المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط العاصمة - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا

- ‌الفصل الثاني: انقسام التأويل إلى صحيح وباطل

- ‌الفصل الثالث: في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء

- ‌الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب

- ‌الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما

- ‌الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ

- ‌الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه

- ‌الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل

- ‌الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها

- ‌الفصل العاشر: في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها

- ‌الفصل الحادي عشر: في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى

- ‌الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه

- ‌الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره

- ‌الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال

- ‌الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل

- ‌الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله

الفصل: ‌الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب

‌الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب

لما كان الكلام نوعين خبر وطلب وكان المقصود من الخبر تصديقه ومن الطلب امتثاله كان المقصود من تأويل الخبر هو تصديق مخبره ومن تأويل الطلب هو امتثاله وكان كل تأويل يعود على المخبر بالتعطيل وعلى الطلب بالمخالفة تأويلا باطلا.

والمقصود الفرق بين تأويل الأمر والنهي وتأويل الخبر فالأول معرفته فرض على كل مكلف لأنه لا يمكنه الامتثال إلا بعد معرفة تأويله.

قال سفيان بن عيينة: " السنة هي تأويل الأمر

ص: 206

والنهي ولا خلاف بين الأمة أن الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل وأرسخهم في العلم أعلمهم به ولو كان معرفة هذا التأويل ممتنعا على البشر لا يعلمه إلا الله لكان العمل بنصوصه ممتنعا كيف والعمل بها واجب فلا بد أن يكون في الأمة من يعرف تأويلها وإلا كانت الأمة كلها مضيعة لما أمرت به.

وقد يكون معنى النص بينا جليا فلا تختلف الأمة في تأويله وإن وقع الخلاف في حكمه لخفائه على من لم يبلغه أو لقيام معارض عنده أو لنسيانه فهذا يعذر فيه المخالف إذا كان قصده اتباع الحق ويثيبه الله على قصده وأما من بلغه النص وذكره ولم يقم عنده ما يعارضه فإنه لا يسعه مخالفته ولا يعذر عند الله بتركه لقول أحد كائنا من كان.

وقد تكون دلالة اللفظ غير جلية فيشتبه المراد به بغيره فهنا معترك النزاع بين أهل الاجتهاد في تأويله ولأجل التشابه وقع النزاع فيفهم هذا منها معنى فيؤولها به ويفهم منها غيره معنى آخر فيؤولها به وقد يكون كلا الفهمين صحيحا والآية دلت على هذا وهذا ويكون الراسخ في العلم هو الذي أولها بهذا وهذا ومن أثبت أحد المعنيين ونفى الآخر أقل رسوخا وقد يكون أحد المعنيين هو المراد

ص: 207

لا سيما إذا كانا متضادين والراسخ في العلم هو الذي أصابه فالتأويل في هذا القسم مأمور به مأجور عليه صاحبه إما أجرا واحدا وإما أجرين. وقد تنازع الصحابة في تأويل قوله تعالى {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة237] هل هو الأب أو الزوج. وتنازعوا في تأويل قوله {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء43] هل هو الجماع أو اللمس باليد والقبلة ونحوها. وتنازعوا في تأويل قوله {وَلا جُنُباً إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء43] هل هو المسافر يصلي بالتيمم مع الجنابة أو المجتاز بمواضع الصلاة كالمساجد وهو جنب.

وتنازعوا في تأويل ذوي القربى المستحقين من الخمس هل هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قرابة الإمام.

ص: 208

وتنازعوا في تأويل قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف204] هل يدخل فيه قراءة الصلاة الواجبة أم لا.

وتنازعوا في تأويل قوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة234] هل يتناول اللفظ الحامل أم هو للحائل فقط.

وتنازعوا في قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة3] هل يدخل فيه ما مات في البحر أم لا.

وتنازعوا في تأويل الكلالة.

وفي تأويل قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء11]

ص: 209

وأمثال ذلك ولم يتنازعوا في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا وأن العناية ببيانها أهم لأنها من تمام تحقيق الشهادتين وإثباتها من لوازم التوحيد فبيها الله ورسوله بيانا شافيا لا يقع فيه لبس ولا إشكال يوقع الراسخين في العلم في منازعة ولا اشتباه ومن شرح الله لها صدره ونور لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهر من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها ولهذا آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس وأما آيات الأسماء والصفات فيشترك في فهمها الخاص والعام أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله {يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} حتى بين لهم بقوله {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة187]

ص: 210

ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة186] وأمثالها من آيات الصفات وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة ولم يشكل عليه أول الحديد وآخر الحشر وأول سورة طه ونحوها من آيات الصفات وأيضا فإن بعض آيات الأحكام مجملة عرف بيانها بالسنة كقوله تعالى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة196] فهذا مجمل في قدر الصيام والإطعام فبينته السنة بأنه

ص: 211

صيام ثلاثة ايام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة وكذلك قوله {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مجمل في مقدار الطواف فبينته السنة بأنه سبع ونظائره كثيرة كآية السرقة وآية الزكاة وآية الحج وليس في آيات الصفات وأحاديثها مجمل يحتاج إلى بيان من خارج بل بيانها فيها وإن جاءت السنة بزيادة في البيان والتفصيل فلم تكن آيات الصفات مجملة محتملة لا يفهم المراد منها إلا بالسنة بخلاف آيات الأحكام.

فإن قيل هذا يرده ما قد عرف أن آيات الأمر والنهي والحلال والحرام محكمة وآيات الصفات متشابهة فكيف يكون المتشابه أوضح من المحكم.

قيل التشابه والإحكام نوعان تشابه وإحكام يعم الكتاب كله وتشابه وإحكام يخص بعضه دون بعض فالأول كقوله تعال {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر23] وقوله {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود1] وقوله

ص: 212

وقوله:

{يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس2 ، 1] والثاني كقوله {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران7] فإن اردتم بتشابه آيات الصفات النوع الأول فنعم هي متشابهة غير متناقضة يشبه بعضها بعضا وكذلك آيات الأحكام وإن أردتم أنه يشتبه المراد بها بغير المراد فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس فهو أمر نسبي إضافي فيكون متشابها بالنسبة إليه دون غيره ولا فرق في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصفات فإن المراد قد يشتبه فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض.

وقد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعا كثيرا ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم وهم لا يتنازعون في شيء منها وآيات الأحكام هي المحكمة وقد وقع بينهم

ص: 213

النزاع في بعضها وإنما هذا قول بعض المتأخرين وسيأتي إشباع الكلام في هذا في الفصل المعقود له إن شاء الله تعالى.

ص: 214