الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ
لا ريب أن الله سبحانه وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء وأخبر عن نفسه بأفعال فسمى نفسه بالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسينى ووصف نفسه بما ذكره من الصفات كسورة الإخلاص وأول الحديد وأول طه وغير ذلك ووصف نفسه بأنه يحب ويكره ويمقت ويرضى ويغضب ويأسف ويسخط ويجيء ويأتي وينزل إلى سماء الدنيا وأنه استوى على عرشه وأن له علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا ووجها وأن له يدين
وأنه فوق عباده وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل بالأمر من عنده وأنه قريب وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع المتقين وأن السموات مطويات بيمينه.
ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فيقال للمتأول هل تتأول هذا كله على خلاف ظاهره وتمنع حمله على حقيقته أم تقر الجميع على ظاهره وحقيقته أم تفرق بين بعض ذلك وبعضه
فإن تأولت الجميع وحملته على خلاف حقيقته كان ذلك عنادا ظاهرا وكفرا صراحا وجحدا للربوبية وحينئذ فلا تستقر لك قدم على إثبات ذات الرب تعالى ولا صفة من صفاته ولا فعل من أفعاله فإن أعطيت هذا من نفسك ولم تستهجنه التحقت بإخوانك الدهرية الملاحدة الذين لا يثبتون للعالم خالقا ولا ربا.
فإن قلت بل أثبت أن للعالم صانعا وخالقا ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه وحيث وصف بما يقع على المخلوق أتأوله.
قيل لك فهذه الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه هل تدل على معان ثابتة هي حق في نفسها أم لا تدل فإن نفيت دلالتها على معنى ثابت كان ذلك غاية التعطيل وإن أثبت دلالتها على معان هي حق ثابت قيل لك فما الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض وما الفرق بين ما أثبته ونفيته وسكت عن إثباته ونفيه من جهة السمع أو العقل.
ودلالة النصوص على أن له سمعا وبصرا وعلما وقدرة وإرادة وحياة وكلاما كدلالتها على أن له رحمة ومحبة وغضبا ورضى وفرحا وضحكا ووجها ويدين فدلالة النصوص على ذلك سواء فلم نفيت حقيقة رحمته ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه وأولتها بنفس الإرادة فإن قلت لأن إثبات الإرادة والمشيئة لا يستتلزم تشبيها وتجسيما وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم فإنها لا تعقل إلا في الأجسام فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان والمحبة ميل
النفس لجلب ما ينفعها والغضب غليان دم القلب طلبا للانتقام والفرح انبساط دم القلب لورود ما يسره عليه قيل لك وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها ودفع ما يضرها وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم أو صفة عرضية قائمة به وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه فإن قلت لأني أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشابهها قيل لك فهلا أثبت الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين ولا يشابهها ولم فهمت من إطلاق هذا التشبيه والتجسيم وفهمت من إطلاق ذلك التنزيه والتوحيد وهلا قلت أثبت له وجها ومحبة وغضبا ورضى وضحكا ليس من جنس صفات المخلوقين فإن قلت هذا لا يعقل قيل لك فكيف عقلت سمعا وبصرا وحياة وإرادة ومشيئة ليست من جنس صفات المخلوقين فإن قلت أنا أفرق بين ما يتأول وبين ما لا يتأول بأن ما دل
العقل على ثبوته يمتنع تأويله كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر وما لا يدل عليه العقل يجب أو يسوغ تأويله كالوجه واليد والضحك والفرح والغضب والرضى فإن الفعل المحكم دل على قدرة الفاعل وإحكامه دل على علمه والتخصيص دل على الإرادة فيمتنع مخالفة ما دل عليه صريح العقل.
قيل لك أولا وكذلك الإنعام والإحسان وكشف الضر وتفريج الكربات دل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة سواء والتخصيص بالكرامة والاصطفاء والاجتباء دال على المحبة كدلالة ما ذكرت على الإرادة والإهانة والطرد والإبعاد والحرمان دال على المقت والبغض كدلالة ضده على الحب والرضى.
والعقوبة والبطش والانتقام دال على الغضب كدلالة ضده على الرضى.
ويقال ثانيا هب أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها فإنه لا ينفيها والسمع دليل مستقل بنفسه بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى مجرد العقل فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله. ويقال لك ثالثا إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيها
أو تجسيما فهو يقتضيه في الجميع فأول الجميع وإن كان لا يقتضي ذلك لم يجز تأويل شيء منه وإن زعمت أن بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه طولبت بالفرق بين الأمرين وعادت المطالبة جذعا.
ولما تفطن بعضهم لتعذر الفرق قال ما دل عليه الإجماع كالصفات السبع لا يتأول وما لم يدل عليه إجماع فإنه يتأول وهذا كما تراه من أفسد الفروق فإن مضمونه أن الإجماع اثبت ما يدل على التجسيم والتشبيه ولولا ذلك لتأولناه فقد اعترفوا بانعقاد الإجماع على التشبيه والتجسيم. وهذا قدح في الإجماع فإنه لا ينعقد على باطل.
ثم يقال إن كان الإجماع قد انعقد على إثبات هذه الصفات وظاهرها يقتضي التجسيم والتشبيه بطل نفيكم لذلك وإن لم ينعقد عليها بطل التفريق به.
ثم يقال خصومكم من المعتزلة لم يجمعوا معكم على إثبات هذه الصفات فإن قلتم انعقد الإجماع قبلهم قيل صدقتم والله والذين أجمعوا قبلهم على هذه الصفات
أجمعوا على إثبات سائر الصفات ولم يخصوها بسبع بل تخصيصها بسبع خلاف قول السلف وقول الجهمية والمعتزلة فالناس كانوا طائفتين سلفية وجهمية فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولا بين القولين فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا.
وقالت طائفة أخرى ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاض كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يتأول وما كان ظاهره جوارح وأبعاض كالوجه واليدين والقدم والساق والإصبع فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم.
قال المثبتون جوابنا لكم بعين الجواب الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات فإنهم قالوا لكم لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلا للأعراض ولزم التركيب والتجسيم والانقسام كما قلتم لو كان له وجه ويد وإصبع لزم
التركيب والانقسام فحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به.
فإن قلتم نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضا ولا نسميها أعراضا فلا يستلزم تركيبا ولا تجسيما.
قيل لكم ونحن نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه إذ نفيتموها أنتم عنه على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح ولا يسمى المتصف بها مركبا ولا جسما ولا منقسما.
فإن قلتم هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض.
قلنا لكم وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض.
فإن قلتم العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية قديمة أبدية فليست أعراضا.
قلنا وكذلك الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها وانفكاكها وذلك في حق الرب تعالى محال فليست أبعاضا ولا جوارح فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقا في النوعين والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه.
فإن قلتم إن كان الوجه عين اليد وعين الساق والإصبع فهو محال وإن كان غيره لزم التمييز ويلزم التركيب.
قلنا لكم وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهي نفس الحياة والقدرة فهو محال وإن تميزت لزم التركيب
فما هو جواب لكم فالجواب مشترك فإن قلتم نحن نعقل صفات ليست أعراضا تقوم بغير جسم متحيز وإن لم يكن لها نظير في الشاهد.
قلنا لكم فاعقلوا صفات ليست بأبعاض تقوم بغير جسم وإن لم يكن له في الشاهد نظير ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين وأن أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه ولما أخذ هذا الإلزام بحلوق الجهمية قالوا الباب كله عندنا واحد ونحن ننفي الجميع.
فتبين أنه لا بد لكم من واحد من أمور ثلاثة إما هذا النفي العام والتعطيل المحض وإما أن تصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ولا تتجاوزوا القرآن والحديث وتتبعوا في ذلك سبيل السلف الماضين
الذين هم أعلم الأمة بهذا الشأن نفيا وإثباتا وأشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق بجلاله فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه ولا يترك تدبرها ومعرفتها فيكون ذلك مشابهة للذين إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صما وعميانا ولا يقال هي ألفاظ لا تعقل معانيها ولا يعرف المراد منها فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك فكان الباب عندهم بابا واحدا قد اطمأنت به قلوبهم وسكنت إليه نفوسهم فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطلون وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقوه بالقبول وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار لعلمهم بأنه صفة من لا شبيه لذاته ولا لصفاته.
قال الإمام أحمد إنما التشبيه أني قول يد كيد أو وجه كوجه فأما إثبات يد ليست كالأيدي ووجه ليس كالوجوه فهو كإثبات ذات ليست كالذوات وحياة ليست كغيرها من الحياة وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار وليس إلا هذا المسلك أو مسلك التعطيل المحض أو التناقض الذي لا يثبت لصاحبه قدم في النفي ولا في الإثبات وبالله التوفيق.
وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول ما يخالف نحلتها ومذهبها فالعيار على ما يتأول وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه والقواعد التي أصلتها فما وافقها أقروه ولم يتأولوه وما خالفها فإن أمكنهم دفعه وإلا تأولوه ولهذا لما أصلت الرافضة عداوة الصحابة ردوا كل ما جاء في فضائلهم والثناء عليهم أو تأولوه ولما أصلت الجهمية أن الله لا يتكلم ولا يكلم أحدا ولا يرى
بالأبصار ولا هو فوق عرشه مبائن لخلقه ولا له صفة تقوم به أولوا كل ما خالف ما أصلوه.
ولما اصلت القدرية أن الله سبحانه لم يخلق أفعال عباده ولم يقدرها عليهم أولوا كل ما خالف أصولهم ولما أصلت المعتزلة القول بنفوذ الوعيد وأن من دخل النار لم يخرج منها أبدا أولوا كل ما خالف أصولهم.
ولما أصلت المرجئة أن الإيمان هو المعرفة وأنها لا تزيد ولا تنقص أولوا ما خالف أصولهم.
وما أصلت الكلابية أن الله سبحانه لا يقوم به
ما يتعلق بقدرته ومشيئته وسموا ذلك حلول الحوادث أولوا كل ما خالف هذا الأصل. ولما أصلت الجبرية أن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل بوجه من الوجوه وأن حركات العباد بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار أولوا كل ما جاء بخلاف ذلك.
فهذا في الحقيقة هو عيار التأويل عند الفرق كلها حتى المقلدين في الفروع أتباع الأئمة الذين اعتقدوا المذهب ثم طلبوا الدليل عليه ضابط ما يتأول عندهم وما لا يتأول ما خالف المذهب أو وافقه ومن تأمل مقالات الفرق ومذاهبها رأى ذلك عيانا وبالله التوفيق.
وكل من هؤلاء يتأول دليلا سمعيا ويقر على ظاهره نظيره أو ما هو أشد قبولا للتأويل منه لأنه ليس عندهم في نفس الأمر ضابط كلي مطرد منعكس يفرق ما يتأول
وما لا يتأول إن هو إلا المذهب وقواعده وما قاله الشيوخ وهؤلاء لا يمكن أحدا منهم أن يحتج على مبطل بحجة سمعية لأنه يسلك في تأويلها نظير ما سلكه هو في تأويل ما خالف مذهبه كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله.