المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وفي هذا دعوة ربانية وإغراء كريم بالعكوف على تدبُّر البيان - العزف على أنوار الذكر

[محمود توفيق محمد سعد]

الفصل: وفي هذا دعوة ربانية وإغراء كريم بالعكوف على تدبُّر البيان

وفي هذا دعوة ربانية وإغراء كريم بالعكوف على تدبُّر البيان القرآنيّ والوقوف على اتساقه وتناسبه، فإنه لن يؤمن المرء بأن القرآن الكريم من عند الله عز وجل إيمانا مؤسسًا على علم وعرفان إلا إذا استفرغ جهده في هذا التدبّر، فهو من جليل العبادات.

‌مفهوم التدبر

.

التَّدبُّر في لسان العرب: النظر الثاقب في أدبار الأمور والوقوف على ما تنتهي إليه.

وهو عند أهل العلم بكتاب الله عز وجل: العمل على تحقيق وتحديق النظر في ما يبلغه المعنى القرآني المَدِيدُ من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم. وهذا نظر لا يتناهَى، فإن المعنى القرآني له أصل يبدأ منه ولكن منتهاه لا يكاد يبلغه أحدٌ من العباد، فصاحب القرآن الكريم في سفر دائم طلبًا للمزيد من المعنى القرآني.

وكلّ تَعَقُلٍ وتَفَكُّرٍ وتَفَقُّهٍ وتَفَهُّمٍ للبيان القرآني لا يحقق العلم بدرجة من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم لا يكون من تدبر القرآن الكريم في شيْءٍ.

المبتغى إليه بالتّدبر.

إذا ما كان التدبر فريضة، فما المغزى الذي يُجَيِّشُ صاحبُ القرآنِ الكريمُِ وقدراته وووسائله ويجمع زادَه ليبلغه أو ليحوم حول حماه؟

أنزل القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليكون هدى ورحمة وبشرى لعباده: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:23)

ص: 11

، وهذا لا يتحقق بالوقوف عند تلاوة كلماته، وجعل تلاوته عملا ليس من ورائه شيء، ففي ذلك تعطيل للأمر بتدبره:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (صّ:29)

والتدبُّر لا يكون إلاّ لما هو مكنون في الكلم من المعاني، ومن ثمّ كان المبتغى بالتدبرهوالمعنى القرآني الكريم، وهذا هو مناط البركة الرئيس

وإذا ما نظرنا في مدلول كلمة معنى في لسان العرب إلفينا أن مادة (عني) اليائية اللام تدلُّ على القصد والاهتمام والإظهار وتدل أيضا على المقاساة والتجشم.

تقول العرب:عنيت كذا: قصدته وعنت القرية: أظهرت ماءها وعنت الأرض: أنبتت نبتا حسنا وتقول:عانيت الأمر: قاسيته وتعناه: تجشمه، وعناه الأمر: أهمه

أما المعنى الاصطلاحى لكلمة (معنى) فقد لقى اختلافا بالغا بين العلوم المختلفة. ذات العلاقة باللغة، ومرد اختلافهم فى تحرير المعنى الاصطلاحى لكلمة (معنى) هو اختلافهم حول وظيفة اللغة (1))

ونحن لا نرمى إلى النظر فى معنى (المعنى اللغوى) على إطلاقه بل إلى (المعنى القرآنى) بهذا النعت التقييدي الجليل، ولذلك لن نبحر فى قاموس الاختلاف بين أهل العلم فى بيان معنى المعنى وإنما سنعمد إلى تبيان مرادنا من معنى (المعنى القرآنى)

(1) راجع في هذا:التعريفات للسيد الشريف:122، معجم النقد العربي القديم لمطلوب:2/310+326، ومعجم المصطلحات العربية لمجدي وهبة:374،علم النفس اللغوي لنوال عطية:20،42،45، مفهوم المعنى لعزمي سلام:24، سيكولوجية اللغة لجمعة يوسف:125، دور الكلمة في اللغة لستيفان أولمان ترجمة كمال بشر:61، اللغة مبناها ومعناها لتمام حسان: 24

ص: 12

وغير خفى أن الحديث عن المعنى القرآنيّ لا يقصد إلى معانى كلمات القرآن الكريم فى حقلها المعجمى ووجودها الإفراديّ ذلك " أن الألفاظ المفردة التى هى أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها فى أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينهما من فوائد "(1)

ومن ثَمَّ فإنَّا إلى المعني المَنْسُولِ من أوضاع الكلمات التى تحدث بالتأليف والتركيب والبناء وهذه الأحكام وتلك المعانى هى التى كان بها الهدى، وكان بها المنهج الذى عليه تقوم الأمة المسلمة.

وفى سعينا إلى تبيان معنى (المعنى القرآنى) علينا أن نتذكر أنَّ الدلالة المعجمية لكلمة (عنى) ذات بُعْدَين رئيسين:

بُعْدُ القصد والاهتمام ِ، وبُعْدُ الظّهورِ

الذى يرجع إلى المتكلم إنَّما هو بُعْدُ القصد والاهتمام أمَّا بُعْدُ الظهور فإنَّما يرجع إلى الكلام نفسِه من وجه وإلى المخاطَبِ به من وجهٍ آخر.

البعْدُ الأول: (القصد) ليس لنا أن نزعم في تدبر البيان القرآني سعيًا إلى إدراك المعنى القرآني أنّنا نملكُ القطع بتحريره وتحقيقه من بيانه القرآنىّ، فإنَّ ما تفهمه الأمَّة من كلامه سبحانه وتعالى ليس هو عين مراده من كلامه الموحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ذلك أن القطع بأن ذلك المعنى من هذه الآية مثلا هو عين مراد الله عز وجل منها إنما يكون بطريق توقيفى صحيح الإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)

ولا يستطيع متلقٍ بيانَ القرآن الكريم الزعمَ يتطابق إدراكه مع مراد الله تعالى لأنَّ القول بهذا فيه جرأة على الله جل جلاله

? المعنى القرآنيّ ضربان:

(1) دلائل الإعجاز – عبد القاهر - ت: شاكر:539

(2)

الزركشي: البرهان في علوم القرآن – ت: محمد أبو الفضل:1/16

ص: 13

(الاول) المعنى القصْدِيّ، وهذا هو عين مراد الله سبحانه وتعالى،وهو معنى توفيقى ليس لنا معه إلا الاجتهاد فى فهمه حين يبلغنا بسند صحيح عن سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.

(والآخر) المعنى الإدراكِيّ وهو كلُّ ما يدركه أهلُ العلم والتَّدبُّر من النَّصِّ القرآنيّ وفقا لأصول الإدراك والتَّدبُّر وضوابطها وهذا الضرب (المعنى الإدراكى) هو مناط دراستنا ونستطيع أن نعرفه الآن:

«كلُّ مايدركه ويستنبطه أهلُ العلم من النَّصِّ فى سياق السورة المقاليّ والمقاميّ وفقا لأصول وضوابط الفهم والاستنباط»

ذلك هو المبتغَى من التَّدبّر.

ووجه هذا أنَّه ما كان الاستنباط من النصّ وفق الأصول العلمية للاستنباط قائمًا به من هو أهل لذلك الاستنباط، فإنَّ ثمرة ذلك مما يريد الله عز وجل من عباده أن يعرفوه،ويريد أن يبلغهم عنه؛ لأنَّه لو كان ذلك لا يريد إبلاغه إلينا لأقامَ في بيانه من القرائن ما يصرفُنا عن فقهه، فذلك حق المستمع على المتكلم،وقد جاء عن أهل العلم أن من البلاغة ألَاّ يؤتَى السَّامع من قِبَلِ المتكلم، بألَاّ يقيمَ المنائرَعلى الطريق، وألَاّ يضعَ القرائن المُعِينَة على فقه المراد الصَّارفة عمَّا لا يريد.

مجال التَّدبّر والبحث عن المعنى القرآنيّ:

إذا ما كان المعْنَى القرآني هو بغية المتدبر طَلِبَتِه التي يرتحل إليها، فإن لهذا التَّدبُّر المبتغِي نوالَ المعنى القرآنيّ مجالا تتوالى فيه حركة المتدبّر حلولا وارتحالا، لا يتوقف، ولا يعرف منتهًى ينتهي عِنده؛ ليعقل الراحلة ويحطَّ الرَّحْلَ.

ص: 14

ويمكننا أن نقول إنّ مجال التدبر يتنوع، فقد يكون مجالا موضوعيًّا بأن يجمع المتدبّر الآيات الدَّالة على غرض معين كغرض الجهاد أو التعاون على البرّ،او النهي عن المنكر، فيجمع تلك الآيات ويتخذ له منهاج ترتيب وتصنيف وفقًا لما قد يصطفي،ويبحث عن مناهج التصوير التي اتخذها القرآن الكريم في تصوير ذلك المعنى وفي إيصال ذلك الغرض والمقصد إلى القلب في أحسن صُورة من اللفظ كما يقول الرمَّانيّ.

وقد يكون مجالا أسلوبيًّا كأن يتخذ أسلوب التشيبيه في القرآن كله أو في سورة من السّورأوموضوع من الموضوعات، فيجمع الآيات التي بنيت على التشبيه لينظر في الأغراض والمقاصدالتي استخدم التشبيه لتصويرها.

وقد يكون مجالا سياقيًا كأن يجعل مجال بحثه عن المعنى القرآني هو سياق ترتيل سورة ما باعتبار أن وحدة التحدي هي السورة

فِي سياقِ التِّلاوَةِ نرى أربع دوائر يحيط بعضها ببعض وفقا لاتساع كلّ دائرة، فكلُّ دائرة منها هي أقل اتساعًا تقوم في رحم الدائرة الأوسع.

تلك الدوائر هي دائرة الآية، فالمَعْقِدِ، فالسّورة ِ، فالقرآنِ الكريمِ، ويُمْكِنُكَ أن تقول هي خمس دوائر بجعلك الجملة دائرة تحيط بها دائرة الآية، تحيط بها دائرة المعْقِد، تحيط بها دائرة السورة، تحيط بجميع الدوائر دائرةُ السياقِ القرآنِيِّ الكريمِ

المعنى القرآني المُجْتَنَى منْ تَدَبُّرِ الجملة في سياق الآية يغلب عليه أنّه معنى قريب، وبرغمٍ من قُرْبِه هو معْنًى كريمٌ وَمُهمٌ، بل هو متعلِّقٌ بما يُعدّ أساسَ المعانِي التي تُنْسَلُ منه فهو أصل المعنى الجمهوريّ للنصّ، ويمكن لمن يكتفي بمثل ذلك الزاد أن يبصر الطريق به إلى مرضاة ربه سبحانه وتعالى أخذًا وتركًا في حركة حياته، وهذا من تيسير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىعلى عباده الذين ليس لهم قدَمٌ في طلب العلم بالكتاب والسنة

ص: 15

فأنت إذا ما نظرت في قول الله سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)

وتدبرت قوله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} وحده من غير أن تربطه بسياقه المقاليّ والمقامي، فإنّك تصل إلى أنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤه يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى واحد.

وهذا المعنى إذا ملأ القلب كفاه زادًا في سعيه في هذه الحياة، ولكنَّ من وراء هذا المعنى الجمهوري المأخوذ من هذه الجملة القرآنية وحدها دون ربطها ببقية الآية وبسياقها المُمْتَدِّ في السورة وسياقها المقامي معانيَ متصاعدةً تتوافدُ عليك كلَّما وسعت دائرة التبصّر والتّدبر.

والله سبحانه وتعالى يحثنا على ألَاّ نرضى بالوقوف عند أوّل المَدْرََجَةِ إذا ما كان بمَُلكِنا أن نتصاعد، فنجتني الأوفر والأكبر:

{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

} (الزمر من الآية:55)

فإنَّ من وجوه المعنى – فيما أذهب إليه -: أنَّ ما أنزل إلينا من ربنا - عَزَّ اسْمُهُ - ذو عطاءٍ متكاثرٍ، فعلينا أن نتبع أحسنه عطاءً لقلوبنا، فإنَّ لكل قلبٍ مُعافََى من داء الغفلةِ من المعاني القرآنية ما يُحْسِنُ إليه غذاء وشفاء،فيحسن حاله به والمرءُ السّويّ أبصر بما يصلح قلبه ونفسه، فعليه أن يتبع.

ص: 16

وإذا ما تجاوز صاحب القرآن الكريمُِ في تدبّره دائرة الجملة إلى دائرة الآية كان مجتنى تدبّره أبسطَ وألطفَ وأحكمَ إذا ما كانت الآية ذات معنى يمكن الوقوف عنده دون أن يفتقر المرءُ افتقارًا بالغا إلى أن يقرنَ بها غيرها، وهذا هو الغالب على كثير من آيات القرآن الكريم، ولا سيّما آيات السور الكثير عدد آياتها. وبعضُ آيات القرآن الكريم تكون بالنسبة إلى أختها كالكلمة بالنسبة إلى أختها في بناء الآية؛ لتعلُّق الأخرى بها تعلقًا تركيبيا يصير بعض الآية التالية مكمِّلا بناءَ المعنى في الجملة السابقة

ذلك أنَّ تفصيل السورة القرآنية إلى آيات ليس معياره لغويًّا نحويًّا تركيبيًّا، بل من وراء ذلك حكم لطيفة قد لا يتيسر لنا إدراكها.

وقد جاء في خبر موقوف عن أم المؤمنيبن سيدتنا " عائشة بنت الصديق – رضي الله عنهما: " أنها قالت: إن عدد آيات القرآن الكريم على عدد درج الجنة، وكلَّما قرأ صاحب القرآن آية ارتقي في الجنة درجة."

ومثل هذا لا يكون من أمِّ المؤمنين أو أحدٍ من الصحابة غيرها من عند نفسه بل هو في حكم المرفوع.

المهم أن المعنى القرآني المجْتَنَى من تدبر الآية أوفر عطاء وألطف نوالاً من المعنَى المجتنَى بتدبّر الجملة القرآنية في سياق الآية.

***

ص: 17

وإذا ما تجاوز صاحب القرآن الكريم في تدبره دائرة الآية إلى دائرة المعقد المتشكل من مجموع آيات ذات موضوع واحد كالمعقد الذي يجمع آيات تصنيف الناس إلى ثلاث في صدر سورة البقرة أو المعقد الذي يجمع آيات الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى وفي غيرسبيله، وما يتعلق بالعلاقات المالية في خواتيم سورة البقرة،أو المعقد الجامع الآيات المتحدثة في شأن الدعوة في خواتيم سورة النحل أو الآيات التي تجمع سمات عباد الرحمن في خواتيم سورة الفرقان إلى غير ذلك – إذا ما جاز إلى تلك الدائرة فإنَّ دقائق من معاني القرآن الكريم تتقاطر عليه أو تترادف وفقَ منزلِه من الفقه والفهم عن الله ربّ العالمين.

وتدبُّر المعقد ذو أهمية بليغة للمتدبر أيًّا كانت طلبته من صنوف المعاني القرآنية: صاحب معاني التشريع شأنُه شأن صاحب المعاني البيانيَّة تقتضيه طلبته ألاّ يأسر تبصُّرَه في دائرة الآية، فإنَّ غير قليل من معاني التشريع تقتضي النظر في عديد من الآيات المنسوق بعضها في إثر بعض،على أنَّ بعض المعاني التشريعية يمكن استفادتها من النَّظر في آية واحدة بخلاف المعاني البيانية، فطبيعة المعنى المبتغَى هو المقتضى مجال التدبر.

فإذا أراد المتدبِّرُ ضربًا آعلى من دقائق المعاني ولطائفها، فإنَّه يتخذُ دائرة السُّورة مجالا يُعْمِلُ فيه بصيرته وفراسته البيانية، فإنَّ لكلِّ سورةٍ سياقا يوحد نسب آياتها، ويحقِّق الرَّحم القائم بينها، ومراعاة ذلك السياق فيه البرّ برحم المعنى القرآني في السورة،وفي نور السياق الممتد للسورة يتبين للمتدبِّرِ كثيرٌ من اللطائف.

وقد أشار إلى ذلك " أبو إسحاق الشاطبي" في الموافقات ":

ص: 18

«الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدًا بكلّ اعتبار، بمعنى أنّه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت، وعليه أكثر سور المفصل،وتارة يكون متعددًا في الاعتبار بمعنى أنّه أنزل في قضايا متعددة كسورة البقرة

ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة أم نزلت شيئًا بعد شيءٍ

ولكن هذا القسم له اعتباران:

*اعتبار من جهة تعدد القضايا، فتكون كلُّ قضية مختصة بنظرها،ومن هنالك [أي من النظر في كلّ قضية على حدتها] يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه

* واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة إذ هو ترتيب بالوحي لامدخل فيه لآراء الرجال

فاعتبار جهة النظمِ مثلا في السورة لايتمُّ به فائدة إلَاّ بعد استيفاء جميعها بالنظر، فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود، كما أنَّ الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لايفيد إلَاّ بعد كمال النَّظر في جميعها.» (1)

والمعنى المُجْتَنَى من التَّدبُّر في سياق السورة هو المعنى القرآني الذي أذهب إلى أن البحث عنه محقق لكثير من المعاني الإحسانية التي نحن في مزيد الافتقار إليها تفقُّهًا وتأدبا، ولهذا قلت في تعريف المعنى القرآني:"كلُّ مايدركه ويستنبطه أهلُ العلم من النَّصِّ فى سياق السورة المقاليّ والمقاميّ وفقا لأصول وضوابط الفهم والاستنباط"

قلت (فى سياق السور) لأنَّ تمام المعنى لا يدرك فى سياقه الجزئى وإنما يدرك فى سياق السورة كلِّها التى هى وحدة التحدى، وكلُّ درس آية خارج سياق سورتها هو درس خداج عاجز عن استبصار كثير من وجوه المعنى القرآنى التى تغذو الروح واللب بلطائف المعانى الاحسانية.

وما نجري في سياقه الآن إنَّما هو النَّظر في معالم فقه المعنى القرآني في سياق السورة.

***

(1) الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة: ج 3 ص 414- 415 - تح: عبد الله دراز.

ص: 19

ويبقى من بعد هذا المجال الأرحب للتدبر: دائرة السياق القرآني كله من مفتتح تلاوته: (أم الكتاب) إلى مختتم التلاوة: (سورة الناس)

والمتدبِّر في تدبُّره في حركة متصاعدة بتصاعد المعنى القرآني، وجميع هذه المعاني المتصاعدة المبثوثة في آيات القرآن الكريم من مفتتح سورة (البقرة: سنام القرآن الكريم) إلى مختتم آيات (سورة الناس) هي تفصيل لما هو مجمل من المعاني في سورة الفاتحة (أم الكتاب) وكلُّ معنى قرآني هو منسولٌ من معنى من معاني سورة الفاتحة، ولهذا قرَّر أهل التحقيق أن (سورة الفاتحة: أم الكتاب) قد جمعت كل معاني القرآن الكريم على سبيل الإحكام، وسائر السور تفصيل لتلك المعاني، وكلام أهل العلم في هذا مبسوط في مواطنه.

مجمل القول أن مجالَ التَّدبُّرِ من حيث اتساعه دوائر يحيط بالصغير منها ما هو أكبر منه حتّى تحيط دائرة السياق القرآني كلِّه بالدوائر كلِّها.

ولكل دائرة من دوائر مجال التدبر مؤونتها وعطاؤها،وعلى قدْرِ الزَّاد الذي يحمل المتدبِّر والوسائل التي يمتلك والمنهج الذي به يأخذ يكون العطاء والنوال.

***

ص: 20