المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مراحل الطريق إلى فقه المعنى القرآني الفصل الأول: فقه موقع السورة - العزف على أنوار الذكر

[محمود توفيق محمد سعد]

الفصل: مراحل الطريق إلى فقه المعنى القرآني الفصل الأول: فقه موقع السورة

مراحل الطريق إلى فقه المعنى القرآني

الفصل الأول: فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآنى

الفصل الثانى: فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم:

الفصل الثالث:تقسيم السورة إلى معاقد

الفصل الرابع:التحليل البياني للكلمات والجمل والآيات

‌توطئة

جمهور أهل العلم بالقرآن الكريم على أن أقل قدر تُحُدِّيَ به الثقلان هو السورة أيًّا كان مقدارها الكميّ، فسورة" الإخلاص " وسورة "البقرة " فى التحدِّي سواء من أنّه سبحانه وتعالى قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:23) وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (يونس:38)

وقد جاءت فى كلتيهما (سورة) نكرة، وفى هذا التنكير دلالة على العموم أىْ أىَّ سورةٍ طويلةٍ أو قصيرةٍ، ولكنهم يذهبون أيضا إلى أنَّ ما كان كالسورة فى مقدارها الكميّ (ثلاث آيات) فأكثر يقع به التحدِّي.

ويؤخذ من ذلك أنَّه إن كان جزء من آية يعدِل مقدار السورة كَمًا ومقدارًا فلا يقع به التحدِّى، بْل لا بُدَّ أن يكون المُعادل ثلاث آياتٍ، فأكثر، فآية الكرسيّ سيدة آي القرآن الكريم كأنَّها جملة بيانيَّة واحدة، وكذلك آية المداينة فى سورة البقرة على الرغم من أنها تفوق كثيرا من قصار السُّور فى مقدار جملها وكلماتها وحروفها لم يقع التحدى بها وإن كانت في نفسها معجزة، فهى جزء من سورة وعنصر من عناصر بناء معناها بينما سورة من قصار السور أقل فى عدد حروفها وكلماتها ذات مقصد تام وفيها من سمات البيان القرآنى ما فى السورالطوال قد وقع بها التحدى عند جمهور أهل العلم

ويذهب برهان الدين البقاعي (ت:885) إلى أنَّ الآية الواحدة القائمة بتمام المعنى يقع بها التحدي، ويتحقق فيها الإعجاز، فلا يفرق بين مناط الإعجاز ومناط التّحدّي.

ص: 21

ويذهب العلامة الإمام "محمود شاكر" رحمه الله إلى أنَّ قليل القرآن وكثيره فى شأن الإعجاز سواء. يقول بعد أن أبان أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم من بعد أن نزل عليه الوحى طالب قومه بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه ويُقِرُّوا له بصدق نبوته بدليل واحد، وهو هذا الذى يتلوه عليهم من قرآن يقرءون «كان هذا القرآن ينزل عليه منجَّمًا، وكان الذى نزل عليه يومئذ قليلا كما تعلم وكان هذا القليل من التنزيل هو برهانُه الفرد على نبوته، وإذن، فقليل ما أوحى إليه من آيات يومئذ، وهو على قلته، وقلَّةِ ما فيه من المعانى التى تنامت وتجمعت فى القرآن جملة، كما نقرؤه اليوم منطوٍ علي دليل مُسْتَبِينٍ قاهرٍ، يحكم له بأنَّه ليس من كلام البشر، وبذلك يكون دليلا على أنَّ تالِيهِ عليهم، وهو بشر مثلهم نبى من عند الله مرسَلٌ، فإذا صَحَّ هذا – وهو صحيح لا ريب فيه – ثبت ما قلناه أوَّلاً من أنَّ الآيات القليلة من القرآن، ثُمَّ الآيات الكثيرة، ثُمَّ القرآنُ كلُّه أىّ ذلك كان فى تلاوته على سامعه من العرب الدليل الذى يطالبه بأن يقطعَ بأنَّ الكلامَ مُفارِقٌ لجنس كلام البشر، وذلك من وجه واحد، وهو وجه البيان والنظم. (1)

وعندي أن نفرق بين ما يقع به الإعجاز، وما وقف عنده التحدِّي:

التحدي وقف عند "السورة" كما دلَّ ظاهر البيان القرآنيّ، ولكنَّ الإعجازَ واقع بالآية الواحدة التامّة المعنى، أمَّا التي لايتم معناها إلا بآية أو آيات أخرى فلا يقع الإعجاز بها وحدها.مثل (مُدْهَامَّتَانِ) (الرحمن:64) ، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى) (العلق:9)

(1) تقديم كتاب: " الظاهرة القرآنية " لمالك بن نبي: بعنوان: (فصل في إعجاز القرآن) بقلم محمود شاكر – ص:27-28 –ط: دار الفكر – دمشق - 1405

ص: 22

وإذا نظرنا فى كلمة (سورة) التى كان منتهى التحدِّي عندها ألفينا أنَّ دلالتها فى لسان العربية راجعٌ إلى التصاعد والمرتبة وسورالمدينة والسّؤْر.

فهل تكون الدلالة اللغوية لكلمة (سورة) هي المرادة في مقام التحدي في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:23)

وقوله جل جلاله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (يونس:38)

يذهب البقاعي إلى أنَّ معنى (السورة) في مقام التحدِّي هو المعنى اللغوي: أي قطعة من القرآن الكريم آية فما فوقها، فالإعجاز والتحدّي معًا واقعان بالآية الواحدة، والجمهور على أنَّ المراد في مقام التحدي هو المعنى الاصطلاحي: «قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يَتَغَيَّرانِ مُسَمَّاةٌ باسْمٍ مخصوص تشتمل على ثلاث آيات فأكثر فى غرض تامٍّ ترتكز عليه معانى آيات تلك السورة ناشئ عن أسباب النزول أو عن مقتضيات ما تشمل عليه من المعانى المتناسبة (1)

والتسمية باسم (السورة) فيه دلالة على أنَّ بين عناصر هذا المجموع من الآيات ترابطًا بينها سواء كان الجذر الاشتقاقي للتسمية " سور المدينة أو المرتبة والتسور أو السور أو التصاعد "، ففى كلِّ هذا شىء من ذلك المعنى.

وكثير من أهل العلم يلمح ما بين هذه التسمية وسورالمدينة من تشابه يقول العلامة: أبو الحسن الحَرَالّيّ (ت / 637 هـ)

"السورة تمام جملة من المسموع محيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة"

(1) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور:1/84

ص: 23

ومعنى ذلك أنَّه " نُزّلت الآيات والجمل التى هى من أجزاء السورة منزلة المحلات والبيوت فى البلد، ولولا هذا التنزيل لم يصح هذا التشبيه"

وقد يأتى البيان القرآنيّ مطلقا كلمة (سورة) على جملة من الآيات مثلما جاء إطلاق كلمة (قرآن) على بعضه، يقول الله عز وجل:

{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:86)

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98)

فدلَّ على أنَّ التَّحدَّي غيرُ مقصورٍ على السُّورة بمعناها الاصطلاحى بل يكون التحدى بما كان فيه من الآيات بعض خصائصها من تمام المعنى ومن الاختصاص بمعنى كليّ وغرض تام، كما تراه فى آية الكرسيّ مثلا، فإنَّ مثل هذا القدر من القرآن الكريم فيه من الإعجاز ما يقع به التحدي.

وغير خفى أنَّ الذي يهمنا هنا ليس أمر التّحدذي ن بل يهمنا أمْرُ الإعجاز البيانِيّ للقرآن الكريم،وهولا شكَّ متحققٌ بآية تامذة المعنى ن فما فوقها.

وإذا ما تحقق الإعجاز الذى هو البرهان القاطع على صحة النبوة بسورة أو ما دونها من الآيات ذوات الغرض الخاص والمعنى التام، فإنَّ الإعجاز مراتب بعضها فوق بعض من حيث مقتضياته الكامنة والشَّاخصة فى بيانه ونظمه، فإنَّ خصائص البيان والنظم المعجزة فى آيات معدودات من سورة ما ليست على قدرها فى السورة كلّها، وليست على قدرها فى القرآن الكريم كله

إنَّ الإعجاز ليس خاصا بالسورة بمعناها الاصطلاحى، ولكنَّها ذات خصائص بيانية نظمِيَّة لا تكون فيما دون السورة بمعناها الاصطلاحى

لو أنَّنا استقصينا آيات موضوع ما فى القرآن الكريم وبلغت عشرات الآيات كآيات التوحيد مثلا، فإن هذا القدر من آيات التوحيد، وإن كان معجزا يقع به البرهان القاطع على صحة النبوة، فالإعجاز فى هذا القدر من آيات التوحيد لا يكون على قدر الإعجاز فى أقصر سورة من سور القرآن الكريم لِمَا اشتملت عليه السورة من خصائص بيانية ونظمية لن تحقق فى مجموع آيات التوحيد فى القرآن الكريم كلّه.

لهذا فإنى أزعم أن التَّدبّر البيانى والبحث عن المعنى القرآنى فى سياق السورة هو أكرم وأوفر أنماط البحث عنه عطاء.

وهذا لايعني أنَّ تدبر المعنى القرآني الواحد في مواقع عديدة في السياق القرآنيَّ ليس عليًّا بل لكل منهاجٍ عطاءه ومقْتَضِياته وزاده ووسائله. ولكنِّي هنا بصدد النظر في مراحل تدبر المعنى القرآنيِّ في سياق بناء السورة القرآنية.

ص: 24