المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المجلد الأول ‌ ‌مقدمة … الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ابن قيم الجوزية بسم الله الرحمن - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط العاصمة - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا

- ‌الفصل الثاني: انقسام التأويل إلى صحيح وباطل

- ‌الفصل الثالث: في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء

- ‌الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب

- ‌الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما

- ‌الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ

- ‌الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه

- ‌الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل

- ‌الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها

- ‌الفصل العاشر: في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها

- ‌الفصل الحادي عشر: في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى

- ‌الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه

- ‌الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره

- ‌الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال

- ‌الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل

- ‌الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله

الفصل: ‌ ‌المجلد الأول ‌ ‌مقدمة … الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ابن قيم الجوزية بسم الله الرحمن

‌المجلد الأول

‌مقدمة

الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن قيم الجوزية

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين

رب يسر بفضلك يا كريم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الموصوف بصفات الجلال المنعوت بنعوت الكمال المنزه عما يضاد كماله من سلب حقائق أسمائه وصفاته المستلزم لوصفه بالنقائص وشبه المخلوقين فنفي حقائق أسمائه متضمن للتعطيل والتشبيه وإثبات حقائقها على وجه الكمال الذي لا يستحقه سواه هو حقيقة التوحيد والتنزيه فالمعطل جاحد لكمال المعبود والممثل.

ص: 147

مشبه له بالعبيد والموحد مبين لحقائق أسمائه وكمال أوصافه وذلك قطب رحى التوحيد فالمعطل يعبد عدما والممثل يعبد صنما والموحد يعبد ربا ليس كمثله شيء له الأسماء الحسنى والصفات العلى وسع كل شيء رحمة وعلما وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه وحجته على عباده فهو رحمته المهداة إلى العالمين ونعمته التي أتمها على أتباعه من المؤمنين أرسله على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب وطموس من السبل وقد استوجب أهل الأرض أن ينزل بساحتهم العذاب وقد نظر الجبار جل جلاله إليهم فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وكانت الأمم إذ ذاك ما بين مشرك بالرحمن عابد للأوثان.

ص: 148

وعابد للنيران وعابد للصلبان أو عابد للشمس والقمر والنجوم كافر بالله الحي القيوم أو تائه في بيداء ضلالته حيران قد استهواه الشيطان وسد عليه طريق الهدى والإيمان فالمعروف عنده ما وافق إرادته ورضاه والمنكر ما خالف هواه قد تخلى عنه الرحمن وقارنه الخذلان يسمع ويبصر بهواه لا بمولاه ويبطش ويمشي بنفسه وشيطانه لا بالله فباب الهدى دونه مسدود وهو عن الوصول إلى معرفة ربه واتباع مرضاته مصدود فأهل الأرض بين تائه حيران وعبد للدنيا فهو عليها لهفان ومنقاد للشيطان جاهل أو جاحد أو مشرك بالرحمن فالأرض قد غشيتها ظلمة الكفر والشرك والجهل والعناد وقد استولى عليها أئمة الكفر وعساكر الفساد وقد استند كل قوم إلى ظلمات آرائهم وحكموا على الله بين عباده بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم فسوق الباطل نافقة لها القيام وسوق الحق كاسدة لا تقام فالأرض قد صالت جيوش الباطل في أقطارها

ص: 149

ونواحيها وظنت أن تلك الدولة تدوم لها وأنه لا مطمع بجند الله وحزبه فيها فبعث الله رسوله وأهل الأرض أحوج إلى رسالته من غيث السماء ومن نور الشمس الذي يذهب عنهم حنادس الظلمات فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات وضرورتهم إليها مقدمة على جميع الضرورات فإنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله ويكون أحب إليها مما سواه ويكون سعيها في ما يقربها إليه ويدنيها من مرضاته ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين ولمن أجابهم مبشرين ومن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله إذ على هذه المعرفة تنبني مطالب الرسالة جميعها وإن الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعة لمعرفة المرجو المخوف المحبوب المطاع المعبود.

ص: 150

ولما كان مفتاح الدعوة الإلهية معرفة الرب تعالى قال أفضل الداعين إليه سبحانه لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن إنك ستأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة وذكر باقي الحديث وهو في الصحيحين وهذا اللفظ لمسلم

فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان

أحدهما: تعريف الطريق الموصلة إليه وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه

الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم الذي لا ينفد وقرة العين التي لا تنقطع

وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول ومبنيان عليه فأعرف الناس بالله أتبعبهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم

ص: 151

بحال السالكين عند القدوم عليه ولهذا سمى الله سبحانه ما أنزل على رسوله روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه ونورا لتوقف الهداية عليه قال الله تبارك وتعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر15] في موضعين من كتابه وقال عز وجل {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى52]

فلا روح إلا فيما جاء به ولا نور إلا في الاستضاءة به فهو الحياة والنور والعصمة والشفاء والنجاة والأمن والله سبحانه وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فلا هدى إلا فيما جاء به ولا يقبل الله من أحد دينا يدينه به إلا أن يكون موافقا لدينه وقد نزه سبحانه وتعالى نفسه عما يصفه به العباد إلا ما وصفه به المرسلون فقال:

ص: 152

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات 160]

قال غير واحد من السلف هم الرسل وقال الله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فنزه نفسه عما يصفه به الخلق ثم سلم على المرسلين لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد

ومن ها هنا أخذ إمام أهل السنة محمد بن إدريس الشافعي قدس الله روحه ونور ضريحه خطبة كتابه حيث قال: الحمد لله الذي هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه فأثبت في هذه الكلمة أن صفاته إنما تتلقى بالسمع لا بآراء الخلق وأن أوصافه فوق ما يصفه به الخلق فتضمنت هذه الكلمة إثبات صفات الكمال الذي أثبته لنفسه وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل وأن ما وصف به نفسه فهو الذي يوصف به

ص: 153

لا ما وصفه به الخلق ثم قال: والحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدى شكر ماضي نعمه بأدائها نعمة حادثة يجب عليه شكره بها فأثبت في هذا القدر أن فعل الشكر إنما هو بنعمته على الشاكر وهذا يدل على أنه رحمه الله مثبت للصفات والقدر وعلى ذلك درج بزل الإسلام والرعيل الأول ثم فرق على أثرهم التابعون وتبعهم على منهاجهم اللاحقون يوصي بها الأول الآخر ويقتدي فيه اللاحق بالسابق وهم في ذلك بنبيهم مقتدون وعلى منهاجه سالكون

ص: 154

قال الله تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف108]

فمن اتبعني إن كان عطفا على الضمير في أدعو إلى الله فهو دليل أن أتباعه هم الدعاة إلى الله وإن كان عطفا على الضمير المنفصل فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم.

والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله وقد شهد سبحانه لمن يرى أن ما جاء به من عند الله هو الحق لا آراء الرجال بالعلم فقال تعالى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ6] وقال تعالى {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد19] فمن تعارض عنده حقائق ما جاء به وآراء الرجال فقدمها عليه أو توقف فيه أو قدحت في كمال معرفته

ص: 155

وإيمانه به لم يكن من الذين شهد الله لهم بالعلم ولا يجوز أن يسمى بأنه من أهل العلم فكيف يكون الداعي إلى الله على بصيرة الذي وصفه الله بأنه سراج منير وبأنه هاد إلى صراط مستقيم وبأن من اتبع النور الذي أنزل معه فهو المفلح لا غيره وأن من لم يحكمه في كل ما ينازع فيه المتنازعون وينقاد لحكمه ولا يكون عنده حرج منه فليس بمؤمن لأن الرسول عنده قد أخبر الأمة عن الله وأسمائه وصفاته بما الحق في خلاف ظاهره والهدى في إخراجه عن حقائقه وحمله على وحشي اللغات ومستكرهات التأويل وأن حقائقه ضلال وتشبيه وإلحاد والهدى والعلم في مجازه وإخراجه عن حقائقه وإحالة الأمه فيه على آراء المتحيرين وعقول المتهوكين فيقول إذا أخبرتكم عن الله وصفاته العلى بشيء فلا تعتقدوا حقيقته وخذوا معرفة مرادي به من آراء الرجال ومعقولها فإن الهدى والعلم فيه والدين إذا أحيل على تأويلات المتأولين انتقضت

ص: 156

عراه كلها ولا تشاء طائفة من طوائف أهل الضلال أن تتأول النصوص على مذهبها إلا وجدت السبيل إليه وقالت لمن فتح لها باب التأويل إنا تأولنا كما تأولتم والنصوص أخبرت بما تأولناه كما أخبرت بما تأولتموه فما الذي جعلكم في تأويلكم مأجورين وجعلنا عليه مأزورين والذي قادكم إلى التأويل ما تقولون إنه معقول فمعنا نظيره أو أقوى منه أو دونه وسيأتي تمام هذا في بيان عجز المتأولين عن الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ

والمقصود أن الله سبحانه قد أخبر أنه أكمل له ولأمته به دينهم وأتم عليهم به نعمته ومحال مع هذا أن يدع أهم ما خلق له الخلق وأرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب ونصبت عليه القبلة وأسست عليه الملة وهو باب الإيمان به ومعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله ملتبسا مشتبها حقه بباطله لم يتكلم فيه بما هو الحق بل تكلم بما ظاهره الباطل والحق في إخراجه عن ظاهره وكيف يكون أفضل الرسل وأجل الكتب غير واف بتعريف ذلك على أتم الوجود مبين له بأكمل البيان موضح له غاية الإيضاح مع شدة حاجة النفوس إلى معرفته ومع

ص: 157

كونه أفضل ما اكتسبته النفوس وأجل ما حصلته القلوب ومن أبين المحال أن يكون أفضل الرسل قد علم أمته آداب البول قبله وبعده ومعه وآداب الوطء وآداب الطعام والشراب ويترك أن يعلمهم ما يقولونه بألسنتهم وتعتقده قلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفته غاية المعارف والوصول إليه أجل المطالب وعبادته وحده لا شريك له أقرب الوسائل ويخبرهم فيه بما ظاهره باطل وإلحاد ويحيلهم في فهم ما أخبرهم به على مستكرهات التأويلات ومستنكرات المجازات ثم يحيلهم في معرفة الحق على ما تحكم به عقولهم وتوجبه أراؤهم هذا وهو القائل: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" وهو القائل "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل على أمته على

ص: 158

خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" وقال أبو ذر لقد توفي رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما

وقال عمر بن الخطاب قام فينا رسول الله مقاما فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه ذكره البخاري وصلى بهم رسول الله صلاة الظهر ثم خطبهم حتى حضرت العصر فصلى العصر ثم خطب بهم حتى غربت الشمس فلم يدع شيئا كان ولا يكون

ص: 159

من خلق آدم إلى قيام الساعة حتى أخبرهم به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه.

فكيف يتوهم من لله ولرسوله ودينه في قلبه وقار أن يكون رسول الله قد أمسك عن بيان هذا الأمر العظيم ولم يتكلم فيه بالصواب بل تكلم بما ظاهره خلاف الصواب بل لا يتم الإيمان إلا باعتقاد أن بيان ذلك قد وقع من الرسول على أتم الوجوه وأوضحه غاية الإيضاح ولم يدع بعده لقائل مقالا ولا لمتأول تأويلا ثم من المحال أن يكون خير الأمة وأفضلها وأعلمها وأسبقها إلى كل فضل وهدى ومعرفة قصروا في هذا الباب فجفوا عنه أو تجاوزوا فغلوا فيه وإنما ابتلي من خرج عن منهاجهم بهذين الداءين وهدوا لأحد الإنحرافين وبزل الإسلام وعصابة الإيمان وحماة الدين هم الذين كانوا في هذا الباب قائلين بالحق معتقدين له داعين إليه

ص: 160

فإن قيل القوم كانوا عن هذا الباب معرضين وبالزهد والعبادة والجهاد مشتغلين لم يكن هذا الباب من همتهم ولا عنايتهم به قيل هذا من أبين المحال وأبطل الباطل بل كانت عنايتهم بهذا الباب فوق كل عناية واهتمامهم به فوق كل اهتمام وذلك بحسب حياة قلوبهم ومحبتهم لمعبودهم ومنافستهم في القرب منه فمن في قلبه أدنى حياة أو محبة لربه وإرادة لوجهه وشوق إلى لقائه فطلبه لهذا الباب وحرصه على معرفته وازدياده من التبصر فيه وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبر مقاصده وأعظم مطالبه وأجل غاياته وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيء من الأشياء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر ولا فرحها بشيء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه فكيف يمكن مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات أن يتخلف عنه أثره في خيار الأمة وسادات أهل العلم والإيمان الذين هممهم أشرف الهمم ومطالبهم أجل المطالب ونفوسهم أزكى النفوس فكيف يظن بهم الإعراض عن مثل هذا الأمر العظيم أو الغفلة عنه أو التكلم بخلاف الصواب فيه واعتقاد الباطل ومن المحال أن يكون تلاميذ المعتزلة وورثة

ص: 161

الصابئين وأفراخ اليونان الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك وعدم العلم الذي يطمئن إليه القلب وأشهدوا الله وملائكته عليهم به وشهد به عليهم الأشهاد من أتباع الرسل أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأعرف به ممن شهد الله ورسوله لهم بالعلم والإيمان وفضلهم على من سبقهم ومن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة ما خلا النبيين والمرسلين وهل يقول هذا إلا غبي جاهل لم يقدر قدر السلف ولا عرف الله ورسوله وما جاء به.

قال شيخنا وإنما أتى هؤلاء المبتدعة الذين

ص: 162

فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ولا فهم لمراد الله ورسوله منها واعتقدوا أنهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيّ} [البقرة78]

وأن طريقة المتأخرين هي استخراج معاني النصوص وصرفها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكر التأويلات فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وراء ظهورهم فجمعوا

ص: 163

بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف

وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص فلما اعتقدوا التعطيل وانتفاء الصفات في نفس الأمر ورأوا أنه لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى وهذا الذي هو طريقة السلف عندهم وبين صرف اللفظ عن حقيقته وما وضع له إلى ما لم يوضع له ولا دل عليه بأنواع من المجازات والتكلفات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان والهدى كما سيأتي بيانه مفصلا إن شاء الله

وصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والجهل بالسمع فلا سمع ولا عقل فإن النفي

ص: 164

والتعطيل إنما اعتمدوا فيه على شبهات فاسدة ظنوها معقولات صحيحة فحرفوا لها النصوص السمعية عن مواضعها فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهال السابقين الذين هم أعلم الأمة بالله وصفاته واعتقاد أنهم كانوا أميين بمنزلة الصالحين البله الذين لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي وأن الخلف هم الفضلاء العلماء الذين حازوا قصب السبق واستولوا على الغاية وظفروا من الغنيمة بما فات السابقين الأولين

فكيف يتوهم من له أدنى مسكة من عقل وإيمان أن

ص: 165

هؤلاء المتحيرين الذين كثر في باب العلم بالله اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم وأنه الشك والحيرة حيث يقول لعمري.

لقد طفت في تلك المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

ص: 166

ويقول الآخر

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وقال الآخر

لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه والآن إن

ص: 167

لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي

وقال آخر أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام. وقال آخر منهم عند موته أشهدوا علي أني أموت وما عرفت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى واجب ثم قال والافتقار أمر عدمي فلم أعرف شيئا

وقال آخر وقد نزلت به نازلة من سلطانه فاستغاث برب الفلاسفة فلم يغث قال ثم استغثت برب الجهمية فلم يغثني ثم استغثت برب القدرية فلم يغثني ثم استغثت برب المعتزلة فلم يغثني قال فاستغثت برب العامة فأغاثني.

ص: 168

قال شيخنا وكيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وصفاته وأسمائه وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل ومصابيح الدجى وأعلام الهدى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء وأحاطوا من حقائق المعارف بما لو جمعت حكمة من عداهم وعلومهم إليه

ص: 169

لاستحى من يطلب المقابلة ثم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال الصابئين وأشباههم وأشكالهم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان اه.

فصل

فهذه مقدمة بين يدي جواب السؤال المذكور وإنما تتبين حقيقة الجواب بفصول

الفصل الأول: في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا

الفصل الثاني: في انقسام التأويل إلى صحيح وباطل

الفصل الثالث: أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء.

ص: 170

الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب

الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول يمتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما.

الفصل السادس: في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ.

الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه

الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.

الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأول التي لا يقبل منه تأويله إلا بها.

الفصل العاشر: في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص.

الفصل الحادي عشر: في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد.

ص: 171

الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه.

الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره.

الفصل الرابع عشر: في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال

الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل.

الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله.

الفصل السابع عشر: في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام إن سلط عليه ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه.

الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تمثيل وأصحاب تجهيل وأصحاب سواء السبيل.

ص: 172

الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله.

الفصل العشرون: في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا.

الفصل الحادي والعشرون: في الأسباب الجالبة للتأويل.

الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم.

الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله.

الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان وهي قولهم إن كلام الله وكلام رسوله أدلة لفظية لا تفيد علما ولا يحصل منها يقين.

وقولهم إن آيات الصفات وأحاديث الصفات مجازات لا حقيقة لها.

ص: 173

وقولهم إن أخبار رسول الله الصحيحة لا تفيد العلم وغايتها أن تفيد الظن.

وقولهم إذا تعارض العقل ونصوص الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي.

والله المسؤول أن يرينا الحق حقا ويوفقنا لاتباعه ويرينا الباطل باطلا ويعيننا على اجتنابه وأن لا يجعلنا ممن يتقدم بين يديه ويدي رسوله ولا ممن يقدم آراء الرجال وما نحتته أفكارها على نصوص الوحي وهو المسؤول أن يوفقنا لما طلبناه وأن يجعله خالصا لوجهه مدنيا من رضاه إنه خير مسؤول وأكرم مأمول وبه المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 174