المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط العاصمة - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا

- ‌الفصل الثاني: انقسام التأويل إلى صحيح وباطل

- ‌الفصل الثالث: في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء

- ‌الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب

- ‌الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما

- ‌الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ

- ‌الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه

- ‌الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل

- ‌الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها

- ‌الفصل العاشر: في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها

- ‌الفصل الحادي عشر: في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى

- ‌الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه

- ‌الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره

- ‌الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال

- ‌الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل

- ‌الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله

الفصل: ‌الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل

‌الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل

إذا تأمل المتأمل فساد العالم وما وقع فيه من التفرق والاختلاف وما دفع إليه أهل الإسلام وجده ناشئا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدين وفروعه فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب وتفرق الكلمة وتشتت الأهواء وتصدع الشمل وانقطاع الحبل وفساد ذات البين حتى صار يكفر ويلعن بعضهم بعضا وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم ما هو أعظم مما يرصدهم به

ص: 348

أهل دار الحرب من المنابذين لهم فالآفات التي جنتها ويجنيها كل وقت أصحابها على الملة والأمة من التأويلات الفاسدة أكثر من أن تحصى أو يبلغها وصف واصف أو يحيط بها ذكر ذاكر ولكنها في جملة القول أصل كل فساد وفتنة وأساس كل ضلال وبدعة والمولدة لكل اختلاف وفرقة والناتجة أسباب كل تباين وعداوة وبغضة ومن عظيم آفاتها ومصيبة الأمة بها أن الأهواء المضلة والآراء المهلكة التي تتولد من قبلها لا تزال تنمو وتتزايد على ممر الأيام وتعاقب الأزمنة وليست الحال في الضلالات التي حدثت من قبل أصول الأديان الفاسدة كذلك فإن فساد تلك معلوم عند الأمة وأصحابها لا يطمعون في إدخالها في دين الإسلام فلا تطمع أهل الملة اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية ولا الثانوية ونحوهم أن يدخلوا

ص: 349

أصول مللهم في الإسلام ولا يدعوا مسلما إليه ولا يدخلوه إليهم من بابه أبدا بخلاف فرقة التأويل فإنهم يدعون المسلم من باب القرآن والسنة وتعظيمهما وأن لنصوصهما تأويلا لا يوجد إلا عند خواص أهل العلم والتحقيق وأن العامة في عمى عنه فضرر هذه الفرقة على الإسلام وأهله أعظم من ضرر أعدائه المنابذين له ومثلهم ومثل أولئك كمثل قوم في حصن حاربهم عدو لهم فلم يطمع في فتح حصنهم والدخول عليهم فعمد جماعة من أهل الحصن ففتحوه له وسلطوه على الدخول إليه فكان مصاب أهل الحصن من قبلهم وبالجملة فالأهواء المتولدة من قبل التأويلات الباطلة غير محصورة ولا متناهية بل هي متزايدة نامية بحسب سوانح المتأولين وخواطرهم وما تخرجه إليه ظنونهم وأوهامهم ولذلك لا يزال المستقصي عناء نفسه في البحث عن المقالات

ص: 350

وتتبعها يهجم على أقوال من مذاهب أهل التأويل لم تكن تخطر له على بال ولا تدور له في خيال ويرى أمواجا من زبد الصدور تتلاطم ليس لها ضابط إلا سوانح وخواطر وهوس تقذف به النفوس التي لم يؤيدها الله بروح الحق ولا أشرقت عليها شمس الهداية ولا باشرت حقيقة الإيمان فخواطرها وهوسها لا غاية له يقف عندها فإن أردت الإشراف على ذلكف تأمل كتب المقالات والآراء والديانات تجد كل مايخطر ببالك قد ذهب إليه ذاهبون وصار إليه صائرون ووراء ذلك ما لم يخطر لك على بال وكل هذه الفرق تتأول نصوص الوحي على قولها وتحمله على تأويلها ومع ذلك فتجد أولي العقول الضعيفة إلى الاستجابة لهم مسارعين وفي القبول منهم راغبين فهم يبادرون إلى ألآخذ ما يوردونه عليهم وقبولهم إياه عنهم وعلى الدعوة إليه هم أشد حرصا منهم على الدعوة إلى الحق الذي جاءت به الرسل ولم يوجد الأمر في قبول دعوة الرسل كذلك بل قد علم ما لقي المرسلون في الدعوة إلى الله من الجهد والمشقة والمكابدة ولقوا أشد

ص: 351

العناء والمكروه وقاسوا أبلغ الأذى حتى استجاب لهم من استجاب إلى الحق الذي هو موجب الفطر وشقيق الأرواح وحياة القلوب وقرة العيون ونجاة النفوس حتى إذا أطلع شيطان التأويل رأسه وأبدى لهم عن ناجذيه ورفع لهم علما من التأويل طاروا إليه زرافات ووحدانا فهم إخوان السفلة الطعام أشباه الأنعام بل أضل من الأنعام طبل يجمعهم وعصا تفرقهم فانظر ما لقيه نوح وإبراهيم وصالح وهود وشعيب وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم في الدعوة إلى الله من الرد عليهم والتكذيب لهم وقصدهم بأنواع الأذى حتى ظهرت دعوة من ظهرت دعوته منهم وأقاموا دين الله.

وانظر سرعة المستجيبين لدعاة الرافضة والقرامطة الباطنية والجهمية والمعتزلة وإكرامهم لدعاتهم وبذل أموالهم وطاعتهم لهم من غير برهان أتوهم به أو آية

ص: 352

أروهم إياها غير أنهم دعوهم إلى تأويل تستغربه النفوس وتستطرفه العقول وأوهموهم أنه من وظيفة الخاصة الذين ارتفعوا به عن طبقة العامة فالصائر إليه معدود في الخواص مفارق للعوام فلم تر شيئا من المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة المستخرجة بالتأويل قوبل الداعي إليه الآتي به أولا بالتكذيب له والرد عليه بل ترى المخدوعين المغرورين يجفلون إليه إجفالا ويأتون إليه أرسالا تؤزهم إليه شياطينهم ونفوسهم أزا وتزعجهم إليه إزعاجا فيدخلون فيه أفواجا يتهافتون فيه تهافت الفراش في النار ويثوبون إليه مثابة الطير إلى الأوكار ثم من عظيم آفاته سهولة الأمر على المتأولين في نقل المدعوين عن مذاهبهم وقبيح اعتقادهم إليهم ونسخ الهدى من صدورهم فإنهم ربما اختاروا للدعوة إليه رجلا مشهورا بالديانة والصيانة معروفا بالأمانة

ص: 353

حسن الأخلاق جميل الهيئة فصيح اللسان صبورا على التقشف والتزهد مرتاضا لمخاطبة الناس على اختلاف طبقاتهم ويتهيأ لهم مع ذلك من عيب أهل الحق والطعن عليهم والإزراء بهم ما يظفر به المفتش عن العيوب فيقولون للمغرور المخدوع وازن بين هؤلاء وهؤلاء وحكم عقلك وانظر إلى نتيجة الحق والباطل فيتهيأ لهم بهذا الخداع مالا يتهيأ بالجيوش وما لا يطمع في الوصول إليه بدون تلك الجهة.

ثم من أعظم جنايات التأويل على الدين وأهله وأبلغها نكاية فيه أن المتأول يجد بابا مفتوحا لما يقصده من تشتيت كلمة أهل الدين وتبديد نظامهم وسبيلا سهلة إلى ذلك فإنه يحتجز من المسلمين بإقراره معهم بأصل التنزيل ويدخل نفسه في زمرة أهل التأويل ثم بعد ذلك يقول ما شاء ويدعي ما أحب ولا يقدر على منعه من

ص: 354

ذلك لادعائه أن أصل التنزيل مشترك بينك وبينه وأن عامة الطوائف المقرة به قد تأولت كل طائفة لنفسها تأويلا ذهبت إليه فهو يبدي نظير تأويلاتهم ويقول ليس لك أن تبدي في التأويل مذهبا إلا ومثله سائغ لي فما الذي أباحه لك وحظره علي وأنا وأنت قد أقررنا بأصل التنزيل واتفقنا على تسويغ التأويل فلم كان تأويلك مع مخالفته لظاهر التنزيل سائغا وتأويلي أنا محرما فتعلقه بهذا أبلغ مكيدة يستعملها وأنكى سلاح يحارب به فهذه الآفات وأضعافها إنما لقيها أهل الأديان من التأويل فالتأويل هو الذي فرق اليهود إحدى وسبعين فرقة والنصارى ثنتين وسبعين فرقة وهذه الأمة ثلاثا وسبعين فرقة.

فأما اليهود فإنهم بسبب التأويلات التي

ص: 355

استخرجوها بآرائهم من كتبهم صاروا فرقا مختلفة بعد اتفاقهم على أصل الدين والإيمان بما في التوراة والزبور وكتب أنبيائهم التي يدرسونها ويؤمنون بها وبسبب التأويلات الباطلة مسخوا قردة وخنازير وجرى عليهم من الفتن والمحن ما قصه الله وبالتأويل الباطل عبدوا العجل حتى آل أمرهم إلى ما آل وبالتأويل الباطل فارقوا حكم التوراة واستحلوا المحارم وارتكبوا المآثم فهم أئمة التأويل والتحريف والتبديل والناس لهم فيه تبع فلا تبلغ فرقة مبلغهم فيه وبالتأويل استحلوا محارم الله بأقل الحيل وبالتأويل قتلوا الأنبياء فإنهم قتلوهم وهم مصدقون بالتوراة وبموسى وبالتأويل والتحريف حلت بهم المثلات وتتابعت عليهم العقوبات وقطعوا في الأرض أمما وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو

ص: 356

بغضب من الله وبالتأويل دفعوا نبوة عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما وقد استهلت التوراة وكتب الأنبياء بالبشارة بهما وظهورهما ولا سيما البشارات بمحمد فإنها متظاهرة في كتبهم بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخرجه ومبعثه ودعوته وكتابه وصفة أمته وسيرتهم وأحوالهم بحيث كان علماؤهم لما رأوه وشاهدوه عرفوه معرفتهم أبناءهم ومع هذا فجحدوا أمره ودفعوه على قومه وظهوره بالتأويلات التي استخرجوها من تلك الألفاظ التي تضمنتها البشارات حتى التبس الأمر بذلك على أتباعهم ومن لا يعلم الكتاب إلا أماني وخيل إليهم بتلك التأويلات التي هي من جنس تأويلات الجهمية والرافضة والقرامطة أنه ليس هو فسطوا على تلك البشارات بكتمان ما وجدوا السبيل

ص: 357

إلى كتمانه وما غلبوا عن كتمانه حرفوا لفظه عن ما هو عليه وما عجزوا عن تحريف لفظه حرفوا معناه بالتأويل وورثهم أشباههم من المنتسبين إلى الملة في هذه الأمور الثلاثة وكان عصبة الوارثين لهم في ذلك ثلاث طوائف الرافضة والجهمية والقرامطة فإنهم اعتمدوا في النصوص المخالفة لضلالهم هذه الأمور الثلاثة والله سبحانه ذمهم على التحريف والكتمان والتحريف نوعان تحريف اللفظ وهو تبديله وتحريف المعنى وهو صرف اللفظ عنه إلى غيره مع بقاء صورة اللفظ.

وأما فساد دين النصارى من جهة التأويل فأول ذلك ما عرض في التوحيد الذي هو عمود الدين فإن سلف المثلثة قالوا في الربوبية بالتثليث وحديث الأقانيم والأب والابن وروح القدس ثم اختلف من بعدهم في تأويل كلامهم اختلافا تباينوا به غاية التباين وإنما عرض لهم هذا الاختلاف من جهة التأويلات الباطلة وكانت حالهم فيما جنت عليهم التأويلات الباطلة أفسد حالا من اليهود فإنهم لم يصلوا بتأويلهم إلى ما وصل إليه عباد الصليب من نسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به ثم دفعوا

ص: 358

بالتأويلات إلى إبطال شرائع التوراة فأبطلوا الختان واستحلوا السبت واستباحوا الخنزير وعطلوا الغسل من الجنابة وكان الذي فتح عليهم أبواب هذه التأويلات بولس فاستخف جماعة من ضعفاء العقول فقبلوا منه تلك التأويلات ثم أورثت الخلاف بينهم حتى آل أمرهم إلى ما آل إليه من انسلاخهم عن شريعة المسيح في التوحيد والعمليات ثم تأولت اليعقوبية أتباع يعقوب

ص: 359

البراذعي تأويلا فتأولت النسطورية أتباع نسطور بن عبرة فتأولت الملكية وهم الذين على دين الملك عبرة فاضمحل الدين وخرجوا منه خروج الشعرة من

ص: 360

العجين فلو تأملت تأويلاتهم لرأيتها والله من جنس تأويلات الجهمية والرافضة والمعتزلة ورأيت الجميع من مشكاة واحدة ولولا خوف التطويل لذكرنا لك تلك التأويلات ليعلم أنها وتأويلات المحرفين من هذه الأمة

رضيعا لبان ثدي أم تقاسما

بأسحم داج عوض لا نتفرق

ولو رأيت تأويلاتهم لنصوص التوراة في الإخبار والأمر والنهي لقلت إن أهل التأويل الباطل من هذه الأمة إنما تلقوا تأويلاتهم عنهم وعجبت من تشابه قلوبهم وقوع الحافر على الحافر والخاطر على الخاطر ولم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى فشا فيهم المولدون أبناء سبايا

ص: 361

الأمم فاشتقوا لهم الرأي وسلطوا التأويل على نصوص التوراة فضلوا وأضلوا وهؤلاء النصارى لم يزل أمرهم بعد المسيح على منهاج الاستقامة حتى ظهر فيهم المتأولون فأخذت عرى دينهم تنتقض والمتأولون يجتمعون مجمعا بعد مجمع وفي كل مجمع يخرج لهم تأويلات تناقض الدين الصحيح فيلقاهم أصحاب المجمع الآخر ولا يوافقوا لهم عليها حتى جمعهم الملك

ص: 362

قسطنطين من أقطار الأرض فبلغوا ثلاثمائة وثمانية عشر بتركا وأسقفا

ص: 363

فتأولوا لهم هذه الأمانة التي بأيديهم اليوم وأبطلوا من دين المسيح ما شاءوا وزادوا فيه ونقصوا ووضعوا من الشرائع ما شاءوا كل ذلك بالتأويل وقد ذكروا الظواهر التي تأولوها وبالتأويل جعلوا الله ثالث ثلاثة وجعلوا المسيح ابنه وجعلوه هو الله فقالوا هذا وهذا وهذا تعالى الله عن قولهم وبالتأويل تركوا الختان وأباحوا الخنزير وهم يعلمون أن المسيح اختتن وحرم الخنزير وبالتأويل نقلوا الصوم من محله إلى الفصل الربيعي وزادوه حتى صار خمسين يوما وبالتأويل عبدوا الصليب والصور وبالتأويل فارقوا حكم التوراة والإنجيل.

ص: 364

فصل

ومن أعظم آفات التأويل وجناياته أنه إذا سلط على أصول الإيمان والإسلام اجتثها وقلعها فإن أصول الإيمان خمسة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأصول الإسلام خمسة وهي كلمة الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فعمد أرباب التأويل إلى أصول الإيمان والإسلام فهدموها بالتأويل وذلك أن معقد هذه الأصول العشرة تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر فعمدوا إلى أجل الأخبار وهو ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت كماله فأخرجوه عن حقيقته وما وضع له وهذا القسم من الأخبار أشرف أنواع الخبر والإيمان به أصل الإيمان بما عداه واشتمال القرآن بل والكتب الإلهية عليه أكثر من اشتمالها على ما عداه وتنوع الدلالة بها على ثبوت مخبره أعظم من تنوعها في غيره وذلك لشرف متعلقة وعظمته وشدة الحاجة إلى معرفته وكانت الطرق إلى تحصيل معرفته أكثر وأسهل وأبين من غيره وهذا من كمال حكمة الرب تبارك وتعالى وتمام نعمته وإحسانه

ص: 365

أنه كل ما كانت حاجة العباد إلى الشيء أقوى وأتم كان بذله لهم أكثر وطرق وصولهم إليه أكثر وأسهل وهذا في الخلق والأمر فإن حاجتهم لما كانت إلى الهواء أكثر من الماء والقوت كان موجودا معهم في كل مكان وزمان وهو أكثر من غيره وكذلك لما كانت حاجتهم بعده إلى الماء شديدة إذ هو مادة أقواتهم ولباسهم وفواكههم وشرابهم كان مبذولا لهم أكثر من غيره وكذلك حاجتهم إلى القوت لما كانت أشد من حاجتهم إلى الإيواء كان وجود القوت أكثر وهكذا الأمر في مراتب الحاجات ومعلوم أن حاجتهم إلى معرفة ربهم وفاطرهم ومعبودهم جل جلاله فوق مراتب هذه الحاجات كلها فإنه لا سعادة لهم ولا فلاح ولا صلاح ولا نعيم إلا بأن يعرفوه ويعبدوه ويكون هو وحده غاية مطلوبهم ونهاية مرادهم وذكره والتقرب إليه قرة عيونهم وحياة قلوبهم فمتى فقدوا ذلك كانوا أسوأ حالا من الأنعام بكثير وكانت الأنعام أطيب عيشا منهم في العاجل وأسلم عاقبة في الآجل وإذا علم أن ضرورة العبد إلى معرفة ربه ومحبته وعبادته والتقرب إليه فوق كل ضرورة كانت الطرق المعرفة لهم ذلك أيسر طرق العلم على

ص: 366

الإطلاق وأسهلها وأهداها وأقربها وبيان الرب تعالى لها فوق كل بيان فإذا سلط التأويل على النصوص المشتملة عليها فتسليطه على النصوص التي ذكرت فيها الملائكة أقرب بكثير يوضحه أن الرب تعالى لم يذكر للعباد من صفات ملائكته وشأنهم وأفعالهم وأسمائهم عشر معشار ما ذكر لهم من نعوت جلاله وصفات كماله وأسمائه وأفعاله فإذا كانت هذه قابلة للتأويل فالآيات التي ذكرت فيها الملائكة أولى بقبوله ولذلك تأولها الملاحدة كما تأولوا نصوص المعاد واليوم الآخر وأبدوا له تأويلات ليست بدون تأويلات الجهمية لنصوص الصفات وأولت هذه الطائفة عامة نصوص الأخبار الماضية والآتية وقالوا للمتأولين من الجهمية بيننا وبينكم حاكم العقل فإن القرآن بل الكتب المنزلة مملوءة بذكر الفوقية وعلو الله على عرشه وأنه تكلم ويتكلم وأنه موصوف

ص: 367

بالصفات وأن له أفعالا تقوم به هو بها فاعل وأنه يرى بالأبصار إلى غير ذلك من نصوص الصفات التي إذا قيس إليها نصوص حشر هذه الأجساد وخراب هذا العالم وإعدامه وإنشاء عالم آخر وجدت نصوص الصفات أضعاف أضعافها فهذه الآيات والأخبار الدالة على علو الرب تعالى على خلقه وفوقيته واستوائه على عرشه قد قيل إنها تقارب الألف وقد أجمعت عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم فما الذي سوغ لكم تأويلها وحرم علينا تأويل نصوص حشر الأجساد وخراب العالم.

فإن قلتم: الرسل أجمعوا على المجيء به فلا يمكن تأويله.

قيل: وقد أجمعوا على أن الله فوق عرشه وأنه متكلم مكلم فاعل حقيقة موصوف بالصفات فإن منع إجماعهم هناك من التأويل وجب أن يمنع هاهنا.

فإن قلتم: العقل أوجب تأويل نصوص الصفات ولم يوجب تأويل نصوص المعاد. قلنا: هاتوا أدلة العقول التي تأولتم بها الصفات

ص: 368

ونحضر نحن أدلة العقول التي تأولنا بها المعاد وحشر الأجساد ونوازن بينها ليتبين أيها أقوى.

فإن قلتم: إنكار المعاد تكذيب لما علم من دين الرسل بالضرورة.

قلنا: وإنكار صفات الرب وأنه متكلم آمر ناه فوق سمواته وأن الأمر ينزل من عنده ويصعد إليه تكذيب لما علم أنهم جاءوا به ضرورة.

فإن قلتم: تأويلنا للنصوص التي جاءوا بها لا يستلزم تكذيبهم ورد أخبارهم. قلنا: فمن أين صار تأويلنا للنصوص التي جاءوا بها في المعاد يستلزم تكذيبهم ورد أخبارهم دون تأويلكم إلا لمجرد التحكم والتشهي.

فصاحت القرامطة والملاحدة والباطنية وقالت ما الذي سوغ لكم تأويل الأخبار وحرم علينا

ص: 369

تأويل الأمر والنهي والتحريم والإيجاب ومورد الجميع من مشكاة واحدة فنحن سلكنا في تأويل الشرائع العملية نظير ما سلكتم في تأويل النصوص الخبرية?.

قالوا: وأين تقع نصوص الأمر والنهي من نصوص الخبر.

قالوا: وكثير منكم قد فتحوا لنا باب التأويل في الأمر فأولوا أوامر ونواهي كثيرة صريحة الدلالة أو ظاهرة الدلالة في معناها بما يخرجها عن حقائقها وظواهرها فهلم نضعها في كفة ونضع تأويلاتنا في كفة ونوازن بينهما ونحن لا ننكر أنا أكثر تأويلا منهم وأوسع لكنا وجدنا بابا مفتوحا فدخلناه وطريقا مسلوكا فسلكناه فإن كان التأويل حقا فنحن أسعد الناس به وإن كان باطلا فنحن وأنتم مشتركون فيه ومستقل ومستكثر.

فهذا من شؤم جناية التأويل على أصول الإيمان والإسلام.

وقد قيل: إن طرد إبليس ولعنه إنما كان بسبب التأويل فإنه عارض النص بالقياس وقدمه عليه وتأول

ص: 370

لنفسه أن هذا القياس العقلي مقدم على نص الأمر بالسجود فإنه قال {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف12] وهذا دليل قد حذفت إحدى مقدمتيه وهي أن الفاضل لا يخضع للمفضول وطوى ذكر هذه المقدمة كأنها مقررة لكونها معلومة وقرر المقدمة الأولى بقوله {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف12] فكان نتيجة المقدمتين امتناعه من السجود وظن أن هذه الشبهة العقلية تنفعه في تأويله فجرى عليه ما جرى وصار إماما لكل من عارض نصوص الوحي بتأويله الباطل إلى يوم القيامة ولا إله إلا الله كم لهذا الإمام اللعين من أتباع من العالمين وأنت إذا تأملت عامة شبه المتأولين التي تأولوا لأجلها النصوص وعطلوها رأيتها من جنس شبهته والقائل إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل من هاهنا اشتق هذه القاعدة وجعلها أصلا لرد

ص: 371

نصوص الوحي التي يزعم أن العقل يخالفها كما زعم إمامه أن دليل العقل يخالف نص الأمر بالسجود حين قدمه عليه وعرضت لعدو الله هذه الشبهة من ناحية كبره الذي منعه من الانقياد المحض لنص الوحي وهكذا تجد كل مجادل في نصوص الوحي بالباطل إنما يحمله على ذلك كبر في صدره ما هو ببالغه قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر56] .

وكذلك خروج آدم من الجنة إنما كان بسبب التأويل وإلا فهو لم يقصد بالأكل معصية الرب والتجرؤ على مخالفة نهيه وأن يكون ظالما مستحقا للشقاء بخروجه من الجنة هذا لم يقصده أبو البشر قطعا ثم اختلف الناس في وجه تأويله فقالت طائفة تأول بحمله النهي المطلق على الشجرة المعينة وغره عدو الله بأن جنس تلك الشجرة هي شجرة الخلد وأطمعه في أنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة وفي هذا الذي قالوه نظر طاهر فإن الله سبحانه أخبر أن إبليس قال له

ص: 372

{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف 20] فذكر لهما عدو الله الشجرة التي نهيا عنها إما بعينها أو بجنسها وصرح لهما بأنها هي المنهي عنها ولو كان عند آدم أن المنهي عنه تلك الشجرة المعينة دون سائر النوع لم يكن عاصيا بأكله من غيرها ولا أخرجه الله من الجنة ونزع عنه لباسه وقالت فرقة أخرى تأول آدم أن النهي نهي تنزيه لا نهي تحريم فأقدم على الأكل لذلك وهذا باطل قطعا من وجوه كثيرة يكفي منها قوله تعالى {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة35] وأيضا فحيث نهى الله عن فعل الشيء بقربانه لم يكن إلا للتحريم كقوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة222]{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء32]{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام152]

ص: 373

وأيضا لو كان للتنزيه لما أخرجه الله من الجنة وأخبر أنه عصى ربه وقالت طائفة: بل كان تأويله أن النهي إنما كان عن قربانهما وأكلهما معا لا عن أكل كل منهما على انفراده لأن قوله {وَلا تَقْرَبَا} [البقرة35] نهى لهما على الجمع ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد وهذا التأويل ذكره ابن الخطيب في تفسيره وهو كما ترى في البطلان والفساد ونحن نقطع أن هذا التأويل لم يخطر بقلب آدم وحواء البته وهما كانا أعلم بالله من ذلك وأصح إفهاما أفترى فهم أحد عن الله من قوله {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام152]{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء32] ونظائره أي إنما نهيتكم عن اجتماعكم على ذلك دون انفراد كل واحد منكم به فيا للعجب من أوراق وقلوب تسود على هذه الهذيانات وتجد لها حاملا وقابلا يستحسنها ويصغي بقلبه وسمعه إليها

ص: 374

والصواب في ذلك أن يقال إن آدم صلوات الله وسلامه عليه لما قاسمه عدو الله أنه ناصح وأخرج الكلام على أنواع متعتددة من التأكيد

أحدها: القسم

الثاني: تصديرها بالجملة اسمية لا فعلية

الثالث: تصديرها بأداة التأكيد

الرابع: الإتيان بلام التأكيد في الخبر

الخامس: الإتيان به اسم فاعل لا فعلا دالا على الحدث

السادس: تقديم المعمول على العامل فيه

ولم يكن آدم يظن أن أحدا يقسم بالله كاذبا يمين غموس يتجرأ فيها على الله هذه الجرأة فغره عدو الله بهذا التأكيد والمبالغة فظن آدم صدقه وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة ورأى أن الأكل وإن كان فيه مفسدة فمصلحة الخلود أرجح ولعله يتأتى له استدراك مفسدة النهي أثناء ذلك إما باعتذار وإما بتوبة وإما بغير ذلك كما تجد هذا التأويل قائما في نفس كل من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا لا شك فيه إذا اقدم على المعصية فوازن بين هذا التأويل وبين تأويلات المحرفين يظهر لك الصواب من الخطأ والله الموفق للصواب

ص: 375

فصل

ومن جنايات التأويل ما وقع في الإسلام من الحوادث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا بل في حياته صلوات الله وسلامه عليه فإن خالد بن الوليد قتل بني جذيمة بالتأويل ولهذا نبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صنعه وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" ومنع الزكاة من منعها من العرب بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأويل وقالوا إنما قال الله لرسوله

ص: 376

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة103] وهذا لا يكون لغيره فجرى بسبب هذا التأويل الباطل على الإسلام وأهله ما جرى ثم جرت الفتنة التي جرت قتل عثمان بالتأويل ولم يزل التأويل يأخذ مأخذه حتى قتل به عثمان فأخذ بالزيادة والتولد حتى قتل به بين علي ومعاوية بصفين سبعين ألفا أو أكثر من المسلمين وقتل أهل الحرة بالتأويل وقتل يوم الجمل بالتأويل من قتل ثم كان قتل ابن الزبير ونصب المنجنيق على البيت بالتأويل ثم كانت فتنة ابن الأشعث وقتل من

ص: 377

قتل من المسلمين بدير الجماجم بالتأويل ثم كانت فتنة الخوارج وما لقي المسلمون من حروبهم وأذاهم بالتأويل ثم خروج أبي مسلم وقتله بني أمية وتلك الحروب العظام بالتأويل ثم خروج العلويين وقتلهم وحبسهم ونفيهم بالتأويل إلى

ص: 378

أضعاف أضعاف ما ذكرنا من حوادث الإسلام التي جرها التأويل وما ضرب مالك بالسياط وطيف به إلا بالتأويل ولا ضرب الإمام أحمد بالسياط وطلب قتله إلا بالتأويل ولا قتل أحمد بن نصر الخزاعي إلا بالتأويل ولا جرى على نعيم بن حماد الخزاعي ما جرى وتوجع أهل الإسلام

ص: 379

لمصابه إلا بالتأويل ولا جرى على محمد بن إسماعيل البخاري ما جرى ونفى وأخرج من بلده إلا بالتأويل ولا قتل من قتل خلفاء الإسلام وملوكه إلا بالتأويل ولا جرى على شيخ الإسلام عبد الله أبي إسماعيل الأنصاري ما جرى وطلب قتله بضعة وعشرين مرة إلا بالتأويل ولا جرى على أئمة السنة والحديث ما جرى حين حبسوا

ص: 380

وشردوا وأخرجوا من ديارهم إلا بالتأويل ولا جرى على شيخ الإسلام ابن تيمية ما جرى من خصومه بالسجن وطلب قتله أكثر من عشرين مرة إلا بالتأويل فقاتل الله التأويل الباطل وأهله وأخذ حق دينه وكتابه ورسوله وأنصاره منهم فماذا هدموا من معاقل الإسلام وهدوا من أركانه وقلعوا من قواعده ولقد تركوه أرق من الثوب الخلق البالي الذي تطاولت عليه السنون وتوالت عليه الأهوية والرياح ولو بسطنا هذا الفصل وحده ما جناه التأويل على الأديان والشرائع وخراب العالم لقام منه عدة أسفار وإنما نبهنا تنبيها يعلم به العاقل ما وراءه وبالله التوفيق

ص: 381