصدد مناقشته. فقد اتضح من استعراض أقوال أهل العلم ومناقشتهم للحديثين، حديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود اللذين ظاهرهما التعارض قبل استيضاح المراد من حديث أبي هريرة في حفظ عدد كثير من الأسماء الحسنى، اتضح أن الصواب مع الجمهور، وأن التوفيق بين الحديثين بالطريقة التي سلكوها أمر لا بد منه ليمكن العمل بهما معاً، وهي طريقة أهل الحديث المعروفة -والتي بها يمنع التضارب بين النصوص الصحيحة عند ما يظهر لأول وهلة التعارض بينها رحمهم الله.
قال الحافظ ابن حجر: ظاهر كلام (ابن كج) 3 حصر أسماء الله في العدد المذكور، وبه قال ابن حزم، ونوزع. ويدل على صحة قول من خالفه حديث ابن مسعود في الدعاء الذي فيه: " أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك،
1 ابن حزم المحلى 1/30 مسألة 55.
2 ولعل هذا الحديث لم يبلغه رحمه الله.
3 هو القاضي بوسف بن أحمد بن يوسف بن كج الكجي الدنيوري من أئمة الشافعية وصاحب المؤلفات، توفي سنة 405هـ، انظر وفيات الأعيان 6/63.
أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" كما يدل على عدم الحصر أيضاً اختلاف الأحاديث الواردة في سردها، وثبوت أسماء غير ما ذكرت في الأحاديث الصحيحة الأخرى1.
قال القرطبي: "فأسماء الله وإن تعددت فلا تعدد في (ذاته) ولا تركيب لا محسوساً كالجسميات ولا عقلياً كالمحدودات. وإنما تعددت الأسماء بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات. ثم هي من جهة دلالتها على أربعة أضرب:
1-
ما يدل على الذات مجردة، كالجلالة فإنه يدل عليه دلالة مطلقة غير مقيدة. وبه تعرف جميع أسمائه. فيقال: الرحمن مثلاً من أسماء الله ولا يقال: الله من أسماء الرحمن ولهذا كان الأصح أنه اسم علم غير مشتق وليس بصفة2" اهـ
قلت: لا يمنع هذا أن يكون أصل (الله)(إله) وهو المألوه، أي المعبود، وقد تقدم تحقيق ذلك في المبحث الأول.
2-
ما يدل على إضافة أمر ما إليه كالخالق والرازق (مثلا) .
3-
ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير (مثلا) .
4-
ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس (مثلا)3.
1 التلخيص الحبير 4/174.
وملخص التوفيق: أن حديث أبي هريرة يفيد أن الأسماء التسعة والتسعين لها ميزة خاصة، وهي: أن من حفظها وأحصاها، وعرف معناها وعمل بها ودعا الله بها دخل الجنة، وليس فيه ما يدل على أنه تعالى ليست له أسماء غيرها، ويوضح ذلك حديث ابن مسعود إذ يفيد أن لله أسماء علم بعضها بعض عباده، وله أسماء استأثر بعلمها وحده، سبحانه لا يعلمها غيره تعالى. هذا ملخص ما جمعوا به بين الحديثين، والله أعلم.
2 التلخيص الحبير.
3 فالعلي مع دلالته على صفة العلو، فهو يدل أيضاً على نفي النقائص عنه تعالى كالسفول، والحلول والاختلاط بالمخلوقات، والله أعلم.
وهذه اٍلأسماء الأربعة منحصرة في النفي والإثبات1 ا. هـ
قال الفخر الرازي في شرح الأسماء الحسنى: "الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة:
1-
ثابتة في حق الله قطعاً.
2-
ممتنعة قطعاً.
3-
ثابتة ولكن مقرونة بكيفية.
فالقسم الأول: فيه ما يجوز ذكره مفرداً ومضافاً وهو كثير جداً، كالقادر والقاهر. ومنه ما يجوز مفرداً ولا يجوز مضافاً إلا بشرط، كالخالق فيجوز (خالق) ويجوز خالق كل شيء مثلاً ولا يجوز خالق القردة2" اهـ.
قلت: وإنما منع ذلك تأدباً مع الله سبحانه وتقديراً له جل وعلا، وإلا فإن القردة داخلة في عموم قوله:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
ومنه عكسه. يجوز مضافاً، ولا يجوز مفرداً كالمنشئ، ويجوز منشئ الخلق، ولا يجوز منشئ فقط، قلت: لأنه إنما يستعمل في حقه تعالى من حيث المعنى لا لأنه من أسمائه الواردة (لأن أسماء الله توقيفية عند أهل السنة بخلاف المعتزلة) .
وقد استطرد الحافظ ابن حجر إلى ذكر (الاسم الأعظم) الذي إذا دُعي به لا يرد، وذكر اختلاف أهل العلم فيه منهم من أنكره مثل أبي جعفر الطبري، وأبي الحسن الأشعري، وجماعة بعدهما كأبي حاتم ابن حبان، والقاضي أبي بكر الباقلاني، فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض، ونسب ذلك بعضهم لمالك لكراهته أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها من السور (لئلا يظن أن بعض القرآن أفضل من بعض) ، فيشعر ذلك
1 المصدر السابق.
2 الفخر الرازي شرح الأسماء الحسنى ص: 37-38 طبع المكتبات الأزهرية.
باعتقاد نقصان المفضول، وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم، (وجعلوا اسم التفضيل على غير بابه)(وهو أسلوب معروف عند علماء العربية) ، وأن أسماء الله كلها عظيمة.
وقال ابن حبان: "الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك. كما إذا أطلق ذلك في القرآن، المراد به مزيد ثواب القارئ، وقيل: المراد بالاسم الأعظم، كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقاً بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتى له ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق، وعن الجنيد وعن غيرهما.
وقال آخرون: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم، ولم يُطْلِعْ عليه أحداً من خلقه وأثبته آخرون، واضطربوا في ذلك1"اهـ.
ثم ذكر أربعة عشر قولاً فرأيت أن أقتصر على أحد عشر قولاً2 فقط، وهي الأقوال التي تطمئن إليها النفس تقريباً، نسردها فيما يلي:
1-
إن الاسم الأعظم (الله) لأنه لم يطلق على غيره سبحانه، ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى، ومن ثم أضيفت إليه.
2-
(الله الرحمن الرحيم) ولعل مستند هذا القول ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: " أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم، فلم يفعل"، فصلّت ودعت:"اللهم أني أدعوك الله، وأدعوك الرحمن، وأدعوك الرحيم بأسمائك الحسنى كلها، ما علمت منها ومالم أعلم" الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها:"إنه في الأسماء التي دعوتِ بها"، قال الحافظ ابن حجر: سنده ضعيف، وفي الاستدلال به نظر لا يخفى3" اهـ.
1 فتح الباري، كتاب الدعوات 13/481-483.
2 محاولاً اختيار الأقوى فالأقوى من الأقوال من حيث الدليل، فيما يظهر لي والله أعلم.
3 فتح الباري 13/483.
ولعل ذلك النظر الذي أشار إليه الحافظ رحمه الله: أن عائشة إنما دعت بالله، والرحمن، والرحيم، وجميع الأسماء الحسنى ما علمت منه وما لم تعلم.
فالاستدلال بالحديث على بعض ما دعت به دون بقية الأسماء غير وارد. والله أعلم.
3-
(الرحمن الرحيم، الحي القيوم) لما أخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، وفاتحة سورة آل عمران {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} "، أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي، وحسنه الترمذي بل قد (صححه) ، وفيه نظر لأنه من رواية شهر بن حوشب.
4-
(الحي القيوم) أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة: " أن الاسم الأعظم في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه"، قال القاسم الراوي عن أبي أمامة: التمست منها فعرفت أنه (الحي القيوم) ، وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان على صفة العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما.
5-
(الحنان، المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، الحي القيوم) ، ورد ذلك مجموعاً في حديث أنس عند أحمد والحاكم وأصله عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان.
6-
(ذو الجلال والإكرام) أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل. قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: يا ذا الجلال والإكرام) فقال: "قد استجيب لك فسل" واحتج له الفخر الرازي بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية، لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات.
7-
(الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفواً أحد) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، من حديث بريدة، وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك.
8-
(رب رب) أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء وابن عياض، بلفظ (اسم الله الأكبر رب) وأخرجه ابن أبي الدنيا عن عائشة: إذا قال العبد يا رب يا رب، قال الله تعالى:"لبيك عبدي سل تعط "، رواه مرفوعاً وموقوفاً.
9-
دعوة ذي (النون) أخرجه النسائي والحاكم عن فضالة بن عبيد – رفعه - دعوة ذي النون في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ولم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له.
10-
هو مخفي في الأسماء الحسنى ويؤيده حديث عائشة المتقدم لها دعت ببعض الأسماء الحسنى، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "أنه لفي الأسماء الحسنى التي دعوت بها".
11-
كلمة التوحيد، نقله عياض1اهـ.
هكذا ينتهي الكلام على الباب الأول (الأسماء الحسنى والصفات العلى والفرق بينهما) بعد أن أثبتنا أن أسماء الله تعالى مشتقة من صفاته أو تدل على صفاته تعالى على اختلاف أنواعها. والله الموفق.
1 فتح الباري، كتاب الدعوات ج 13، والتلخيص الحبير ج 4 الإيمان.
الباب الثاني: أنواع الصفات عند السلف والخلف
الفصل الأول: الصفات الشرعية العقلية والصفات الخبرية
…
الباب الثاني: أنواع الصفات عند السلف والخلف
أ- الصفات السلبية:
أما السلف فإنهم لم يتوسعوا في تقسيم الصفات وتنويعها، إذ ليس من عاداتهم الإسراف في الكلام في المطالب الإلهية، بل لا يكادون يتجاوزون الكتاب والسنة في مبحث الصفات، إلا أن أولئك الذين حضروا زمن الفتنة (بعد نشأة علم الكلام في عهد العباسيين) وابتلوا بمناقشة علماء الكلام وجدالهم بأسلوبهم اضطروا للخوض في تقسيم الصفات بِقَدَرٍ، كما سيأتي بيان ذلك عند الكلام على الصفات الخبرية إن شاء الله.
وأما الخلف1، فقد أولعوا بتقسيم الصفات وتنويعها، ومن ذلك تنويعهم الصفات إلى نفسية وسلبية وصفات معان، ومعنوية وصفات فعلية، وصفات جامعة، والصفة الإضافية وهي تتداخل مع الفعلية كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
أما الصفات السلبية فهي خمس صفات عند الأشاعرة:
1-
القدم.
2-
البقاء.
3-
الوحدانية.
4-
المخالفة للحوادث.
1 المراد بالخلف هنا الأشاعرة، لأنهم هم الذين قسموا الصفات هذا التقسيم، كما تدل عليه كتبهم وراجع حاشية البيجوري والدسوقي، بل المتون نفسها تنص على هذا التقسيم مثل متن السنوسية، وإن كنت لا أذكر في أي وقت اصطلحوا على هذا التقسيم.
5-
الغنى المطلق، المعروف عندهم (القيام بالنفس) .
قال العلامة الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان: "اعلم أن المتكلمين قسموا صفاته جل وعلا إلى ستة أقسام:
1-
صفة نفسية.
2-
صفة سلبية.
3-
صفة معنى.
4-
صفة معنوية.
5-
صفة فعلية.
6-
صفة جامعة. مثل العلو والعظمة مثلاً.
7-
الصفة الإضافية هي تتداخل مع الفعلية.
لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية، فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة.
وتنفرد الفعلية في نحو الاستواء وتنفرد الإضافية في نحو كونه تعالى موجوداً قبل كل شيء، وأنه فوق كل شيء، لأن القبلية والفوقية من الصفات الإضافية وليستا من صفات الأفعال1 اهـ.
وضابط الصفة السلبية عندهم: هي الصفة التي لا تدل بدلالة المطابقة، على معنى وجودي أصلاً، وإنما تدل على المعنى السلبي غير الثبوتي كالقدم يدل على ما سبق العدم، والبقاء يدل على عدم لحوق الفناء إلى آخر الصفات الخمسة التي تقدم ذكرها.
1 أضواء البيان 2/306، فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
وقال بعضهم: هي التي تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله1 والتعريفان متقاربان كما ترى.
وهناك صفات سلبيات أخرى غير الصفات السلبيات التي اصطلح عليها الأشاعرة التي تقدم الحديث عنها، ونعني بالسلبيات هنا الصفات التي تدخل عليها (أداة) النفي مثل (لا) ، و (ما) و (ليس) وهذا النوع من السلوب والنفي كثير في القرآن، وإنما يقع النفي في القرآن لتضمنه كمال ضد الصفة المنفية، بل لقد ثبت (بالاستقراء) أن كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، كقوله تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 2، لكمال عدله، وقوله تعالى:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} 3، لكمال علمه، وقوله:{وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} 4، لكمال قوته، وقوله تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} 5، لكمال حياته وقيوميته، وقوله تعالى:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 6، لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه، ألا ترى أن قول الشاعر:
قُبَيِّلَة لا يَغْدِرَون بذمِّة
…
ولا يظلمون الناس حبة خردل
لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله:(قُبَيِّلَة) عُلِمَ أن المراد عجزهم وضعفهم لا كمال قدرتهم، وقول آخر:
لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عدد
…
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا7
1 أضواء البيان 2/306، والفقه الأكبر بتصرف ص: 20 للإمام أبي حنيفة بشرح ملا علي قارئ.
2 سورة الكهف آية: 49.
3 سورة سبأ آية: 3.
4 سورة ق آية: 38.
5 سورة البقرة آية: 255.
6 سورة الأنعام آية: 103.
7 ديوان الحماسة.
لما اقترن بنفي الشر عنهم ما دل على ذمهم علم أنّ المراد عجزهم وضعفهم أيضاً، ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كاتب الله مفصلاً والنفي مجملاً عكس طريقة أهل الكلام المذموم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل، يقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة لحم، ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض إلى آخر تلك السلوب الكثيرة التي تمجها الأسماع وتأنق من ذكرها النفوس والتي تتنافى مع تقدير الله تعالى حق قدره، وهذه السلوب نقلها أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة، وهي لا تخلو من الحق، ولكن فيها من الباطل الشيء الكثير، ويظهر ذلك لمن يعرف أسلوب الكتاب والسنة في هذا الباب. وهو التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي كما تقدم.
ثم إن هذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب مع الله سبحانه. فإنك لو قلت لسلطان: أنت لست بزبَّال ولا كسّاح ولا حجام ولا حائك لأدبك على هذا الوصف وإن كانت صادقاً، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت فقلت: أنت لست مثل أحدٍ من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل، فإن أجملت في النفي أجملت في الأدب. والتعبير على الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة1.
والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع في الأسماء والصفات ولا يتدبرون معانيها ويجعلون ما يبتدعونه من المعاني والألفاظ هو الحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده.
" والمقصود: أن غالب عقائدهم السلوب ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل، وهو أنه عالم، قادر حي" اهـ2.
فلنكتف بهذا المقدار من الصفات السلبية لنأخذ في الحديث في
1 شرح العقيدة الطحاوية ص: 108-110.
2 المصدر السابق.
الصفات الثبوتية في الفصل التالي (مستعينين بالله وحده) .
ب- الصفات الثبوتية:
إذا علم مما تقدم أن الصفات السلبية هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله كالقِدّم الذي ينفي عن الله عدم الأولية والبقاء الذي ينفي عن الله لحوق العدم، أي عدم الآخرية، أو التي تقع في سياق النفي، أي بعد أداة النفي مثل (لا) و (ما) و (ليس) كقوله تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} 1، وقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2، إذا علم ذلك فإن الصفات الثبوتية هي التي تدل على معنى ثبوتي ووجودي. ومن الصفات الثبوتية تلك الصفات السبع المعروفة عند الأشاعرة بصفات المعاني: كالقدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والحياة والكلام، وهذه الصفات وأمثالها تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي مع تضمنها سلب أضدادها، فالقدرة مثلاً تدل على معنى وجودي لأنها صفة بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق الإرادة وفي الوقت نفسه تدل على سلب العجز عن الله تعالى ضرورة استحالة اجتماع الضدين عقلاً، وهكذا بقية الصفات الثبوتية، وهذه الصفات محل إجماع بين الصفاتية من أتباع السلف الصالح والأشاعرة وغيرهم من مثبتة الصفات، لذلك لسنا بحاجة إلى سوق الأدلة لإثباتهان وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع بين أهل الإثبات على اختلافهم فيما عداها كما سيأتي قريباً.
ج- صفات الذات:
يقال للصفات الثبوتية: صفات الذات إضافة إلى الذات العلية لملازمتها للذات لأنها لا تتجدد تجدد صفات الأفعال، فهي بهذا الاعتبار
1 سورة البقرة آية: 255.
2 سورة الشورى آية: 11.
ذاتية، ومن حيث دلالتها على معنى ثبوتي ووجودي يقال:(ثبوتية، كالعلم والسمع والبصر والعزة والحكمة) وغيرها. وهي بهذا الاعتبار تقابل السلبية وقد تقدم الكلام عليها.
ومن الصفات الذاتية صفات شرعية وعقلية مثل الصفات السلبية الخمس المعروفة عند الأشاعرة وصفات المعاني التي تقدم الكلام فيها، ومنها صفات خبرية محضة وهي الصفات التي الأصل في إثباتها الخبر عن الله عز وجل أو عن رسوله المعصوم مثل الوجه واليد والقدم والساق والأصابع هذه صفات ذاتية ملازمة للذات العلية وثابتة ثبوت الذات، فإذا هي ثبوتية وذاتية وهي معروفة بالصفات الخبرية، وسيأتي تفصيل الكلام فيها وهي تقابل الصفات الفعلية المتجددة كما تقابل الصفات السلبية من حيث الدلالة، والله أعلم.
د- صفات الفعل:
أما الصفات الفعلية فقد اختلف أهل العلم في تعريفها، وفي التفريق بينها وبين الصفات الذاتية. وهي من الصفات الثبوتية التي تقدم ذكرها.
قال (ملا علي القاري) الحنفي المتوفى سنة (1001هـ) رحمه الله في شرحه على (الفقه الأكبر) للإمام أبي حنيفة رحمه الله (المتوفى سنة150هـ) .
قال (ملا) في تعريف الصفات الفعلية: "وهي التي يتوقف ظهورها على وجود الخلق"، ثم قال: "اعلم أن الحد بين صفات الذات وصفات الفعل مختلف فيه.
فعند المعتزلة: ما جرى في النفي والإثبات فهو من صفات1 الفعل، كما يقال خَلَقَ لفلان ولداً، ولم يخلق لفلان، ورزق زيداً مالاً ولم يرزق عمراً.
وما لا يجري فيه النفي فهو من صفات الذات، كالعلم والقدرة، فلا يقال: لم يعلم كذا، ولم يقدر على كذا. والإرادة والكلام من صفات الفعل عند المعتزلة بخلاف غيرهم من أهل السنة والأشاعرة قلت: على تفصيل معروف عند كل طائفة.
وأما عند الأشعرية فالفرق بينهما أن ما يلزم من نفيه نقيضه فهو من صفات الذات، فإنك لو نفيت الحياة يلزم الموت، ولو نفيت القدرة يلزم العجز، وكذا العلم مع الجهل وما لا يلزم من نفيه نقيضه فهو من صفات الفعل. ولو نفيت الإحياء أو الإماتة أو الخلق أو الرزق لم يلزم من نفيه نقيضه، كما لا يخفى. فعلى هذا الحد لو نفيت الإرادة لزم منه الجبر والاضطرار، ولو نفيت عنه الكلام لزم منه الخرس والسكوت فثبت أنهما من صفات الذات، لا كما تقول المعتزلة كما تقدم، ثم قال القاري: وعندنا – يعني (الماتريدية) - أن كل ما وصف به ولا يجوز أن يوصف بضده فهو من صفات الذات، كالقدرة والعلم والعزة والعظمة، وكل ما يجوز أن يوصف به وبضده فهو من صفات الفعل كالرأفة والرحمة والسخط والغضب"2 اهـ.
هذه اصطلاحات وقد لا يختلفون في جوهر المسألة
…
1 المعروف أن المعتزلة لا يثبتون جميع الصفات بل غلاتهم ينفون الصفات والأسماء معاً، هذا هو المعروف عندنا وعند غيرنا – فيما أعلم- وأما ما ذكره (ملا علي القاري) فإنه يفهم منه أن المعتزلة يثبتون الصفات. وهو خلاف المعروف، وإن صح هذا الكلام أو هذا النص فإنه يحمل على أن هذا مذهب طائفة معينة منهم غير مشهورة والله أعلم.
2 شرح الملا على القاري على الفقه الأكبر ص: 20.
مناقشة أقوال الثلاثة
عند إمعان النظر في الأقوال الثلاثة في تحديد صفة الفعل وبيان الفرق بينهما وبين صفة الذات، وعند إمعان النظر في تلك الأقوال نجد أن الخلاف لفظي تقريباً، لأن المعتزلة الذين قد يثبتون الأسماء أو أحكامها أحياناً، أو يلزمهم ذلك- يمثلون للصفات الفعلية بالخلق والرزق مثلاً، وكذلك فعلت الأشاعرة أيضاً كما يتفق الفريقان على أن القدرة والعلم والعزة مثلاً من صفات الذات.
وكذلك الماتريدية تتفق مع الفريقين في أمثلة الصفات الذاتية، هذا بالجملة، وأما عند التفصيل فنجد اتفاقاً أحياناً واختلافاً وتداخلاً أحياناً، لأنه أقوال ترجع في غالبها إلى الاصطلاح والاصطلاحات قد تتفق وقد تختلف، كما هو معروف، ولا يمس ذلك جوهر المسألة كما أسلفنا.
فالقول الإجماع لهذه الأقوال - في فهمنا- أن صفات الأفعال أو الصفات الاختيارية تختلف عن الصفات الذاتية الثبوتية التي تتعلق بها مشيئة الله تعالى لا بأعيانها ولا بأنواعها، كالقدرة والإرادة والعلم والسمع، والبصر والحكمة والعزة والوجه واليد وغيرها، بل هي صفات تتعلق بها مشيئة الله، وتتجدد حسب المشيئة، كالمجيء والاستواء والغضب والفرح والضحك.
أما صفة الكلام فهي من صفات الذات باعتبار أصل الصفة، ومن صفات الأفعال باعتبار أنواع الكلام وأفراده، والله أعلم.
هذا ما يدل عليه كلام أهل العلم من أتباع السلف عند التحقيق، وبالله التوفيق.
الفصل الأول: الصفات الشرعية العقلية والصفات الخبرية
تتنوع صفات الرب تعالى من حيث ثبوتها إلى نوعين:
النوع الأول:
الصفات الشرعية العقلية، وهي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي والدليل العقلي، والفطرة السليمة وهي أكثر صفات الرب تعالى، بل أغلب الصفات الثبوتية يشترك فيها الدليلان السمعي والعقلي، وقد تقدم الحديث عنها في غير موضع.
النوع الثاني:
الصفات الخبرية وتسمى النقلية والسمعية، وهي التي لا سبيل إلى إثباتها إلا بطريق السمع، والخبر عن الله، أو عن رسوله الأمين عليه الصلاة والتسليم، أي لا سبيل للعقل على انفراده إلى إثباتها، لولا الأخبار المنقولة عن الله، وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، وهي خبرية محضة بيد أن العقل السليم لا يعارض فيها الخبر الصحيح كما هو معروف، وأمثلتها كالآتي:
1-
الوجه، 2- اليد، 3- العين، 4- الغضب، 5- الرضا، 6- الفرح، 7- القَدَم، 8- الاستواء، 9- النزول، 10- المجيء، 11- الضحك.
وهي تنقسم إلى قسمين:
أ- صفات فعلية تجدد حسب مشيئة الله وهي:
1-
النزول، 2- الاستواء على العرش، 3- المجيء لفصل القضاء بين عباده سبحانه يوم القيامة كما يليق به، 4- الغضب، 5- الفرح، 6- الضحك كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه، نثبتها كلها ونؤمن بها لورود الخبر، وصحته ولولا ذلك لأمسكنا عن الكلام في هذه الصفات وغيرها من الصفات والأسماء، لأنها توقيفية، هذا ما نعنيه بالخبرية ولا يمنع ذلك إثبات الصفات الخبرية بالأدلة العقلية مع الأدلة النقلية التي هي الأصل، وسيأتي ذكر الأدلة بالتفصيل في آخر فقرة من فقرات هذا الباب إن شاء الله.
ب- صفات ذاتية قائمة بذاته العلية وهي قديمة قِدَم الذات مثل الوجه واليد والعين والقَدَم:
وهذه الصفات وإن كانت تعد في حق المخلوق جوارح وأعضاء وأبعاضاً وأجزاء ولكنها في حق الله تعالى صفات أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام، لا نخوض فيها بأهوائنا وآرائنا، بل نفوض كنهها وحقيقتها إلى الله تعالى لعدم معرفتنا لحقيقة الذات، لأن معرفة حقيقة الصفة متوقفة على معرفة حقيقة الذات كما لا يخفى، بل نثبتها ونؤمن بها دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف وتجسيم وتشبيه. وهكذا يقال في الرحمة والمحبة والرضا، وسائر صفات الرب تعالى.
وهذه الصفات وكثير من صفات الله قد تشترك مع صفات خلقه في اللفظ وفي المعنى العام المطلق قبل أن تضاف صفات الله إلى الله، وتضاف صفات المخلوق إلى المخلوق، وبمجرد الإضافة تختص صفات الخالق بالخالق، وصفات المخلوق بالمخلوق، فصفات الله كما يليق بعظمته
وجلاله، وصفات المخلوق كما يليف بحدوثه وضعفه ومخلوقيته، ولا يغيب عن بالنا- ونحن نتحدث عن صفات الله- ولا ينبغي أن يغيب- ما قاله أحد الأئمة الأربعة المشهود لهم بالإمامة، بل هو أحد أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين (وهم الثوري بالعراق، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، ومالك بالحجاز) 1، وهو المعروف بإمام دار الهجرة، أجل لا يغيب عن بالنا ما قاله هذا الإمام عندما سئل عن كيفية استواء الله على عرشه، حيث قال السائل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 كيف استوى؟ هكذا نص السؤال.
وقد اندهش الإمام مالك من هذه الجرأة، ثم أجاب قائلاً:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وهذا الجواب مشهور عن الإمام مالك، رواه غير واحد من أهل العلم، ويروى عن شيخه (ربيعة) وقبله عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذا الجواب صالح لكل سؤال يوجه، وهو يبحث عن كيفية صفة من صفات الله تعالى، مثل النزول، والمجيء، والوجه، واليد، وغيرها (وبالله التوفيق) .
1 هكذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الحموية الكبرى ص: 31 تحقيق الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، مطبعة المدني بالعباسية، القاهرة، وتقدم.
2 سورة طه آية: 5.
حديث الشفاعة: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله" 1.
لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس لا يقال: إنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس ثم تكلم، يقال: حدث له كلام، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة، بمعنى أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى متكلماً بالفعل2 اهـ.
وفي ضوء كلام الإمام الطحاوي: "ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه" إلى آخره، ثم كلام الشارح الذي أوضح المسألة بما لم يترك مجالاً للتساؤل أو التردد، نستطيع أن نقول: إن صفات الله تعالى ثابتة أزلاً وأبداً، ولا تتجدد سواء في ذلك صفات الذات – والأمر فيها واضح- أو صفات الفعل على ما تقدم، وفي ضوء ذلك نقول: إن تجدد صفات الفعل في وقت دون وقت لا يقال فيه: إنه تعالى اتصف بصفة كان فاقدها، أو كانت ممتنعة في حقه، أو فعل فعلاً كان ممتنعاً في حقه، كما يزعم بعض أهل الكلام المذموم، بل الفعل ممكن في حقه تعالى، في كل وقت لأنه لا يجوز أن يعتقد أنه تعالى كان معطلاً عن الفعل في وقت من الأوقات، لأن الفعل كمال، وعدمه نقص3، بمعنى أن الفعل كان ممتنعاً، ثم انقلب من الامتناع الذاتي، إلى الإمكان الذاتي، كما تقول المعتزلة: ومن إذا أراد أن يفعل فَعَلَ، ولا مانع له من الفعل، فهو فاعل باشَر الفِعْل، أو لم يباشر على ما تقدم في صفة الكلام، ولعل قوله تعالى:{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} 4 يدل على هذا المعنى. وأحسب أن
1 في الصحيحين البخاري ومسلم.
2 شرح الطحاوية ص: 127-128.
3 درء تعارض العقل والنقل للإمام ابن تيمية 2/3-10 تحقيق د. محمد رشاد، بتصرف.
4 سورة البروج آية: 16.
هذا ما يعنيه القائلون باستمرارية أفعال الرب تعالى، وأبديتها، بل وأزليتها، كما يقول ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وجمهور أهل العلم. وهذا المعنى وارد شرعاً وعقلاً كما ترى، وكيف يسوغ عقلاً أن يعتقد أن الله تعالى كان معطلاً1 عن الفعل في لحظة من اللحظات، فمن الذي يمنعه ويحول بينه وبين أن يفعل ما يشاء إذا شاء؟ !! سبحانه وتعالى عما يزعمه المعطلون علواً كبيراً.
وهنا مسألة في غاية الأهمية وهي أن بعض نفاة2 الصفات أو نفاة صفات الفعل قد يتذرع إلى نفي هذه الصفات بقولهم: لا يليق بالله أن نصفه بحلول الحوادث بذاته تعالى، هكذا يجملون القول، فيسلم السني للنافي ذلك على إجماله، ظناً منه أنه نفى عن الله سبحانه ما لا يليق بجلاله، ثم يحاول النافي أن يلزم السني نفي صفات الفعل، وهو غير لازم له عند التحقيق، ولكن السني أتي من تسليمه هذا النفي المجمل، وهو أنه تعالى لا تحل به الحوادث، فلو استفسر السني واستفصل لما ألزمه. ولذلك لا ينبغي استعمال هذه الألفاظ المجملة لا نفياً ولا إثباتاً، إلا بعد بيان المعنى المراد.
ومسألة حلول الحوادث بذاته من المسائل، أو من التعبيرات التي أحدثها المتكلمون، وخاضوا فيها، وخدعوا بها من لا يفطن لأساليبهم، وهو تعبير لا وجود له لا في الكتاب، ولا في السنة لا نفياً ولا إثباتاً، وغير معروف عن سلف الأمة، وهذا النفي قد يكون صحيحاً بعد التفسير لأنه إن أريد به بأنه لا يحل بذات الله المقدسة شيء من المخلوقات المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل، فهذا النفي صحيح على ما تقدم في
1 لأنه تعالى لم يكن الفعل ممتنعاً في حقه قط، لأن فعله تعالى إما واقع بالفعل، وحاصل أو ممكن، وهو في قوة الفعل الذي قد وقع، والله أعلم.
2 نفاة: وهو كدعاة ورعاة، ورعاة يقال: راع رعاة وناف نفاة، وهكذا. (القاموس المحيط) .
معنى التجدد.
وإن أريد بالنفي أن الله تعالى لا يفعل ما يشاء، ولا يتكلم بما شاء، إذا شاء، ولا يفرح ولا يغضب، ولا يرضى كما يليق به في ذلك كله، أي لا يوصف بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله من الصفات التي ذكرناها وغيرها كالاستواء والنزول، والمجيء لفصل القضاء يوم القيامة فهذا النفي باطل. ولا يقال: إن من يثبت هذه الصفات، وما في معناها يقول بحلول الحوادث بالله تعالى، لأن التعبير اصطلاح جديد ابتدعه علماء الكلام بعد نشأة علم الكلام، وانتشاره في صفوف المسلمين المتأخرين (الخلف) ، ولا ينبغي أن نجعل هذا الاصطلاح الحديث قاعدة نبني عليها نفي صفات الله التي وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله الأمين، ودرج المسلمون الأولون من الصحابة والتابعين على إثباتها، والإيمان بها دون أن يَشِذّ فردٌ منهم، ولله الحمد والمنة على ذلك.
ومما له صلة بهذه الفقرة مسألة: هل الصفة زائدة على الذات، أو هل هي غير الذات أم لا؟ وهذا أيضاً من الأساليب التي أحدثها علماء الكلام، ولا عهد لعلماء السلف بهذا الأسلوب، بل السلف يكرهون مثل هذه الألفاظ المجملة، رغبة منهم في الوقوف مع النصوص، وعدم الخروج منها في هذه المطالب الإلهية العظيمة.
أما المتأخرون من أتباع السلف الذين اضطروا إلى الخوض مع أهل الكلام للذود عن العقيدة، وللحفاظ عليها فإنهم قالوا: إن أريد بقولهم بأن الصفة غير الذات أو زائدة على الذات أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها، منفصلة عن الذات، فهذا غير صحيح.
وإن أريد أن الصفات زائدة عن الذات بمعنى أن للذات معنى غير
معنى الصفة ومفهوم الصفات زائد على مفهوم الذات، بيد أنها لا تنفك عن الذات، فهذا صحيح1.
ولكن لا ينبغي استخدامه إلا عند الحاجة، ومع التفصيل والبيان وبدون ذلك يعتبر خوضاً لا طائل تحته، والله أعلم.
ومن هذا القبيل مسألة: هل الاسم غير المسمى، أو عين المسمى إذ قد يراد بالاسم المسمى نفسه، كأن يقال: الله مجيب الدعوات، الله لطيف بعباده، وقد يطلق الاسم مراداً به اللفظ المنطوق ذاته، كأن يقال: الله أكبر من ألفاظ الأذان أو الله أكبر كلمة يدخل بها في الصلاة مثلاً. وقد تقدم هذا البحث عند الكلام على الأسماء الحسنى في الباب الأول فليراجع.
وعلى كل حال، إن هذا النوع من الخوض قد يضطر إليه الإنسان المعاصر وهو كاره على حد قولهم:(مكره أخاك لا بطل) .
وبعد أن استعرضنا أنواع الصفات المصطلح عليها عند السلف والخلف2 وأدركنا أثناء الاستعراض أن هناك صفات مجمعاً على إثباتها عند جميع الصفاتية سلفاً وخلفاً، وهناك صفات يختلفون فيها، حيث يرى السلف إثباتها، وإمرارها كما جاءت، شأنها عندهم شأن الصفات الأخرى المثبتة بإجماع الطرفين، بينما يرى الخلف وجوب تأويلها، والخروج بها من ظاهرها.
1 استقينا هذه المعلومات (بالمعنى) من بعض كتب شيخ الإسلام.
2 وإذا أطلقنا لفظة (الخلف) فإنما نعني بهم غير السلف، وهم علماء الكلام المعروفون بالتأويل. وهذا يشمل المعتزلة والأشاعرة كما سيأتي في ص 298 وقد نريد بهم الأشاعرة، كما في مثل هذا الموضع وقد يطلق عليهم المثبة أو الصفاتية كما تراه في هذه الصفحة.
ففيما يلي نخص هذا النوع بالحديث لنحاول أن نعرف المعنى العام لكل صفة من تلك الصفات عند السلف مع تفويض كنهها وحقيقتها إلى الله سبحانه على منهجهم الواضح الذي سبق أن أوضحناه، ولنرى تكلف الخلف بالتأويل الذي هو تحريف الكلم عن موضعه تحت العنوان الآتي.