المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: تقسيم السورة إلى معاقد كلية - العزف على أنوار الذكر

[محمود توفيق محمد سعد]

الفصل: ‌الفصل الثالث: تقسيم السورة إلى معاقد كلية

‌الفصل الثالث: تقسيمُ السُّورَةِ إلَى معاقِدَ كُلِّيَّةٍ

***

يغلبُ على سور القرآن الكريم أن تكون ذات معان كلية تمثل معاقد لبناء السورة الكليّ وتحرير معالم هذه المعاقد مبتدأ ومنتهى إنَّما يقع عليه المرء من طول قراءة ونظر وتبصّر فى السورة به يصبح المعنى الكليّ للسورة مستحضراً فى قلب القارئ، فيتأتي له إبصار تلك المعالم، ثمَّ تحديدها، ومثل هذا ذو أهميَّة بالغة فى الوقوف على مدارج المعنى القرآنيّ فى السورة الذى به تتحقق معرفة حركة المعنى في سياق السورة.

وهو ذو أهمية أيضاً فى معرفة مواقع هذه المعانى الكلية فى السورة على مدرجة المعنى القرآنيّ فيما سبق السورة مناط البحث.

تقسيم السورة إلى معاقد تقسيم أساسه تآخي المعاني الجزئية وتناغيها فى تشكيل وحدة كليّة بيّنة المعالم التى بها تمتاز عما سبقها وما تلاها من وجه، وبها يتحقق الإعتلاق بما سبقها وما تلاها - أيضاً - من معاقد على جادة السياق الكليّ للسورة.

ص: 130

وهذا التقسيم به يتبين صاحب القرآن الكريم مقدّمة السورة ومفتتحها ومؤخرتها ومختتمها وما جرى بينهما من معاقِد، وموقع قلب السورة الذى منه تتناسل وشائج القربى وأسباب التآخي وأشطانه، فانَّ كلَّ سورة ولا سيّما الطول والمئين وكبار المفصل لا تكاد تخلو من:(المطلع والمقطع والقلب) وإذا ما كان المطلع تلاوة والمقطع ترتيلاً قد تحدد موقعهما من السورة، فانَّ مقداريهما يختلفان من سورة إلى آخرى، كما أنَّ موقع قلب السورة ليس محدَّدًاً، فقد يكونُ فى ثبجها، وقد يكون أقرب إلى مطلعها، أو أقرب إلى مقطعها.

وإذا ما نظرت في سورة (البقرة) وقد امتد نزول آياتها سنين عددًا امتدادًا لم يكن لغيرها مثله، كان مقتضى ظاهر النَّظر أن يُمْنَى بناؤها بالاقتضاب والتبتير، ولكن القراءة الواعية المتدبرة تريك أمرًا غير الذي يحْسبه من كان أعجميً القلب واللسان

سبق أن بينتُ مطلع تلاوة سورة (البقرة) ومختتمها وقلبها أما تقسيمها إلى معاقد، فانَّ هذا له مرجع موضوعى ومرجع ذاتى، ولهذا نجد تقسيم العلماء سورة (البقرة) إلى معاقد متقارباً من وجه متباعداً من وجه آخر.

الناظر فى صنيع العلامة " دراز" فى سفره القيّم: " النبأ العظيم " وصنيع " سيد قطب" فى تفسيره الجليل" فى ظلال القرآن" والشيخ العالم" عبد المتعال الصعيدي " فى كتابه " النظم الفنى فى القرآن " وصنيع كثير غيرهم سيجد اختلافاً فى تبيان الفصول والمعاقد بدءاً وانتهاء، فاذا هى كثيرة عند أحدهم لتفصيله وقليلة عند آخر لإجماله، وهذا مرده - فى غالب الأمر- إلى أمرٍ ذاتيٍ يختلف باختلاف المتدبر.

والأمر فى هذا متسع يحتضن كل استبصار رشيد.

ولعل تقسيم العلامة " دراز " سورة "البقرة" هو الأقرب إلى الإحكام، أوجز لك صنيعه على أن يكون فيه ما يهدى.

يقول تحت عنوان: «نظام عقد المعانى فى سورة البقرة» ما خلاصته: إنَّ هذه السورة على طولها تتألف وحدتهامن مقدمة، أربعة مقاصد وخاتمة.

ص: 131

المقدمة: (ى/1-20) : فى التعريف بشأن هذا القرآن الكريم وبيان أن ما فيه من هداية قد بلغ من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم، وإنَّما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان فى قلبه مرض وقد فصل القول فيما اشتملت عليه تلك المقدمة من معان.

(المقصد الأول: من مقاصد سورة البقرة) :

دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام جاءت فى خمس آيات (ى:21-25) لخصت فيها أركان الدعوة من أمر بالإيمان بالله سبحانه وتعالى وحده والإيمان بكتابه والأمر باتقاء العذاب وبابتغاء الثواب.

ثم كانت أربع عشرة آية (ي: 26-29) مفصلة ما جاء فى المقدمة مجملاً من وصف القرآن الكريم بأنَّه هدى وبيان طريقته فى الهداية، وقد أبرز وشائج القربى بين ما فى المقدمة:(ي:1-20) وما فى هذه الدرة الفاصلة فى عقد نظام السورة بين آيات المقصد الأول (ي: 21- 25) وآيات المقصد الثانى (ي:40-162) وفى الوقت نفسه مبينا وشائج القربى بين هذه الفاصلة وبين آيات المقصد الأول بأركانه الثلاثة،وكيف أنَّ هذه الفاصلة ختمت حديثها بالمخالفين،كما ختمته المقدمة،وذلك تمهيدا للانتقال مرة أخرى إلى نداء فريق منهم ودعوتهم إلى الاسلام فى فاتحة المقصد الثانى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40)

مثلما استفتح المقصد الأول بنداء الناس كافة ودعوتهم إلى الاسلام:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)

فكل من المقصد الأول والثانى مستفتح بالنداء والدعوة إلى الإسلام.

ص: 132

(المقصد الثانى) من مقاصد السورة فى دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول فى هذا الدين الحق وجاء ذلك فى ثلاث وعشرين ومائة آية (ي: 40 – 162) فالسورة " مدينة " وفى المدينة النبويّة اليهود أشد الناس عداوة للإسلام، فكان من المقتضى العناية بدعوتهم خاصة إلى الإسلام، ودحض أباطيلهم، فدعاهم، وذكرهم بالنعمة، وطالبهم بالوفاء بالوعد، وفصل لهم ذلك الوعد وبيّن لهم نعم الله سبحانه وتعالى عليهم. (ي: 40 – 48)

ثُمَّ بين سالفتهم وتاريخهم (ي: 49-74) وكشف أحوال المعاصرين منهم للبعثة (ي:75-121)،وذكرقدامى المسلمين من لَدُن سيدنا (إبراهيم) عليه السلام (ي: 122 - 134) ؛ ليكون فى ذكرهم قدوة وباعثا على الاستجابة لدعوة الحق من بعد أن دحض أباطيل بنى اسرائيل.

ثمَّ ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة (ي:135-162) بيانا لتعالق الخلف بالسلف، فأمّة سيدنامحمد صلى الله عليه وسلم هى امتداد لأمة أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

(المقصد الثالث من مقاصد السورة)(ي: 163 – 283)

معقود لعرض شرائع الإسلام عرضها مفصلا، فالسورة مدينة متكفلة بتأسيس أصول التشريع السلوكي في ذلك العهد المدني (ي:163-283)

وقد جعل لهذا المقصد الرئيسي من مقاصد السورة مدخلاً اشتمل على خمس عشرة آية (ي: 163 - 177) ليكون ذلك المدخل توطئة لما تفصله آيات المقصد من شرائع الاسلام فى (ست ومائة آية) : (ي:178 - 283) تفصيلا يرسم نظام العمل للمؤمنين فى شتَّى مناحى الحياة فى شأن الفرد والأسرة والأمة.

وقد استفتح ذلك بأحكام ما يحقق للأمة قوتها وأمنها فى داخلها أحكام القصاص (ي:178 - 179) ثم توالت أحكام الشريعة مفصلة منسوقة ممزوجة بما يعين على القناعة والرضى بها.

(المقصد الرابع من مقاصد السورة)(ي: 284)

فى ذكر ما يبعث على ملازمة الشرائع ويعصم عن مخالفتها،وقد جاء هذا فى آية واحدة (ي: 284) هي من جوامع الكلم في هذا الغرض.

ص: 133

كأنَّ الشيخ "دراز"ينظر إلى ما بين الآية رقم (163) : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة:163) التى عدَّها فاتحة الشطر التشريعي فى السورة، والآية رقم (284) :{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:284) التى جاءت فى عقب تفصيل آيات الشطر العملي التشريعى. فإنَّ ما بين الآيتين جدُّ وثيق وغير خفيّ، فكأنَّ فيه ردَّعجزٍ على صدر.

(الخاتمة) : (ي: 285-286) فى التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم فى آجلهم وعاجلهم فإذا مقطع السورة بلاغ عن نجاح الدعوة ووفاء بوعدها لكل نفس بذلت وسعها فى اتباعها وفتح باب الأمل على مصراعيه أمام هؤلاء المهتدين.

ثُمَّ يختم العلامة (دراز) بيان نظام عقد المعانى فى سورة البقرة بقوله:

(

لئن كانت للقرآن فى بلاغة تعبيره معجزات وفى أساليب تربيته معجزات وفى نبوءاته الصادقة معجزات وفى تشريعاته الخالدة معجزات وفى كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات

إنَّه فى ترتيب آيه على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات. (1)

وإذا ما كنت ذاهبًا إلى أنَّ تقسيم العلامة (دراز) سورة "البقرة" أفضل من تقسيمات أخرى فإننى أميل إلى أن السورة مكونة من مقدمة وقسمين كبيرين وخاتمة.

المقدمة من الآية (1-20) مثلما أبان عنه العلامة (دراز)

والقسم الأول من الآية (21 - 167) من أول قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21)

(1) - دراز: النبأ العظيم: 211

ص: 134

إلى آخر قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة:167) وهو قائم بالحقائق والتشريعات العقدية الإيمانية.

وأيات هذا الشوط مقسومة على عقدين: الأول من أوّل قول الله عز وجل:

{يَاأَيُّهَاالنَّاسُ اعْبُدُوارَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21) إلى آخر قوله جل جلاله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:39)

فهذه ثماني عشرة آية في دعوة الناس كافة إلى الإسلام.

وجاءت فيها قصة سيدنا (آدم) عليه السلام أبي ابشر بعد أن أنكر عليهم الكفر بالله سبحانه وتعالى،وقد كانوا أمواتا، فأحياهم، ثُمَّ يميتهم، ثُم يحيهم، ثُمَّ إليه يرجعون، ومبينا لهم فى قصة سيدنا (آدم) عليه السلام أنه فطر على الإيمان وأنَّ الشيطان استكبر، وكان من الكافرين، فهو لن يرضى إلا أن يكونوا مثله، ومن ثَمَّ ختمت آيات هذا العقد بقول الله جل جلاله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:39)

ص: 135

ليكون في هذا تقريرٌ بالترهيب من الإعراض عما دعا إليه في مفتتح المعقد بالترغيب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:21 - 22)

وآيات العقد الثانى من هذا القسم من قول الله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوانِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوابِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة:40)

إلى آخر قوله جل جلاله: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة:167) سبع وعشرون ومئة آية (127 ي) فى دعوى أهل الكتاب خاصة إلى ترك باطلهم والدخول فى هذا الدين الحق.

ص: 136

والتشابه بين العقدين ابتداء وانتهاء جدّ واضح، وجدّ وثيق، وجاءت دعوة أهل الكتاب إلى الاسلام من بعد دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم جل جلاله وهم من جملة الناس تأكيدا لتلك الدعوة، ولأنَّهم أحقُّ الناس بالاستجابة لها والدخول فيها سراعا:{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة:41) لأنهم أعلم الناس حينذاك بصدق الدعوة المحمدية، وإذا ما آمن أهل الكتاب بالاسلام كان ذلك أدعى إلى دخول غيرهم فيه أفواجا، لذلك بسطت آيات ذلك العقد بسطا وعظم القول فى أهل الكتاب ونَعَى عليهم كثيرا من أفاعيلهم وكتمانهم الحق وهم يعلمون، وتبديلهم قولا غير الذى قيل لهم، وتوليهم من بعد أخذ الميثاق عليهم أن يأخذوا ما آتاهم بقوة، ويذكروا ما فيه، وايمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، وكفرهم بالكتاب المصدق لما معهم واعلانهم الايمان بما أنزل عليهم وكفرهم بما وراء ذلك، ونبذهم كتاب الله سبحانه وتعالى وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون، وودّهم ردّ المسلمين عن دينهم، وانكارهم تحويل القبلة، وكتمانهم ما انزل الله عز وجل من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس فى الكتاب، فكان هذا البسط اعتناءً بشأن دعوتهم إلى الاسلام.

***

ص: 137

والقسم الثانى من السورة من الآية: (168 - 283) من أول قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:168) إلى آخر قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (البقرة:283)

فهذه خمسَ عشرة ومئة آية (115ي) معقودة لبيان أحكام الشريعة لتكتمل بها صورة الاسلام وهدية عقيدة وشريعة، فإن السورة سنام القرآن الكريم، واستهلال هذا الشطر بدعوة الناس كافة إلى أن يأكلوا مما فى الارض حلالا طيبا ولا يتبعوا خطوات الشيطان، فهو عدوهم المبين يتناغى مع ما عقدت له آياته من بيان أحكام الشريعة وأبرزها أحكام المطعم؛ لأنَّها أساس قبول الأعمال، فإنَّ كلَّ جسم نبت من حرام مآله إلى النار لا تقبل صلاته وصيامه وزكاته وحجه وجهاده إلى آخر تلك الشرائع التى فصلتها آيات هذا العقد.

التوحيد رأس الجانب العقدى.

وطيب المطعم رأس الجانب التشريعي

فكانت الدعوة إلى الأول للناس كافة فى مستهل القسم الأول العقدي وكانت الدعوى إلى الآخرللناس كافة فى مستهل لقسم الثانى التشريعي

ص: 138

ثُمَّ توالت تشريعات ما أحل الله جل جلاله من الطعام، ثُمَّ بيان البِرِّ وصوره، وأحكام القصاص ليحقق الأمن من بعد طيب المطعم واحكام الصيام والجهاد والحج والإنفاق والقتال فى الأشهر الحرم والخمر والميسر وأحكام الأسرة وأحكام المعاملات المالية من صدقه وربا وقرض ورهن، فختم آيات هذا القسم بأطول آية:(آية المداينة) فأية الرهن مؤكدا الدعوة إلى الأمانة والقيام بحق الشهادة.

ثم تأتى الخاتمة فى ثلاث آيات (284-286) : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286)

ص: 139

فهذه الثلاث مقررة أنَّ الكون يكون كلَّه لله عز وجل وحده، وأن ما فى الأنفس يحاسب عليه، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، فكأنَّ فى هذه تعقيبا على القسمين معا العقدي والتشريعي وفى الوقت نفسه توطئة لذكر الذين قاموا بحق هذين القسمين، فكان هذا ردَّ عجز السورة على صدرها الذى يبين صفات المتقين، فتلاقى حديثه عن المؤمنين فى مقطعها مع حديثه عن المتقين فى مطلعها.

تبين لنا مما مضى بناء السورة من معاقد وفصول متلاحمة هيمن عليها جميعاً مقصد رئيس سَرَى فى جميع متعاقد السورة وآياتها.

إنَّ تقسيم السورة إلى حلقات تجمع فى محيطها مجموع المعانى الجزئية التي تشكِّل معنى كلياً هو أساسٌ لاستبصارالعلاقات بين معاني السورة على نحو محكم ذلك أنَّ استبصار علاقة المعنى الجزئي بغيره فى محيط حلقة من حلقات المعنى القرآنيّ للسورة أقرب إدراكاً وأيسر تحصيلاً من استبصار علاقته بمعنى جزئيّ فى محيط حلقة أخرى من حلقات السورة، لأن تلك العلاقة ذات خفاء،وهو خفاء لا علاقة له بوثاقه الاعتلاق أو وَهَنَِهِ، فقد يكون وجه الاعتلاق خفياً الا أنه جد وثيق. (1)

واستبصار السورة آية آية دون تقسيمها إلى فصول ومعاقد كلية يضعف قدرة المستبصرعلى إدراك معالم المقصود والغرض الأعظم المهيمن على السورة، فان إنشغاله بتلاحم الآية بالآية التى بعدها لا يعنيه على مد بصره إلى أفق أبعد، لكن استبصار التلاحم بين آيات المعقد الواحد أقرب وأمكن ثم من بعده استبصار علائق المعاقد بعضها ببعض وخضوعها لسلطان غرض رئيس ومقصود أعظم.

(1) - ذهب إلى فريضة استبدال تقسيم آيات السورالقرآنية إلى حلقات خاضعة للمعنى، وليس إلى المقادير الكمية لعدد الآيات والكلمات كما هو قائم في المصاحف اليوم، فهو قائم على غير أساس معنوي فإنك ترى القصة الواحدة، وقد لاتكون ممتدة قد جعل بعضها في حزب وبعضها في آخر، بل ترى المعطوف في أول (جزء) والمعطوف عليه في آخر كما في {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: من الآية24)

وانظر ما كان منهم في سورة (محمد) - صلى الله عليه وسلم مثلا تراهم قد جعلوا أوَّل نصف الحزب الآية العاشرة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (محمد:10) وآخره الآية (32){إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} (محمد:32) وكان بملكهم أن يجعلوا أول هذا الحزب أول السورة وآخره آخرها، بل انظر صنيعهم في سورة (العاديات) فإنّك يجعلون نهاية نصف الحزب الآيةالثامنة:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات:8) وكان بملكهم أن يجعلوا نهايته نهاية السورة.

إنّ مثل هذا ليس من ورائه نفع في فقه المعنى القرآني، ولاسيما أنه ليس توقيفيا، ولم يرد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعيار القويم التقسيم إلى أجزاء وأحزاب وأرباع وأثمان إنما هو المعاقد الكلية للسورة، وليس عدد الأسطر والكلمات.

ص: 140