المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع: التحليل البياني - العزف على أنوار الذكر

[محمود توفيق محمد سعد]

الفصل: ‌الفصل الرابع: التحليل البياني

‌الفصل الرابع: التَّحْليلُ البَيَانيّ

لكلمات وجمل وآيات السورة

***

بين يدي السَّفَر:

الذى يحسن إدراكه أنَّ البناء الكليّ سورة ينبثق من معايشته ومخادنته مزيجٌ من التصورات الفكرية والانفعالات القلبيّة والاشراقات الروحيَّة، وينتهى الاستغراق فى الترتيل المصحوب باليقين بقدسية البيان المفجّرِ تلك التّصورات والانفعالات والإشراقات إلى اكتساب توازنٍ نفسيّ وقلبيّ وروحىّ مشرق.

هذا التوازن ضرورة لإنجاز الرؤية النظرية لمعالم التحليل للسورة، فانَّ تلك الرؤية غير كافية للاقدام العَزْمِيّ على تحقيق ذلك التحليل واستثماره، ذلك أنَّ هذا التحقيق والإنجاز حمل ثقيل لا يصبرُ عليه الا مستغرِقٌ فِي لذة المخادنة ونوارنية الاشراق الروحيّ.

وهذا التوازن يعصم صاحبه من الذاتية الخالصة، لأنَّه توازنٌ موضوعيٌّ؛ لانبثاقِهِ من الاستغراق فى الترتيل الواعي المستبصر.

***

التحليل البيانى للسورة هو القادر على إضاءة السورة داخلياً فتشرق مضامين الهدى منها فى نفوسنا على نحو يحقق إكتساب أمرين:

الأول: المضمون التشريعي ببعديه: العقدي والسلوكي، والمضمون التثقيفى متوازيين أو متمازجين.

الأخر: القناعة والرضا القلبيّ المثمر زهدًا في كلّ ما يشغل عن التلذّذ بالعبودية لرب العالمين، فإنَّ لها لذة هي الثواب الحقيقيّ للإخلاص في كلّ طاعة مما يجعل ذائقها في الفردوس على الرغم من أنَّه قد يكون حنيئذٍ أشعث أغبر ذا طمرين مدفوعًا بالأبواب لايؤبه له.

ص: 141

وكلُّ أنحاء التدبر للسورة المفتقرة إلى منهج التحليل البيانى للسورة عاجزة عن تحقيق هذين الأمرين معاً مما يحقق لتلك الأنحاء عجزاً أو تقصيراً فى النصيحة لكتاب الله عز وجل،فإنّ رسالة المتدبر ليست مقصورة على إستكشاف المضمون التشريعيّ التثقيفى بل ذلك فريضة استنبات القناعة والرضا القلبي بذلك المضمون ثم استثماره فى توليد الطاقة الإنجازية لذلك المضمون، فلا قيمة لاستكشاف معالم التشريع والتثقيف بل هى له مجموعاً إليه استيلادُ دوافع الإنجاز والإتقان.

وإذا ما عجز التحليل البيانى للسورة عن استيلاد دوافع الانجاز والإتقان فى نفس المتلقي، فانَّ مردَّ ذلك إلى نقص فى تناول عناصر السورة بالتحليل أو إلى خلل فى تصور معالم ذلك التحليل أو فى توظيف ذلك التصور توظيفاً متلائماً مع شخصية السورة التى هى مناط التحليل، فإنَّ منهاج التوظيف لتلك المعالم تختلف من سورة إلى أخرى، ولا مسوغ البتة إلى إسقاط ما يصلح لسورة ما على سائر السور الأخرى، لما بينها من تغاير مضموني وبنائي يرمى فى سياق كليّ إلى غاية واحدة.

ليس التحليل البيانى للسورة إلَاّ قراءة إنتاجية فاحصة كلَّ عناصرها فحصاً كاشفاً عن قيمة كلِّ عنصر وعلاقته فى تشكيل الوجود الدلاليّ للسورة مثلما كان له قيمة فى تشكيل وجودها اللغوى المقروء أو المسموع.

هذه القراءة يجتاز بها صاحبها مرحلة تحويل المسطور على وجه صحيفة إلى مسموع مَنْغُوم فى أذن سامع، فذلك معنى عام للقراءة يشارك فيه الدهماء أهل العلم.

ص: 142

وإنّما هى قراءة قائمة بإخضاع جميع عناصر المقروءة فى وجود الكليّ للاستبصار: فهى موقف استبصاري إنتاجي من السورة، وهذا يقتضِى من صاحب هذه القراءة التحليلية للسورة أن يتسلل بوعيه فى الوجود اللغوي للسورة يجوس خلاله ويخادنه، فيمتزج وعيه بالسورة مثلما تمتزج السورة بوعيه، وهذا ما يجعل المعنى القرآنيّ للسورة فى صورته الإدراكية لا القصدية يختلف باختلاف وعى المتلقى، فانَّ ثَمَّ علاقةً جدلية بين السورة والمتلقي قائمة على التَّبادل، فهو يأخذُ من السورة مقومات وجودها اللغوى، ويضيف إلى وجودها الدلاليّ من ذاته القائمة بالإيمان والتعلم العميق الفسيح والخبرة وملكة التذوق والاستبصاروالالتزام السلوكيّ وغير ذلك.

وإنى أزعم أنَّ التحليل البيانيّ للسورة القرآنية سبيلٌ من سبل حسن القيام بالاستجابة لأوّل أمر إلهيّ فى دعوة الإسلام

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1)

فما أظن أنَّ الوحى كان يطلب من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حينذاك أن يقرأ قراءة تُحِيلُ المسطور مسموعاً، فإنَّه صلى الله عليه وسلم ما كان إلَاّ أميًّا لا يملك تلك الطاقة المُحِيلة ما هو مسطورٌ إلى مسموع، فضلاً عن أنّه لو كان ذلك هو مراد الأمر بالقراءة فى أول آية نزلت لما كان سيدنا " جبريل " عليه السلام بحاجة إلى أن يأخذ بالنبي صلى الله عليه وسلم فيغطه حتى يبلغ من النبى صلى الله عليه وسلم الجهد ثلاث مرات، فانَّ مثل هذا لا يليق أن يُفعل حينذاك إلَاّ إذا كان المأمور به شيئاً غير ذلك، تفسّره لنا تَهْيِئَةُ النبي صلى الله عليه وسلم نفسه له بالاعتكاف والتعبد والتحنّث فى الغار والاعتصام مما يشغله، ويهوش عليه من حركة الحياة المائجة الماجنة تهيئة بتوفيق من ربه عز وجل الذى خلق واصطفى، ودونما قصد منه صلى الله عليه وسلم.

ص: 143

ما أُمر به هو قراءة استيعاب للكون محسوسه ومعقوله استيعاباً يُفعم النفس،ويسيطر على منهج السلوك المعرفيّ والحركة المشكّل وجوداً جديدا للإنسان به يحقق رسالة الاستخلاف العظمَى ورسالة الشهادة على الأمم الأخرى، فتنال به الأمة المحمديّة مقام الخيريّة.

أزعم أنَّ القراءة التحليلية للسورة القرآنية سبيل إلى تحقيق تلك القراءة المأمور بها فى سورة العلق.

***

- منزلة الذاتية فى التحليل البياني

البيان القرآنيّ وحى من الله سبحانه وتعالى لم يجعله خاضعاً لسلطان ما يُعرف ويشْهرُ من معايير وقواعد بيان الانسان؛ لأنَّ ما كان من الله عز وجل لا يخضع لما كان من الانسان على الرغم من أنه اتخذ لغة الانسان مظهراً للقرآن الكريم حتى يبين لهم الذى يختلفون فيه، ومن ثم لا يصلح كل ما استنبطه العلماء من قواعد من بيان الإنسان أن يتخذ معياراً أو نموذجاً يلتزم به فى التحليل البيانى للسورة، فانَّ قواعد البيان الإنسانيّ لا تَعْدُو الاسترشاد بها والاهتداء بضوئها مما يمنح أو يفرض على القائم بالتحليل البياني للسورة أن يكون منهجه التحليلي وحركته الإنجازية لذلك المنهج متناسقين مع الواقع البياني لكلّ سورة من سور القرآن الكريم وفقاً لمعالم شخصيتها البيانية التى هى الصورة الحسية لشخصية مضمونها التشريعيّ والتثقيفى، وإنجاز ذلك حمل جد ثقيل.

وكل ما يذكره أهل العلم من معالم التحليل البيانى فى مثل هذا إنَّما هو مفاتيح أبواب طرائق مديدة فسيحة إلى عالم التحليل البيانى للسورة فلا يكاد يحاط بأقطاره المترامية.

ولهذا كان للذاتية الرشيدة الثَّقِيفة أثرٌعظيمٌ فى استيلاد طرائق تحليلية متناسقة مع واقع كل سورة.

ص: 144

وإذا ما كان نقدة الأدب يذهبون إلى أنَّ أولى قواعد المنهج العلمى هى أن تخضع نفوسنا لموضوع دراستنا لكى تنظم وسائل المعرفة وفقاً لطبيعة الشىء الذى نريد معرفته وأنَّنا نكون أكثر تمشياً مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثيرية فى دراستنا شريطة أن تخضع هذه التأثيرية للضبط والمراجعة - إذا كان هذا فإن الأمرَ مهمٌّ فى التحليل البيانيّ للسورة لأن إخضاع نفوسنا لها سوف يفجر فينا طاقة معرفية ذوقية تدرك ما لا تمكن العبارة عنه، لكنَّه يؤثر تأثيراً نافذاً فى شتى المجالات التى تمكن العبارة عنها، فالذَّوق الذى هو دعامة أساسية من دعائم التحليل البياني هو الذوق المتحدر من عدة روافد موضوعية يمكن اكتسابها بالمدارسة والدُّربَة، ومن ذاتية شخصيته تكتسب من سلوك إيمانى ناصح والتزام حركى خالص.

وإذا ما كان من جوهر الأخذ بالذوق الذاتي الرشيد بالثقافة والسلوك الحركيّ أن يكون معللاً فانّه مما لا يخفى أنَّه ليس بلازم أن يكون ذلك التعليل موضوعياً جلياً فى كل أمر.

المهم أن يقوم المنهاج على ثلاثة:

التحليل

والتأويل

والتعليل

وهذه المرتكزات ليست مما استحدثه التفكير البياني والنقدي بل ذلك أمرٌ قد حثَّ عليه وأكّده الأسلاف في أسفارهم:

تراه جليًا عند "عبد القاهر الجرجانيّ" في فواتح (دلائل الإعجاز) :

<< لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياسا وأن تصفها وصفا مجملا وتقول فيها قولا مرسلا،بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصّل القول،وتحصّل،وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدَّها واحدة واحدة وتسميها شيئا شيئا وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الأبريسم الذي في الديباج وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع وكل آجرة من الآجر الذي في البناء البديع >> (1)

(1) - دلائل الإعجاز- تح: شاكر ص 37

ص: 145

فهذا دالٌ دَِلالةً بيّنَةً على أن الاستقصاء والتحليل دعامتان رئيسيتان في منهج التفكير البيانيّ، فالإجمال، والاكتفاء بظاهر البيان مما يتحرز منه التفكير البياني، ولذا يُذَكِّرُ به <<عبد القاهر>> في مواضع عديدة من كتابه؛ ليكون المتدبر والمتذوق عغلى ذكر من أهميته.

يقول:<< واعلم أنك لا تشفي الغلة ولا تنتهي إلى ثلج اليقين حتى تتجاوز حد العلم بالشيء مجملا إلى العلم به مفصلا،وحتَّى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه، وحتَّى تكونَ كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته ومجرى عروق الشجر الذي هو منه >> (1)

تأمل قوله:<< لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه....>> يتبيّن لك عظيم أهمية الاستقصاء في التحليل البياني ليقف المرء على ما هو مكنون في البيان من خصال البلاغة والبراعة والبيان.

ولهذا تجد الإمام يهديك في مفاتح " الدلائل" إلى نهج في التتبع والتقصي، وهو يبين لك أن فضائل الكلم من علائقها ومواقعها:

<< وهل تشكُّ إذا فكرت في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود:44)

فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقربها إلى آخرها وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها.

(1) - السابق:260

ص: 146

إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدَّت من الفصاحة ما تؤدِّيه، وهي في مكانها من الآية قل <<ابلعي>> واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها وكذلك فاعتبر سائر ما يليها.

وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أنَّ مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان النداء بـ " يا " دون " أي " نحو يا أيتها الأرض، ثم إضافة "الماء" إلى " الكاف" دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أن أتبع نداء الأرض، وأمرها بما هو من شأنها، ونداء السماء، وأمرها كذلك بما يخصها، ثُمَّ أن قيل:" وغيض الماء "، فجاء الفعل على صيغة " فُعِلَ " الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر، ثُمَّ تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى:" قضي الأمر"، ثُمَّ ذكرماهو فائدة هذه الأموروهو " استوت على الجودي "، ثم إضمار السفينة قبل الذكر، كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثُم مقابلة قيل في الخاتمة بـ" قيل " في الفاتحة

أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق، أم كلّ ذلك لمَّا بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب >> (1)

هو في صنيعه هذا كمن يعلمك كيف تصطاد، فلا تفتقر إلى غير جهدك من العباد.

وتراه يبينه لك في غير البيان القرآني حتّى لا تظنّ أن ذلك فريضة في تدبر القرآن الكريم،وليس فريضة في تذوق الشعر، يقول:

(1) - السابق:45-46

ص: 147

<< اعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل، ثُمَّ جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصا دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، وتأمله فإذا رأيتك قد ارتحت، واهتززت، واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحية مِمَّ كانت، وعند ماذا ظهرت، فإنَّك ترى عيانا أن الذي قلتُ لك كما قلتُ.

اعمد إلى قول البحتري:

بَلَوْنا ضَرائبَ مَن قَد نَرَى * فما إن رأينا لفتحٍ ضَريبَا

هُوَ المَرْء أبدت له الحادثات * عزْمًا وَشِيكًا ورأيًا صَلِيبا

تنَقَّل فِي خُلُقَي سُؤدَدٍ * سَماحًا مُرَجَّى وبَأسًا مَهِيبَا

فكالسّيفِ إنْ جِئتَه صارِخًا * وكالبَحْرِ إنْ جِئتَه مُسْتَثيبَا

فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازا في نفسك، فعُد، فانظر في السبب، واستقص في النظر،فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر، وعرّف ونكَّر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرَّر، وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كلِّه، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة.

أفلا ترى أنَّ أول شيء يروقك منها قوله:<< هو المرء أبدت له الحادثات >>، ثم قوله:<< تنقل في خلقي سؤدد >> بتنكير <<السؤدد>>، وإضافة <<الخلقين >> إليه، ثم قوله:«فكالسيف» وعطفه بـ" الفاء" مع حذفه المبتدأ؛ لأنَّ المعنى لا محالة: فهو كالسيف، ثم تكريره "الكاف " في قوله:«وكالبحر» ، ثُمَّ أنْ قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه، ثم أنْ أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله:«صارخا» هناك و «مستثيبا» هاهنا؟

لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت أو ما هو في حكم ما عددت فأعرف ذلك.

وإن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى، فانظر إلى قول " إبراهيم بن العباس ":

ص: 148

فَلوْ إذْ نَبَا دهْرٌ وأنْكر صاحبٌ * وسلط أعداءٌ وغابَ نَصيرُ

تكونُ عن الأهوازِ داري بنجوة * ولكنْ مقاديرٌ جرَتْ وأمورُ

وإنّي لأرْجو بعد هذا محمدا * لأفْضَلَ ما يُرجَى أخٌ ووزيرُ

فإنّك ترى ما ترى من الرونق والطَّلاوة ومن الحسن والحلاوة، ثم تَتَفَقَّدُ السبب في ذلك، فتجده إنّما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو:«إذ نبا» على عامله الذي هو: «تكون» وأن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنحوة إذ نبا دهر، ثم أن قال:" تكون" ولم يقل: "كان"، ثُمَّ أن نكر "الدهر" ولم يقل:"فلو إذ نبا الدهر"، ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد، ثم أن قال:"وأنكر صاحب"، ولم يقل:" وأنكرت صاحبا"

لا ترى في البيتين الأولين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حسنا في النظم وكله من معاني النحو كما ترى.

وهكذا السبيل أبدا في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم وفضل وشرف أحيل فيهما عليه» (1)

يهمنا – هنا- قوله:" واستقص في النظر" وقوله:" تَتَفَقَّدُ السبب" يدلك هذا دلالة بينة على وجوب الاستقصاء في التحليل والتذوق (2)

(1) - دلائل الإعجاز: 85-86

(2)

- لا ريب في أنَّ من شاء الاستدراك على " عبد القاهر " في استقصائه هنا كان له إلى ذلك سبيل، فإنه كما ترى لم يستوف ولم يستقص، بل ثَمّ أمور مهمة في الصورتين الشعريتين نفتقِرُ إلى تذوقها.

ص: 149

المهم أن هذا الاستقصاء في التحليل والتّدبر والتّذَوّق لابدَّ معه من تعليلٍ وتأويلٍ وإبانةٍ عن ذلك بلسان مبين، فإنَّ الاستقصاء في تحليل وتدبر البيان لا يعدو مرحلة التذوق الانطباعي الذي قد لا يستفاد منه. يقول الإمام:«لا بُدَّ لكلِّ كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة ومعان شريفة» (1)

فالعلم بجهة الحسن والاستجادة وعلة ذلك وسببه، ثُمَّ الاقتدار على الإبانة عن ذلك الذي أدركته بفراستك البيانية؛ليكون تدبّرك وتذوقك موضوعيًا علميًا متطهرًا من الذاتية المجردة التي لا يستفاد منها غالبًا في باب العلم والتعلم، ولا تهدى إلى الآخر ما به يسطيع السيرعلى الطريق الذي سلكت، فإنَّ البلاغيّ والناقد من رسالتهما فتح السبل إلى الولوج في النص، وإغراء القارئ بمخادنة النّص بالإشارة إلى بعض من جليل مكنونه.

***

وتبقَى الإشارة التذكيرية بأمرين رئيسيين في منهاج التحليل البياني للقرآن الكريم في سياق السورة:

? الأول: العناية بتحليل مشتبه النظم (التصريف البياني للمعنى القرآنيّ)

? الآخر: العناية بالتوجيه البياني للقراءات القرآنية.

هذان أمران لا تستقيم دراسة تحليلية لبيان القرآن الكريم غفلت عن أحدهما أو تساهلت في العناية بالوفاء ببعض حقهما.

(1) - السابق: 41

ص: 150

ينتبه بعض الباحثين إلى الأمر الأول «التصريف البياني للمعنى القرآني» فيقرنون النظر فيما تشابه نظما وتركيبا

مع ما هم بصدد تحليله تحليلا بيانيا، وقد كان لسلفنا مزيد عناية بذلك، فأفردت أسفار جليلة في هذا كما تراه في كتاب " درة التنزيل وغرة التأويل " المنسوب إلى " أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي " (ت: 420هـ) ، وكتاب:" ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من أي التنزيل " لأبي جعفر احمد بن الزبير الغرناطي" (ت: 708هـ) وهما من أهم ما أفرد السلف من الأسفار في هذا الباب، وقد فاتهما أشياء غير قليلة (1)

والأمر الآخر يغفل عنه غير قليل من الدارسين على الرغم من الزعم بأنّ مناط درسهم بلاغة القرآن الكريم، والقرآن الكريم ليس بالمقصور على ما جاء في قراءة حفص عن عاصم، وإن كان ترتيل جمهور أهل القرآن الكريم بها، علينا أن نقوم ببعض حق تدبر وتأويل بلاغة القرآن الكريم في وجوه الترتيل الأخرى، وهي متواترة تواترًا لايقل البتة عن تواتر قراءة حفصٍ عن عاصم، فليس من العدل أن نقصر عنايتنا بوجه من القراءات المتواترة دون غيرها مما تواتر مثلها.

(1) - لكثير من المفسرين عناية بتوجيه بعض مشتبه النظم في مواضع من تفاسيرهم، وقد برزت عناية " البقاعي" (ت: 885هـ) بهذا في تفسيره، ولو جمع كلامه في هذا لكان سفرًا، ولو حلل صنيعه لرأيت له منهاجًا في التأويل غير الذي تراه عند " ابن الزبير" في " ملاك التأويل".

ص: 151

التوجيه البياني للقراءات القرآنية فريضة في كل بحث يعمد إلى تدبر البيان القرآني الكريم: تحليلا وتأويلا وتعليلا، سواء ما كان مجال القراءة فيه متعلقا بالكلمة مادة وصيغة وموقعا، وما كان متعلقا بالنظم والتركيب والتصوير والتوقيع والتغني. (1)

***

التحليل البيانى بين التفكيك والتركيب:

التحليل البيانى يعنى بفحص كل عنصر وسبره وهذا يقتضى أن يتناول كل عنصر أولاً على حدة ثم فى سياقه الجزئى وينتهى إلى النظر فيه فى سياقه الكلى.

(1) - في كلية اللغة العربية بالقاهرة دراسة للعالمية موضوعها (التوجيه البلاغي في القراءات القرآنية) أعدها الدكتور: عبد الله عليوه – رحمه الله سنة 1986، ونشر الدكتور:عبد المنعم الأشقر بحثًا بعنوان (البلاغة في القراءات الشاذة عند ابن جني) سنة 1990، ونشرالدكتور: محمد إبراهيم شادي دراسة بعنوان (مدخل القراءات القرآنية في الإعجاز البلاغي) سنة 1987، ومن أوسع تلك الدراسات دراسة الدكتور:أحمد سعد محمد، وعنوانها (التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية) نشره سنة 1418- مكتبة الآداب بالقاهرة

ص: 152

فهو لا يمزق النَّص ويجعله أشلاء، ثم يلقى بها، بل هو يحلل النَّصَّ إلى عناصره؛ ليفحص خصائص هذه العناصر وسماتها، وليفحص ما ببينهما من علائق ووشائج تحقق لها التعاون والتكافل فى إقامة النَّصَّ وإكتماله، فالتحليل البيانيّ لا يتوقف عند تجزئة النص وتفكيكه بل ينتهى إلى إعادة جميع العناصر بعد فحصها إلى مواقعها ليقوم النَّصُّ مشرقاً من بعد أن استكشف التحليل خصائصه فى عناصره وفى بنيته الكليَّة، ولهذا لا يحسن فى التحليل البيانى أن يقوم على النظر فى مسائل أسلوب ما مجموعة من واقعها فى النص معزولة عن سياقها، بل الأجدى أن يعتمد التحليل على النظر فى آيات كل معقد مجتمعة ليحلِّل كلَّ عنصر وتركيب وأسلوب فى سياق ذلك المعقد ثم فى خاتمة كل فصل تصنف الأساليب والخصائص التي إشتمل عليها ذلك المعقد دون أن نجعل تصنيف البلاغيين أساليب البيان فى علومه الثلاثة: معانى وبيان وبديع هى أساس التحليل والتصنيف ذلك أن صنيع علمائنا البلاغيين كان معنياً بالجانب التربوى فى ذلك التصنيف تقريباً لذلك العلم إلى طلابه، ولم يكن تصنيفاً يفصل بين الأساليب وفقاً لخصائص بيانية لذلك تراهم يحرصون على التصريح بأن علم المعانى كالجزء من علم البيان، فإنَّ كلَّ مسألة من مسائل علم البيان هى قائمة على مسائل علم المعانى، كما أن كل مسألة من مسائل علم المعاني تقوم بالتصوير، وكذلك تستطيع أن ترجع مسائل علم البديع إلى علم المعانى وعلم البيان، ذلك أنَّها قائمة على النظم أيضا الذى هو المحيط بعلم المعانى وهو فى الوقت نفسه عمود علم البلاغة كلّها، وعلم البلاغة كلُّه هو علم التصوير بالكلمة.

ولذلك ترى حرص عبد القاهر على التصريح بعلاقة الاستعارة وهى رأس التصوير البيانى أو سنامه بالنظم وأنها لم يتحقق لها الحسن معزولة عن النظم. وكذلك حرصه على التصريح بعلاقة الجناس والسجع والطباق وهى سنام البديع بالنظم.

ص: 153

وهذا يقتضى منا ألا يكون التحليل البيانى منتهجا الى تصنيف مسائل التقديم

والتشبيه

والتجنبس

الخ كل فى باب بل يحلل كل أسلوب فى سياقه ثم تجمل خصائص كل معقد المعنوية والأسلوبية حتى تستكشف الأساليب التى قامت ببناء معاني ذلك المعقد وتصويرها وتحبيرها حتى إذا فرغ التحليل من معاقد وفصول السورة كلّها استطاع أن يصنف الأساليب فى وحدات بل استطاع أن يستكشف الأساليب الرئيسية في السورة كلّها والأساليب المساعدة وأن يفسّر ذلك فى ضوء المقصود الأعظم والأغراض الكلية التى تندرج فى ذلك المقصود. (1)

***

- مجال التحليل البيانيّ للسورة.

السورة القرآنيّة فى وجودها اللغوى مكونة من عدة عناصر متنوعة، ولكلِّ عنصر صورة صوتية أفرادية أو تركيبية ودلالية ذهنية أو تركيبية أو سياقية وأنماط تكوينية وصور وظلال وعلاقات ووشائج.

وإذا ما كان أىّ بيان يتحقق وجوده الكلّيّ من خلال تمازج عناصره اللفظية والمعنوية أو التركيبية تمازجاً لا يتأتى معه أن يقوم عنصرما بعملِه منعزلاً عن بقية العناصر، أوأن يُستبدل به عنصرٌ أخر، فإنَّ دراسة هذا البيان لا تتأتى إلا باستقصاء التحليل الذى يقتضى دراسة كلّ عنصر فى ذاته وفى وجوده السياقي الجمعيّ.

ولهذا التحليل البياني لصورة المعنى القرآنيّ المتعبّد بترتيلها في السياق السوريّ مجالات عديدة، وهي مجالات متصاعدة في تحقيق الوجود النّصي المكتمل لبناء السورة.

(1) - التحليل البيانى أكثر مناهج البحث اقتضاء للفهارس المفصلة الشاملة لأن اعتماده على النظر فى المعاقد، وتجنبه فصل الأساليب عن سياقاتها يجعلنا فى حاجة ماسة إلى فهارس تفصيلية تبين لنا موضع كل شئ فى أثناء ذلك التحليل.

ص: 154

كلّ مجال منها يُقريك تدبُّرُه زادًا إلى تدبّرِ ما بعده من المجالات المتصاعدة، بل إنك لتجد نفسك - وقد حسبت أنك قد فرغت - تملك من الزَّاد ما يُغريك بأن تكونَ الحالّ المرتحل في تدبُّرك وتذوقك، فإذا بك وقد أردت أن تحط الرحال، تسرج الجياد إلى ما بدأت به، فتستأنف التدبر والتذوق فإذا سُبُحات العطاء تتوافد وتترادف على قلبك.

وتلك َمَا يُلَقَّاهَا إلَاّ الَّذِينَ صَبَرُواعلى المجاهدة في التحليل والتَّدبُّر والتَّذوِّق وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الطَّبْعِ والعِلْمِ والتقْوى.

ومجالات التحليل البيانيّ للسورة القرآنية إذا ما شئنا حركة من الأدنَى إلى الأعلى، والجزئي إلى الكلّى تبدأ بتحليل المفردات في سياقها التركيبي، ثُمَّ تحليل الهيئة التركيبية للبيان، ثُمَّ الصورة البيانية، ثُمَّ فنون التوقيع والتغنّي التي بإتقانها يتحقق لصاحب القرآن الكريم شيءٌ من فضيلة تحسينه القرآن الكريم بترتيله في قلوب المتلقين، وذلك وجه من وجوه النَّصيحة للقرآن الكريم ولعامة المسلمين وخاصتهم.

***

- أولاً: التحليل البيانيّ للمفردات

وكنت قد حدثتك عن المعجم اللغوي للسورة،وأثره في تحقيق وتحرير مقصود السورة التي أنت بصدد تدبُّرها، فإنَّ «أوّل ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيلُ معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه،كنحصيل اللبِنِ في كونه أوّل المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه

" (1)

(1) - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني - تح:محمد سيد كيلاني - ص 6 - ط: مصطفى الحلبي -1381- القاهرة

ص: 155

ومن العَليّ هنا أن ترصد المفردات في كلّ سورة رصدًا كاملاً يشمل أدوات المعاني والأسماء والأفعال، وذلك من قبل أن يتم إعداد معجم كلمات لكلّ معقد من معاقد السورة على حدة؛ ليتبين للمتفقه معانيها ما بين معاقد كل سورة من المجموع الكليّ لكلّ صنف من كلمات السورة، فإذا ما جئنا إلى سورة البقرة مثلا رصدنا أوَّلاً جميع كلماتها، وهذا ليس بالعسير اليوم، وقد كثرت وسائل ذلك ويُسِّرت، ثُمَّ فصّلنا ما فيها من أدوات معاني كل أداة على حدة، ثُمّ كل مادة، ونبين ما كان اسما وما كان فعلا وما كان من الأفعال ماضيا وما كان غير ذلك، وما هو مجرد وما هو مزيد، ومن الأسماء ما هو جامد وما هو مشتق، وكل مشتق يصنف وفق نوع اشتقاقه.

وإعداد هذا المعجم مع كلِّ معقد ونجم ثم محاولة المقارنة بين معاجم كل إنَّما يعين على إدراك ما لكل معقد من تميز وما فى كلٍّ من العرى الوثقى التى يتواشج بها لغوياً وتركيباً ودلاليا مع المعاقد الأخرى فى السورة، فانَّ حضور مادة لغوية ما فى المعاقد كلها أو أكثرها قد يكون آية من آيات الإعتلاق والتناسج بين فصول السورة ومعاقدها، لهذا فإنِّي أوثر إعداد معجم لكلِّ معقدٍ بعد المعجم الكليّ للسورة، ثم مقارنته ببعضه واستبصار ما بينه من تحالف وتخالف كميٍّ ونوعيٍّ ودلاليٍّ.

ومن البين السافر أنَّ التحليل البيانيّ لمفردات السورة يعمد فيه صاحبه إلى محاولة استبدال عناصر لغوية مقاربة بعناصر لغوية تشكلت منها السورة، ثم موازنة ما استبدال بما استبدل به ليتأتى له استبصار بعض معالم خصائص تلك العناصر اللغوية التى تنفرد بها،ولا سيَّما اذا ما كانت تلك الكلمات المستبدلة بغيرها مما له وجود فى سياق سورة أخرى.

ص: 156

وقد رأيت " عبد القاهر " يهديك إلى شيْءٍ من هذا، وهو يلفت بصرك إلى تدبر قول الله سبحانه وتعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ....} (هود: من الآية44) وكان يوقفك لتنظر في مادة الكلمة وصيغتها وموقعها وعلائقها بأخواتها....

وغير خفى إنَّه إذا ما كانت الكلمات القرآنية هى كلمات العربيّة من قبل تنزل القرآن الكريم، فلم يبدع كلمات لم تعرفها العرب، فانَّ بلاغة القرآن الكريم ليست فى إنَّه جاء بما لا تعرف العرب من كلمات بل بلاغته فى أنه نسج بيانه من كلمات تقاذفتها ألسنة العرب من قبل، وبرغم من هذا كان البيان القرآنيّ بما اصطفاه من مفردات المعجم العربيّ ونسجه لها معجزاً حتّى إنك لو شئت أن تقيم كلمة غير قرآنية مقام كلمة قرآنية بينهما تآخ في المعنى والأداء لتبين لك فرق ما بينهما وفضل ما جاء في البيان القرآنِيّ على ما اجتهدت في اصطفائه من المعجم العربي على اتساعه.

يقول " أبو محمد ابن عطية الأندلسي "(ت: 546هـ) :

" كتابُ اللهِ لو نزعت منه لفظةٌ، ثُمَّ أُديرَ لسان العربِ فِي أن يوجد أحسن منها لم يوجد "(1)

وكان من قبله قد أعلمك " عبد القاهر " أنَّ العرب في عصر المبعث المحمّديّ قد فتشوا القرآن الكريم تفتيشًا مدققًا فما وجدوا فيه كلمةً غيرُها يعدلها فضلا عن أن يفضلها:

(1) - ابن عطية:المحرر الوجيز: ج1ص 39 – ط: المجلس العلمي بفاس – تونس: 1395

ص: 157

«أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه وبدائع راعتهم من مبادىء آيه ومقاطعها ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كلِّ مثلٍ ومساق كلِّ خبرٍ وصورة كلِّ عِظةٍ وتنبيه وإعلام وتذكيرٍ وترغيبٍ وترهيبٍ، ومع كلِّ حجة وبرهان وصفة وتبيان، وبهرهم أنَّهم تأمَّلوه سورة سورة، وعُشْرا عشرا،وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى وأخلق بل وجدوا اتساقا بهر العقول، وأعجز الجمهور،ونظاما،والتئاما، وإتقانا، وإحكاما لم يدع في نفس بليغ منهم ولو حك بيافوخه السماء موضع طمع حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول وخلدت القروم فلم تملك أن تصول» (1)

ومن قبل ذلك بقرن من الزمان قال "أبو سليمان الخطابيّ" إن حسن اختيار الكلمات من عمود بلاغة الخطاب عامة، فكيف بذلك في بلاغة القرآن الكريم: «.. اعلم أنَّ عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كلّ نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخصّ الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إمَّا تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإمَّا ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة " (2)

تأمل قوله: " إذا أبدل منها....إلخ " تدرك أثر اختيار المفردات من حيث هي مادة أو صيغة في المعنى، فقد يفسد المعنى العقلي، وقد يفسد المعنى البياني الذي عبر عنه بذهاب الرونق.

(1) - دلائل الإعجاز:39

(2)

- الخطابي:بيان إعجاز القرآن: ص 29 – ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – تح: محمد خلف الله وزغلول سلام – دار المعرف بمصر:1387

ص: 158

ولعلَّ هذا مما استمدّ منه "عبد القاهر" تبينه الطريق إلى تحقيق مقومات تمام بلاغة الخطاب في قوله:

«ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات [البلاغة والقصاحة..] وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيماله كانت دلالة ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب وأولى بأن تطلق لسان الحامد وتطيل رغم الحاسد

ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية» (1)

تأمل قوله:" ويختارله اللفظ

" كيف أنّه أوجب في اللفظ المختار خمس صفات:

أن يكون أخصّ بالمعنى.

وأكشف عنه.

وأتم له.

وأحرى بأن يكسبه نبلا.

ويظهر فيه مزية.

فعبد القاهر كما ترى يهديك إلى أن المفردات التي منها يقوم بناء الخطاب البليغ المتسم بحسن الدلالة وتمامها وتبرجها في صورة بهية معجبة مفردات ليس لها بدائل تقوم مقامها، فليس ما يعرف بالترادف الذي تقوم فيه كلمة مقام أخرى في الخطاب البليغ ثُم لا يكون ثَمَّ أثر في بلاغته، وهذا ما يجعل المثابرة في التحليل البياني لمفردات الخطاب أساسًا يبنى عليه غيره.

إصطفاء القرآن الكريم كلماته من مفردات معجم العربية إنَّما كان ناظراً فيه إلى كثير من مكونات الكلمة المصطفاه من صوت وصيغة ومدلول ودلالة اكتسبها من روافد عدة، فمنحتها قدرة على أن تتناسج مع مفردات أخرى فى سياقات عديدة على أنحاء متنوعة.

(1) - دلائل الإعجاز: 43

ص: 159

فتحليل السورة يستوجب النظروالاستبصار لمثل تلك الاصطفاءات والاستخدمات القرآنية لهذه الكلمات، ومن هنا عُنِيَ أهل العلم بالقرآن الكريم بمحاولة استكشاف تناسق وتناسب الكلمة القرآنية فى سياقها من وجوه عديدة: من حيث صورتها الصوتية، وصورتها التكوينية ومن حيث جذرها الاشتقاقى (1)

ومنهم من عُنِيَ بالصورة الكتابية للكلمة القرآنية وكيف أن إخراج بعض كلماته فى صورتها الكتابية على خلاف مقتضى الظاهر المعهود فى النحو الكتابى للعربية إنَّما يكون عنصراً فى بناء المعنى وتصويره وتحييره.

(1) - يحسن بك أن تخادن في هذا الأسفار الآتية: البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري لشيخنا أبي موسى، و" دراسات جديدة في إعجاز القرآن " للدكتور: عبد العظيم المطعني " و"الإعجاز البياني في صيغ الألفاظ " للدكتور: محمد أمين الخضري " والتفسير البياني للقرآن الكريم للدكتوره:"عائشة عبد الرحمن" وكتاب" الإتيان والمجيء: فقه دلالتهما واستعمالهما في القرآن الكريم، للدكتور محمود حمدان و" النظم القرآني في آيات الجهاد للدكتور ناصر الخنين "

ص: 160

ومثل هؤلاء ينطلقون من أنَّ للقرآن الكريم خصوصياتِه المقدسةَ التى لا يشاركه فيها بيانٌ آخر، فطرائق الأداء الصوتيّ للقرآن الكريم هي طرائق توقيفية متوارثة تعرف بالقراءات القرآنية وكذلك طرائق كتابته ورسمه فهو مثلما كان من أسمائه (القرآن) كان من أسمائه (الكتاب) فله خصوصية كتابية مثلما له خصوصية قرائية، فطرائق الأدء الكتابيّ لبعض كلماته لا تخضع لمعايير التصوير الكتابيّ لتلك الكلمات فى لغة البيان الإنسانيّ، وهم يرون فى تلك الصورة الاصطفائية لكتابة تلك الكلمات القرآنية معاني قرآنية طريفة لطيفة، وكان لهذه الصورة الكتابية عِلْمٌ أُلِّفَتْ فيه الأسفار مثلما كان للصورة الأدائية علمٌ ألِّفت فيه الأسفار (1)

(1) - يحسن بك أن ترجع إلى: إلى كتاب:" كشف الأسرار في رسم مصاحف الأمصار للسمرفندي " تح: حاتم الضامن – نشر في مجلة المورد العراقية العدد الرابع من المجلد الخامس عشر: 1407، وكتاب:" عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل " لأبي العباس أحمد بن البناء المراكشي " تحقيق: هند شلبي.

وإلى (النوع الخامس والعشرين:علم مرسوم الخط) من كتاب (البرهان في علوم القرآن للزركشي – ج1ص376-431،وإلى مواضع من تفسير: نظم الدرر لبقاعيّ،، وإلى (النوع السادس والسبعين في مرسوم الخط) من كتاب (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج4ص145-166والمبحث العاشر: في كتابة القرآن ورسمه من كتاب (مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني – ج1 ص361-410)

وقد نقل الزركشي والسيوطي عن البيهقي رضي الله عنه في شعب الإيمان قوله: (من كتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على حروف الهجاء التي كتبوا بها تلك المصاحف ولا يخالفهم فيها ولا يغير مما كتبوا شيئا فإنهم أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة منا فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم)

ص: 161

فيحسن بالقائم بالتحليل البياني للسورة أن يعنى بكثير من وجوه كلمات القرآن الكريم، فإنّه سوف يبدوله من تلك الوجوه ضروبًا من التناسق المبهر هو جدير بأن يكون مناط عناية البلاغيين في درسهم وبحثهم.

وقد بين لنا "سيد قطب"(ت 1286) نماذج قرآنية رسمت كلمات منها صوراً مشخصة أمَّا بجرسها الذى تلقيه فى الأذن أو بظلها الذى يلقيه فى الخيال أو بالجرس والظل معاً. والمثابرة والمصابرة على تدبر ذلك وتذوق تحليل أهل العلم معين على اكتساب مزيد من الحنكة والخبرة.

فالنظر فى الكلمات القرآنية من وجوهما المختلفة وعلاقة تلك الوجوه بالسياق الجزئى الذى تنسج فيه وبالسياق العام للسورة كلها ثم علاقتها بالسياق القرآنى كله لأمر جد عظيم فى حاجته إلى مجاهدة علمية وروحية وجد عظيم فى عطائه.

ينظر صاحب التحليل البيانى إلى مادة الكلمة لقرآنية والعطاء الدلالى لتلك المادة فى سياقها من نحو أن ينظر كيف أن القرآنَّ الكريم ذكر كلمة (إبليس) فى سياق الامتناع عن السجود، ولم يذكر كلمة (شيطان) في هذا السياق، وكذلك لم يذكر كلمة (إبليس) فى سياق أغواء أدم وحواء بل ذكر كلمة (شيطان) على الرغم من أنهما اسمان لذات واحدة.

وكيف أنه عبر بكلمة (قرية) فى قوله سبحانه وتعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} (الكهف:77)

ص: 162

وعبر بكلمة (مدينة) على البقعة نفسها فى قوله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:82)

ومن نحو اصطفاء القرآن الكريم كلمة: (يثرب) فى سياق حكاية مقالة المنفقين فى سورة الأحزاب: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إلَاّ فِرَاراً} (الأحزاب:13)

ولم يرد ذلك فى غيرها. وإن وردت مادة (الثرب) في قول الله جل جلاله:

{قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف:92)

ومن نحو اصطفاء كلمة (إنسان) فى سياقات الذم ولم يصطفها فى مقام تكريم.

وكيف أن الله عز وجل لم يصطف البتة فى كتابه إيقاع فعل (الرؤية) على اسم الجلالة (الله) إلا فى سياق إنكاره وقوع ذلك والتوبيخ على طلبه وبيان ضلاله المبين: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة:55)

ص: 163

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:153)

وما جاء فى القرآن الكريم إنما هو إيقاع النظر لا الرؤية وعلى إسمه (الرب) وليس (الله) من نحو قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 22 - 23)

وما جاء من قول الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (لأعراف:143)

فغير خفي أن قول سيدنا "موسى " عليه السلام (أرني) لايطلب مفعولا ثانيا يقدر، وإنما هو من جعل المتعدي إلى مفعولين متعديا إلى واحد، فمن قدر (أرني ذاتك) فقد وهم؛ لأنَّ ذات الله سبحانه وتعالى لا تُرى، والمعنى أرني:أي امنحني القدرة على رؤية الأشياء، فإن منحتني تلك القدرة أنظر إليك، وكاف الخطاب في (إليك) عائدة إلى اسمه (رب) جل جلاله، وليس إلى اسم الجلالة، فإنه لم يقل اللهم أرني أنظر إليك.

إن علينا أن نعرف علائق الكلم بعضها ببعض، وقد قال "عبد القاهر":

«

إنّك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع،ثُمَّ تراها بعينها تثقُلُ علَيْكَ وتوحشك في موضع آخر» (1)

(1) - دلائل الإعجاز: تح: شاكر ص 46

ص: 164

وإذا ما كان صاحب التحليل البيانيّ لمفردات القرآن الكريم ناظرًا في مادة الكلمة القرآنية وعلاقتها بسياقها والغرض المنصوب له البيان، فإنَّه أيضًا ناظر إلى صيغة الكلمة القرآنية والعطاء الدلاليّ لها فى سياقها من نحو اصطفاء (المضارع) :(يسبحن) واسم المفعول: (محشورة) من قول الله جل جلاله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (صّ:18- 19)

ومن نحو اصطفاء المضارع (يخرج) على الرغم من اصطفاء اسم فاعل (فالق) قبله و (مخرج) بعده فى قول الله جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (الأنعام:95)

إلى غير ذلك من صور الكلمة القرآنية من جمع وأفراد (1) وتعريف وتنكير فان ذلك باب فسيح لا يكاد يتناهى.

واذا ما كان «النظر فى مفردات النص الأدبى من أوجب ما يجب على مفسره ودارسه؛ لأنّها مفتاح النّصّ، وزمام ما فيه من دقيق المعاني وخفي الإشارات، وكلَّما أحسن الدراسُ هذه الوقفات واستشف من المفردات كلّ ما تعطيه وتلوح به من معنى ووحي ورمز كان أقدر على الاندماج والمشاركة، وبهذا يصِل نفسَه بنفس منشئة، ويلحق فى آفاقه، ويتابع خطراته، ويملك تجربته كاملةً

» (2) فإنَّ الأمر أعظم فى تدبر سورة من القرآن الكريم

(1) - للصديق الدكتور" محمد أمين الخضري " دراسة قيمة في (الإعجاز البياني في صيغ الألفاظ: دراسة تحليلية للإفراد والجمع في القرآن " – ط: مطبعة الحسين الإسلامية بالقاهرة:1413 يحسن الرجوع إليها.

(2)

- البلاعة القرآنية لشيخنا: 261

ص: 165

مجمل الأمر في هذا أنَّ القائم بالتحليل البيانى للسورة القرآنية فريضة أولى عليه أن يتدبر كلمات السورة كلمة كلمة يسبر أغوار كلّ وجه من وجوهها سبرًا يستكشف به بعض آماد التناغمٍ بين تلك الوجوه وسياقها الجزئى وسياق سورتها.

وذلك يهيىء السبيل إلى أعداد معجم دلاليّ لكلمات القرآن الكريم تفتقر اليه الدراسات البيانية القرآنية وما بين أيدينا من نحو كتاب (المفردات) للراغب وكتاب (عمدة الحفاظ فى تفسير معانى كلمات القرآن الكريم) لأبى العباس السمين (ت:756) ونحو ما هو معروف من كتب علم معرفة الوجوه النظائر انما هو توطئه لصناعة معجم دلاليّ سياقِي لكلمات القرآن الكريم يعنى بوجوه الدلالة فى كل كلمة، وسياق كلِّ وجه ومقامه وما يتلاقى معه فى الكلمات الأخرى وما بينه وبين ما قاربه من الكلمات خارج السياق القرآنى من مفارقات. (1)

وهذا يجعلنا على عرفان بحال كلّ كلمة قرآنية وسنة القرآن الكريم في استخدامها لتحقيق مقاصده ليكون لنا من ذلك زادٌ في سفرنا إلى مرضاة ربنا عز وجل، فنعرف للكلمات حقوقها وحدودها، فلا نستخدم الكلمة في غير ما يجب أو يِجْمُل استخدامها فيه:

(1) - لأستاذي الدكتور " محمود موسى حمدان" الأستاذ المساعد في كلية اللغة العربية بالمنوفية دراسة عنوانها (الإتيان والمجئ: فقه دلالتهما واستعمالهما في القرآن الكريم)(نشر مكتبة وهبة: 1418) عمد فيها إلى الاستقصاء والتحليل والتأويل، فكانت دراسة قيمة شأن سائر دراساته.

وللدكتور:" السيد محمد سلام " الأستاذ المساعد في الكلية نفسها دراسة في الفعلين: (أعطى وآتى في القرآن الكريم) نشرها في حولية الكلية، وهو يَعْدُو على منهاج شيخه تدقيقًا وإحسانا. ومثل هذه الدراسات خطوة طيبة في طريق إعداد (المعجم البياني السياقي لكلمات القرآن الكريم) ولعل الله عز وجل يعين أهل العلم ببيان كتابه على إكماله وإتقانه

ص: 166

روى البخاري رضي الله عنه في كتاب (الرقائق) من صحيحه بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِى لَهَا بَالاً، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ» . (حديث رفم (6478)

ألا ترى كيف أخذت الصاعقة بني إسرائل إذ قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} (النساء: من الآية153) فلم يحسنوا اختيار الكلمة في طلبهم، فنعت الله سبحانه وتعالى فعلهم بأنّه ظلم، فكانت تلك عقباهم.

لذا كانت صناعة مثل هذا المعجم البيانيّ السياقيّ لكلمات القرآن الكريم فريضة لازمة لازبة ومن النصيحة لكتاب الله عز وجل.

هذا وإن بدا عسيرا، فإنّه غير عقيم إنه ييمنحك - أيضًا - زادًا كريمًا مجيدًا في رحلتك المديدة إلى فقه المعنى القرآني وفهمه من السورة، وإذا امتلأ قلبك بالفقه والفهم عن الله سبحانه وتعالى في هذا، فإنَّك في جنّات النعيم، وإن كنت حافِي القدمين طاوي البطن أشعث أغبر ذي طمرين لا يأبه أهل الدنيا لمثله، لكنَّك عند ربك ذي الجلال والإكرام لو أقسمت لأ برّ قسمك.

صاحب القرآن الكريم تلاوة وتدبرًا وتأدُّبا في جنة عرضها السموات والأرض في حياته على الأرض، من قبل أن يكون فيها يوم القيامة، فيقال له:" اقرأ وارتق ورتّل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها "(سنن أبي داود: الوتر- استحباب الترتيل في القراءة)

***

- ثانياً: التحليل البيانيّ للتراكيب.

ص: 167

لا ريب فى أن مفردات أى لغة لم توضع لتعرف معانيها فى أنفسها بل لأن ينسق بعضها مع بعض، فيتولد من ذلك النسق معنى يؤدى به الغرض ويصور به الحال، وأدْنَى صورذلك النسق المحقق ذلك المعنى المُؤَدَّى المُصَوَّر إنما يسمى (جملة) من أن الجَمْلَ هو الجَمْعُ (1)

وهو فى صناعة الكلام جمع للكلم على نحو خاص، وليس مجرد ضم.

وكل لغة لها نهجها ونحوها فى نسق كَلِمِها فى جمل وعبارات تصوّر ما هو مكنون فى الصدور من دقائق الفكر ورقائق الشعور..

وهذا التنسيق الجُملى بين الكَلِم يتأثر بصانعه تأثراً جد عظيم أكثر من تأثره بمواضعات التنسيق الكلية فى كلّ لغة، فسلطان النَّاسق الناظم أعظم من سلطان الأصول الكلية للتنسيق، لأنَّ تلك الأصول ما هى إلا متناثرة هادية يُسترشد بنورها ولا يخضع لسلطانها أو يتعبد باتباعها.

(1) - تقول العرب: أجمَل الشيءَ: جمعه عن تفرق، والجملة: جماعة كلّ شيءٍ بكماله من الحساب وغيره، وأجملت الحساب: جمعتُ آحاده وكملت أفراده،والجُمُل بضم أوله وثانية: الجماعة من الناس، والجامِل: القطيع من الإبل معها رعيانها وأربابها، والجامِلُ أيضًا: الحيّ العظيم، والجميل:ما استجمل أصول الحسن المعنوي أو الحسيّ. فأنت تلحظ علاقة بين المل والجمع، اتفقا في الأصل من اتفاقهما في فاء الكلمة وعينها،وافترق كل بشيءٍ، فالجمل ليس مطلق الجمع بل هو كمع على سبيل الكمال. فتسمية العرب مجموع الكلمات التي يتولد من اجتمعا معنى جملة فيه دلالة على أنَّه ليس مطلف جمع،وإلا كانت اولى بأنْ تسمى (جمْعة) وليس جملة،وكأنهم يستحضرون باختيار كلمة جملة معنى الكمال والحسن في جمعها المفردات.

ص: 168

والجملة أصغر الإنساق الدالة على معنى مكنون ولذلك قلَّما يكون خطاب أو حوار أو بيان تقوم به جمل تواردت دون أن يبنى منها عبارة أوتنسق منها فقرة مما يجعل الجملة فى سياق التخاطب كمثل الكلمة فى بناء الجملة

وإذا كان القرآن الكريم قد بنى سوره من آيات، فإنَّ بناء الآية لا يخضع ابتداء وانتهاء إلى معيار موضوعى من ظاهر المعنى أو التركيب أو النسق الصوتى بل من وراء ذلك أمرٌ قد تعجز عقولنا عن وعيه أو عباراتنا عن بيانه فانظر فى قول الله سبحانه وتعالى:{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء/92-98) .

{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الصافات:141-152)

{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ} (الدخان:43 -44)

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى *عَبْداً إِذَا صَلَّى} (العلق:9-10)

وغير ذلك جدُّ كثير فى القرآن الكريم،

أنت لا تراه قائماً على معيار من تمام معنى أو اتساق تركيب وعلى هذا لا يحسن إتخاذ الآية إطاراً لتحليل التراكيب، بل الأقرب إتخاذ الجملة، ثم العبارة ذات الجمل المنسوقة على نهج يحقق للمعنى تمامه.

والتحليل البيانى لتراكيب العبارة القرآنية القائمة بتمام المعنى يعمد أول ما يعمد إلى تحليل ما يحقق لبلاغةِ العبارة عمودها، ثُمَّ يَعْمَدُ من بعده الى يحقِّقُ لَهَا تَمامَها:

عمود بلاغة الكلام إنَّما هو فى نظم العبارة من الكلم على وفق مناهج نحو العربية.

يقول الامام "عبد القاهر" كاشفاً عن عمود البلاغة وما يكون منه:

ص: 169

«إعلم أن ليس النظم الا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه (علم النحو) وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التى رسمت لك، فلا تخل بشى منها، وذلك أنَّا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظرَ فى وجوه كلِّ بابٍ وفروقه.

فينظر فى (الخبر) إلى الوجوه التى تراها فى قولك " زيد منطلق" و" زيد ينطلق "" وينطلق زيد " و" منطلق زيد " و" زيد المنطلق " و" المنطلق زيد " و" زيد المنطلق "و" زيد هو منطلق "

وفى (الشرط والجزاء) إلى الوجوه التى تراها فِي قولك: " إن تخرج أخرج " و" إن خرجت خرجت "و" إن تخرخ فإنا خارج "و" أنا خارج إن خرجت "و" أنا إن خرجت خارج "

وفى (الحال) إلى الوجوه التى تراها فى قولك:" جاءنى زيد مسرعاً " و" جاءنى يسرع "و" جاءنى وهو مسرع " أو " وهو يسرع "و" جاءنى قد أسرع "و" جاءنى وقد أسرع ".

فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجىء به حيث ينبغى له.

وينظر فى (الحروف) التى تشترك فى معنى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية فى ذلك المعنى، فيضع كلا من ذلك فى خاص معناه، نحو أن يجىء"بـ (ما) فى نفى الحال، بـ (لا) اذا أراد نفى الاستقبال وبـ (أن) فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون وبـ (إذا) فيما علم أنه كائن. (1)

(1) - لأستاذي " محمود موسى حمدان" دراسة نال بها درجة العالمية في بلاغة القرآن الكريم من كلية اللغة العربية بالقاهرة بإشراف شيخنا " محمد أبو موسى " سنة: 1409 موضوعها: مواقع التقييد بأدوات الشرط: إن وإذا ولو في القرآن الكريم، وهي دراسة لا يستغني عنها أهل العلم ببيان القرآن الكريم، ولعلّه يوفق إلى نشرها في طلاب العلم، فقد قيل إن علمًا لا يُعَّلم كحكمة لايعمل بها.

ص: 170

وينظر فى (الجمل) التى تُسرد، فيعرف موضع (الفصل) فيها من موضع (الوصل) ، ثم يعرف فيما حقه (الوصل) موضع (الواو) من موضع (الفاء) وموضع (الفاء) من موضع (ثم) وموضع (أو) من موضع (أم) وموضع (لكن) من موضع (بل) .

ويتصرف فى التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير فى الكلام كلّه، وفى الحذف والتكرار، والإضماروالإظهار، فيصب بكلّ من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغى له. (1)

فعبد القاهر يرشدك إلى أصول يُبنى عليها تركيب الجملة من الكلم، والعبارة من الجمل، وأنت تلحظ أنَّ هذه الوجوه لا تقف عند نمط من الأنماط، كنمط الموقع مثلا، بل تتناول الموقع كما في التقديم والتأخير،وتتناول هيئة الكلمة من خارجها من نحو التعريف والتنكير، وتتناول العلائق بين المكونات، وغير ذلك مما لايخفى عليك في كلامه.

وهذه الفروق والوجوه في بناء التركيب جملة وعبارة كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها إزدياداً بعدها، وتكاثرها هذا يجعل المرء ليس همه استيعاب الأنماط بمقدار الفقه لمنهج التركيب،وأصول العلائق بين الكلم في بناء الجملة، وبين الجمل في بناء العبارة.

فقه المنهج أجدى على المرء من حفظ مفردات المنهج؛لأنّ الإحاطة بأنماط التراكيب،وإن كان عسيرًا بل متعذرًا، فإنَّ عطاءه من دون ما يبذل فيه،وذلك أنَّ المزية ليست بواجبة لهذه الفروق والوجوه والأنماط " فى أنفسها ومن حيث هى على الاطلاق ولكن تعرض بسبب المعانى والأغراض التى يوضع لها الكلام أو بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض"

فهذه ثلاث مثابات يؤول إليها أصل المزية في تلك الوجوه والفروق والأنماط التركيبية:

المعنى والغرض الموضوع له الكلام.

موقع الوجوه والفروق بعضها من بعض

استعمال بعضها مع بعض

(1) - دلائل الإعجاز: تح:شاكر ص 81-83

ص: 171

وهذا يوجب على القائم بالتحليل البياني للتراكيب أن يرجع مزايا البيان وبلاغته إلى هذه الأمور، وليس من شك في أنَّ هذه الثلاث متغيرة متنوعة بتغير السياق وتنوعه،ومن ثمّ لا تجد قوانين تطبق بحذافيرها فِي كلّ موطن وسياقٍ.

وهذه المثابات الثلاث توجب علينا في تحليلنا البياني للتراكيب أن تكون من خطواتنا الرئيسية في التحليل:

تحقيق التناسب بين الوجه الذي اصطفيناه والمعنى والغرض المنصوب له الخطاب.

وهذه خطوة مهمة جدًا وكثيرًا ما نغفل عنها، أولانوفيها كثيرًا من حقها.

إذا ما نظرت فيما يعرض من احتمالات التأويل رأيت غير قليل منها لا يتناسب مع المعنى والعرض المقام له الكلام، وأقرب شيء ترى فيه ذلك تأويلهم بعض آيات الغيب واليوم الآخر، وآيات أفعال الله وصفاته على أنّها مجاز أو تخييل، وهذا التحليل لا يتناسب مع المعنى والغرض المنصوب له الكلام.

العناية بعلاقات الأساليب واستعمال أنماط التركيب بعضا ببعض.

وهذا يستوجب أن نبحث عن النمط الرئيسي في تصوير المعنى، والأساليب المعينة له على ذلك، ففي كل صورة معنى،ولا سيّما المعاني الكليّة الممتدة القائمة من عدة أساليب وهي ليست منازلها سواء في تحقيق المعنى، منها ما هو رئيس،ومنها ما ليس كذلك،وقد تتعدد الأساليب الرئيسة فتكون أكثر من أسلوب.

علينا أن نستبصر النمط التركيبي الرئيس في كل صورة من صور المعاني التي نحن بصدد تحليل تراكيبها تحليلا بيانيا.

لتنظر مثلا في سورة (والليل) وسورة (والضحى) أيمكن أن تقول إن الأسلوب الرئيس الذي تبنى عليه الأساليب الأخري،وعليه مدار تصوير المعنى في كل أسلوب واحدٌ؟

سورة (والليل) تجد اسلوب القسم والمقابلة هو النمط التركيبي الرئيس المهيمن، تسانده أساليب أخرى.

وفي سورة (والضحى) تجد أسلوب القسم والتقسيم هو الأسلوب المهيمن،وليس المقابلة.

العناية بتدبر مواقع الأساليب والأنماط التركيبية بعضها مع بعض

ص: 172

الأسلوب المهيمن مثلا ليس بلازم أن يكون في صدر صورة المعنى، فيكون النمط التركيبي الرئيس مما بني عليه الأنماط الأخرى. ترى هذا مثلا في (آية الكرسي) ولكنك ترى في قوله سبحانه وتعالى:

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)(البقرة)

الأسلوب الرئيس في قوله عز وجل: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وسائر الأساليب مساندة لتقرير هذه الحقيقة التي أخبربها هذا النمط التركيبي المؤسس من خبر مجرد من التأكيد في صورة مقابلة قائمة في بصر القارئ وبصيرته، يلقى بها في وجه كلّ من يسعى إلى المجادلة بالتي هي أسوأ في شأن الربا.

وهو خبر على ما فيه من تجرد من عوامل التوكيد مكنوز فيه كل ما يقيم المسلم أمام حقيقة لا يملك عند سماعها إلا أن يقول بلسان يصور فيض التسليم الذي في قلبه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة: من الآية285) تحقيقا لما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن شأن المؤمنين:

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور:51)

ص: 173

وإذا ما كانت كل صورة من صور المعاني من عدة أساليب، فإنّه ليس ثَمَّ أسلوبٌ ونمط تركيبيّ هو المقدم على غيره، والذي تبنى عليه الأساليب والأنماط الأخرى بل يتخذ موقعه وفق ما يفتضيه حال صورة المعنى في حسن دلالته وتمامها عليه.وهذا مما لانكاد نعنى به كثيرًا في تحليلنا البياني لتراكيب صور المعاني.

ولهذا عُنِيَ " عبد القاهر " بالتنبيه إلى تلك المثابات كيما يقوم في قلوبنا وحركة تأملنا وتدبُّرنا، وينبهنا إلى عظيم لطفها، كأنَّها التي تكتم عنك أنفاسها كما تكتم الحسناء حركتها وحسّها عن كلّ غريب:

«واعلم أن من شأن الوجوه والفروق أن لا يزال تحدث بسببها وعلى حسب الأعراض والمعانى التى تقع، دقائق وخفايا لا إلى حد ونهاية، وأنها خفايا تكتم أنفسها جهدها حتى لا ينتبه لأكثرها، ولا يعلم أنَّها هى، وحتى لا تزال ترى العَالِم يعرضُ له السهو فيه وحتى إنِّه ليقصدُ إلى الصَّواب، فيقع فى أثناء كلامه ما يوهم الخطأ كل ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض.» (1)

(1) - السابق: 285

ص: 174

وهذا يقيمك في سياق المجاهدة والمصابرة والعمل على اقتناص اللطائف، والتطهرمن معابة التساهل والتسارع والاستغناء بظاهرالنظر.

وتشتد الحاجة إلى المصابرة والمجاهدة في التدبر وتحليل التراكيب تحليلا بيانيا حين يكون الأمر على وجهين من التأويل أو أكثر أحدهما أنسب وآنس بالسياق والمقام والغرض المنصوب له الكلام، وإذا ما كان بيّنًا فى الشىء أنَّه لا يحتمل إلا الوجه الذى هو عليه حتى لا يشكل، وحتى لا يحتاج فى العلم بأن ذلك حقه وأنه الصواب إلى فكرة وروية فى مزية، وكانت المزية تتحقق ويجب الفضل إذا إحتمل فى ظاهر الحال غير الوجه الذى جاء عليه وجها آخر ثم رأيت النفس تنبوعن ذلك الوجه الأخر ورأيت للذى جاء عليه حسناً وقبولاً تعد مهماً إذا أنت تركته إلى الثانى. (1) فإنَّ المجاهدة في التحليل والتأويل حينئذٍ فريضة لا مناص من القيام لها وبها.

بهذا يبين لنا "عبد القاهر" السببل إلى التحليل البيانيّ لعمود بلاغة الكلام الذي بغيره لا يكون كلام يؤدي معنى ويصور حالاً.

ومن وراء عمود بلاغة الخطاب (النظم) ما به يتحقق لبلاغة الكلام تمامها، وهو ثلاثة:

حسن الدلالة على المعنى.

تمام الدلالة على المعنى

تبرج الدلالة على المعنى في صورة بهية معجبة.وفد سبق أن ذكرت لك مقاله (2)

ولذلك نراه فى التحليل البيانى لقول الله - عَزَّ اسْمُهُ -:

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود:44)

يذهب إلى أن ما تجده من المزية الطاهرة والفضيلة القاهرة والاعجاز الباهر إنما هو لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض ويذهب إلى أنه لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لا قت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة.

(1) - ينظر السابق: 281

(2)

- دلائل الإعجاز: 43

ص: 175

وغير خفيٍّ أنَّ حسن الدلالة وتمامها وتبرج صورتها ليس مقصوراً على النَّظم بل النَّظم عمود ذلك وبدونه لا يكون حسن دلالة ولا تمامها ولا تبرج صورتها.

ولذلك يقرر أنَّ ذهابه إلى أنَّ عمود البلاغة المعجزة هو النظم لا يخرج ما فى القرآن الكريم من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، بل ذلك يقتضى دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو معجز، وذلك لأنَّ هذه المعاني التي هى الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم، وعنه يحدث، وبه يكون

" (1)

فالإمام حين يكون بصدد التحليل البيانى لعمود البلاغة يقصر قوله على النظم القائم على ما بين الكلم من علائق تركيبه إسنادية راجعة إلى معانى النحو. وحين يكون بصدد التحليل البيانيّ لتمام البلاغة لا يقصره على شىء دون غيره، ولذلك نراه يدخل السلامة من الثقل والتنافر وما شاكل ذلك فيما تقع به الفضيلة (2) بل إنه ليذهب إلى ما هو بعيد حين يرى أن السجع والجناس حين يقتضيها المعنى مقوماً من مقومات تمام بلاغة الكلام حتى إنَّ المتكلم لو رام تركهما إلى خلافهما مما لا تجنيس فيه ولا سجع لدخل من عقوق المعنى وإدخال الوحشة عليه فى شبيه مما يتسبب اليه المتكلف للتجنيس المستكرة والسجع النافر (3)

ومثل هذا جعل "أبا فهر" يذهب إلى إنِّ «الذى فعله عبد القاهر فى كتابه (دلائل الاعجاز) هو أول تحليل للغة من حيث هى تركيب.

ومزية كل تركيب فى إشتماله على وجوه (البيان) القائمة فى نفس المبين عنها. وبهذا الكتاب وصنْوِه: (كتاب أسرار البلاغة) أسس" عبد القاهر"(علم تحليل البيان الانسانى كله) لا فى اللسان العربى وحده بل فى جميع ألسنة البشر.

(1) - السابق: 312

(2)

- السابق: 59، 474

(3)

- أسرار البلاغة: 14

ص: 176

وضع عبد القاهر هذا الأساس فلم يسبقه إليه سابق ولا لحقه من بعده لاحق فى لسان العرب ولا فى غير لسان العرب.» (1)

فاستطاع بهذا التحليل أن يكشف لنا «عن سر تأثير الكلام المركب من الألفاظ فى نفس الإنسان المتذوق لهذا الكلام، فيهتز لبعضه اهتزاز الأريحية، ويجد له من العذوبة والبشاشة ما يحمله على حفظه وترديده وتأمل جماله وروعته» (2)

وجملة الأمر فى هذا أن التحليل البيانى للتراكيب وإنماطها فى إطار سياق كل معقد من معاقد السورة ثم إطار سياق السورة كلها لا يدع نمطاً تركيبياً إلا ونظر فى جميع وجوهه ووصفها وفسرها وبين أوجه المعنى وعلته ومقتضاه من السياق والمقام بدأ من تركيب الجملة فتركيب المعقد فالسورة، فاذا ما تم ذلك كانت الحاجة بالغة إلى حسن التأليف والتصنيف

وإستكشاف ما غلب من أنماط تركيبية فى العقد ثم فى السورة وما ندر وما كان فريداً.

واستكشاف ما كان النمط التركيبى الرئيس فى كل سياق ومقام وما يتمازج معه من أنماط تركيبية آخرى.

واستكشاف ذلك في كلِّ معقدٍ، ثم فى السورة كلِّها معين على فقه المعنى القرآني أولاً ثم معين ثانياً على فقه طبائع التركيب فى البيان القرآنيّ عامة

وهذا يهدى أيضاً إلى فقه ما بينهما فى السياق القرآنى والسياقات الأخرى من مفارقات منها تدرك الأذواق أنَّ هذا تركيب قرآنيّ أو غير قرآني وإنْ عجزت عن الإبانة والتفسير فضلا عن التَّأويل والتّعليل. (3)

***

(1) - محمود محمد شاكر: مداخل إعجاز القرآن: 120

(2)

- السابق:126

(3)

- للوقوف على بعض من التحليل البياني لصور تركيبية من البيان القرآني يمكن النظر في كتابي: معالم التكليف والتثقيف في آيات الربا من سورة البقرة، وكتابي:(شذرات الذهب: قراءة عربية في بيان القرآن الكريم) فإنَّ فيهما ما يمكن أن أعده نموذجا للتحليل البياني للتراكيب، فإن شئت الاطلاع على ما هو أعلى أمجد فانظره في كتاب شيخي:(من أسرار التعبير القرآني)

ص: 177

- ثالثاً: التحليل البياني للصورة البيانية.

الصورة البيانية فى القرآن الكريم جزء من التصوير القرآنيّ لمعانيه، فانَّ التصوير الذى هو تشكيل المعنى إنَّما هو متعدد العناصر، بل إنَّ كلَّ عنصر من عناصر البيان هو فى حقيقته عنصر فى بناء صورة المعنى.

الصورة القرآنية في مفهومها العام هى: الهيئة التى تكون عليها الكلمات والعبارات بما فيها من سمات صوتيةٍ وتكوينية ودلالية فى سياق من سياقات القول المبين عمَّا يحقق به المرء عباديته الخالصة.

فهى كل ما يحقق للمعنى هيئة فى نفس الملتقى تختلف عن هيئة غيره، فكل ما شارك فى تكوين هذه الهيئة هوعنصرمن عناصرالصورة (1)

وبذلك لا تنحصر الصورة فيما عرف عند البلاغيين المتأخرين بالتشبيه والمجاز والكناية. بل يشمل " تصاريف الكلمات في النظم والضمّ، فكلّ تعلق أو احتكاك بين لفظتين يلد لا محالة صورة خاصة لمعنى خاص لاينطبق على غيره

" (2)

وهذا كما ترى مؤسس على قول "عبد القاهر":

(1) - يقول شيخنا عن مصطلح " الصورة ": " الواقع أنَّ هذا المصطلح البلاغيّ له دلالة دقيقة في إطلاقات القدماء.

وهو بإيجاز شديد - ما يدركه المتأمّلُ في المعاني من فوارق دقيفة وشفيفة بين هيآتهها وأشكالها وشياتها وملامحها، وأشياء كثيرة غامضة يفترق بها المعنى في الذهن عن المعنى، وتكون له في النّفسِ بها هيأة لا تكون لغيره، وهذا ما سماه العلماء " الصورة" (ص 69 - دراسة في البلاغة والشعر - مكتبة وهبة - القاهرة:1411

(2)

- دراسة في البلاغة والشعر: 72، وانظر دلائل الإعجاز: ص 258

ص: 178

«وأعلم أن قولنا "الصورة" إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذى نراه بأبصارنا، فلمَّا رأينا البيْنونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان تبيُّن إنسان من إنسان، وفرس من فرس بخصوصية تكون فى صورة هذا لا تكون فى صورة ذاك، وكذلك كان الأمر فى المصنوعات، فكان تبيُّن خاتم من خاتم وسِوارٍ من سِوار بذلك، ثُمَّ وجدنا بين المعنى فى أحد البيتين وبينه فى الآخر بينونةً فى عقولنا وفَرْقًا عبَّرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى فى هذا صورة غير صورته فى تلك.

وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن إبتدأناه، فينكره منكِرٌ بل هو مستعمل مشهور فى كلام العلماء، ويكفيك قول " الجاحظ ":«وإنَّما الشعر صياغة وضرب من التصوير.» (1)

فالتشبيه والمجاز والكناية إنَّما هى من أنماط التصوير وليست هى التصوير كلّه فى عرف علمائنا الأقدمين وأن تكن أصولاً كبيرة فى التصوير «كأنَّ جُلَّ محاسن الكلام أن لم نقل: كلها- متفرعة عنها وراجعة اليها وكأنها أقطاب تدور عليها المعانى فى متصرفاتها وأقطار تحيط بها من جهاتها.» (2)

والمتأخرون من علماء البلاغة حين خصوا هذه الأنماط التصويرية الثلاثة: (التشبيه والمجاز والكناية) باسم علم البيان لم يكن ذلك منهم إختصاصاً لهذه الثلاثة بأنها عِلْمُ تصوير المعنى بل بيان أنماط دلالة الكلام على معناه وضوحا وخفاءً؛ لأنَّ علم البيان عندهم ليس علم تصوير المعانى بل البلاغة كلّها علمُ تصوير المعانى، والبيان منها علم وجوه دلالة الصورة على المعنى وضوحا وخفاءً.

وآية ذلك تعريفهم علم البيان بأنَّه: علمُ يعرفُ به منهجُ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى تصويره من حيث وضوح الدلالة عليه وخفاؤها

(1) - دلائل الإعجاز: 508

(2)

- أسرار البلاغة: 27

ص: 179

وكلٌّ من الإيضاح والإخفاء بيانٌ، فتعريفهم علم البيان محط الفائدة فيه ومناط الخصيصة الفارقة قولُهم (فى وضوح الدلالة عليه) وليس قولهم «يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة» على سبيل الاطلاق بل هو إختلاف فى مناهج الإبانة عن المعنى وضوحاً وخفاء، وإلا فإنَّ علم البلاغة كلَّه هو علم إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة أى علم تصوير المعنى بصور مختلفة سواء كان هذا الإختلاف بتقديم عنصر أو تأخيره أو فصله أو وصله أو تعريفه أو تنكيره أو ذكره أوحذفه

الخ، فاذا تغيرت صورة العبارة عن المعنى تغيراً لا يتعلق بوضوح الدلالة عليه، فإنَّ هذه الصورةَ لا تكونُ من علم البيان أى لا تكون صورة بيانية بل تكون صورة تعبيرية إن صحت العبارة.

وليس تسمية العلم بالبيان من أنَّه مقصورٌ على درجات الوضوح ومصروفٌ عن درجات الخفاءِ، فالإبانةُ ليست ظهورًا ووضوحًا يقابلُ الخفاءَ، بل البيانُ هو التَّفصيلُ الذى يتأتَّى منه أن تكونَ السُّبُل إلى المعاني واضحة، وإن كانت هذه المعانى دفينة، وليست العبرةُ بوضوح المدلولِ بل العبرة بوضوح الدلالة.

وإذا ما كنت قد تحدثت عن تحليل التراكيب أو الصورة التعبيرية في معناها العام عند علمائنا الأقدمين، فإنِّي هنا مشيرٌ إلى الصورة البيانيّة في معناها الخاص عندهم دون أن يغيبَ عنَّا أن الصورة البيانيّة عنصر من عناصر الصورة العامة.

والأعلى أن نشيرَ إلى أمرين مهمين:

الأول: الأساس الذي يكون عليه النظر.

والأخر: معالم الطريق إلى التحليل

أساس النظر:

ص: 180

من الأسس المهمَّة هنا ضرورة المحاذَرَة من الإسراع إلى حُسبان أنَّ كلَّ ما لا تدركه أبصارنا أو عقولنا أو ليس له وجود فى واقعنا مِمَّا تحدَّث عنه القرآنُ الكريم إنَّما هو من قبيل المجاز أو التمثيل؛ لأنَّ ذلك الحسبانَ إنَّما يكون مقبولاً حين يكونُ صاحب هذا التصوير كمثلنا ومن بنى جنسنا، فنحسَِب كلَّ ما لا تقع عليه العين أوكلّ ما لا يَعِيه العقل، أو لا يكون له وجود فى واقعنا من عالم التصوير القائم على التمثيل والتقريب

أمَّا إذا كان صاحب هذا التصوير هو الحق سبحانه وتعالى الذى يرى الأشياء على حقائقها، فيصفها لنا بما لا يتجاوز حقيقتها فهو الذى خلقها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) فالأمرُ ليس من المجازِ في شيءٍ من ذلك.

فاذا وصف الحق جل جلاله ما غاب عنا أو غابت عنا حقيقته فإنَّ وصفه عز وجل لنا لا يتجاوز حقيقة الموصوف التى علمها بل التى خلقها وأوجدها:

يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج:5)

ص: 181

ويقول جل جلاله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فصلت:39)

يذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك من قبيل المجاز المُقَرِّبِ للحقيقة فى همود الأرض وخشوعها وإهتزازها وربوها وأحيائها.

يقول "الزمخشرىّ" فى آية فصلت: «الخشوع:التذلُّل والتقاصر، فأستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لانبات فيها، كما وصفها بالهمود فى قوله سبحانه وتعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو وهو الارتفاع إذا أخصيت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال فى زيه وهى قبل ذلك كالذليل الكاسف البال فى الأطمار الرثّة» (1)

هذا إن قُبِلَ منه في زمانه، فلا يقبلُ منَّا فِي زَمَانِنَا الذي انتهى فيه العلم الموضوعيّ إلى أنَّه يكون من الأرض فى جدبها حالة وفى خصبها وإنباتها آخرى غيرها هى إهتزاز وربّو وحياة.

(1) - الزمخشري: الكشاف: 3/454، ومثل هذا تراه في (نظم الدرر للبقاعي: 6/ 577، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور - ج 24/ 302،

ص: 182

هذا علاوة على أن الذى أخبرنا بأنَّ الأرض خاشعة وهامدة فى جدبها ومهتزة رابية فى خصبها إنّما هو الذى خلق هذه الأرض وعلم حالها، فاذا وصفها لم يكن وصفه لها إلا كشفاً لحقيقتها، فالذى علم حالها جل جلاله قبل نزول الماء عليها وعلم معنى الخشوع والهمود على حقيقته هو الذى وصف حالها هذا بالخشوع والهمود والذى علم حالها بعد نزول المطر وعلم حقيقة الاهتزاز والربو والحياة هو الذى وصفها بذلك بعد، ولو أنه علم بأنّ ذلك هو الحق المطلق لما وصفها بشىء من ذلك في حاليها. (1)

ولا يقال إنَّ الله سبحانه وتعالى خاطبنا بما نعرف، ولم يخاطبنا بما يعلم مما لانعرف، فهو مجاز بناء على ما نعرف لا بناء على ما هو معلوم عند الله جل جلاله.

(1) - مناط الإعتبار القرآني في الآيتين: (آية سورة الحج، وآية سورة فصلت) هو الإرشاد العملي إلى جلاء حقيقة البعث، وأنَّ ذلك أمر إذا لم تخبر عنه الرسل فإنَّ فطرة العقل هادية إلى تقرره، فقرن بين أطوار خلق الإنسان، وأطوارإنبات الأرض. وجعل هذا من آيات الله سبحانه وتعالى الدالة على أن َّ الذي أحيا هذه الأرض هو المحيي الموتى وانه على ذلك قدير.

ليس مناط البلاغة في الاستعارة في هامدة أو خاشعة أو اهتزت وربت بل الصورة البيانية العلِيّة في روح التشبيه الذي أقيم عليه بيان الآيتين، وهذا ما ينبغي أن يكون مناط التحليل، ليس المجاز في (هامدة وخاشعة واهتزت وربت)

ص: 183

إنَّ هذا يفتح بابًا من ورائه ما لايطاق، فقد يَمُدُّ بعض الناظرين القول فيما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله، فيعدّ هذا من المجاز، وأن الله عز وجل لم يخاطبنا على ما عليه حقائق صفته وفعله، بل بما نعرف، فإذا قوله جل جلاله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ

} (آل عمران:181) البيان بالسمع مجاز عن فعل من أفعاله وليس حقيقة.

ومثل هذا: {

وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: من الآية77)

وقوله عز وجل {

يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: من الآية11)

وغير ذلك من أفعاله وصفاته، والقول بأنّ هذا من المجاز الذي هو ضدّ الحقيقة مما أراه باطلا، وإن قال به بعض ممن يؤخذ عنه العلم (1)

(1) - ليس يخفى عليك أن عبد القاهر ممن يقول بالمجاز في أفعال الله سبحانه وتعالى وصفاته، وهذا مما لايسلّم له كمثل قوله بالكلام النفسي في القرآن الكريم مما لايسلم له، وقد بنَى نظرية في نظم القرآن الكريم على القول بالكلام النفسي لله تعالى، ولم يفرق بين نظم الكلام عند الخلق ونظم الكلام عن الله سبحانه وتعالى. القول بالكلام النفسي وترتيب المعاني في النفس قبل النطق بالكلمات نأخذ به فيما يتعلق بنظم العباد بيانهم، وذلك ما نراه من أنفسنا عند إنشاء بياننا عمّا هو مكنون في صدورنا من دقائق الفكر ورقائق الشعور فأنا من قبل أن أكتب لك هذه الحاشية مثلا زورت الكلام وأعددته في نفسي - وهذا هو الكلام النفسي - قبل أن يخطه قلمي، أمَّا في شأن كلام الله سبحانه وتعالى فالأمر ليس كذلك.

ليس ثَمّ كلام نفسي يسبق الكلام الذي أوحي.

ومن العجيب أن من الأشعريين من قال إن المعجز من القرآن الكريم هو الكلام النفسي، وهو القديم غير المخلوق، أمَّا ما أوحي وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وأنبأنا به ونتلوه أناء الليل وأطراف النهار في مصاحفنا فليس هو الكلام القديم غير المخلوق، وليس هو الكلام المعجز.

أرأيت كيف زلت الأقدام؟!!!

ص: 184

وإذا ما كانَّا لا نعلم حقيقة خشوع الأرض وهمودها وإهتزازها وربوها وأحيائها فليس معنى ذلك أن نسقط علمنا بحقائق هذه الأوصاف فى غير الأرض على حقيقتها فيها، ذلك أنَّ منطق فقه العربية يقضِي أن تفهم حقائق الأفعال وفق حقائق فاعليها، فنحن لا نفهم فعلاً من الله سبحانه وتعالى كمثل فهمنا ذلك من أحدنا، ولا نفهم فعلاً أسنده الله العليم سبحانه وتعالى إلى الأرض أو السماء كمثل فهمنا ذلك الفعل حين يُسند إلى أحدنا، فإنَّ الأرض والسماء وما شاكلهما هي عند الله جل جلاله ليس كما هي عندنا، فليس ثّمَّ مقتضٍ إسقاط حقائق أفعال الإنسان على حقائق أفعال غيره فى بيان الله عز وجل.

ومما قيل فيه بالمجاز وليس فيه قول الله سبحانه وتعالى:

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا ولِلأََرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11)

فهذا ليس من التصوير المجازى فى شىء إذا هو وصف للحقيقة المطلقة سواء فى (اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ) أو (قالَ لَها ولِلأَرْضِ) و (قَالَتَا أتَيْنَا طَائِعِينَ) فهو قول على الحقيقة من الله سبحانه وتعالى للسماء والأرض، وقول منهما أيضاً على الحقيقة.

وكذلك قول الله جل جلاله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)

لا أرى أنه على سبيل التمثيل المفروض المتخيل والتصوير المجازى، بل هوحقيقة كانت من الله الخالق القادر سبحانه وتعالى.

ص: 185

وإذا كانت عقولنا لا تسع ذلك من أن يكون حقيقة مشهورة فى عالمنا الأرضيّ، فعقولنا ليس فى مقدروها أن تسع الكون كله من قبل ومن بعد حسية ومعنوية ملكه وملكوته، ولا يصلح الادراك العقليّ فى الإنسان معيارَ الحقيقة والمجاز فى بيان الله جل جلاله دون ملاحظة كماله.

ومجمل الأمر فى هذا أن كل ما كان من صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله، وما كان من عالم الغيب الذى لا يطلع عليه البشر أو ما هو من عالم اليوم الآخر والمعيشة والنار أو من علم حقائق الكون التى لم يكشف العلم الغطاء عنها حتى يومنا هذا، فإن الذى هو حميد عندى ألا يجعل من باب التصوير المجازى فان القرآن الكريم والسنة المطهرة قد هديا إلى ذلك:

يقول الحق جل جلاله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (فصلت:20)

فهذه آية بيّنةٌ قاهرة على أن الشهادة حقيقة وأن النطق حقيقة مطلقة.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} (الاسراء:97)

فلما كان هذا يحتمل أن يكون كناية عن الإسراع بهم إلى جهنم من قول العرب: قد مر القوم على وجوههم إذا أسرعوا ويحتمل أن يكون على سبيل الحقيقة سأل الصحابة رضي الله عنهم النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لهم:

«إنَّ الذى أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كلّ حدبٍ وشوك»

(الترمذي - ك: تفسير القرآن وأحمد في مسنده:مسند أبي هريرة) .

ص: 186

فدلَّ هذا دلالة ظاهرة قاهرة على أن ما كان من هذا الباب ونحوه يحمل على الحقيقة، فهو من عالم الغيب أولاً، والفاعل هو الله القادر عز وجل فلا مجال البتة لتحكيم أعراف العقل والعادة، بل منطق العلم يقضِي باستحضار جلال الله وكماله.

وهذا الذي قلته هنا لايضير البحث في التصوير البياني في القرآن الكريم، فإنّ أنماط التصوير البيانيّ في القرآن الكريم وفيرة فى غير هذا الباب، علاوة على أنَّ الذهاب إلى الحقيقة فى مثل هذا الذى ذكرت أدخل فى باب البلاغة التى تُبقى صور الحقائق على حالها دون تجريدها إلى معان ذهنية.

وهذا الذى أقوله – أيضًا - ليس إنكاراً للقول بالمجاز فى بيان القرآن الكريم بل هو إنكار للتساهل في القول به فى كل ما يحسب إمكان القول به فى بيان القرآن الكريم دون تحقيق لما يقتضيه حال المتكلم به من كماله فى ذاته وصفاته وأفعاله ودون تحقيق لما بين بيان الحق جل جلاله وبيان الخلق من تفاوت لا يحاط، ودون تحقيق لما يقتضيه حال المعنى والغرض المنصوب له البيان. (1)

(1) - ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أنَّ صورة المعنى لها أكثر من وجه في أخذ المعنى منها، يجمع هذه الوجوه طريقان كليان: طريق الدلالة، وطريق الإفادة

طريق الدلالة يجمع ما هو من قبيل دلالة الصورة علىالحقيقة ويدخل فيها ما يعرف بالتوسع، لأنَّه لا يقوم على النقل، كمثل دلالة كلمة العمى على فقد إدراك المحسوسات بالبصر وإدراك المعنويات بالبصر، فالكلمة موضوعة لمطلق معنى فقد إدراك بالبصر والبصيرة، وليس ما كان حسيًا أصل لما كان معنويًا؛ لأنّ الإنسان الأول: سيدنا آدم عليه السلام كان نبيًا تتساوى عنده المحسوسات والمعنويات، وكذلك علم زوجه وذريته.

ويجمع ما هو من قبيل المجاز القائم على النقل أما طريق الإفادة فهو كطريق مديد وسيع تدخل فيه مسيتبعات الراكيب كلها، فعلينا ألَاّ نتسارع إلى القول بالمجاز فيما لا يجمل القول فيه.

ص: 187

الحق الذى أراه أن يكون ثَمَّ منهجٌ خاصٌّ بفقه بيان القرآن الكريم ولا سيما ما يعرف بالتصوير البيانى، هذا المنهج يستحضر فى القلب كمال قائله سبحانه وتعالى في كل خطوة، واستحضار أن ما يقتضى الأدباء المبدعين إلى ارتكاب التصوير المجازى من ذواتهم وموضوعات إبداعهم لا وجود له البتة مع الله سبحانه وتعالى.

وإذا ما كان القرآن الكريم أنزل تبياناً لكلِّ شىءٍ متعلق بما يرضاه الله جل جلاله منَّا، فأمرنا به، وما لايرضاه، فنهانا عنه، فهذا البيان وأن اقتضَى أن يكون بلسان المخاطبين به في عصر التنزيل، وعلى مذهبهم ومنهاجهم، فإنّ ذلك فيما يتعلق ببناء المعنى ونهج صورته التعبيرية أما مناهجهم فى تخيّل ما لا يعلمون أو يعرفون فإنَّ ذلك ليس من سنة بيان القرآن الكريم، فانَّ الله سبحانه وتعالى عليم بكلِّ الأشياء بحقائقها، وعليم أيضاً بلغة المخاطبين بالقرآن الكريم، وعليم بأنَّ صورة معنى الكلمة تختلف باختلاف ما تسند أو تضاف إليه، وهذا أساس بيانى قائم على أن معانى الكلمات قائمة على مركز دلالي وفضاء دلالي: المركز الدلالى أسٌّ ثابت مكتسبٌ من جذرها الاشتقاقى، أمَّا الفضاء الدلاليّ، فهو مفتوح، فتتغير دلالة الكلمة بتغيّر ما يلحق بها أو تضاف اليه.

***

ص: 188

= تحليل الصورة البيانية لا يغنى فيه تفصيل العناصر المكونة لها ثم الوقوف بها عن استبصار التطابق بين الحقيقة والمثال بل هو ضرورة أن يرمى بالتحليل إلى المقاصد القرآنية التى يرمى بالصورة إليها، فالاستهتار بتحليل عناصر الصورة ومنازعها ومنهج تركيبها، والانشغال به وحده، ثم التشاغل عن استكناه مقاصد هذه الصورة البيانية لا يعين على فقه المعنى القرآنى فى سياق السورة، فإذا صحَّ فى بيان الشعر فلا يصح في تدبر البيان القرآنيّ؛ لأنَّ اختلافهما فى باب التصوير البيانيّ جدّ عظيم،كما لايخفى على من يفقه ما يليق بالبيان القرآنيّ، ويقف على طبيعة الكلمة الشاعرة.

إذا ما نظرت في الصورة التشبيهية في قول الله جل جلاله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:275)

تجد أنَّ التشبيه هنا مرميّ به إلى تصوير حال أكلة الربا تصويرًا لا يبقى ذو عقل معه إلا فارًّا من كلّ شائبة ربًا، وإن أحاطت به الحاجات فضلا عمَّا دونها.

إنك لا تجد أحدًا يؤقن أنَّ هذا كلام ربّ العالمين يرضي أن يكون كمن يتخبطه الشيطان من المسّ إن في حياته الدنيا وإن في الأخرى.

قراءة الصورة التشبيهية وتحليلها في نور مغزاها ومقصده هو الذي يفعم القلب بأثرها.

ص: 189

وغير خفيّ عليك أن طريق دلالة التشبيه هنا على ذلك المقصد دلالة جلية باهرة لا يتفاوت النّاس في إدراك أصل المعنى الذي يبنى على المقصد والمغزى، وإن بقيت لطائف يتفاوت أهل العلم فيها تأتيك من التدبر والتذوق لمنهاج بناء الصورة واختيار مفرداتها ومواقعها من نحو اختيار فعل الأكل، والبيان باسم الموصول، والبيان بالفعل المضارع (يأكلون) والنفي بـ "لا"

(1)

ليست كل الصور البيانية فى سياق السورة على درجة سواء من منزلة بناء السورة، فمنها ما هو رئيسي يشكل حلقة رئيسية من حلقات المعنى ومنها ما تراه وشيجة التحام بين الحلقات تنساب بينهما روح التأخى والتناغى بين الحلقات الرئيسية، وهى برغم من ذلك خاضعة لسلطان ذلك الروح المهين.

المحلل البيانى لهذه الصورة البيانية عليه أن يعى أقدار الصور ويعرف منازلها فينزل كل صورة منزلها من العناية بالتحليل والتفسير والتأويل واستكشاف أثرها فى بناء المعنى القرآنى واستلاب وعى التلقى.

***

معالم الطريق

= التصوير البيانيّ فى القرآن الكريم بانماطه الثلاثة لا يحسن البته تدبره خارج سياق السورة التى أدرج على لاحبها فإنَّ فى ذلك السياق ما يكشف عن مكونات الصورة ومنازعها وعن منهج التصوير وآماده.

(1) - لمزيد من فقه هذه الصورة البيانية راجع كتابي: معالم التكليف والتثقيف في آيات الربا من سورة البقرة)

ص: 190

وجميع الصور البيانية مطبوعة بطابع سورتها ودراسة هذه الصور فى سورة من سور القرآن الكريم دراسة متأتية جديرة بأن تكشف الوشيجة الجامعة بين هذه الصور " لأنها ما دامت قد جرت فى سورة واحدة ذات سياق واحد، فلا بدَّ أن تكون فيها جامعة تجمعها، وهذه الجامعة قد تخفى وتدق، ولكنَّها رفيعة ورائعة كهذه الطباع الخفية الحية التى تراها تجرى فى أبناء العشيرة الواحدة، أو كهذه السيما والملامح الدقيقة التى تراها فى القوم يرجعون إلى آب واحد، لأن كل رموز السورة وصيغها وصورها ترجع إلى ما يشبه أن يكون أبا واحداً هو المحور الذى تدور حوله ولابد أن يكون فى كل هذه الصيغ وهذه الرموز وهذه الصور نفس واحد يجمعها ويؤلف بينها ويجعلها (عائلة) واحدة ذات سيما وملامح متقاربة والبحث الواعى الفطن هو الذى يقع على هذا. (1)

وهذا ما قام به شيخنا حين عمد إلى دراسة (أمثال سورة النور) ، فتناول ثلاثة أمثال جاءت فيها، وقد عُنِي شيخنا – أعزّه الله تعالى - بالنظر في سياق هذه الأمثال ومواقعها من سياق السورة، كما عُني بالنَّظر في تراكيبها،وفي دلالتها على الغرض المنصوب له المثل، والمنصوب له السورة،وعلاقات هذه الأمثال ببعضها وموقع كل مثل من الآخر، فهو يضع أمامه المثابات الثلاثة التي يُرجِع " عبد القاهر " بلاغة الأنماط والأساليب إليها.

والنهج التحليلي للصورة البياني فيما كتبه شيخنا هنا مما يحسن أن يتخذ نبراسًا يهتدى بنوره ، كيما يمتلك به المتدبر ما يمكن أن يضيفه إليه.

***

(1) - شيخنا أبو موسى: دراسة في البلاغة والشعر:21

ص: 191

= أن يعمد التحليل للصورة البيانية فى سياق سورة ما إلى أن يبحث عمَّا يناظر هذه الصورة البيانية فى سياقات السور الأخرى، فانَّ هذه المقارنة تكشف عن وجوه كثيرة من حقيقة هذا الشىء المصور، وعن الفروق التركيبية بين الصورتين فيتحقق لنا بذلك العلم بوجه دلالة كلّ صورة على المعنى والغرض المنصوب له الكلام، كمثل علمنا بأمر المعاني فيم تتفق وتختلف وكيف ذلك ومن أين تجتمع وتفترق والعلم بأجناس تلك المعانى وأنواعها مفصلة وبالخاص منها بالسورة وما هو شائع فى غيرها

ومثل هذا العلم يوقف صاحبه على شىء من أسرار بلاغه القرآن الكريم اللطيفة.

وأنت في قراءتك ما كتبه شيخنا في (أمثال سورة النور) تجده قد ناظر تمثيل أعمال الذين كفروا في سورة النور بسراب في قيعة وسيعة بتمثيل أعمالهم في سورة (إبراهيم) عليه السلام برماد اشتدت به الريح في يوم عاصف،وبين الفرق بين كلّ وما اقتضى خصوصية المشبه به في كلّ صورة،وعلاقة ذلك بالسياق والغرض المنصوب له البيان في كلّ سورة.

تشبيه أعمال الذين كفروا جاء فى سورة "إبراهيم" عليه السلام وفى سورة النور. فى سورة " إبراهيم" شبهت أعمالهم برماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف. وفى سورة (النور) شبهت بسراب بقيعة أو ظلمات فى بحر لجى.

يقول الحق فى سورة (إبراهيم) عليه السلام:

ص: 192

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) }

ويقول سبحانه وتعالى فى سورة النور: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) }

سياق سورة (إبراهيم) عليه السلام غير سياق سورة (النور)، كما أنَّ سورة (إبراهيم) عليه السلام مكية كلها إلا فى قول يستثنى قوله سبحانه وتعالى:

ص: 193

{أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) }

فإنَّها مدنيّةٌ نزلت فى قتلى قريش يوم بدر. (1)

وسورة (النُّور) مدنية كلها إجماعا.

وغير خفى أنَّ سياق المكيَّة غير سياق المدنيَّة.

سورة (إبراهيم) عليه السلام المكية «موضوعها الأساسيّ هو موضوع السور المكية الغالب عليه العقيدة فى أصولها الكبيرة: الوحى والرسالة التوحيد والبعث والحساب والجزاء. وهذا تراه مبنيًا على ما جاءت به سورة الأنعام، فإنها رأس السور المكية في هذا، ومعاني السّور المكيّة تبنَى على معانيها في هذا الباب، مثلما معاني السّور المدنيّة مبنيّة على ما جاء في سورة (البقرة) ، فمنزل سورة (الإنعام) من السُّور المكيّة كمثل منزل سورة البقرة من السور المكية (2)

(1) - البقاعي:مصاعد النظر:2/196، 309

(2)

يقول أبو إسحاق الشاطبيّ (ت:790) : «المدنيّ من السور ينبغي أن يكون منزَّلا في الفهم على المكيّ، وكذلك المكيّ بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في النزول

وأوّل شاهد على هذا أصل الشريعة، فإنّها جاء ت متممة لمكارم الأخلاق، ومصلحة لما أفسد قبل من ملّة أبراهيم عليه السلام.

ويليه تنزيل سورة " الأنعام" فإنّها نزلت مبينة لقواعد العقائد، وأصول الدين، وقد أخرج العلماء منها قواعد التوحيد....

ثُمَّ لمَّا هاجر رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - إلى المدينة كان من أوَّلِ ما نزل عليه سورة "البقرة"، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة "الأنعام" فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها،وإن تبيّن في غيرها تفاصيل لها

فغيرها من السور المدنية المتأخرةعنها مبنيّ عليها، كما كان غير " الأنعامِ " من المكيّ المتأخر عنها مبنيًا عليها، وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القُذّة بالقُذَة

" (الموافقات: 3/406-407)

ص: 194

ولكنَّ السياق فى السورة يسلك نهجا خاصا فى عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصلية نهجا مفردا يميزها - كالشأن فى كل سورة قرآنية - عن السورغيرها:

يميزها بجوّها وطريقة أدائها والأضواء والظلال الخاصة التى فيها الحقائق الكبرى ولون هذه الحقائق التى قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها فى السور الأخرى، ولكنًَّها تعرض من زاوية خاصة فى أضواء خاصة، فتوحِى إيحاءات خاصَّة كما تختلف مساحتها فى رقعة السورة وجوِّها، فتزيد إطرافاً وتنقص إطرافاً، فيحسبها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد....

ويبدو أنَّه كان لجو السورة من اسمها نصيب (إبراهيم) أبو الأنبياء الشاكر الأوَّاه المُنيب

كلُّ ظلالِ هذه الصفات ملحوظة فى جو السورة وفى الحقائق التى تبرزها وفى طريقة الأداء وفى التعبير والإيقاع.

ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسية فى العقيدة، ولكنَّ حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة:

? حقيقة وحدة الرسالة والرسل ووحدة دعوتهم ووقفتهم أمة واحدة فى مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله عز وجل على اختلاف الأمكنة والازمان

? وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران (1)

فى سياق الحقيقة الأولى جاء تشبيه أعمال الذين كفروا بالرَّماد معقبا به على موقف الذين كفروا من جميع الرسل:

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إلَاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (ابراهيم:9)

(1) - سيد قطب: في ظلال القرآن:4/ 2077

ص: 195

وقالوا لرسُلِهم: {....لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا....} (ابراهيم: من الآية13) فوعد الله عز وجل رسله بالنصر والاستخلاف المكين {

فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) }

ويصور لنا جانبا من تلك الخيبة إذ يرى الذين كفروا أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الرِّيحُ فى يومٍ عاصفٍ، فلا يبقى منه شئ.

وقد صور عظيم تفريقه وابادته بقوله (اشتدت به) فآذن باقتلاعه، ثم تعقيبه بقوله جل جلاله:{لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} مقدما قوله (مما كسبوا) على قوله (على شئ) بخلاف ما جاء فى سورة (البقرة) من قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:264)

فإن الأمر فى سورة (إبراهيم) عليه السلام تمحض للأعمال، فكان تقدمها أنسب " وهو تعقيب حكيم، لأنَّ كلمه (لا يقدرون) فيها محاولة واستنفار أقصى الطاقة لتبلغ القدرة مبلغًا يصلُ بها إلى اقتناص ما كسبت، ثم إخلادهم إلى التسليم والعجز، وهذا وصفٌ خفيّ للهول الذى لا يحاط به.

وهذا التشبيه الذى يلخص ويكشف حالة الضياع للشئ المرجوّ نفعه فى وقت الحاجة إلى الانتفاع به جاء مغْروسًا فى موضعه من السورة كما يغرس العضو من أعضاء الإنسان فى موضعه الذى هو فيه.

ص: 196

بيان ذلك أن هذا التشبيه جاء متمما لوصف عذاب صاحب العمل وقد وصف القرآن الكريم ذلك وصفا يخلع القلب تأمل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (18) }

تأمل اللغة والصور التى وراء اللغة.

تأمل قوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد} وكيف اسقطت هذه الكلمات صروح الطواغيت فى مستنقع الخيبة والضياع.

ثُمَّ تأمّلْ هذه الصورة الصارخة {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} وكيف دلَّ البِناءُ للمجهول على أن هناك سُقاةً غلاظا يعالجون سقيه وهو كاره رافض وهم يصبون فى قمة ماء الصديد صبًا بعد معالجةٍ.

ثُمَّ تأمل قوله سبحانه وتعالى {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} والمراد أسباب الموت، ولكنَّ العبارة جعلت الموت جيشا يقتحم بحشوده يحيط بهذا البائس التَّعس وقوله جل جلاله {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} يعنى أشباح الموت المخيفة المفزعة قد تزاحمت بها جنبات الأرض من حوله. (1)

(1) - دراسة في البلاغة والشعر: 29-30

ص: 197

فالضعف البادى من المشبَّه به أعمالُ الذين كفروا الذين يستحبّون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدّون عن سبيل الله عز وجل ويبغونها عوجا يتناسق مع اجتماعهم فى وجه دعوة الرسل لهم، فردُّوا أيديهم فى أفواههم، وقالوا إنَّا كفرنا بما أرسلتم به، وإنَّا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب، وقالوا لهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن فى ملتنا، هذا التجمّع والتظاهر والتآذر فى وجه الحق سيستحيل يوم القيامة رمادا تشتد به الريح فى يوم عاصف، وهؤلاء القادرون على مواجهة الحق فى الدنيا لا يقدرون مما كسبوا على شئ يوم القيامة.

«ولا يمكن أن يوضع تشبيه سورة (النور) هنا لا يمكن أن يكون الكلام فى سورة (إبراهيم) عليه السلام بعد عرض حالة هذا الذى {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} هو {.. كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً

} (النور: من الآية39) وذلك لأمر ظاهر هو أنَّ كلَّ تشبيه إنَّما هو امتداد للأنسجة اللغوية التى صاغت السياق كله، وهذا يعنى ضروبا من الاتساق الخفى المكين.» (1)

وفى سورة (إبراهيم) عليه السلام صاحب الأعمال لا وجود له فقد انقطع عنها بموته وهو بين الزبانية يسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه، فكيف يكون راكضا وراء سراب، بل الأنسب أن يكون عمله رمادا.

وبهذا ترى أنَّ فى تشبيه أعمال الذين كفروا بالرماد فى سورة (إبراهيم) دَِلالةً على ما كان عليه أصحاب هذه الأعمال من استجماع وتظاهر فى وجه الحق الذى جاءت به الرسل لتخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.

فكلّ تشبيه جاء في موطنه اللائق بالغرض المعقود له التمثيل، مما يجعل دلالته على معناه وغرضه دلالة لطيفة من وجه وحتميّة من وجه آخر، بحيث لا يجد المتدبِّر نفسه إلا مستقبلة من هذا المثل الغرض المنصوب له البيان، فكان الاقتضاء قويًا على الرغم من لطفه.

(1) - السابق: 30

ص: 198

وهذا فيه – أيضًا - دَِلالةً مع مطلع السورة واسمها على مقصودها الأعظم: «التوحيد وبيان أنَّ هذا الكتاب غاية البلاغ إلى الله جل جلاله لأنَّه كافِلٌ ببيان الصراط الدال عليه المؤدى إليه» (1)

فإبراهيم "أبو الأنبياء"، والرُّسلُ أجمعون غايتُهم دعوة أقوامهم إلى التوحيد وبيان الصراط المستقيم صراط العزيز الحميد.

أمَّا سورة (النور) المدنية فإن «المحور الذى تدور عليه السورة كلّها هو محور التربية التى تشتد فى وسائلها إلى درجة الحدود وترقّ إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة التى تَصِلُ القلبَ بنورِ الله جل جلاله وبآياته المبثوثة فى تضاعيف الكون وثنايا الحياة.

الهدف واحد فى الشدة واللين هو تربية الضمائر واستجاشة المشاعر ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة حتَّى تشفَّ وترفَّ وتتصل بنور الله عز وجل وتتداخل الآداب النفسية الفردية وآداب البيت والأسرة وآداب الجماعة والقيادة بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة فى الله جل جلاله متصلة كلها بنور واحد هو نور الله عز وجل، وهى فى صميمها نور وشفافية واشراق وطهارة وتربية عناصرها من مصدر النور الأول فى السماوات والأرض نور الله جل جلاله الذى أشرقت به الظلمات فى السماوات والأرض والقلوب والضمائر والنفوس والأرواح» (2)

وفي استحضار مقصودالسورة وسياق المعنى استحضار للمعنى والغرض المساق له المثل؛ ليبين لك وجه دلالته على هذا المعنى والغرض الكليّ، فليس تدبّر الصورة البيانية بالمقصور على إدراك ما يُسمَّى بالغرض البلاغي من التشبيه أوالصورة البيانية كما هو متعالم عند الناشئة بل تدبّرها يَؤُمّ إلى إدراك الغرض الكليّ - أيضًا - ووجه دلالةِ هذه الصورة على ذلك الغرض، واتساقها مع سائر الصور لتحقيق الإبانة العَلِيّة عن هذا الغرض الكليّ.

(1) - البقاعي: مصاعد النظر:2/198

(2)

- سيد قطب: في ظلال القرآن:4/ 2486

ص: 199

فى وسط السورة: فى عقدها الثالث يأتى تشبيه أعمال الذين كفروا بسراب بقيعة أو بظلمات فى بحر لجى.... وقد تقدمه عقد يبين جريمة الزنا وجريمة القذف وحدَّهما وعقد يُبيّن وسائل الوقاية من هاتين الجريمتين ويأتي من بعده عقد يبين المفارقة بين أخلاق المنافقين وأخلاق المؤمنين وموقفَ كُلٍّ من الدَّعوة ورسولِها - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - وعقد يبين آداب الاستئذان والضيافة وهى آداب يُثمرُ التَّمسُّكُ بها الوقايةَ من التَّردِي فى جريمتى الزنا والقذف به.

ص: 200

جاء تمثيل أعمال الذين كفروا فى سورة (النور) بالسراب أو بالظلمات من بعد تمثيل نور الله سبحانه وتعالى بمشكاة فيها مصباح

تمثيلا يقرب صورة غير المحدود للإدراك، وهى صورة تموج بالنور الباهر المتجلى فى السماوات والأرض المتبلور فى بيوت الله عز وجل المشرق فى قلوب أهل الإيمان، فإذا بتمثيل أعمال الذين كفروا يقابل هذا المجال النورانيّ الباهر، لأنَّه مجال مظلم فى مبدئه مخيب موئس مخيف مرعب فى آخره، فإذا كان نور الحق ساطعا لا يخبو، فإنَّ فى أعمال الذين كفروا التماعًا كاذبا يتبعه صاحبه المتلهف، فلا يجد شيئا، ولكنَّه يجد الله سبحانه وتعالى عنده، فيوفيه حسابه، وهو سريع الحساب للذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخائفين يوما تقلب فيه الأبصار، فيجزيهم أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله وهو سريع الحساب للذين كفروا بنور الله سبحانه وتعالى الذى جاءت به الرسل، فإذا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا أو كظلمات فى بحر لُجِّيٍّ، والله عز وجل يَطْوِي بيانَ حِسابِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ:(فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) هَكذا فِي سُرْعَةٍ عَاجِلَةٍ تَتَنَاسَقُ مَعَ الْبَغْتَةِ وَالْفَجَاءَة (1)

سُورةَ "النّور" عُنِيَتْ بِحَديثِ الإفْكِ الّذِي يُمثِّلُ أخْطَرَ ما يُمكن أن يلْحَقَ بالمُجتمعِ بعد الشِّرْكِ، فَيُقَوِّضهُ،

حديث الإفكِ قدْ جعلَ كثيرًا في بَحْرٍ لُجّيٍّ يَغْشَاه موجٌ من فوقِه موجٌ، ولقيَ منْه صلى الله عليه وسلم وعائشة وأبواها رضي الله عنهم ما لا يطاقُ، ولكنَّ نورَ الحقِّ بدد تلك الظلمات، فاذا المرجفون بالفتنة أعمالهم لا تبقى وإذا هى سرابٌ بقِيعَةٍ بسيطةٍ وسيعةٍ لاتتناهَى.

(1) - راجع:السابق: 4/2521

ص: 201

حديث الأفك وما أدَّى إليه وما أعقبه والعمل على وقايَةِ الأمَّة من مثله هو المقصود الأعظم لهذه السورة، وهذا منسول من الأصل الذي تقوم عليه السور المدنية: التصاعد في منازل التقوى من كلّ ما يردي الأمّة في المذلة والهوان في الدارين.

سورة " النّورِ "وإنْ صوَّرت أعمال الذين كفروا فى صورتين متعاقبتين صورة سرابٍ بأرضٍ قيعة يحسبه الظمآن ماءً، وصورة ظلمات فى بحر لجيّ، الأول تصوير لما يقع منهم من أعمال حسبوا أن لها نفعاً أيَّ نقع.

وهم بلا شك يفعلون بعض البِرِّ فطرة إلا أنَّه ليس لرب العالمين، وليس على هدي،فليس عملا صالحًا (1) ولذلك جاء تصوير هذه الأعمال بالسَّراب الذى يظنُّه صاحبُه ماءً، وما هو إلا سرابٌ ليشاكل حُسْبَانَهم أنَّ فى عملهم البرَّ على غير هدى نفعاً لهم.

والتشبيه الثانى تصوير للأعمال الأخرى التى يعْلَمون أنَّها غيرُنافعةٍ، ولذلك لا يطمعون فيها، ومن ثَمَّ لم يكن فى تصويرها ما يَدُلُّ على أنَّ لهم فيها مطمعاً فى الآخرة. (2)

ولما كانت مفاسد الذين كفروا وأعمالهم الفاجرة التى لا تليق مع منطق العقل وفطرة الإنسانِ حشد تصويرُ أعمالِهم الفاجرة كلَّ هذه الظلمات وكلَّ هذه الأمواج والسحب على نحو فريد. (3) فكان فيه من التساوق مع أعمالهم تلك مالا تغفلُ عنه بصيرة قارئ.

وهو شديد المقابلة للمثل الأول فى السورة: مثل نور الله سبحانه وتعالى:

(1) - العمل الصالح كلّ عمل نافع، وأريد به وجه الله سبحانه وتعالى، وأقيم على هدي الشريعة كتابا وسنة، فهذه ثلاثة شروط لا بدَّ من كمال تحققها ليتحقق وصف العمل بالصلاح، وإلا فإنّه مردود على صاحبه، وإن أفاد العباد والبلاد على تطاول الأزمان وتفاسح البلدان. فعلى كلّ عاقلٍ أن ينظر فيما قدمت يداه ليعلم موقعه منه يوم القيامه

(2)

- راجع دراسة في البلاغة والشعر لشيخنا: 38

(3)

- السابق: 34

ص: 202

«الأول نُورٌ على نورٍ، والثانى ظلمات بعضها فوق بعض، وفوق ذلك التقابل تقاربٌ فى البناء اللغوى لهما:

إحتشد الأول لبيان وهج النور، فذكر المشكاة (

مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ على نُورٍ....) (النور: من الآية35)

وإحتشد المثل الثانى لتداخل الظلمات وأطباقها وتكاثفها حاذياً فى الصياغة حذو الأول تأمل (

يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ

) (النور: من الآية40)

ثم إنَّ كل صورة من الصورتين لها مدَدٌ يمدُّها، ولا ينضب، ففى الأولى شجرة مباركة يوقد منها، وفى الثانية سحاب مطبِقٌ فوق موج من تحته موج وكما قال هناك أيضا (

يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاء

) (النور: من الآية35) قال هنا (

وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ

) (النور: من الآية40)(1)

وهذا المثل أقوى فى الدلالة على مقصود السورة الذى أشرنا إليه من قبل، فأعمال الفجور والقذف به وحبَّ إشاعة الفاحشة فى الذين آمنوا مما لا يطمع فى نفعه، فهى ظلماتٌ فى بحر لجيّ معصوم منها الذين هداهم الله عز وجل لنوره، المُسبّحون له فى بيوته بالغدوِّ والآصال لا يليهم عن ذكره جل جلاله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عَرَضٌ من الدنيا فضلاعن أعمال الفجور.

(1) - السابق: 330

ص: 203

وإذا كانت معرفة معاني الكلمات والصِّيغ الجارية فى هذه التشبيهات متوقفة على معرفة السياق الذى جرت فيه؛ لأنَّ السياق هو الجذر الذى أمدها بالحياه والأسرار وهو الأرومة والمعدن الذى اليه يُرَدُّ الأمر فان تحرير المقصود الأعظم للسورة متوقف على معرفة معاني الكلمات والصيعِ الجارية فيها من خلال سياقها فالمقصود الأعظم له سلطان على السياق وما يدرج عليه من كلماتٍ وتراكيب وصور إلَاّ أنَّ معرفته وتحريره ينبثقان من معرفة السياق والكلمات والتراكيب والصور؛ لأنَّ ذلك أجلى مظهراً وأقرب إدراكاً. ولذلِكَ لا يَتَأَتَّى تَحْريرُ "المقْصُود الأعظم" من بادئ النَّظر والتأمّل، بل يكونُ ذلك من بعد تردِيدٍ للنَّظرِ، وكلّمَا ازداد المرءُ نظرًا فِي السِّياقِ والتراكيب، وانْمَاط التصوير وفنون التحبيرازدادَ قُرْبًا مٍِن تَحرير "المقصُود الأعظم"

وهذا وأن كان غير يسير فان طول الصحبة وإخلاصها استبصار وامتلاك بعض من ذلك.

***

وأنت إذا ما نظرت فيما جاءنا عن أبي الحسن:علي بن عيسى الرمّانيّ " (ت: 386هـ) مثلا في تدبر التشبيه في القرآن الكريم في رسالته (النكت في إعجاز القرآن)(1)

(1) - نشرت الرسالة ضمن كتاب: (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) بتحقيق الدكتور:محمد خلف الله، والدكتور:زغلول سلام – دار المعارف بمصر.

وقد عني أهل العلم بالنظر فيما جاء فيها، فكان لشيخنا " أبو موسى " تحليلٌ ضمنه كتابه (الإعجاز البلاغي: دراسةتحليلة اتراث أهل العلم) نشرته مكتبة وهبة: 1405، (ص:81-153) . وكان من قبل قد توفَّر على دراسة جهود الرماني في بلاغة القرآن الكريم "الصديق عبده زايد سنة:1975، فنال درجة التخصص من كلية اللعة العربية بالقاهرة، وقد نشرها بعد أكثر من خمس وعشرين سنة في مجلة الكلية نفسها العدد التاسع عشر والعشرين: (ص 558 –ج1 – ع:20- سنة1422) وكان أستاذنا الشيخ " كامل الخولى" قد تناول هذه الرسالة بالتحليل في سفره القيّم (أثر القرآن في تطور البلاغة العربية)(ص:79-109) ط:1381ومن قبلُ تناولها بالدرس:الدكتور محمد زغلول سلام في كتابه (اثر القرآن في تطور النقد العربي)(ص: 234-255) ط: دار المعرف:1968وما يزال في الرسالة ما يمكن لطالب العلم أن يستنبطه، فكم ترك الأول للآخر من الخير في معادن العلم ومكانزه.

ص: 204

رأيت عنايته بتبيان منهاج القرآن الكريم في التصوير البياني للمعاني، ودلالته عليها، ولذا يكثر من التصريح بأنَّ هذا بيان قد أخرج كذا إلى كذا.

وقد يحسب العجل أنَّ هذا ممّا قَرُب إدراكه وقلّ نفعُه، ولو أنَّه تمهَّل وتبصّر لرأى أن "الرماني" يهدينا إلى مناط العناية الرئيسيَّة في قراءة الصورة البيانية: العناية بالنظر في منهاج التصوير وطريق الدلالة.

فانظر قوله: «فبلاغة التشبيه الجمعُ بين شيئين بمعنى يجمعهما يكسب بيانًا فيهما. والأظهر الذي يقع فيه البيان بالتشبيه به على وجوه: (1)

- منها إخراج ما لاتقعُ عليه الحاسَّة إلى ما تقعُ عليه الحاسَّة.

-ومنها إخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به عادة.

-ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما لا يعلم بالبديهة.

-ومنها إخراج ما قوة له في صفة إلى ما له قوة في صفة» (2)

قوله (إخراج

) بيان منهاج، وهذا الإخراج ليس سبيلا مطرَّقًا،لأنّه إخراج مرتهن بالسياق والمقصد الأعظم الذي يساق إليه البيان.

وهو يبين لنا شيئًا من ذلك: يعرض لقول الله عز وجل في سورة (النور:39) :

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}

فيبرز لنا منهاج البيان فيه بأن «هذا بيانٌ قد أَخرَج ما لا تقع عليه الحاسّة إلى ما تقعُ عليه.

(1) - يغرينا الرمانيّ بقوله (الأظهر) بأن هنالك ما قد لطف، وشرف، فإذا كان هذا هو الأظهر، وهو كما ترى جودًا وكرما، فكيف بما لَطُف، إنّه طَلِبة الأشراف عقلا وقلبًا وهمًّا. وقليلٌ ما هم.أمَّا أشراف الأحساب زعمًا فهم اليوم كثر.

(2)

- الرمانيّ: النكت في إعجاز القرآن:81- ضمن: (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)

ص: 205

وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة، ولو قيل: يحسبه الرائي ماءً، ثُمّ يظهر أنّه على خلاف ما قدَّر لكان بليغًا.

وأبلغ منه لفظ القرأن؛ لأنَّ الظمآن أشدّ حرصًا عليه وتعلّقَ قلبٍ به،ثُمَّ بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد في النَّار – نعوذ بالله من هذه الحال

وتشبيه أعمال الكفار بالسَّراب من حسن التشبيه، فكيف إذا تضمن مع ذلك حسن النظم

وعذوبة اللفظ

وكثرة الفائدة

وصحة الدلالة» (1)

الرُّمَّانيّ كما ترى عُني أولاً بِلَفْتِكَ إلى المقصد المَرْمِيّ بالتشبيه إليه لتعرفَ موقعه في طرفي التشبيه، وهي معرفة تبيّن لك منهاج الدلالة، ومنهاج اختيار صورة الطرفين أيضًا، فأفادك أنَّ المشبّه، والمشبه به قد اجتمعا، لم يجمعهما جامع قَسْرًا بل تعارفا، فاجتمعا، وهو يُحرِّر لك مناط الاجتماع: بطلان المتوهّم، وهذه كلمة تبين لك امتلاء النفس بما بطل، وتبيّن لك عظيم جهالة من يملأُ نفسه بمثل هذا، ولو أنّه لم يكن مفتقرًا إليه لكان له في أن يملأها بذلك ما يغفر له، ولكنّه يبيِّن لك أنَّه توهّم باطلا، وهو شديد الحاجة وعظيم الفاقة. فكشف لك بهذه الكلمات القليلة مبلغ ما هو آخذ بالنفس حينذاك.

وانظر كيف أنه أبرز أثرين: الشدة والعظم.

في الشدّة نفوذ وحركة رأسية للأثر، وفي العِظَم إحاطة وحركة أفقية له، فإن العظيم ما أحاط بالأشياء وجمعها.

ثُم يترقّى بك إلى أفقٍ أعلى من النَّظر: يُقيمك أمام منزلين من البيان: بيان عارٍ من التصوير: (يحسبه الرائي ماءً

) عبارة دَالة ولكنها لا تملأ النفس بالشعور بشديد الخيبة وعظيمه.

(1) - السابق: 81-82

ص: 206

وبيان مصور (يحسبه الظمآن ماء) أرأيت إلى تلك الكلمة المصورة ما هو آخذ بخناق الحاسب (1) .

وهذا منهج عالٍ من مناهج إدراك الفروق بين نمطين من البيان.

الرمانيّ لم يجرد هذا البيان العاري من البلاغة، فإنَه ناظر إلى قوله (يحسبه) وهي كلمة لا تقال إلا في مقام الدلالة على أنَّ هذا من ظلمات الخطأ او الخطيئة،وكذلك هي في البيان القرآنيّ لا تأتي إلا دالة على أن ما كان ليس بحق أو ليس بنافع. وناظر إلى قوله (ثُمَّ يظهر أنّه

)

يقول: «لو قيل: يحسبه الرائي ماءً، ثُم يظهر أنّه على خلاف ما قدّر لكان بليغًا»

وكأنَّه يهدينا إلى أن البيان العاري من التصوير لا يفقد كل عناصر بلاغته، فإنَّ عناصرها كثيرة. وهذا منهج في التقويم دقيق.

(1) - يقول شيخنا أعزّه الله تعالى: «لاريب أنَّ هناك فرقًا بين أنْ تفيضَ الكلمات بالمعاني والمقاصد، وأن تفيض بها الأحداث والصور. فرقٌ بين ما يدلُّ عليه لفظ الشجاعة، وما تدلُّ عليه صورة الأسد ببطشه وإقدامه وبأسه وشدّته.

المعاني التي تفيضُ بها الأحداثُ والصّور أغزر وأبين وأمكن، ولا بدَّ أن يكون هذا القدر الزائد مقصودًا، وأن لا يكون هناك سبيل إلى الإبانة عنه إلا هذا الطريق؛ لأنَّ كلّ وسيلة من وسائل البيان لا يصار إليها إلا لضرورة

وإنّما كلّ شيءٍ في كلام أهل الطبع ركن فيه لاينهض إلَاّ به، فإذا رأينا تشبيهًا أو مجازًا أو كناية ليس موقعه في الكلام موقع ما لا يتحصّل الشيء إلا به فهو تكلف ساقط» (التصوير البياني: دراسة تحليلية لمسائل البيان: 7)

ص: 207

وهو يقرن بهذا البيان العاري ذلك البيان القرآنيّ العَلِيّ، فيبيِّن أنَّه الأبلغ:«أبلغ منه لفظ القرآن (1) ؛لأنّ الظمآن أشدَّ حرصَا عليه وتعلق قلب به، ثُمَّ بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيّره إلى عذاب الأبد في النار»

بيَّن لنا أنَّ كلمة «الظمأن» في نظمها هنا قد صورت لنا ما هو آخذ بالحاسب، فالصورة قد قامت على كلمة ساندتها كلمات، فهيَ أساس الصورة.

كذلك يرسم "الرماني" لنا منهاج النظر، ويقيم المعالم على طريق فقه الصورة البيانية في القرآن الكريم.

ثُمّ يضيف إلى هذا أنَّ هذا التشبيه لأعمال الكافرين بالسَّراب من حسن التشبيه.

وكلمة (حُسْن) من كثرة ما مرت على الآذان كادت بعض القلوب تغفل عن مدلولها.

الحُسن ما فاض عليه من نافلة العطاء من بعد أن توفَّى لك فريضة العطاء، ومنه الإحسان، فهذا شيءٌ "حسنٌ " أي جاءك بما هو فوق حقك، فأحسن إليك، ومن قدم إليك حقك عنده أحسن إلى نفسه أولا إذ عتقها من التَّبعة، ومن قدَّم لك ما فوق حقك فقد أحسن إلى نفسه وإليك معًا، فافترقا (2)

(1) - أي نظمه وتصويره، فإن ائمة البلاغيين لا يريدون باللفظ مفردات القول بل الصورة النظمية التركيبية للمعنى. فهذا هو المناط الرئيس لبلاغة البيان ومناط المفاضلة.

(2)

- من الكلمات التي كادت القلوب تغفل عن مدلولها كلمة (جيّد) فقولنا: «وهذا قول جيد» قد يُظن أنّه نعتٌ له بما لايُبين عن عَليّ منزله، ولكنك إذا ما نظرت في معدن المدلول ومكنزه، وهو «الجود» رأيت أن الجيد هو ما كان بيِّن الجود، وما جاد عليك وأفاض، فهو الملِيء القادر الحميد، ومنه الجواد من الخيل: ما يعطيك من عدوه فوق ما تطلب ومن غير ما تطلب، فعلينا أن نحيي مدلول الكلمات في قلوبنا، فإنَّ إحياءها، ولا سيّما الكلمات القرآنية والنبوية من الخير الذي أظنّ أنه من العمل الصالح

ص: 208

كلمة (من حسن التشبيه) دالّة على أن هذا التصوير قد أفاض عليه فوق ما جاءك من البيان العاري عن التشبيه. ثُم يلفتك إلى أنَّ روافد الإحسان إليك من الصورة التشبيهية في الآية قد تكاثرت فقال «فكيف إذا تضمَّن مع ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة وصحة الدلالة»

هذا الاستفهام التعظيمي يرسُم في قلبك شيئًا من فخامة العطاء وعظمته حين تتضام الروافد وتتلاقى: حسن النظم، عذوبة اللفظ، كثرة الفائدة، صحة الدلالة.

أربعة روافد اجتمعت إلى حسن التشبيه، فقوله (حسن النظم) دلَّك على أنَّ حسن التشبيه هنا ليس قائمًا من حسن النظم وحده وإن كانا متمازجين: حسن التشبيه آتيك من منهاج الإخراج: إخراج ما تقع عليه الحاسة إلى ماتقع عليه.

وحسن النظم آتيك من منهاج التعالق والتآلف والتآخي.

وعذوبة اللفظ تبين لك مبلغ ما يقوم في فمك وأذنك من الترتيل فينساب العطاء إلى قلبك، كأنّي به ينظر إلى ما يحمل عطاء الحسنين إلى قلبك: إنها عذوبة اللفظ فتناغي الألفاظ في إيقاعاتها وجرسها يفجر نهر العذوبة في فمّ التَّالى وأذن المستمع، فلا يملّ التالى من ترتيله، ولا السامع من إصغائه، وذلك هو شرف التواصل والاجتماع والتعاون على البر ّ والتقوى (1) وهذا وجه من وجوه المعنى في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ

) (الحجرات:10) فشأن الأخوة التلاقى على البِرّ لا التدابر والتخاصم لعرض من الدنيا،وخير التلاقي ما كان على تلاوة القرآن واستماعه.

ويأتيك قوله (كثرة الفائدة) مؤسسًا على قوله: «حسن التشبيه وحسن النظم وعذوبة اللفظ»

والكثرة تقال لما نما وزاد مما شأنه النماء، أمَّا إن بقي على حاله وجمد فلا يقال له كثير، وإن تعدد، فلم يحصَ.

(1) - وهذا كما ترى منسول من حقيقة البلاغة عند "أبي الحسن" فهي عنده «إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ»

ص: 209

وكأنّه يلمح إلى أن عطايا هذا التشبيه تنمو بما يتردد فيه النظر المتأمل، وهذا يثمر صحة دلالتك عَلَى عَلِيِّ معاني الهدى إلى الصراط المستقيم، ومن ثمَّ رتّب عليه قوله (وصحة الدلالة)

وفي الصِّحة براءة من المعابة والعجز، فالصحيح نقيض السَّقيم أي لاشائبة ولا معابة فيه، وهذا يدلّك على أن تشبيه القرآن الكريم يحقِّق لك النَّظرُ النَّاصِحُ فيه شيئًا ممَّا تطلبه في ابتهالك في أم الكتاب:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) . (1)

نقلت لك ما جاءك به " الرمانيّ" منذ عشرة قرون مضت لترى المعالم التي أقامها أسلافك على طريق فقه المعنى القرآني، فتهتدي كمثل ما اهتدى شيخنا " أبو موسى" فلم يقف جوادُه عند ما وقفت جياد الأسلاف بل أغذَ فِي السَّير، فكان منه الذي بدأت بذكره ليملأ قلبك، فتعلم أنّه مبني على حركة عالم مضى منذ عشرة قرون، وأنَّ لك أن تبني على ما بنى عليه شيخنا، فيتصاعد السفر إلى منازل الشرفاء. (2)

(1) - يجمل بك أن تراجع تحليل شيخنا مقالة الرماني في هذا التشبيه في كتابه: (الإعجاز البلاغي: 101- 103) ط:1405- مكتبة وهبة بالقاهرة، وما كتبه الصديق " عبده زايد" في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة العشرين:(ص 558 –ج1 – سنة1422)

(2)

- دلنا شيخنا "أبو موسى" في سفره الجواد (الإعجاز البلاغي: 99-100) على قيام مقالة "الرّماني" هنا في مقالة " عبد القاهر " في شأن التشبيه، وهذا منه بيان لتناقل المعرفة في قلوب العلماء تناقل الأبناء في أصلاب الأباء، فيحمل كلٌّ من ذات أبيه ما يميزه عن أخيه.

ص: 210

وليس يخفى عليك أنّي لست هنا إلى دراسة التصوير البياني في القرآن الكريمِ فاستقصى لك القولَ في أنماطه، وإنّما أنا إلى الإشارة إلى معالم تقوم على جنبات الطريق إلى فقه المعنى القرآني في سياق السورة، وهذا ما عُنِيت به، فبينت لك شيئًا من تلك المعالم قائمة في بيان شيخنا أبي موسى، وفي بيان أبي الحسن الرمانيّ " لتهتدي بهما، فيكون منك إحسان كما كان منهما.

-..رابعاً: التحليل البياني لجرس والايقاع..

جماع الأثر في البيان القرآنيّ

ليس متوقفًا في التسليم به أنّ البيان القرآنيّ الكريم يحمل أثرين جليلين ممتزجين في بنائه اللسانيّ المعجز:

الأثر الأول: موضوعيّ متعفّل يمكن إدراكه وتعقُّله وضبطه والإبانة عنه الأثر الآخر: انطباعيّ نشعر به وندركه ونتبينه في قلوبنا وأرواحنا، ولكنَّ الجمهرة لا تضبطه، ومن ثَم لا نكاد نملك الاقتدار على وصفه وتبين معالمه وملامحه، بل قد يتعذر على كثير منا أن يحيط بمبعثه ومصدره

- الأثر الأول عنيت الدراسات البيانية به فيما عرف بأصول النظر في نظم البيان ومناهج تركيبه وأنماط تصويره، وفنون تحبيره، وقد قام بكثير من حقوق ذلك علم بلاغة العربية.

وهذا ما قرّر عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الأعجاز " فريضة الإحاطة به، والوقوف على تعليل الحسن فيه والإبانة عنه، وقد جعلت بين يديك نصّ بيانه في هذا من قبل (1)

- والأثر الأخر النفسيّ الانطباعيّ ندركه من خلال جرس البيان وإيقاعه (2)

(1) - ينظر دلائل الإعجاز - تح شاكر ص 41

(2)

- الجرسُ والإيقاع من المفردات العربية التي لم يغفلها أهل العلم، وقد سمّى الخليل بن أحمد أحد كتبه (الإيقاع) ، وهو مصطلح يشيع في مؤلفات النغم عند علماء العربية.

انظر كتاب: كمال أدب الغناء للحسن بن أحمد الكاتب ص 92

وكثير من مصطلحات البلاغيين وعلماء تأويل البيان القرآنيّ منسولة من معنى الجرس والإيقاع، وإن يكن مصطلح الإيقاع غير شائع في استخدامهم.

ويتورع بعض أهل العلم من استعمال تلك الكلمات في تدبّر البيان القرآني كمثل تورعهم من استخدام كلمة (السجع) ، والحق أنَّ غير قليل من مصطلحاتنا البلاغية إنما نستعملها لا لأنَّها الكاشفة ع حقيقة ما في البيان القرآني، بل لأنَّها أقرب المصطلحات إلى قدرتنا على الإبانة عما تدركه قلوبنا، ولا نجد له من أنفسنا أسماء أو مصطلحات تناسب جلال البيان القرآنيّ، والله عز وجل قد خاطبنا بأسماء لأفعال منه بنفس أسماء أفعالنا، لا لأنهما سواء بل لأنًَّ هذا= = ما يمكن أن نفقهه. ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد سمى حسن الترتيل وتجويده تغنيًّا، وهي كلمة من جنس قولنا: إيقاع ونغم وجرس.

نحن نستخدم هذه الكلمات عجزًا، ونحن نؤمن أن القرآن كلام الله عز وجل، ليس بمخلوق ولا حادث، و {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42) وأنَّ فضله على كلّ بيان كمثل فضل الله سبحانه وتعالى على كلِّ خلقه.،وقد قال الله عز وجل عن نفسه: {

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11)

ص: 211

، وهو لايقل أهمية عن الأثر الآخر في تحقيق مقصد القرآن الأعظم وتقريره في النفوس، لتنبعث إلى ما يراد منها ولها.

بغير هذا الأثر قد لا يتسارع إلى النفس توغل الأثر الموضوعيّ القائم برسالة الإعلام بما يريده الله سبحانه وتعالى – مِنَّا ولنا.

وهذا الأثرُ قد يكونُ أظهرَ وأسرعَ إدراكا من الأثر الموضوعيّ المتعقَّل، كما نراه في موقف غير قليل من أصحاب الفطر والحس المتيقظ ممن لا يفقهون أصول البيان بالعربية، وهم يستمعون ترتيل القرآن الكريم، فيتأثرون بما يسمعون، ولا يفقهون أثره الموضوعيّ المتعقَّل.

يقول " جان جاك روسّو "(1712-1778 م) في كتابه (محاولة في أصل اللغات) :

«

إنّك لترى الذي له بعض معرفة باللغة العربية يبتسم إذ يتصفح القرآن، ولعمري، إنّه لو أنْصَتَ إلى محمد يقرأه بنفسه في تلك اللغة البليغة الموقَّعة، وبذلك الصوت الجهوريّ المقنع الذي كان يستهوِي الأذن قبل أن يستهوِي القلب، ولو أنصت إليه إذ لاينفكُّ ينفثُ فِي حكمِه نبرةً وحماسًا لسجد على الأرضِ من الرهبة، ثُمَّ لناداه: ألا، أيها النبي الأعظم، ألا، يارسول الله خذنا إلي المجد والشهادة: نريد أن نغلب أو نموت في سبيلك» (1)

هذا الذي يحدثك عنه " روسو" أثر انطباعيّ " قائم في البيان القرآنيّ يزيدك إدراكا له، ويسارع به إلى قلبك ترتيلُ القاري وتغنِّيه مما يبعث فيضًا من الاستحسان للبيان القرآنيّ إلى قلبك، وكأنَّك قد فقهت بما قاله " روسو" شيئًا مما جاء عن النبيّ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا – مرفُوعًا من الأمر بتزيين القرآن الكريم بأصواتنا.

عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"زينوا القرآن بأصواتكم. (البخاري تعليقا- كتاب: التوحيد)

(1) - محاولة في أصل اللغات – تعريب محمد محجوب ص71 –دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1986

ص: 212

وقد حث الحق سبحانه وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم على ترتيله (

وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:4) وحثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمته على حسن التغنى به:

روى الشيخان بسنديهما أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» . (البخاري: حديث: 5023، ومسلم: صلاة المسافرين - حديث: 1881

وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للهُ أشدُّ أذنا إلى الرجل حسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته» . (سنن ابن ماجة: إقامة الصلاة – إمامة)

وعن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ هذا القُرآنَ نزل بحُزن، فاذا قرأتموه، فابكوا، فان لم تبكوا، فتباكوا، وتغنوا، فمن لم يتغن به، فليس منا» (ابن ماجة: إقامة)

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا كتاب الله، وتعاهدوه، وتغنُّوا به» (مسند أحمد: 4/136)

فهذه الأحاديث وكثير غيرها تهدى إلى سنة أداء القرآن الكريم أداء حسناً، فانَّ فيه تزينَه فى قلوب سامعيه، فيقبلون عليه يتعلمونه، ويتدبرونه، ويلتزمون بهداه، فإنَّ حسن تلاوته وترتيله هو أول الطريق الرئيسي إلى فقه معناه المؤدِّي إلى حسن التزام هديه أمرا ونهياً، ولن يتحقق لبيان أن يرتّل وأن يتغنى به إلا إذا كان نسقه ونظمه وجرس كلماته وموقع معانيه غنيًا بمقومات الإيقاع وأنواعه وألوانه المتعدِّدة وهذا ما تحقق للقرآن الكريم،فلا يشاركه فيه بيان آخر.

ص: 213

الجرس والإيقاع فيه عنصر رئيس من عناصر البيان المنتج المعنى القرآني فى قلب المتلقي لا يقل عن أىّ عنصرٍ آخر أثراً وقيمة، بل هو أظهر عناصر ذلك البيان وأقربها إلى الادراك إجمالا، وأن يكن إدراكه على التفصيل والتحليل والتفسير غير قريب، ولا يسيرٍ فى كثير من صوره ممَّا يجعل المرء يحتاج في إدراكِهِ إلى لقانية وحسٍّ مرهف وأذن واعية.

عناية القرآن في العهد المكيّ بالقيم الصوتيّة.

تنزّل القرآن الكريم في ثلاثٍ وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة في مكة يقرر أصول العقيدة بالقصد الأول، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ومنها عشر سنوات في المدينة النبوية يقيم فيها أصول التشريع وما يضبط حركة الحياة المسلمة، وما يحقق للأمة عزَّها وسلطانها.

اتسم البيان القرآنيّ النازل في العهد المكيّ بظهور القيم الصوتية من الجرس والإيقاع في تكوين وتشكيل صورة المعنى؛ لما يملكه الجرس والإيقاع من قدرة على النفوذ في حنايا القلوب، وذلك مرده إلى الميل الفطري للإنسان للإيقاع، فقد جبلت النفوس الناطقة على إدراكه،والارتياح والطرب بإدراكه (1) ، ففي ما تسمعه أذنه منغوما تجاوب مع حركته وحركة الحياة في داخله وخارجه، ذلك أنَّ هنالك تلازمًا بين الحياة والإيقاع، فليست هناك حياة لا إيقاع فيها.

وهذا أمر لايكادُ يغيمُ على كلِّ من ألقى السمع لما نزل من آيات الذكر الحكيم في العهد المكيّ.

وليس معنى ذلك افتقار ما نزل من الآيات في العهد المدني إلى الإيقاع بل هو قائم فيه، ولكن قد يكون لطيفًا ، وأقلَّ ظهورًا ممَّا هو في نظيره من التنزّل في العهد المكيّ.

(1) - ينظر المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع - ابو محمد السجلماسيّ ص:502 - تح: علال الغازي – ط: مكتبة المعارف – المغرب: 1401

ص: 214

وهذه الحقيقة التي لايمكن التوقف في التسليم بها فضلا عن إنكارها وجحدها دليلٌ على ما للقيم الصوتية: جرسًا وإيقاعًا من أثر في إيصال المعنى إلى القلب وتقريره فيه ليبعث صاحبه إلى ما يراد منه، وهذا ما جعل المكذبين بالقرآن الكريم في مكة يتناصحون بألا يستمعوا إليه، وأن يحرصوا على أن يلغوا فيه لعلهم يغلبون.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت:26)

{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (هود:5)

ونحن نسمع الحق عز وجل يهدي عبده ونبيه سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أن يجير من يستجير به حتّى يسمع كلام الله جل جلاله:

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)(التوبة:6)

فإنَّ مجرد استماعه كلام الله جل جلاله فيه الحجة عليه (1)

(1) - يصحّ أن تؤوّل (حتّى) بـ (لام التعليل) أي من أجل أن يسمع كلام الله جل جلاله وهو في جوارك آمن لا يخشى على نفسه، فيكون له ما يعينه من قرار النفس وطمأنينة القلب ما يجعله يستشعر ما في القرآن بمجرد السمع.

ويصح أن تؤول (حتّى) بـ (إلى) أي إلى أن يتمكن من أن يسمع كلام الله عز وجل، فذلك كاف في إقامة الحجة عليه، وهذا من إبلاغ الرسالة له، ومن بعد أن يسمع كلام الله أبلغه مامنه.

ص: 215

، وإن لم يفهم ما فيه إن كان أعجميًا، لأنَّ في الصورة الصوتية لبيانه ما يدلّ دلالة قطعية على أنّه ليس من كلام البشر، وأنّ ما فيه من تلك القيم الصوتية جرسًا وإيقاعًا، وما يتحقق فيه من التناغي والتناغم لا يمكن أن يأتي في كلام أحد من البشر، وإن كان نبيا رسولا على نحو ما سبق أن نقلته لك من كلام " جان جاك روسو"(1)

القرآن الكريم في العهد المكيّ إذن طابق بين مكونات صورة المعنى ومقتضيات السياق والأغراض التي يساق لها الكلام، وطبيعة القوم النازل فيهم القرآن الكريم في ذلك العهد، فجعل للجرس والإيقاع مكانًا عليًّا في تكوين صورة المعنى وتشكليه فيما تنزل من القرآن في ذلك العهد المكيّ. (2)

***

. بيان الجرس والإيقاع.

(1) - من الأدلة القوية القريبة الباهرة القاهرة على أنَّ للقرآن الكريم إيقاعه الذي لايمكن أن تجده في غيره من الكلام، وإن كان كلام نبيّ مرسل أن تعمد إلى أي بيان غير القرآن الكريم، وتطلب ممن تراه الإمام في أصول التغنيّ بالبيان القرآني أن يتغنى بذلك البيان غير القرآني على أصول التغني بالبيان القرآنيّ، وإن كان حديثًا نبويًا بل، وإن كان حديثًا قدسيًّا، فإنَّه لا محالة عاجز عن أن يفعل، وإن حمل على نفسه وقسرها على أن تتكلف بان عواره وشناره، وبدا منه ما يضحك.

(2)

- لعلّ هذا ممَّا يمكن أن يسترشد به في ترجيح القول بمكية آية أو مدنيتها حين يتفارب المنقول عن أهل العلم، فإذا ما غلب عنصر التصويت والتوقيع على صورة المعنى، مضافًا إلى طبيعة المضمون وعلاقته بما كان القصد الأعظم للتنزل في العهد المكيّ، فالأقرب القول بمكية التنزيل.

ص: 216

(الجرس) هو الأثر السمعى الناتج عن الذبذبات الفرعية المتوائمة مع الذبذبات الأصلية الناتجة من الأوتار الصوتية عند نطق الأصوات المجهورة (1) .

" فاذا كانت الكلمة مكونة من حروف قوية الإسماع حسن جرسها وإلَاّ، فلا، أضف إلى ذلك أنَّ حسن الجرس يرتبط أيضاً بحسن التأليف"(2)

وهذا الجرس يمكنك أن تلاحظه في بناء الكلمة – إذ تصغي إليها - ولهذا حرصت العرب في بناء كَلِمِ بيانها على أن توفر لها مزيدًا من التناغم والتناسب، وأجلَّت خفة الأداء، فأحدثت ضروبا من التغيير والتحول في أصوات الحروف، وكثيرًا من الاستغناء والحذف تحقيقًا للانسجام الصوتي للكلمات، وهذا ما يلحظه الناظر فيما قام له علم التصريف، وهو علم بأصول صناعة الكلمة في لسان العربية. (3)

(1) - الأصوات المجهورة هي التى يهتز معها الوتران الصَّوتيان لانقباض فتحة المزمار وضيق مجرى الهواء واقتراب الوترين اقتراباً يسمح للهواء بهز الوترين. وهي متفاوتة في الجهر أعلاها أصوات المد الثلاثة (الصائة الطويلة: حروف المد) ثُمَّ الحركات الثلاثة.

(2)

- قراءة جديدة لتراثنا النقدي: مقال" موقف النقد العربي التراثي من دلالات ما وراء الصياغة اللغوية لتمام حسان: المجلد الثاني ص 786

(3)

- علم تصريف بناء الكلمات من العلم الجليل الدقيق الكاشف عن منهاج العربية في تأثير أصوات العربية وتأثرها في وجودها النظمي ليُبنَى من ذلك كلمة متسقة الأصوات تجرى على اللسان فتستقبلها الأذن وتنفذ في القلب.

وقد ضاق طلاب العلم بما يكلفون به من النظر فيما جرى لبعض الكلمات من الإعلال والإبدال والتصورات الفرضية التي كانت عليها الكلمة، والمراحل التي تنقلت فيها حتّى بلغت ما بلغت.

وكأني بعلماء تصريف بناء المفردات في العربية يشيرون بهذا إلى شبيه بما يجري في علم تصريف بناء الكلام من الكلم من تأثر وتأثير، وإن كان هذا في علم تصريف بناء المفردات أقرب وأيسر إدراكًا.

وكأني لمنهاج بناء الأمة المسلمة من أفرادها نسب من منهاج بناء مفرداتها وجملها وفقرها تناسق وتناسب وتآخي وتناغى لتبنى أمة مسلمة، كل من فيها مؤثر في غيره ومتأثر به، فالأمة بيانًَا والأمة بناءً على نهج سواء، فمن فقه منهاج بناء بيانها، فقه منهاج بناء وجودها المسلم.فدراسة لسان الأمة هي دراسة للأمة نفسها.مبنى ومعنى.

ص: 217

وهي في منهاجها التصريفي قد لا حظت العلاقة بين طبيعة أثر الصورة الصوتية للكلمة، والمعنى الذي تقوم الكلمة بحمله في سياقها الذي تدرج عليه،فهى لغة موسيقية موزونة فى حروفها ومفرداتها وتراكيبها فحروفها موزعة المخارج الصَّوتيَّة توزيعاً موسيقيًّا وافياً، فليس هناك مخرجٌ صوتيٌّ واحدٌ ناقصٌ فى الحروف العربية التى قسمت على حسن موقعها من أجهزة النطق المستخدمة أحسن استخدام يهدى إليه الافتنان فى الإيقاع الموسيقيّ، فاذا هى لغة شاعرة فى حروفها قبل أن تتألف منها كلمات.

والوزن والانسجام هما دعامة بناء الكلمة المفردة فى العربية، فاذا التوازن بين العناصر الصوتية للكلمة وافر باهر من جهة وهو يبيّن صورة المبنى ومافيه من المعنى كذلك، وكثيراً ما يسترشد بالمبنى فى نسقه الصوتيّ على فقه المعنى ولا نجد لغة كالعربية تناسقت منها أصوات كلماتها من جهة وتناسقت تلك الهيئة الصوتية المركبة فى كلمة مع معناها، فاذا الأحداث بادية فى الأصوات وإذا الأرواح تنِمُّ عنها الأجسادُ،أو يَشِي المظهر بالمخبر (1)

(1) - راجع في هذا ما قال " العقاد" في " اللغة الشاعرة " في فصول:" الحروف، والمفردات، والإعراب.

وقد كتب من قبله " ابو فهر" ثلاث مقالات في مجلة " المقتطف" بعنوان: (علم معاني أصوات الحروف) في المجلد 96،97 - مارس،أبريل ومايو 1940، وأعيد نشر المقالات في كتاب (جمهرة مقالات الاستاذ محمود محمد شاكر) ج2 ص 708-735- جمع: د/ عادل سليمان جمال – مكتبة الخانجي سنة 1424 هـ

يقول الشيخ أبو فهر – رحمه الله:" أريد بقولي " معاني أصوات الحروف " ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف – لا الحرف نفسه – من المعاني النفسية التي يمكن أن تنهض بها موجة اندفاع من مخرجه

وما يتصل بكلّ هذه من مقومات نعت الحرف المنطوق.

وليست المعاني النفسية – أو العواطف أو الإحساس – هي كلّ ما يستطيع أن يتحمله صوت الحرف بل هو يستطيع أن يحتمل – أيضًا – صورا عقلية معبرة عن الطبيعة وما فيها من المادة، وما يتصل بذلك من أحداثها أو حركاتها أوأصواتها أو أضوائها أو غير ذلك...." (الجمهرة:2/708)

وهذا المذهب الذي يغدو فيه أبو فهر مبعثه الإيمان بالعلاقة الوطيدة بين الصوت والمعنى، وأن أصوات الكلم ليست إشارات إلى معان زنيمة لا علاقة لها بها، وأنَّ تشكيل كلمة (ضرب) على هذا النحو له علاقة بالمعنى النفسي والعقلي للحدث، وأنّه لا يكون في طبيعة اللغة أن يدل على ذلك المعنى النفسي للحدث قولنا (ربض) أو (رضب) أو غيره من التقليبات الصوتية للحروف،أو أن يدل عليه كلمة من مادة أخرى.

وكلام ابن جنّي في هذا الباب قائم بين يدي طلاب العلم حتّى غدا مما اشتهر من العلم، وهو باب لطيف طريف دال على حكمة العربية في وضعها الأول سواء قلنا إن مبدأها توقيف أو مواضعة توفيقية اصطلاحية.

ص: 218

ولمَّا كانت المعاني متنوعة وجدنا في العربية كلمات ما تزال تحمل في بنائها الصوتيّ آثارَ الحزونة والصعوبة التنغيمية بغية إعانتها على الوفاء بحق تصوير معناها بصوتها، فيكون منها عونٌ للمتلقى على أن يدرك المعنى الذي قد يجد من نفرة النفس عنه ما يعيقه بعض الشيء عن إدراكه وتعقله، فيبقى الأثر الصوتي معينا على إدراك المعنى الغريب الذي لاتأنس النفس بوقوعه وصحبته، كمثل ما تراه في اصطفاء الله سبحانه وتعالى كلمة:(ضِيزَى) في قوله- عز وجل: (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى)(النجم:22) وكلمة: (طغواها) في قوله جل جلاله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا)(الشمس:11)

المهم أنَّ جرس الكلمة رافد رئيسيّ من روافد الدلالة على معناها.

ونحن بحاجة إلى ملاحظة انتشار الأصوات الجهرية التى هي معدن جرس البيان القرآنيّ وتوزيعها؛ لتتبين لنا سنة القرآن الكريم فى التنسيق الصوتيّ بين الجهر والهمس الذى هما رافد الايقاع. (1)

(1) - إذا ما نظرت في سورة (أم الكتاب) وجدت الحروف المجهوره هي الغالب عليها، وقد اشتملت على الحروف المجهورة كلها خلا ثلاثة أحرف (ج – ز – ظ) وقد كثر فيها أقوى الحروف جهرًا وهي ما يسمى بالحروف المتوسطة (ر.- ل – م – ن) . وقد غلب تكرارها على غيرها من الحروف المجهورة.

وليس فيها من المهموس إلا ثلثا الحروف المهموسة: ستة أحرف: (ت- ح.- س.- ص –ك –هـ) ، ولم يأت فيها (ث – ش – ف) وما جاء تكرر كل حرف منها ثلاث مرات إلا (الحاء) و (الهاء) خمس مرات لكلّ، وهذا إذا ما عددنا (البسملة) آية من السورة.

وقد شاع في السورة الأصوات الصائتة الطويلة: " حروف المدّ ". فقد تكررت إحدى وعشرين مرة: (الله – الرحمن – الرحيم - لله – العالمين – الرحمن – الرحيم - مالك – الدين - إياك – إياك – نستعين - إهدنا – الصراط – المستقيم - صراط – الذين – المغضوب – لا - الضالين)

وكانت الغلبة لتكرر الألف، وهي أمدّها ثلاث عشرة مرة:(الله – الرحمن – لله – العالمين – الرحمن – مالك – إياك – إياك – إهدنا – الصراط – صراط –لا - الضالين)

ثُم للياء: ثماني مرات: (الرحيم - العالمين –– الرحيم - الدين -نستعين - المستقيم - الذين –الضالين)

ولم تأت واو المد إلا مرة واحدة في (المغضوب)

وكان أكثر حروفها متحركًا، وهذا يجعل السورة ذات جرس صوتي ورنين يملأ الأذن.

وأضاف إلى جرسها مزيدًا من الحسن تباعد مخارج الحروف المجهورة في بناء الكلمات، فمن البيّن أنَّ قوة الإسماع للحروف مع تباعد مخارجها وتنوع صفاتها يزيدها حسنا واتساقًا.

? وهذا يُعين على حسن التغني والترتيل، فتقبل النفس على الاستماع إليها، وعلى ترتيلها، ولا سيّما حين تمتلئ النفس بالمشاعر، فتجد في رنينها وجرسها ما يلائم ما يعتمل في تلك النفس، فتستريح بالاستماع أو التلاوة

وكان من فيض الرحمانية العليّة المقدسة أن فرضت قراءتها على كل مصلٍّ في كلّ ركعة يركعها، ليملأ نفسه بمغانيها ومعانيها، فكانت بحق سيدة وأعظم سورة في القرآن الكريم

ص: 219

***

(الايقاع) هو التواتر والتتابع بين كل متقابلين فى عالم المحسوسات، بل وفى عالم المعنويات.

وهو فى عالم اللغة توالى الصّوائت والصّوامت وانتظامها وأطّرادها على نسق خاص، فأساسه كما يقول أهل العلم رجوع الظاهرة الصوتية على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة (1)

والعربى بفطرته يعشق الإيقاع،ونشأته فى الصحارى الفسيحة جعلته معتمداً على أدراكه السمعيّ، فأصوات الرياح حين تهبُّ إيقاع تتلقفه أذنه الرهيفة، وحين يسكن الكون من حوله، يسمع خفق القلوب ووجيبها، ويسمع وقع الأقدام على الأرض وتوقيعها وهى على أميال عديدة، فهو ذو أذن واعية خفايا الهمس، فكان منطوق ألسنتهم متناغياً مع ما فطرت عليه آذانهم التى عشقت توقيع الأصوات، فاذا العربية لغة موزونة فى حروفها ومفرداتها وتراكيبها الفنية والموسيقية «فهى فى جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات لا تنفصل من الشعر فى كلام تألفت منه ولو لم يكن من كلام الشعراء.

(1) - ينظر: في الميزان الجديد لمندور: 223،

كثرت عبارات أهل العلم وتنوعت في بيان مفهوم الإيقاع، وما يميزه عن الوزن الشعري من ذلك قولهم:

هو " توظيف خاصّ للمادة الصوتية في الكلام يظهر في تردد وحدات صوتية في السياق على مسافات متقايسة بالتساوي أو بالتناسب لإحداث الانسجام، وعلى مسافات غير متقايسة لتجنب الرتابة

" (في مفهوم الإيقاع – محمد الهادي الطرابلسي ص 12 حولية الجامعة التونسية - العدد -:32 – سنة 1991) نقلا عن 0 شعر غازي القصيبي: دراسة فنية – لمحمد الصفراني: 370-371- كتتاب الرياض العدد 107

«ويتسع مفهوم الإيقاع ليشمل كلا الأمرين:

التناوب الصحيح المنضبط لعناصر متشابهة، أو التكرار الدقيق لنفس العناصر

) (ص 116 – الروافد المستطرقة بين جدليات الإبداع والتلقي لمحمد فتوح أحمد – مطبوعات جامعة الكويت1998

ص: 220

وهذه الخاصَّة فى اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعرضها وتفعيلاتها فى بنية القصيد» . (1)

فالعربى ذو نفس طروب فى جوهرها تتجلى مطامحها وإنفعالاتها وإندفاعاتها فى تعبير موسيقى موزون (2)

فإذا ما كانت العربية لغة موسيقية موزونة فى حروفها ومفرداتها فحروفها موزعة المخارج الصوتية توزيعاً موسيقياً وافياً فإنها فى نظم كلمات جملها أكثر اعتناء بالوزن والإيقاع، لأنهما دعامة البناء التركيبى للجملة فاذا التوازن بين العناصر الصوتية للجملة وافر باهر أيضًا على نحو لا تغفل عنه أذن واعية وقلب معافَى..

فالعربية فى أى أفق من آفاق البيان بها هى لغة الايقاع الحى المتجدد.

***

قوانين الايقاع.

يذهب أهل العلم بذلك إلى أن الايقاع تحكمه سبعة قوانين هى:

النظام

التغير

التساوى

التوازي

التوازن

التلازم

التكرار. (3)

هذه القوانين السبعة تعمل مجتمعة متلازمة لا متعاقبة فى انتاج الايقاع سواء كان صوتياً أو معنوياً، وهى قوانين تجتمع فى باب الانتظام والانسجام، فلن يكون هناك إيقاع لشىء إلَاّ إذا تكوَّن من أشياء عديدة منظمة منسجمة سواء كان هذا الانتظام تقابليا أو توافقيا، فإنَّ الانسجام والانتظام ينبثقان من بين المختلفات مثلما ينبثقان من بين المتفقات

(1) - العقاد اللغة الشاعرة للعقاد: 9

(2)

- مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية- ص: 183- ترجمة: عبد الصبور شاهين –ط:1405- دمشق – دار الفكر.

(3)

- الأسس الجمالية في النقد العربي: عز الدين إسماعيل ص 122 – ط: (3) سنة 1974- دار الفكر العربي. بالقاهرة

ص: 221

وهذه القوانين السبعة مجملة فى بابين: (الانتظام والانسجام: تقابلا وتوافقًا) . الأشياء لا تكون منسجمةً الا اذا كانت منتظمة أما الاضطراب والتهوش، فهو جرثومة القبح فى كل شىء، وحين يكون الانتظام بين وحدات متكررة بينهما وجوه تناظر عديدة وبعض وجوه التغاير يتحقق الانسجام، فالتكرار المطرد المتلازم بين الأشياء المتنوّعةالمتلاقية من وجوه عديدة متساوية متوازية متوازنة يخلق فيها الانسجام والتناسب الذى هو معدن الجمال فى الأشياء.

فكلُّ جميل إنما جماله من انسجام عناصره (مبنى ومعنى) فيما بينها ومن انسجامه هو مع وظيفته ومن ثم لا ترى شيئاً جميلاً فى كل مقام وحال وسياق. (1)

. مجال الايقاع اللغوي.

البناء اللغوي القائم في سياقه الممتد يرتكز على أساس من علاقة التناظر والتقابل بين عناصره الجزئية ووحداته الكلية، وهذا الأساس هو روح (الإيقاع) لأنه كما تبين نظام يعتمد التناوب بين العناصر والوحدات المتناسبة والمتشابهة مما يحقق لها خاصية التردد المتطهر من عوامل الملل.

وهنالك نوعان كليَّان للإيقاع:

إيقاع صوتي، وإيقاع معنوي.

الإيقاع الصوتيّ ينشأ من أصوات الحروف والحركات فى الكلمة، ومن اختيار الكلمات ومن تنضييد الجملة من كلماتٍ، وما فيها من حركاتٍ ومدَّات منسُوقة، ومن منهج التَّركيب، ومواقع الكلمات، ومن طول الكلمات والجمل وقصرها، ومن مقاطع الجمل وفواصلها كلُّ ذلك روافد رئيسية يستجمع منها الإيقاع الصوتيّ.

. وقد هدى " عبد القاهر" إلى أثر اختيار مواقع الكلمات فى عزف إيقاعات البيان وهو بصدد التقديم لباب "التقديم والتأخير" يقول:

(1) - تظاهرت أقوال كثير من أهل النظر والذوق على أن التناسب بين الأشياء هو اساس حسنها وجمالها، وذلك في الثقافات المختلفة:

ص: 222

«هو باب كثير الفوائد جم المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية لا يزال يفترُّ لك عن بديعة ويقضى بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر، فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدّم فيه شىء وحول اللفظ عن مكانه إلى مكان." (1)

فى قوله: «يروقك مسمعُه» آية على أن التقديم والتأخير رافد من روافد الايقاع الصوتى للعبارة.

وأبين من هذا ما تراه من تحليله لقول ابن المعتز:

وَإِنّي عَلَى إِشْفَاقِ عيْنِي مٍِنَ العِدَا

لتَجْمَحُ مِنّي نَظْرَةٌ تُمَّ أَطْرِفُ

وقول سبيع بن الحطيم:

سَالَتْ عَلَيْهِ شِعابُ الحَيِّ حِينَ دَعَا

أنْصارَهُ بِوُجُوهٍ كالدَّنَانِيرِ

فأبان أن ما تراه من الطلاوة والظرف والحسن والحلاوة والأريحية والنشوة إنما يأتيك من مواقع الألفاظ واختيارها واختيار هيأتها وما الطلاوة والحلاوة إلَاّ من حسن إيقاع الكلام. (2)

(1) - دلائل الإعجاز: 106- ط: شاكر

(2)

- السابق: 99

يمكنك أن تصغي إلى أصوات الغنة في البيت الأول (النون والميم) وتوزيع صوت العين في الشطر الأول منه، مضافًا إلى ذلك أصوات المد في هذا الشطر مما يحدث رنينا وتصويتًا عليّا في الأذن، يتلاءم مع ما يموج في صدر الشاعر

وفي البيت الآخر تصغي إلى أصوات الحاء والعين والمد، مما يبعث جهارة الرنين، وقد وزعت الأصوات توزيعًا متساوقًا، فاستمع إلى المد وموقعه في (سالت، شعاب، حين، دعا، انصاره، بوجوه، كالدنير، وهذا المد يمنح نفس المترنم امتدادًا كامتداد سيلان أنصاره = = المُشْرِق في النَّفس بهجةً، وهذه العين الموغلة بجهارتها في الحلق والأذن أيضًا تمكن النغم في نفس المتلقي، وقد وزعت على مساحة الترنّم في الشطر الأول، فالسكون الذي في (تاء) سالت، وما فيها من همس يمهد لانطلاق العين في (عليه) ، ثُمّ الكسرة بما فيها من جهارة وخفض تستريح النفس معه تمهد لصوت العين المردف بالامتداد، وكأنّه يصور لك امتداد هذه الشعاب، وتأتى كذلك الفتحة من قبل العين المردوفة بما هو من جنس ما قبلها (الفتحة والألف) في (دعا) كل ذلك حين تصغي إليه يقيم في قلبك تناغما مبهجًا يصور لك بهجة إقبال أنصاره عليه بوجوه كالدنانير، وقد ساعد على ذلك نظم البيت، فانظر كيف قدم قوله (عليه) ، وقدم الظرف (حين) وأخر المتعلق بسال (بوجوه..) ، وكيف أنه أسند الفعل (سال) إلى الشعاب، وكيف أنَّه أضاف الشعاب إلى الحيّ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من فيض الحركة المتساوقة مع الحركة في سالت، وهي حركة حياة اشتق منها قوله:(الحيّ) وغير هذا لا يخفى عليك في البيت.

ص: 223

فاذا أنت نسجت كلمات البيت نسجاً آخر لا يخرج على قواعد النحو من نحو (سالت شعاب الحى عليه بوجوه كالدنانير حين دعا أنصاره) كما يقتضى ظاهر البناء اللغوي، فقد ذهب الذى كنتَ تجد من حسن وحلاوة وأريحية ونشوة، وفى هذا دلالة على أنَّ النَّظم وإن كان عمود بلاغة الكلام، فإنَّه أيضاً معه إيقاعٌ جالبٌ حسناً وحلاوة ونشوة واريحية.

وأنت تجد مثل هذا ظاهرًا في القرآن الكريم:

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ* حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) (القمر:4-7)

تدبَّر هذا النسق الصوتي البادي في فواصل الآيات، وكيف أن فواصل الآيات معتلقة تركيبيًّا بما قبلها وما بعدها،ولو أنك أردت في غير القرآن أن تنسقها كما يقضي ظاهر النظم لقلت:(يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) وستجد أن فيضًا من المعاني النفسية قد ضاع، وفقد البيان رونقه وبهاءه، وأنت لم تفعل غير أنك أقمت الكلمات والجمل مقاماتها التي يقتضيها ظاهر أصل النظم، فحقَّ أنَّك وجدت سبب أن راقك ما في النظم القرآنيّ ولطف عندك أن قدّم فيه شىء وحول اللفظ عن مكانه إلى مكان، كما يقول الإمام.

ص: 224

ومن ثَمَّ يَجْمُلُ بنا ألَاّ نقصرَ أثر نظم البيان العالي فضلا عن العَلِيِّ على الأثرِ الموضوعِيّ المتعقِّل الذي يمكن إدراكه وضبطه ووصفه والإبانة عنه، بل علينا – فريضة تدبّريّة تذوقيَّة – أن نجمع إليه الأثر الانطباعيّ الذي نشعر به وندركه، ولا نضبطه، ولا نتمكن من وصفه، والإبانة عنه كالأثر النفسيّ الذي ندركه من خلال جرس الكلام وإيقاعه، وهو لا يقلّ أهمية في تحقيق التثقيف النّفْسِي للمتلقي الأثرَ الموضوعيّ المتَعَقّل.

وهذا ما يمكن أنْ تدركه من العدول الموقعيّ لبعض عناصر البنية اللغوية للخطاب كما سبق بيانُه، فليس بلازم حصر أثر ذلك العدول في الأثر الموضوعِيّ المتعقَّل من نحو توكيد أو تخصيص

إلخ بل قد يصاحب هذا أثر نفسي انطباعي قد يكون أظهر وأسرع إدراكًا من الأثر الموضوعِيّ المتعقّل.

وإذا ما كان علينا الأَّ نرغبَ عن القولِ به لأنّه حقيقة قائمة في البيان، فعلينا ألَاّ نجزم بأنّه أثرٌ أجرد، لايصاحبُ أثرًا موضوعًا متعقَّلا، لأنّ البيان الذي نحن بصدده بيانٌ وصفه المكتلم به بأنه كريم مجيد.

وقد جاء عن "الزمخشري " فيما نُقِلَ عن كشافه القديم قوله: «لاتحسنُ المحافظة على الفواصل لمجردها إلَاّ مع بقاء المعاني على سردها، على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والتآمه، فأمَّا أن تهمَل المعاني،ويهتمّ بتحسين اللفظ وحده غير منظور فيه إلى مؤداه، فليس من قبيل البلاغة» (1)

(1) - الإتقان في علوم القرآن للجلال السيوطي – تح:محمد أبو الفضل إبراهيم ج3/ 313-314 – ط: المشهد الحسيني بالقاهرة

ص: 225

وهذا ليس تقليلا من شأن الأثر النفسي الذي يتولد من مراعاة الفواصل بل هو تعظيم لمكان البيان القرآني العَلِيّ، فالأعلى أن نشير إلى أنَّ إدراكنا للأثر النفسيّ للجرس والإيقاع أظهر وأقرب وآنس للنفس، وأنّه قد يكون لمتفرّسٍ نفوذٌ إلى ما لم ندرك من الأثر الموضوعيّ المتعقل المصاحب له في لطف.

ومن هنا ندرك أيضًا وجها من مقال غير قليل من أهل العلم بالبيان بأنَّ الحذف لمراعاة الفاصلة، وأن التقديم لذلك على نحو ما جاء عن " الشمس بن الصائغ " في كتابه " إحكام الراي في أحكام الآي " من أنّ المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية، يرتكب لها أمور من مخالفة الأصول (1)

(1) - السابق: 3/ 296

لست هنا بصدد دراسة بلاغة الفواصل القرآنية ختَّى أستوعب لك كثيرًا مما جاء عن أهل العلم في هذا ونقده: تفسيرًا وتقويما، وإنَّما قمت لأشير إلى بعض المعالم على الطريق لتبصر فتغدو، ولولا هذا لكان للقول متسعًا، وثَمّ دراسات غير قليلة في شأن الفواصل القرآنية والسجع، ولاسيما ما يتعلق بذلك من التنغيم والتوقيع

من تلك الدراسات ما جاد به الأستاذ على الجندي في سفره الجامع النافع (صور البديع: فن الأسجاع) طبعة دار الفكر العربي، ولا سيما الجزء الثاني منه، ومقال الشيخ " عبد الرحمن تاج ":(السجع وتناسب الفواصل) في مجلة مجمع اللغة العربية العدد (36) 1395، وكذلك كتاب (الفاصلة في القرآن) لمحمد الحسناوي: ط: المكتب الإسلامي بيروت، فقد عقد فصلا لإيقاع الفاصلة القرآنية، وبسط القول في هذا، وكتاب (الفواصل القرآنية: دراسة بلاغية) للدكتور السيد خضر- نشر مكتبة الإيمان بالمنصورة

ص: 226

وقد جاء عن ابن الأثير أن التقديم في قول الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5) لمكان نظم الكلام ولمراعاة حسن النظم السّجعي (1)

الاقتصار على هذا الأثر النفسي للقيم الصوتية في البيان القرآني غير عَلِيّ القول به بل هنالك ما يصاحبه من الأثر الموضوعيّ المتعقل الذي لا يخحسن البتة الغفلة عن صحبته له، وغن كان لطيفًا في بعض المقامات.

***

وأما النوع الثانى: إيقاع المعاني فإنَّ ذلك بادٍ فيما يكون بين معانى المفردات فى العبارة وبين أنماط التراكيب فى الجمل، وما بين الفصول والمعاقد من توازٍ وتقابلٌ، وترديدٌ، وذلك فى العربية ظاهرة شائع، وهو فى القرآن الكريم جد بديع، فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأنَّه كتاب متشابه مثانٍ:

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:23)(2)

(1) - المثل السائر لابن الأثير - تح: محيي الدين عبد الحميد:2/36- المكتبة العصرية بيروت

(2)

- بنيت هذه الآية على نهج بديع رفيع:

بني الخبر الجملة الفعلية (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) على اسم الجلالة فدلّ على تأكيد وقوع الخبر من المخبر به عنه، ودلّ على أن السياق للحديث عن المخبر عنه جل جلاله، وأنَّ من جليل ما يخبر عنه إنزال أحسن الحديث، فهذا الخبر مناط عناية منسولة من العناية بالإخبارعن الله = = ولو أنّه قيل: نزّل الله أحسن الحديث، لكانت العناية منوطة بغير ما هي منوطة به فيما جاء به البيان القرآني.

ويأتي قوله (أحسن الحديث) مبرزًا وصف الإحسان الحامل إلى القلب معنى الأفضلية من جهة صيغته، ومعنى التفضّل من جهة مادته، كما سبق أن أشرت إلى معنى الحسن.

ويهدي البيان بقوله (الحديث) إلى تلاحظ هذا النعت مع قوله (نزّل)، وهذا ما يكشفه لك ويقربه إلى قلبك أو يودعه فيه قول الله عز وجل:(وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً)(الاسراء:106) فانظر قوله (فرقناه) وقوله (على مكث) وقوله (نزلناه تنزيلا)

سمَّاه (حديثًا) لا من أنَّه محدثٌ القول به، بل هو حديث إنزال من السماء الدنيا إلى الأرض كلمَّا نزل بالناس في عصر المبعث نازلة نزل فيها بيان الهدى من القرآن الكريم، فجاء قوله:(كتابًا) كانه احتراس مما قد تضل بعض القلوب، فتحسب أنّه لا يجمعه جامع يقيم آياته وسوره المنزلة على مكث، فإذا هوأمشاج وأخلاط، لا تنتسب، فقال (كتابًا)، ونعت هذا الكتاب بالذي هو أحسن الحديث بنعوت مهمة جدًا تكشف عن حقيقة ونعت هذا الكتاب الذي هوأحسن الحديث: مُتَشَابِهاً - مَثَانِيَ - تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ - ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ

هذه النعوت الأربعة الأول والثاني منها: (متشابها مثاني) كالسبب، والثالث والرابع:(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) كالمسبب، كونه متشابها ومثاني يثمر اقشعرار قلوب الذين يخشون ربهم، ولين قلوبهم وجلودهم.

التشابه يشير لى نعت التوازن والتوازي الحسي والمعنوي في البيان القرآني، وهذا ركن عظيم من أركان الإيقاع الحسي والمعنوي الذي نشعربه في ترتيلنا، وإن عجزنا أحيانا كثيرة عن عقل وضبط ما نشعر به، فيملأ قلوبنا بجلاله مما يفيض على جوارحنا وجلودنا، فتقشعر رهبة من جلاله الذي أثمرته الخشية (الخوف عن علم) فإذا ما قمنا في تلك المنزلة العلية من استشعار الجلال والرهبة أنشرحت الصدور، ففاض النور من ربنا، فتلذذت قلوبنا وجورحنا وجلودنا، فلانت من قسوتها التي كانت عليها من قبل.

والتثنية المقرونة بالتشابه تشير إلى نعت التصريف المبني على التنوع المقيم حجازًا بين النفس والملل، فلا تشبع منه العلماء، فالتثنية التي لا تقوم على التكرار الأجرد ركنٌ عظيم من أركان الإيقاع الحسيّ والمعنوي الذي نستشعره في البيان القرآني.

وممَّا يقوله أهل العلم في معنى (مثاني) أن التثنية أن «تثنّى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق ففي وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلاً في أصل المعنى، ولا يمل من تكرار، وترداد قراءته وتأمله واعتباره مع أنَّ جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده:

المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والرحمة العامة والرحمة الخاصة، والجنة والنار، والنعيم والشقاء، والضلال والهدى، والسّراء والضّراء، والبشارة والنذارة، فلا ترتب على شيءٍ من ذلك جزاء صريحًا إلَاّ ثُنّي بإفهام ما لضدّه تلويحًا، فكان مذكورًا مرتين، ومرغبًا فيه أو مرهبًا منه كرّتين

» (نظم الدرر للبقاعي: 6 / 438)

الآية زاخرة بالمعاني الإحسانية، ومما يزيدك اقترابًا من الشعور بها أن تنظر في الآية السابقة عليها (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر:22) وعلاقتها بها.

ص: 227

يمثل الترديد وتصريف المعاني مظهرًا من مظاهر إيقاع المعاني في القرآن الكريم،وهو يحدث في القلب نشوة وبهجة كالتي تحدث من سماع الإيقاع الصّوتِي، وأكثر ما ترى هذا في تصريف الدلالة على المعنى الواحد كما تراه في الدلالة عليه بالمنطوق حينًا وبالمفهوم والتلويح حينا والتصريح حينًا آخر، فيعرض عليك المعنى أكثر من مرة في أكثر من معرض ليتمكن في قلب المتلقى وهذا يكثر في المعاني الرئيسة في باب العقيدة والشريعة. (1)

(1) - عقد " أبو الحسن الحرَالّيّ "(ت:638) الباب الثاني من كتابه القيّم (مفتاح الباب المقفل لفهم الكتاب المنزل) لبيان منهج القرآن الكريم (في الجمع لنبأي الإفصاح والإفهام) مقررًا:" أنَّ الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مثانيَ بين إجمال وتفصيلٍ، وبين إفصاح وإفهامٍ يفهم نبؤه عنه – تعالى – إفصاحًا نبأه عن عبده إفهامًا، لمقابلة ما بين العبد والربّ، ويفهم نبؤه عن عبده إفصاحًا نبأه عنه – تعالى – إفهامًا، وكذلك فيما بين دنيا العبد العاجلة، والأخرى الآجلة، وكذلك فيما بين هداه وإضلاله، وفتنته ورحمته، وكلّ متقابلين من خلقه وأمره، وكذلك فيما بين آيات الاعتبار من أمر الخلق، ومعتبراتها من أمر الحقّ، ولا يكاد هذا النحو من البيان يقع شيءٌ منه في بيان الخلق ولا بلاغتهم إلا نادرًا لمقصد اللحن به والإلغاز بإفهامه "

ص: 228

ومن إيقاع المعاني ماتراه فى ما بينها من تقابل وتناظر وتوازن وتكافؤ ورد عجز على صدر معنويّ وجمع وتفريق وتقسيم إلى آخر تنسيق المعاني ومراعاة النظائر ونسج المتقابلات في إطار الجملة والمعقد والسورة، بل إنَّ سورًا كاملة قامت على نهج التوقيع المعنويّ التقابليّ على نحو ما تراه فى سورة (محمد) وفى سورة (الحديد) أو منهج التوقيع المعنويّ التناظريّ كما تراه فى ما بين معاقد سورة (النحل)، وما تراه من العموم الخصوص بين سورتي (النحل) و (الإسراء) فإنّ العلاقة بينهما كمثل العلاقة بين اسمية جل جلاله:(الرحمن، الرحيم) ، فالنحل منسولة من اسمه (الرحمن) و (الإسراء) منسولة من اسمه (الرحيم)

التحليل البيانى لإيقاع السورة القرآنية يعمد إلى النظر فى نوعى الإيقاع الصوتي والمعنويّ على السواء فانَّ أحدهما ليس أضعف أثراً من الآخر فى إنتاج المعني القرآنيّ فى قلب المتلقي، وإن يكن إدراك أثر الإيقاع الصوتي فى ذلك أسرع من إدراك أثر الإيقاع المعنويّ فإنّه قد يكون ألطف حين يدق، فيحتاج المرء معه إلى مزيد إعتناء ولقانية وخبرة ودربة.

. الجرس والايقاع في الأساليب البلاغية.

الناظر فى أساليب البيان العربى يدرك فيها جليا قوانين الإيقاع المدرجة فى باب الانسجام، وأكثر ما تجد هذا فى ما يعرف بضروب البديع سواء ما كان منها معنوياً أو لفظياً.

ترى ذلك فى أسلوب المطابقة بنوعيها: (الإفرادية: الطباق) و (والتركيبية: المقابلة) فهو أسلوب يعتمد على الإيقاع بين المعانى سواء بين المفردات أو الجمل أو الآيات أو المعاقد والفصول بل إنَّك لترى توقيعاً تقابلياً بين سور القرآن الكريم كما بين سورة (النساء) وسورة (المسد) .

ص: 229

وترى ذلك فى أسلوب مراعاة النظائر والتناسب وهو فى القرآن الكريم كثير لا تراه فى الكلمات، فحسب بل يمتد إلى الجمل والآيات فى السورة بل بين المعاقد فى السورة الواحدة، كماتراه بين المعقد الأول والثالث من سورة (النحل)(1) بل تراه بين السورتين كما تراه بين سورة (آل عمران) و (البقرة) من وجه وبين (آل عمران)(الاخلاص) من وجة آخر، وما تراه بين (الطواسيم) وبين سور (الحواميم)

(1) - الآيتان الأوليان هما مطلع التلاوة في سورة النحل، ليبدأ المعقد الأول من الآية الثالثة:(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(النحل:3) وينتهي بقوله عز وجل: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)(النحل: من الآية22)

ويبدأ المعقد الثالث بالآية الخامسة والستين: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(النحل:65) لينتهي بالآية التاسعة والثمانين: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(النحل:89) فالايقاع المعنوي بين المعقدين قائم على التناظر والتشابه، والنظرة والعجلى تكاد تحسب أن آيات المعقد الثالث كأنَّها تكرار لما جاءت به آيات المعقد الأول، ولكنَّ التبصر يهدي إلى أنَّ ذلك من قبيل تصريف البيان، وليس من التكرار، وتصريف البيان هو من قبيل إيقاع المعاني، والتكرير من قبيل إيقاع الأصوات.

ص: 230

وتراه جلياً فى أساليب المزاوجة والجمع والتفريق واللف والنشر وفى التقسيم وفى المشاكلة وغير ذلك كثير من ضروب البديع فى المعانى فهى قائمة على دعائم الانتظام والتكرار والتماثل أو التغاير أو هما معاً من وجهين مختلفين..........الخ

بل أنت لا ترى هذا الإيقاع المعنوى فى أساليب البديع المعنوية فحسب بل تراه أيضاً فى كثير من قضايا النظم وبناء المعنى:

تراه كما سبقت الإشارة فى التقديم والتأخير وتراه فى الفصل والوصل ولا سيما تتابع الصفات أو الجمل والآيات، فهو فى صورته المعنوية واللفظية جد ظاهر، وتراه فى التكرار وفى تصريف الآيات.

والايقاع الصوتى تراه جليا فى كثير من أساليب البديع اللفظى: تراه فى الجناس بجميع صوره، وما هى إلَاّ صور لتغاير إيقاع الكلمات سواء التام والمحرَّف والناقص واللاحق والمضارع والمزدوج والمقلوب وتراه فى السجع بجميع صوره التي لا تتناهى، وتراه جد ظاهر فى فواصل الآيات وفى رد المقاطع على المطالع.

فريضة – إذن - على المتدبِّر البيان القرآني الساعي إلى فقه المعنى القرآني في سياق السورة أن يكون مَهْمُومًا بالنظر والتبصر والتدبر لمعالم الإيقاع المعنويّ والصوتيّ في كل تلك الأساليب.

وجملة الأمر أن التحليل البيانيّ للايقاع يتناول كثيراً من أساليب البيان فى القرآن الكريم سواء ما أدرجه العلماء فى ما سمى بعلم المعانى أو البيان أو علم البديع. (1)

(1) - مما ينفع طالب العلم في هذا ما جاء نا به الدكتور: تمام حسّان في كتابه: (البيان في روائع القرآن: دراسة لغوية وأسلوبية للنصّ القرآنيّ) ط: عالم الكتب - 1413 – القاهرة،ولاسيماالفصل الأول:(القيم الصوتية في القرآن الكريم وأثرها في المعنى) من القسم الثاني من الكتاب: (دراسات أسلوبية) فقد نظر في الإيقاع والفاصبلة والحكاية والمناسبة الصوتية وحسن التأليف، وهو خبير بذلك، وذو حسن مرهف بإيقاع الأصوات وحركته في نسيج العبارة

وكذلك مما ينفع طالب العلم ما جاءت به الدكتورة: ابتسام أحمد حمدان في كتابها (ألأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي) ط: دار القلم العربي سوريا 1418 وهي دراسة في إيقاع الشعر في كافة الأساليب، وقد جعلت كتابها من خمسة فصول: الإيقاع – الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي – إيقاع علم المعاني – إيقاع علم البيان – إيقاع علم البديع.

ص: 231

فكما أنَّ التَّحليل يتناولُ قيمة هذه الأساليب فى بناء المعنى وتصويره، فإنَّه يتناولها فى تحبيرها بما فيها من توقيع صوتى أو معنوى يتناغى مع توقيع خفقات القلوب والأنفاس ودفقات الدماء فى العروق.

. التفكير البلاغيّ والصورة الصوتية للمعنى. (1)

يحسن أن نستهل ذلك بكلمة عَلِيَّةٍ قالها " أبو زكريا: يحيي بن زياد الفراء"(ت: 207) عند نظره في قول الله عز وجل: في سورة " النازعات " {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) .

جاء قوله جل جلاله: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} متفردًا في قراءة أهل المدينة والحجاز والبصرة بزنة (فَعِلة)، وجاءت قراءة عامة قراء الكوفة على زنة:(فاعِلة: ناخِرة) مشاكلة للفواصل قبلها.

(1) - أريد بالتفكير البلاغيّ هنا منهج التدبرالبلاغيّ، وليس بلازم أن يكون صاحبه من البلاغيين المختصين بذلك العلم كعبد القاهر والسكاكي وتلاميذه.

منهج التدبر البلاغي المعنى بالبحث عن المعنى في صورته ومنهاج تركيب مبانيها ومغانيها وسياقاتها القولية والمقامية تجده – أيضًا - في غير أسفار البلاغة كمثل ما تراه في كتب التفسير وعلوم القرآن الكريم.

ص: 232

يبين "الفراء" أنَّ "عمر بن الخطاب " رضي الله عنه قرأ (ناخرة) ، وأنّ بن عباس رضي الله عنه قرأ (نَخِرَة) و (ناخِرة) ثُمَّ يقول عن (ناخرة) إنَّها" أجود الوجهين في القراءة؛ لأنّ الآيات بالألف. ألا ترى أنَّ (ناخرة) مع (الحافرة) و (السَّاهرة) أشبه بمجيء التنزيل، و (الناخرة) و (النخرة) سواء في المعنى بمنزلة "الطَّامع" و" الطمع" و"الباخل" و"البخل" وقد فرَّق بعض المفسرين بينهما، فقال: (النخرة) : البالية، و (الناخرة) : العظم المجوف الذي تمرّ فيه الريح، فينخر "(1)

لتنظر في قوله: «أجود الوجهين في القراءة؛ لأنَّ الآيات بالألف

» فهذا منه إعلاء لعطاء التوافق في إيقاع النغم في الصورة الصوتية للآيات

وقد يحسب ناظر أنَّ هذا من ردّ القراءات أو المفاضلة بينهما والقول بالتفاوت في بلاغة القرآن الكريم.

لو نظرت في مقال " الفراء" لرأيت أنّه يقول: «أجود الوجهين» فهو لم يحكم بصحة أحدهما هنا دون الأخر بل قرر أن قراءة (ناخرة) أجود بفيوض المعنى على القلب من قراءة (نخرة) أي أن الصورة الصوتية لقراءة (ناخرة) يتوافد منها على القلب من المعاني أجودها بما حملته من الانسجام في الجرس والإيقاع. وهذا ما لا يمكن أن تدفعه، ولا سيّما أنّه يذهب إلى أن المعنى المتعقّل من (ناخرة) و (نخرة) سواء، فلم يبق إلا ما يتوافد عليك من الأثر الانطباعي من الصورة الصوتية المتناغية مع ما سبقها وما تلاها.

***

والتفكير البلاغيّ قد ظهر تدوينه المصنّف على يدي " ابن المعتز ".

(1) - الفراء: معاني القرآن: تح عبد الفتاح إسماعيل شلبي ج 3 ص231 – 232 – ط: دار السرور. وانظر معه تفسير الطبري (جامع البيان) ج 12 ص 461- دار الغد العربي.

ص: 233

وكان مبعثه إلى ذلك ما شاع في عصره من العناية بالقيم الصوتية: جرسًا وإيقاعًا، حسبان بعض طلاب العلم أنَّ ذلك مستحدث لم يكن لأهل البيان من قبل عناية به أو عرفان، فخشي "ابن المعتز" من قيام ذلك الحسبان أن ينصرفوا عنه تذوقًا وعرفانًا فأقام كتابه (البديع) وهي تسمية عالية ذات دلالة على مضمون الكتاب وغايته، صدره بالنظر في خمسة فنون بديعية: اثنان هما أصل عظيم من أصول التصوير الصوتي للمعاني عن طريق الجرس والإيقاع: الجناس ورد الأعجاز، ولو أنّ كتابه في الشعر والنثر معا لجعل السجع ضميم الجناس

ومن قبله الجاحظ كانت عنايته بالتصوير الصوتي، وأثر الجرس والإيقاع في الإبانة العلية عن المعاني ظاهرة في تفكيره البلاغي والنقديّ:

تسمعه في شأن اللفظ وما به يتحقق له قدره في بناء البيان العالي:

«متى كان اللفظ كريمًا في نفسه متخيرًا من جنسه، وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد حُبِّبَ إلى النّفوسِ واتصل بالأذهان والتحم بالعقول، وهشّت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخفَّ على ألسن الرّواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره

» (1)

وإذا ما جاء " الرمانيّ " فإنّه يجعل من الأقسام العشرة للبلاغة عنده ثلاثة من التصوير الصوتي: التلاؤم والفواصل والتجانس.

والتلاؤم عنده " تعديل الحروف في التأليف "

«والمتلائم في الطبقة العليا القرآنُ كلُّه، وذلك بيّن لمن تأمّله

والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع وسهولته في اللفظ، وتقبل المعنى له في النفس لما يرد عليها من حسن الصورة وطريق الدلالة» (2)

(1) - الجاحظ: البيان والتبيين– تح: هارون: 2 / 8

(2)

- الرماني: النكت في إعجاز القرآن ص94-96 (ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) تح: خلف الله وزغلول سلام – ط: دار المعارف 1387

ص: 234

وهذا يزداد قدره عندك باستحضارك معنى البلاغة عنده:" إنَّما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ "(1)

وهو يوجوب مشاكلة الحروف في مقاطع الكلام ليتحقق حسن إفهام المعاني، فتكون المشاكلة حينئذٍ بلاغةً، وإلَاّ كانت عيبًا، ولذلك يقرر أنَّ تشاكل الحروف في مقاطع الكلام في القرآن الكريم كلَّّه بلاغة وحكمة؛ لأنَّ هذه المشاكلة طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدلّ بها عليها (2)

وهذا الذي نصّ عليه " الرماني " أصلٌ في القيم الصوتية لأيِّ بيان عالٍ بله البيان العَلِيّ المعجز.

وقد يترامى إلى غير متفرس أنَّ " عبد القاهر" مُعْرِضٌ نافرٌ من النظر في هذا الأثر، أو أنّه مُسْتَخِفٌ به،ولكن الأمر على غير هذا يقول شيخنا:

" عبد القاهر لم يَنْفِِ أن يكون السّجع والجناس من القيم البلاغية مع أنهما مؤسَّسان على الأصوات، والأنغام، وإنَّما أكَّد ضرورة أن تكون الأصوات والأنغام هي أصوات وأنغام المعاني ساقت إلى الجناس والسجع، وحينئذٍ تكون القيم الصوتية داخلةً في صُلب الصياغة والدلالة، وأنّه لاسبيل إلى الإبانة عن المعنى إلا بهذا السجع أو هذا الجناس

ولا أتصور أن يكون عبد القاهر وهو من هو في الحسّ باللمحة الدَّالّةِ قد أنكر هذه القيم الصوتية في بيان العربية؛ لأنَّها جزء من جوهر بلاغة هذا اللسان، ليس في الشعر فحسب، وإنَّما في النثر أيضًا

وأهم من كل هذا القرآنُ الكريم الذي ذكر "الرّمَّاني" أنَّ التلاؤم فيه وهو النّسق الصوتي لا غير وجْهٌ من وجوه إعجازه» (3)

(1) - السابق: 75

(2)

- السابق: 97-98

(3)

- شيخنا: مدخل إلى كتابي عبد القاهر: 70 - 71 - ط: ثانية – مكتبة وهبة.

ص: 235

وقد يستحضر وَعْيُك قولَ " عبد القاهر" في تعيين مناط مزية البيان البليغ: «إنّها ليست له حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك وتُعمل رويَّتك، وتراجع عقلك، وتستنتجد في الجملة فهمك» (1) فيقوم فيه أنَّ الإمام ينفى أن تكون القيم الصوتية في بناء البيان مناطا لمزيته.

يعصمك من ذلك الحسبان أن تعيد النظر في مقال عبد القاهر:

هو يقول «إنّها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك»

يبيّن لك أن وسيلة إدراك المزية ليس الأذن فمن سمع فقه، فيتساوى السامعون في إدراك المزية متى تساووا في السمع، وإن تفاوتوا في الطبع والثقافة، كلَاّ. لايكون.

هو يبين لك أن المزية تظهر لك حيث تنظر بقلبك، وهذا لايتساوى الناس فيه والقلب إذ ينظر لا ينظر إلا في المعاني وفي صورها وما تشكلت منه تلك الصور،ومنها القيم الصوتية على تنوعها، وفي مناهج دلالة الصُّوَرِ على معانيها، وليس حسنا التغافل حينئذٍ عن ما قرَّرَه في (إسرار البلاغة) من العلاقة بين السجع والجناس في تشكيل صورة المعنى، واقتضاء المقام والغرض المنصوب له الكلام لهما، فإذا لم ينزل البيان على ما اقتضاه المقام والغرض كان ذلك من عقوق المعنى.

فعبد القاهر كما يقول " شيخنا ":

«لمَّا ذكر "الجناس" اجتهد في أن يستخرج له سريرة معنوية يرجع إليها حسنه، ولم أعرف أحدًا قبل " عبد القاهر" حاول أن يجد تفسيرًا معنويًا لهذا الفنِّ الذي هو صوتٌ وجرسُ، ولكنّ " عبد القاهر" بتغلغله وإيغاله حاول أن يلتقط أطياف معاني هذا الرنين، ولم يذكر ذلك أحد بعده إلَاّ من شاموا كلامه، وراموا روْمه» (2)

(1) - دلائل الإعجاز: 64

(2)

مدخل إلى كتابي عبد القاهر: 116

ص: 236

إنك إذا ما استرجعت تبيان عبد القاهر مقومات تمام بلاغة الخطاب، وتقريره أنها حسن دلالة الكلام على معناه وتمام هذه الدلالة وتبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحقّ بأن تستولي على هوى النفس وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب، وأولى بأن تطلق لسان الحامد وتطيل رَغْمَ الحاسد" فإنَّه لا يبقى لديك شكٌ في إعلاء " عبد القاهر" القيم الصَّوتيَّة في تشكيل الصورة الدّالة على المعنى دلالة حسنة تامّه، ولهذا تراه يُعْنَى كثيرًا بأمر اللفظ الذي هو لبنة بناء الصورة الدّالة على المعنى دلالة حسنة تامة، فيوجب أن تختار اللفظ الذي هو أخصّ بالمعنى، وأكشف عنه، وأتمّ له، وأحرى بأن يكسبه نبلاً، ويظهر فيه مزية. (1)

وأنت إذ تنظر في معجم المصطلحات البلاغية التي نشأت في التفكير البلاغيّ المتقدم فضلا عن المتأخر تجد أن غير قليل منها منسول من منهاج العلاقات الصوتية بين مكونات مباني المعاني، فلم يكن أولئك العلماء قديمًا وحديثًا يكتفون بأن تكون مباني المعاني جرداء بل يعلون استحالة المباني إلى مغانٍ حسنة الدلالة على المعاني وحسن دلالتها ذو روافد عديدة منها حسن نسقها الصوتي، ولست أحسب أني مفتقر إلى أن أُعَدِّدَ هنا شيئًا من تلك المصطلحات وما يندرج من تحتها من البيان العألي البديع شعرًا ونثرًا والبيان العَلِيّ المبلس والمعجز: قرآنًا وسنة، فالأمر أجلى ظهورًا من الشمس المشرقة.

مجمل القول:

إنَّ التفكير البلاغيّ قديمًا وحديثًا قد كانت له عناية كريمة بالقيم الصوتية المكونة من الجرس والإيقاع على اختلاف مساحتهما ومنهاجهما، وكانت عنايتهم به مَنْسُولَةً من عنايتهم بالمعاني وصورها ومناهج الدلالة عليها ومسالكها إلى النفوس حاملة إليها تلك المعاني، ولعلَّ تبيان "الرمّاني" جوهر البلاغة بقوله:" إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ" يسلك تلك الحقيقة في قلبك ويقررها فيه.

(1) ينظر دلائل الإعجاز:42

ص: 237

***

ومن أشياخ عصرنا من غير البلاغيين الذين عنوا بتقرير أهمية التناسق النغمي وأثره في بلاغة القرآن الكريم وإعجازه " مصطفى صادق الرافعي" فيما بثه في سفره القيم (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) :

وهو في تدبره وتأويله ينزع من حقيقة أنَّ القرآن الكريم " وجود لغويّ ركّب كلّ ما فيه على أن يبقى خالدًا مع الإنسانية، فهو يدفع عن هذه اللغة العربية النسيان الذي لا يدفع عن شيءٍ، وهذا وحده إعجاز، ثُمَّ هو لن يكون كفاءَ ذلك،ولن يقومَ بهِ إلَاّ إذَا كانَ معجِزًا أهلَ اللغةِ جميعًا، فتذكرُ به اللغةُ، ولا يُذكرُ هو بها، وبذلك يحفظها؛ إذ يكون في إعجازه مشغلةَ العقل البيانيّ العربيّ في كلّ الأزمنةِ، يأتي الجيلُ من النّاسِ،ويمضي،وهو باقٍ بحقائقه ينتظر الجيل الذي يخلفه

" (1)

وهذه الحقيقة الكبري توجب على العقل البياني في كل جيل أن يمنح أوًل ما تركب منه البيان القرآني إدراكًا (جرس وإيقاع كلماته في إفرادها ونظمها) بعضًا من عنايته تدبرًا وتذوقا.

وهذا ما قام بشيءٍ منه الرافعيّ فعقد بابًا لنظم القرآن بأبعاده الثلاثة: نظم الحروف،ونظم الكلم، ونظم الجمل فإنَّ " سرّ الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلها بحيثُ خرجت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به، فليس لنا بدّ في صفته من الكلام في ثلاثتها جميعًا "(2)

يعمد إلى الحروف وأصواتها،وهو يبيّن أن العرب حين سمعت القرآن الكريم لفتها أوَّل ما لفتها إليه جرسُ حروف كَلِمِه وإيقاعها «رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله ألحانا لغوية رائعة، كأنَّها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة قراءتها هي توقيعها " (3)

(1) - الرافعي:إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: 12 ط: 1389- المكتبة التجارية الكبري بالقاهرة

(2)

- السابق:238

(3)

السابق: 243

ص: 238

فالجرس والإيقاع هو أول ما يسترعي انتباه المستمع، وإن لم يستطع لظلمة جهالة أو عجمة أن يدرك شيئًا من المعنى المتعقّل، ولها تجد العامة ممن لا يعرفون من علم العربية شيئًا يرغبون في الإصغاء إلى الترتيل الحسن، وقد ينفعلون لتوقيعه انفعالا قد لا يتجاوب مع ما يحمل هذا الإيقاع من المعنى المتعقل، فتراه يهتف بكلمة الإعجاب في مقام ترهيب وإنذار تنخلع له قلوب العارفين،وما هو بالذي هتف إعجابا لما تضمنه من ترهيب وإنذار، فهو به جهول، وإنما هتف لجرسه وإيقاعه، وذلك ما يدركه حسه الفطريّ.

فهذا من وجوه الحسن في النظم القرآنيّ لأصوات حروفه وكلمه، وفوق هذا يدرك من يملك نصيبًا من العرفان بأسرار البيان أنَّ القرآن الكريم قد: تألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو بدل بغيره أو أقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللا بيّنًا أو ضعفًا ظاهرًا في نسق الوزن وجرس النغمة،وفي حسّ السمعِ وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة، وبراعة المخرج،وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هجنة في السمع كالذي تنكره من كلّ مرئيّ لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تتفق علىطبقاتها، وخرج بعضها طولا، وبعضها عرضًا، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة» (1)

يترامي إلى قلبك أنَّها منسول من عبارة " الخطابي" في " بيان إعجاز القرآن " إذا ما اتسعت قراءتها: قضى بأن وضع الكلمة في غير موضعها قد ينتج منه تبدل المعنى المتعقل الذي يكون منه فساد الكلام، وقد ينتج ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة (2)

(1) - السابق: 247

(2)

- الخطابي: بيان إعجاز القرآن: 29 – (ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)

ص: 239

رونق الكلام - كما لايخفى عليك – صفاؤه، وصفاء الكلام يبدو في ما يلقاك من جرسه وإيقاعه في نظم حروف كلمه ونظم كلم جمله (1)

فذهاب صفاء الصورة الصوتية: جرسًا وإيقاعا من تبدل حرف أو كلمة قد ينتج منه سقوط بلاغة الكلام، وهذا ما يتبين لك منه أنَّ " الحرف الواحد من القرآن معجز في موضعه؛ لأنّه يمسك الكلمة التي هو فيها ليمسك بها الآية والآيات الكثيرة.

وهذا هو السرّ في إعجاز جملته إعجازًا أبديًا، فهو فوق الطبيعة الإنسانية، وفوق ما ينتسب إليه الإنسان

" (2)

وهو إذ يبين لك نسق أجراس الكلم وإيقاعها في نظم الجملة يرشد إلى أنَّ المعنى في بيان البشر يقوم في النفس، فيصطفي الطبع لها من الكلم ما هو من جنس المعنى، فيتسحيل الكلم الجاري على لسان المبين والساري في أذن المستمع صوت نفس المتكلم يحمل معناه إلى قلب المتلقى.

ويبين لما أن نسق الكلام البليغ من ثلاثة أصوات أولها ما أسماه «صوت النفس» وهو الصوت الموسيقيّ الذي يكون من تأليف النغم بالحروف ومخارجها وحركاتها،ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه على طريقة متساوقة،وعلى نضد متساوٍ بحيثُ تكون الكلمة كأنَّها خطوة للمعنَى في سبيله إلى النفس إن وَقف عندها هذا المعنَى قُُطعَ عنها.

والصوت الثاني: «صوت العقل» وهو الصوت المعنويّ الذي يكون من لطائف التركيب من جملة الكلام، ومن الوجوه البيانية التي يداور بها المعنى، لايخطئ طريق النفس من أي الجهات انتحى إليها.

(1) - الرزنق: ماء السيق وصفاؤه وحسن صقاله نورونق السباب: أوله وماؤه نورونق الضحى: أوله،وهي أولية تمثل كمال الشيء في صفته الرئيسة، فرونق الكلام صفاء صفحته وصقاله، وفلا تحس فيه بشائبة، وهذا لا يظهر لك إلى من جرسه وإيقاع ونظم حروف كلمه وكام جمله.

(2)

- الرافعي: إعجاز القرآن: 240

ص: 240

وهذان النوعان تراهما في كلماء البلغاء لا يستعصي عليهم التبريز فيهما، وكلام " الرافعي" فيهما مجمل،

والصوت الثالث: «صوت الحس» وهو لا يكون إلا من دقة التصوير المعنوي، والإبداع في تلوين الخطاب ومجاذبة النفس مرة وموادعتها مرة، واستيلائها على محض بما يورد عليها من وجوه البيان أو يسوق إليها من طرائف المعاني.

وهذ الصوت أبلغ الأصوات شأنا وعلى مقدارما يكون في الكلام البليغ منه يكون فيه من روح البلاغة.

وهذا الصوت قد خلت لغة العرب في لسانهم من صريحه وانفرد به القرآن الكريم. وهذا ما يجعلك، وانت تقرأ القرآن الكريم «تحس من حروفه وأصواتها وحركاتها ومواقع كلماتها وطريقة نظمها ومداورتها للمعنى بأنّه كلام يخرج من نفسك وبأن هذه النفس قد ذهبت مع التلاوة أصواتًا واستحال كلّ ما فيها من قوة الفكر والحسّ إليها،وجرى فيها مجرى البيان، فصرت كأنّك على الحقيقة مطويٌّ في لسانك (1) ،

(1) - ينظر: إعجاز القرآن: 249-252

وقوله (كلام يخرج من نفسك) وما بعده فيه من الإبهام كان يجمل بالرافعي أن يزيله، وقد تشغل النفس بغرابة منطق الرافعي ونسق بيانه، فلا تلتفت إلى ما ينبغي أن يحمله القلب من هذا الكلام، وهو إذا ما انعتق من ألق كلامه، وقتش عمَا حمله القلب من المعنى عاد إليه يفتش، فيقع في الحيرة. وكأنِّي بالذي يحدثنا عنه الرافعيّ من (صوت الحسّ) أمر غائم في نفسه هو لم يتبيّن له تبيّنا يعينه على أن يبيّنه لنا بيانا يقينا ظلمة التحيّر. وراجعت غير قليل ممن كتبوا في هذه المسألة عند الرافعي لعلى أجد في كلامهم ما يفتح الطريق إلى فقه ما يريده الرافعي من كلامه هذا، فلم أوفق إلى شيءٍ، وما يزال القلب في ظلمة التحير من مراده بهذا الكلام. أقول هذا غير متهيب من أن أنعت بالعجز عن الفهم، فإعلان الحق أجل من التظاهر بالفهم الكاذب.

ص: 241

وكلامه في أنواع أصوات البيان، واختصاص البيان القرآني بصوت الحسّ هو المفتقر إلى مزيد تبيين افتقارنا نحن إلى ذلك التبيين، وما أشار إليه من أنّ صوت الحس يتبين لك فيما تلحظه من نفسك مع القرآن الكريم من أنّضها لا تضيق به ولا تنفر منه، ولا يتخونها الملال

" لأنّ طريقة نظمه قد جعلت في تلاوته قوة الانبعاث للنفس المكدودة

" إنما هو وصف للشيء بما يحسّ من أثره، فلا يكشف عن حقيقته، ولا عن منبعه وروافده.

المهم أنه ينتهي إلى تقرير أنك «لو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيئ بعضها لبعضٍ ويساند بعضًا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف مساوقة لها في النظم الموسيقيّ حتّى إنَّ الحركة ربّما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب، ولا تساغُ، وربما كانت أوْكَسَ النّصِبَيْنِ فِي حظِّ الكلامِ من الحرف والحركة ِ، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنًا عجيبًا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امْتَهَدَتْ لها طريقًا في اللسان، واكتنفتها بضروبٍ من النّغم الموسيقيّ حتّى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيءٍ، وأرفه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة» (1)

(1) - راجع إعجاز القرآن: 247-258

ص: 242

وهذا منه يهدي إلى أن الكلمات لا تتسم في وجدها الانفرادي بقبح أو حسن أو ثقل أو خفة، فتلك صفات تكتسبها من وجودها الاجتماعي، فهي أشبه بنعت التقوى في الإنسان، لاسبيل إلى نعته به مفردًا عن قومه محجوزًا عن الترابط بأمور حياتهم، فإقامة الكلمة مقامها الآنس بها يحجز النفس عن أن ترى فيها ثقلا أو نفرة بل ترى ما فيها من حزونة مبعث أنس بها، وهذا لا يكون من الكلمة نفسها وإنّما مما يصنعه المتكلم بها إذ يقيم من قبلها ما يوطّئُ لها السبيل إلى مقامها الشريف، فتتناغى أصوات مبناها مع ما قبلها وما بعدها مثلما يتآخى معناها مع معنى جاراتها وأخواتها.

كلامه هنا بسط لأبعاد نظرية النظم عند "عبد القاهر"، ومَدُّ لها، وإحاطة لما منه يكون البيان مبنى ومعنى.

وأنت تراه يصحبك في تدبره وتذوقه البيان بكلمة (النُّذُر) في قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} (القمر:36) وأشارإلى ما تحسه من ثقل الضمة لتواليها على " النون" و" الذال " معا، مضافا إلى ذلك جسأة حرف " الذال " وصلابته وخشونته ونبوه في اللسان وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام، فكلُّ ذلك مما يكشف عنه، ويفصح عن موضعه الثقل فيه، ولكنَّه جاء في في هذه الآية على العكس من ذلك.

تأمل موقع القلقة في "دال""لقد" وفي "الطاء" من " بطشتنا"،وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء " الطاء" إلى "واو"" تماروا" مع الفصل بالمدّ، كأنّها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا جرت على اللسان؛ ليكون ثقل الضمة عليها مستخفًا بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة. ثُمَّ ردّد نظرك في " الراء" من " تماروا" فإنَّها ما جاءت إلا مساندة لـ" راء "" النذر" حتَّى إذا انتهى إليها مثلها، فلا تجْفُ عليه ولا تغلظ، ولا تنبو فيه.

ص: 243

ثُمّ اعجب لهذه الغنّة التي سبقت " الطاء " في " نون "" انذرهم " وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت " الذال " في " النذر "(1)

ويتبر معك بعضًا آخر من الكلمات هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع ممَّا قد يَسِمُها بالاستثقال طبيعةَ وضعٍ أو تركيبٍ، ولكنَّها في نظمها القرآني خرجت مخرجًا سريًّا من نحو قول الله عز وجل:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55)

فقوله {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} كلمة واحدة [إملائيًا لا نحويًا] من عشر ة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنَّها بذلك صارت في النطق كأنَّها أربع كلمات إذ تنطق على أربعة مقاطع» (2)

ويجرى القول منه في ذلك، فينتهى بنا إلى أن «طريقة نظم القرآن تجري على استواء واحد في تركيب الحروف باعتبار من أصواتها ومخارجها،وفي التمكين بحسّ الكلمة وصفتها، ثُم الافتنان فيه بوضعها من الكلام،وباستقصاء أجزاء البيان،وترتيب طبقاته على حسب مواقع الكلمات لا يتفاوت ذلك ولا يختل» (3)

***

وممن عنى بذلك – أيضًا - "العلامة: محمد عبد الله دراز" في كتابه القيم الذي أخرجه لطلاب العلم سنة (1933) فسبق كثيرًا.

وذلك ما تراه من نظره في خصائص الأسلوب القرآنيّ، جاعلاً الخاصية الأولى " خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره، (4)

(1) - السّابق: 258

(2)

- السابق: 260

(3)

- السابق: 275

(4)

- دراز:النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن: ص 103- ط: دار القلم الكويت - 1397

ص: 244

ويأتي قرينه الشيخ " محمد عبد العظيم الزرقاني " ليزيد الأمر بيانًا في سفره القيم " مناهل العرفان في علوم القرآن"، جاعلا الخاصّة الأولى من خصائص أسلوب القرآن الكريم تبعا للشيخ " دراز " خاصة " مسحة القرآن اللفظية"(1)

وقد بيّن أنَّ جمال البيان القرآنيّ أول ما يتجلى لك حين تصغي إليه يتجلّى في" تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم.

وبيان ذلك: أنك إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة تشعر بلذة جديدة في رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات هذا ينقر وذاك يصفّر، وهذا يخفى وذاك يظهر وهذا يهمس وذاك يجهر إلى غير ذلك مما هو مقرر في باب مخارج الحروف وصفاتها في علم التجويد، ومن هنا يتجلى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة الجامعة بين اللين والشدة والخشونة والرقة والجهر والخفية على وجه دقيق محكم، وضع كلا من الحروف وصفاتها المتقابلة في موضعه بميزان حتى تألف من المجموع قالب لفظي مدهش وقشرة سطحية أخاذة امتزجت فيها جزالة البداوة في غير خشونة برقة الحضارة من غير ميوعة، وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة.

ولقد وصل هذا الجمال اللغوي إلى قمة الإعجاز بحيث لو داخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه.

(1) - ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني: 2/ 205- الطبعة الثانية:1373-عيسى الحلبي – القاهرة

ص: 245

ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي، وذاك النظام الصوتي أنَّهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية كانا سورا منيعا لحفظ القرآن من ناحية أخرى،وذلك أنَّ مِنْ شأنِ الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع، ويثير الانتباه، ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم،وبذلك يبقى أبد الدهر سائدا على ألسنة الخلق، وفي آذانهم، ويعرف بذاته ومزاياه بينهم، فلا يجرؤ أحد على تغييره، وتبديله مصداقا لقوله سبحانه:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} » (1)

***

(1) - الزرقاني: مناهل العرفان: 208-209

ص: 246

وممن كانت عنايتة بتدبر وتذوق القيم الصوتية: جرسا وإيقاعًا في البيان القرآني على نحوٍ متميز " سيد قطب" ولا سيّما في كتابه " التصوير الفني في القرآن "(1) وتفسيره " في ظلال القرآن " وهو يقرر أن " التصويرَ هو الأداة المفضَّلة في أسلوب القرآن "، وأنَّ هذا يستوجب أن ندرك حقيقة التصوير ومجالاته، وأن نتوسع في معناه " حتّى ندرك آفاق التصوير الفنّي في القرآن، فهو تصوير باللون، وتصويرٌ بالحركةِ، وتصوير بالتّخييل (2) ، كما أنَّه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيرًا ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق،

(1) - حرص " سيد قطب" في خاتمة كتابه أن يبين مراده بنعت التصوير القرآني بأنه " فنيّ" فقرر أنّه حين فعل ذلك لم تكن كلمة " فنّ" قد ساء استخدامها وحملت من المدلول الاجتماعيّ ما لا يليق،، فهو لم يكن يعلم من الكلمة إلا (جمال العرض وتنسيق الأداء وبراعة الإخراج) ولم يكن يرمي إلى معنى التلفيق والاختراع والتخيُّل لما ليس له حقيقة، ولما لا يسنده الواقع، وانتهى إلى أنّ (الفنّ في القرآن إبداعٌ في العرض [أي إتيان بما لم يسبق إليه] وجمال في التنسيق، وقوة في الأداء) ومن ثَمَّ لا يقوم ما جابهه به بعض النقاد واعترضوا به على كلمة (التصوير الفنيّ)

(2)

- التخييل هو إقامة المتلقي مقاما يستحضر في بصيرته ما يصوره البيان له، فتسمع أذنه صورة المعنى ويستحضر قلبه واقع المعنى كأنّه يبصره، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصور للصحابة ما غاب عن إدراكهم تصويرًا كأنهم يرونه رأي عين كما جاء في صحيح السنة، فذلك من تخييل الحقيقة للسامع وتقريبها إليه أو تقريبه منها، أمَّا البيان فليس مصورًا ما ليس بواقع بل هو واقع وإن كان غير منظور بعين الرأس. وعلى هذا فالتصوير القرآني لايقوم من التخيّل لما ليس بواقع، بل يقوم بتخييل الحقيقة وتقريبها للمتلقين.

ص: 247

في إبرازِ صورة من الصور، تتملاها العينُ، والأذنُ، والحسّ، والخيالُ، والفكر والوجدان " (1)

فالجرس والنغم والموسيقى رافِدٌ من روافد تكوين الصورة، ومن ثَمَّ كانت العناية بهذا الرَّافد من العناية بفقه الصورة الحاملة معاني الهدى إلى الصراط المستقيم، والتقصير في فقهها تقصير فيما يحقِّق ضربًا من ضروب الهدى.

ولهذا تكاثرت وتوافرت عناية " سيد قطب " بهذا الرافد وأثره في التصوير القرآني، سواء كان هذا الرافد قائمًا في الصورة الصوتية لكلمة أو جملة أو معقد أو سورة. تراه يعقد فصلا للتناسق الفني في القرآن، ويبيّن أنَّ هذا التناسق ألوانٌ ودرجاتٌ، ومن" ذلك الإيقاع الموسقيّ الناشئ من تخير الألفاظ ونظمها في نسق خاصّ "(2)

تأتي كلمة في بناء تعبيريّ ممتد فيكون لجرسها من الأثر ما يغني عن عديد من الكلمات كما تراه في قول الله سبحانه وتعالى في سورة (آل عمران:117) :

{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}

جاءت كلمة (صِرَّ) في هذا السياق المصوِّر نفقة الذين كفروا، وما يحيط به من هلاك لا يبقى ولا يذر، فرتسم كلمة (صِرّ) بجرسها هول ما يحيط بالحرث من الريح المهلكة، ولو استبدلت بها كلمة أخرى بل كلمات لما استطاعت بدلالتها المباشرة الصريحة أن تقوم بما قام به هذا الجرس المالئ سمعك وقلبك بصوت الريح المهلكة المفزعة التي تخلع القلوب قبل أن تخلع الحرث وتهلكه (3)

وتسمع قول الله عز وجل:

(1) - التصوير الفنّي في القرآن لسيد قطب:ص37- ط:1987 – دار الشروق – القاهرة

(2)

- السابق:87

(3)

- ينظر: التصوير الفني: 41، وفي ظلال القرآن: 445

ص: 248

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ} (التوبة:38)(1)

فيملأ سمعك وقلبك بهذا السؤال الاستنكاري التوبيخي الكاشف عن ضلال الحركة النفسية المضطربة في داخلهم، وقد نودوا إلى الجنة أن ادخلوا فتثقالوا.

روى البخاري في صحيحه من كتاب (الاعتصام بالكتاب) بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلَاّ مَنْ أَبَى» . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ «مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى» . (حديث: 7280)

ينادي عليهم: انفروا في سبيل الله إلى مرضاته وجناته، فيتثاقلون.

«تسمع الأذن كلمة (اثَّاقلتم)

فيتصور الخيال [أي يبصر القلب الحقيقة النفسية] ذلك الجسم المتثاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل.

(1) - في التأويل البياني لهذه الآية راجع كتابي: (شذرات الذهب - ص 71-86)

ص: 249

إنَّ في هذه الكلمة "طنًا" على الأقلّ من الأثقال، ولو أنَّك قلت:" تثاقلتم"(1) لخفَّ الجرسُ، ولضاع الأثر المنشود، ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ واستقلّ برسمها» (2)

أن الإصغاء إلى جرس هذه الكلمة في صحبة استحضار معنى النداء عليهم بهذه الصفة (آمنوا) وهذا السؤال المرعب كلَّ قلبٍ ذاق طعم الإيمان، وهذا الحذف للمراد النفرة إليه (انفروا في سبيل الله) وكأنه قيل: انفروا في سبيل إلله إلى رضوانه وجناته حيث ما لاعين رأت ولا أذن سمعت، إلى لقائه والنظر إليه

واستحضار ما يفيض من السؤال المفعم بالتنبيه على الضلالة (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أيفعلها من ذاق قلبه طعم الإيمان؟!! فالرضا لا يكون إلا عن علم واطمئنان قلب إلى ما رضي به.

كلّ ذاك في صحبة جرس هذه الكلمة الذي يملأ القلب المعافى من الغفلة فزعًا، فلا يرضى إلا بأن ينفر في سبيل الله سبحانه وتعالى إلى حيث يرضى ويتجلى بأنواره ومحبته.

(1) - الثقل: نقيض الخِفّة، وتثاقل: تكلّف الثقل أي تظاهر بأنّه ثقيل غير قادر على أن ينهض إلى ما يُدعَى إليه، وهو ثمرة انفعال نفسي كاره لما يدْعَى إليه، واثاقل أصلها تثاقل قلبت (التاء)(ثاءً) لقرب المخرج، وادغما، وجاءت همزة الوصل ليمكن إدغام المثلين، وهذا الإدغام هو الذي حقق لهذه الكلمة جرسًا صوتيا ويميزها عن (تثاقل) ولك أن تتأمل تعدية الفعل (اثاقلتم) بـ (إلى) وما تصوره لك من حركة التساقط السريع المديد إلى الأرض كأنّما يلقى بنفسه في عجلة فرارًا مما يدعى إليه: دخول الجنة

(2)

- التصوير الفني في القرآن:91- 92، في ظلال القران: 1655

ص: 250

ويعرض" سيد قطب" لفيض من الكلمات التي يرسم جرسهاصورة تملأ الأذن وتفعم القلب، بما تعجز جيوش من الكَلِمِ أن تقوم بما قام به جرسها. (1)

ويبيّن لنا «أنَّ هناك نوعًا من الموسيقى الداخلية يلحظ، ولا يشرح

وهو كامن في نسيج المفردة، وتركيب الجملة، وهو يدرك بحاسّة خفيّة وهبةٍ لدنيّة» (2)

***

وهو لايتوقف تدبُّره أثر الجرس والإيقاع قائمين في الكلمة بل يتجاوز ذلك إلى ما فوقه، فيقرر حقيقةً أدركها من ترتيله وتدبّره القرآن الكريم قائلا: «حيثما تلا الإنسان القرآن أحسَّ بذلك الإيقاع الدَّاخليّ في سياقه يبرز بروزًا واضحًا في السور القصار والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة

» (3)

ينظر في بعض الصور الصوتية في بناء بعض السور القرآنية فيدرك ما في بناء آياتها على فواصل متحدة في حرف التقفية تماما مع تساوي كثير من الآيات فيها في الطول والقصر، وتساوى الفواصل في الوزن والقافية، وهذا ما أشار إلى تحققه جليًا في سورة (النجم:1-22)

(1) - يحسن بك التبصر فيما قاله في تصوير جرس الكلمات التالية: (ليبطئن) و (أنلزمكموها) ، و (يصطرخون) ، و (عتل) ، و (كبكبوا) ، و (الطامة)

لفيض من المعاني مما يحقق للصورة القرآنية إعجازها في إيجازها.

(2)

- التصوير الفني في القرآن: 106

(3)

- التصوير الفني في القرآن: 103

ص: 251

{بسم الله الرحمن الرحيم. وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * أَفَرَأَيْتُمْ اللَاّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى *}

فيلحظ التالى والمستمع أن «الإيقاع الموسيقيّ هنا متوسط الزمن تبعًا لتوسط الجملة الموسيقية في الطول، متحد لتوحد الأسلوب الموسيقيّ، مسترسلُ الرويّ كجو الحديث الذي يشبه التسلسل القصصيّ،وهذا كلّه ملحوظ.

وفي بعض الفواصل يبدو ذلك جليًا مثل: {أَفَرَأَيْتُمْ اللَاّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} فلو أنّك قلت: " أَفَرَأَيْتُمْ اللَاّتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ " لاختلت القافية، ولتأثر الإيقاع، وكذلك في قوله:{أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} فلو قلت: أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ قِسْمَةٌ ضِيزَى، لاختلّ الإيقاع المستقيم بكلمة (إذن) »

ص: 252

ويحترس " سيد قطب " من أن تحسب أنّ كلمة " أخرى" و" إذن" تجردتا لتعديل النغم، وليس من وراء ذلك ما يسدي إلى المعنى المتعقل فائدة، فيقرر:" لايعني هذا أنَّ كلمة (الأخرى) وكلمة (إذن) زائدتان لمجرد القافية والوزن، فهما ضروريتان في السياق لنكت معنوية خاصّة، وتلك ميزة فنية أخرى: أن تأتي اللفظة لتؤدي معنى السياق، وتؤدي تناسبًا في الإيقاع، دون أن يطغَى هذا على ذاك أو يخضع النظم للضرورات "(1)

وهويقرر مثل هذا في مفتتح تدبُّره السورة قائلا:

«هذه السورة في عمومها كأنَّها منظومة موسيقية علوية، منغّمة، يسري التنغيم في بنائها اللفظيّ كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة،ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة.

ويبدو القصد فيه واضحًا في بعض الموضع، وقد زيدت لفظة، أو اختيرت قافية لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه – إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني – مثل ذلك قوله:{أَفَرَأَيْتُمْ اللَاّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} قلو قال:" ومناة الأخرى" ينكسر الوزن، ولو قال:" ومناة الثالثة " فقط يتعطّل إيقاع القافية، ولكلّ كلمة قيمتها في معنى العبارة، ولكنّ مراعة الوزن والقافية كذلك ملحوظة، ومثلها كلمة (إذن) في وزن الآيتين بعدها:{أََلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَة ضِيزَى} فكلمة (إذن) ضروريَّة للوزن، وإن كانت – مع هذا – تؤدي غرضًا فنيًا في العبارة " (2)

ويؤكد هذا في تدبره قول الله جل جلاله في السورة نفسها: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} فينظر تقديم (الآخِرَة) على (الأُولَى) فيقرر أنّه تقديم يحمل عطاءين: المعنى المتعقّل، والإيقاع:

(1) - التصوير الفني في القرآن: 104

(2)

- في ظلال القرآن: 3404

ص: 253

«ولا ننسَى أن نلحظ هنا تقديم (الآخرة) على (الأولى) لمراعاة قافية السورة وإيقاعها، إلى جانب النكتة المعنوية المقصودة بتقديم الآخرة على الأولى، كما هي طبيعة الأسلوب القرآنيّ في الجمع بين أداء المعنى وتنغيم الإيقاع دون إخلال بهذا على حساب ذاك

» (1)

وهو لم يصرح لنا بالنكتة المعنوية من إقامة هاتين الكلمتين: (الأخرى) و (إذن) في سياقهما، ولا النكتة المعنوية من تقديم الأخرى على الأولى، وكأنّه يراهما من الظهور، فلايفتقرأحد إلى التصريح له بهما. (2)

(1) - السابق: 3409

(2)

- يذهب " ابن عطية الأندلسي "(ت:546) إلى أن مناة " كانت أعظم هذه الأوثان قدرًا وأكثرها عابدًا، وكانت الأوس والخزرج تهلُّ لها، ولذلك قال تعالى " الثالثة الأخرى" فأكدها بهاتين الصفتين كما تقول: رأيت فلانا وفلانًا، ثُمَّ تذكر ثالثًا أجلّ منهما، فتقول: وفلانًا الآخر الذي من أمره وشأنه "(المحرر الوجيز:15/266- ط: المغرب)

و"الزمخشري " يرى في النعت بالأخرى معنًى غير ما عند " ابن عطية" يرى أنَّ المعنى على الذمِّ أي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى:" (

قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لآُولاهُمْ) (الأعراف: من الآية38) أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم، ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم لللات والعزَّى) (الكشاف:4/30)

ويستحن " الطاهر بن عاشور " أن يكون قوله تعالى: (الثالثة الأخرى) جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد،وكان فيه من يظنّ أنّه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر، فيقولوا:" وفلان هو الآخر"

ووجهه هنا أنَّ عُبَّادَ " مناة" كثيرون في قبائل العرب، فنبه على أنّ كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بفية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها، وكلّ ذلك جارٍ مجرى التهكم والتسفيه" (التحرير والتنوير: 27/ 105) وهو كما ترى ينزع مما نزع منه " ابن عطية"

أمَّا مجيئ كلمة (إذن) فإنه مفيد ترتب الحكم على ما قبله: " أي يترتب على ما زعمتم أن َّ ذلك قسمة ضيزى"(التحرير والتنوير: 27/106) ولو نزعت كلمة (إذن) لم يتبيذن ما يفيد ترتب الحكم بجور القسمة على ما كان منهم.

وتقديم (الأخرى على الأولى) فإنَّ "البقاعي" يذهب إلى أنه تقديم يفيد أنهم مربوبون لايملكون من أمرهم شيئًا بدليل أنَّ ما يتمنونه في دار ما يتمنى من النعيم لا يكون لهم من ذلك شيء لأأنه كله لله، وليس لهم منه شيء، فظهور كمال الملك في الآخرة أقوى، فإنَّه يومئذ لا يكون لأحدٍ أيُّ شيءٍ على أيّ وجه، فكان تقديم الآخرة أدل على افتقارهم وعجزهم (ينظر: نظم الدرر: 7/ 325 - بيروت)

ويذهب الطاهر بن عاشور إلى أنَّه " إنّما قدمت الآخرة للاهتمام بها والتنبيه إلى أنّها التي يجب أن يكون اعتناء المؤمنين بها لأنَّ الخطاب في هذه الآية للنبي - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - والمسلمين مع ما في هذا التقديم من الرعاية للفاصلة. (التحرير والتنوير: 27/112)

ص: 254

***

و" سيد قطب " يلفت بصائرنا إلى أنَّ أسلوب الموسيقى وإيقاعها في السورة القرآنية يتنوع " بتنوع الأجواء التي تنطلق فيها

في سورة (النازعات) اسلوبان موسيقيان، وإيقاعان ينسجمان مع جوين فيهما تمام الانسجام.

أولهما يظهر في هذه المقطوعة السريعة الحركة القصيرة الموْجةِ القوية المبنَى تنسجم مع جوّ " مُكَهْرَبٍ " سريع النبض شديد الارتجاف على النحو التالي (النازعات: 1-15) :

{بسم الله الرحمن الرحيم *وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}

والثانِي يظهر في هذه المقطوعة الوانية الحركة الرخية الموجة المتوسطة الطول تنسجم مع الجو القصصي الذي يلي مباشرة في السورة حديث الكرة الخاسرة والزجرة الواحدة وحديث الساهرة على النحو التالي: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى *....إلخ (الآيات: 15- 19)

أظنَّ أننا لسنا في حاجة إلى قواعد " موسيقية " ولا إلى اصطلاحات فنية، لندرك الفرق بين الأسلوبين والإيقاعين، فهو واضح لايخفى، وهو كذلك منسجم في كلّ حالة مع الجو الذي تطلق فيه الموسيقي.

ولهذه الموسيقى وظيفة أساسية في مصاحبة المشهد المعروض في المرَّتين الأولى والأخرى " (1)

(1) - التصوير الفني في القرآن:110-112

ص: 255

وهذا يجلّي موقف " سيد قطب " من العلاقة بين الصورة الصوتية للبيان وما هو مكنون في هذا البيان من معاني الهدى، وما أقيم عليه النظم من السياق، فيتحقق لنظم السورة التناسب والتآخي بين معانيها المتعقّلة، والتناغم والتناغي بين القيم الصوتية المتمثلة في جرسها وإيقاعاتها. وكأنَّ هذا ناظرٌ إلى ما أخذ فيه بعض علماء نقد الكلمة الشاعرة من تبيّن العلاقة بين الأوزان والإيقاعات الشعرية والمعاني والأغراض، وهي مسألة نقدية اتسع القول فيها واشتجر.

ولا أظنَّ أن ما قام من مجالات في ميدان نقد الكلمة الشاعرة يقوم مثله بين أهل العلم بالبيان القرآني، فإن القلوب المعافاة من داء الغفلة لتستشعر وثيق الاعتلاق بين القيم الصوتية في القرآن الكريم ومعانيه وأغراضه ومقاصده، ومن هنا أكدوا انَّ هذه القيم الصوتية – في غير البيان القرآني - إذا لم تكن منسولة من المعاني، واقتضاها المقام فإنه ليست من البلاغة في شيء، مثلما أن تركها حين يقتضيها المقام هو ضرب من عقوق المعنى،أمَّا هي في البيان القرآني فإنَّها لا تكون إلا منسولة من الغرض والمعنى المساق إليه الكلام، ومما اقتضاه المقام اقتضاءً مكينًا.

مجمل الأمر أنَّه " تتكشف للناظر في القرآن – كما يقول سيد قطب – آفاقٌ وراء آفاقٍ من التناسق والاتساق: فمن نظمٍ فصيحٍ إلى سرد عذبٍ إلى معنى مترابط إلى نسق متسلسل إلى لفظ معبر إلى تعبير مصوّر إلى تصوير مشخص إلى تخييل مجسم إلى موسيقى منغمة إلى اتساق الأجزاء إلى تناسق في الإطار إلى توافق في الموسيقى إلى افتنان في الإخراج

وبهذا كلّه يتم الإبداع ويتحقق الإعجاز " (1)

***

(1) السَّابق: 142

ص: 256

وممن كانت له عناية بارزة بتدبر الإيقاع في البيان القرآني،وأثره في تكوين وتشكيل صورة المعنى القرآني الدكتور " نعيم اليافي " فقد كان له في ذلك مقالات منها: قواعد تشكّل النغم في موسيقى القرآن" (1) ومقال: ثلاث قضايا حول الموسيقى في القرآن " ومقال:" عودة إلى موسيقى القرآن "

يهمنا هنا تعريفه الإيقاع بأنه " حركة النّصّ الداخلية الحيوية المتنامية التي تمنح نسق الرموز المؤلفة للعبارة الدفق والثراء"(2)

يبرز فيه طبيعة الإيقاع في استبطانه ولطفه وحيوته وتناميه، وأثره في العبارة بما يحقق لها ثراءها واندفاعها إلى قلب المتلقى بما لا يملك إعاقته أو التوقف في تلقيها.

ويرى الإيقاع في البيان القرآني نابعا " من اندماج عنصرين:

من نغمة خاصّة تناسب الفكرة،وتقوم القافية فيها بدور المفتاح.

ومن لحن ينتظم النغمات جميعًا على اختلاف درجاتها، وفي شكل منسجم ومتناسب يخلف في روح المتلقي شعورًا ما.

بالنغمات يوقع القرآن إيقاعات تشي على أوتار النفس، وباللحن المتساوق يترك وحدة الأثر

" (3)

(1) - نشره في مجلة التراث العربي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق العدد (15) - نيسان:1984، ولمَّا يتيسر لي الاطلاع عليه.

(2)

- مقال: ثلاث قضايا حول الموسيقى في القرآن:ص 90- مجلة التراث العربي – العدد 17- السنة الخامسة – محرم: 1405المجلد:

(3)

- مقال: عودة إلى موسيقى القرآن لنعيم اليافي ص 64- مجلة التراث العربي العدد الخامس والعشرين السنة السابعة

ص: 257

وهو لا يرى حرجًا من استعمال مصطلح (الموسيقى) في تدبر البيان القرآنيّ (1)

وهو في تدبره أثرالإيقاع في تصوير المعنى ودفقه في قلب المتلقي يتناول جملا وآيات كما في قول الله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى*أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) (النجم:19-22)

وقول الله تعالى في سورة (الشعراء) :

{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) }

(1) - ومجمل ما يوجه به عدم تحرجه أن، فالقرآن الكريم وإن كان ينأى عن وزن الشعر ولو تلاحمت فيه بعض أشطره وأبياته، فإنه لاينأى عن "الإيقاع" بل يتوسل به في نسقه العالي الجميل حقيقة لا ادعاءً،واستعمال مصطلح (الموسيقى) قد دخل معجمنا ولغتنا – كما يقول – وأصبح جزءًا من فكرنا التراثيّ،ونحن في زمن يعنينا فيه أن نوضح خصوصية القرآن الكريم ومبلغ إعجازه

فكان عنده من الخير أن نستعمل مصطلحا عالميا هو من خصائص التعبير السّامي الرفيع، فثبت أن أسلوب القرآن يتوسط به ويتوسل ويبدع في هذا التوسط والتوسل

إنّ الكتاب الكريم في تعبيره وطريقة أدائه يسعى نحو الموسيقى ويتوخاها بدقة كبرى، ويتغياها عن فصد وهدف حتّى يكون في أسلوبه أوقع وأحكم،وفي تعبيره أكثر أناقة وأشد إشراقا وتأثيرًا. (ص: 58 مقال: عودة إلى موسيقى القرآن – نعيم اليافي – مجلة التراث العربي – العدد 25- السنة السابعة – 1407هـ

ص: 258

وقوله سبحانه وتعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) (القمر:6-8)

فالذي يهمنا منه هنا عنايته بتدبر أثر الإيقاع في بناء السورة،كما نراه في تدبره إيقاع سورة (الزلزلة) و (النازعات) و (المسد)

يقول في إيقاع سورة الزلزلة:

{بسم الله الرحمن الرحيم *إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه}

" تبدأ حركة النّصّ عنيفة قويّة غنه يوم القيامة حيث ترجف الأرض وتزلزل، وتنفض ما في جوفها

مشهد مروع

ويقف الإنسان دهشًا ضائعًا مذعورًا

هنا والإنسان مشدود يكاد لا يلتقط أنفاسه خائف يترقب في لمحة سريعة يعرض مشهد القيامة من البعث حتى الحساب

إيقاع النصّ يساوق هذا المعنى، ويحمله، فهو مثله لاهثٌ سريعٌ يوجف، كالأرض وكالإنسان فرقًا واضطرابًا

كلّ ما فيه متحرك بارز ماثل، الكلمات في جرسها في طباقها وتوافقها، فيما تنشره من أفياء وظلال..الزلزلة.. أثقال.. مثقال.. ذرة.. أشتاتا.. ليروا..يره تشي بالموقف وتعبر عنه

ومع ذلك فهذه الكلمات وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ في وصف المشهد قدر ما يبلغه الخيال السمعيّ والبصريّ حين يتملى النّص، فالسورة هزة،وهزة عنيفة للقلوب الغافلة هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي....

ص: 259

هذه الموسقى في القرآن تأخذ مجراها،وتفعل فعلها تهز القلوب والنفوس والأرض والسماء، تصوّر، وتوحي، تؤثر، تميز، تحكم

(1)

كان حريصًا في تدبره على ملاحظة العلاقة بين القيم الصوتية للسورة: جرسًاوإيقاعاوالجوالعام الذي يلف السورة، والمعاني التي جاء البيان القرآني فيها مصورًا لها، والغرض المسوق له بيان السورة.

***

وإذا ماكنَّا قد سمعنا " سيد قطب " يبيّن ما اشتملت عليه سورة (النازعات) من النغم المتنوع تنوع الجو الذي تطلق فيه معاقد السورة فاشتملت على أسلوبين موسيقيين،وإيقاعين ينسجمان مع جوين فيها تمام الانسجام، فإنّ" نعيم اليافي" يتابع ما جاء به " سيد قطب" في هذا فيقسم سورة (النازعات) ستة أقسام وفقًا لطبيعة الإيقاع في كلّ قسم، ويرى أن القسم الأول (ي: 1-5) والثاني (6 – 14) طابع الإيقاع فيهما واحدا: إيقاع سريع واجف والقسم الثالث (ي:150 26) يتغير الإيقاع فيهدأ وينساب،وتمتد العبارة،وتطول الجملة فالمجال مجال عرض قصصي.

وفي القسم الرابع (ي: 27-33) يتحول الإيقاع إلى القوة والأسر حيث التحول من سرد التاريخ والعظة إلى تأمل الكون المفتوح ومشاهده الهائلة،ولم تبلغ القوة فيه ما بلغته في القسم الأول والثاني.

وفي القسم الخامس (ي:34-41) تعود النغمة إلى حدتها وقوتها وعنفها لأن مجال المعنى كذلك لأنه مشهد الطامة الكبرى.

وفي القسم الأخير (ي: 42-46) يأتي الإيقاع سريعًا رائعا فخمًا يُصوِّر هولَ السَّاعةِ وفخامَتَها.

(1) - مقال: عودة إلى موسيقىالقرآن لنعيم اليافي – ص: 63 - مجلة التراث العربي العدد الخامس والعشرين – السنة السابعة

ص: 260

وإيقاع السورة تشكل من أنغام القافية واللحن المتساوق مع الجو العام للسورة ولكل قسم من اقسامها. فقامت القافية في السورة" بدور المفتاح، فتلون النغمة وتمنحها درجتها،وتعددت القوافي بتعدد النغمات حتّى بدت كأنها النهايات الطبيعية التي كانت تصل إليها كلّ موجة متدفقة من موجات التعبير الزاخر بالحركة والجشيان.

أمَّا لحن السورة مجموع النغمات بمفاتيحها وقوافيها في ارتفاعاتها وانخفاضاتها، فإنه يعتمد على لونيين من الإيقاع: هادئ بطيء هو اللون الثانوي

وإيقاع شديد بارز هو نغمة القرار الرئيسية، ويبدو في حدى نقراته وشدة نبراته

» (1)

لا يخفى عليك تأثره بما جاء به " سيد قطب" وإن كنت تراه غير ماكِثٍ فيما ورث، بل أضاف إليه ما فصّله وأبرزه ونماه.

***

وأنت إذ تنظرمعي في سورة (القمر) وقد جاءت جميع فواصلها على حرف واحد (حرف الراء) مسبوق بحرف متحرك تجد ان اتساقها على فاصلة ذات رويّ واحد إنّما مرده إلى أنَّها ذات موضوع واحد، فلم تتنوع معاني معاقدها.

ليس يخفى أن معاني السورة إنْماءٌ لما جاء في آخر (النجم: 57- 58) من قول الله سبحانه وتعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَة * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}

(1) - مقال: عودة إلى موسيقى القرآن لنعيم اليافي – ص: 65- 66

ص: 261

فهذا مما تنخلع له القلوب، ولا تكاد النفوس تقر وتأمن، فتأتي الآيات في سورة (القمر) وقد ألقت مبانيها الهول والفزع والعنف في القلوب المنكرة المكذبة بالنذر وما جاءت به، وقررت أنّه لم يبق ما يمكن لهم أن ينتفعوا به (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ومن ثمَّ كان البلاغ الرهيب:(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ)(القمر:6-8)

فقد حمّ الأمر.

وتصورالسورة نماذج مما حل بمن سبقهم ممن كذبوا بالرسل (ي: 9-42) حكى لهم ما كان من قوم نوح عليه السلام ومن قوم هود عليه السلام،ومن قوم صالح عليه السلام،ومن لوط عليه السلام ومن فرعون وقومه وما كان لهؤلاء جميعًا من الهلاك والبوار.

ثُمّ يلقى في وجوههم هذا السؤال المرعب: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (القمر:43) ويأتي القرار {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر:51) بنيت الكلمات من أصوات: حروفا وحركات تقرع الآذان بصوت الرعب والهلع، وتملأ القلوب بالرهبة والوجل،وجاءت الكلمات في صيغ يندر استخدامها أو يقل في البيان القرآن ليتناغى صوتها مع ما تسوقه السورة إلى القلويب، ولتتآخى ندرتها مع فظاعة الموقف من المكذبين بالنذر.

وقد ظهر في السورة حذف بعض حروف مباني الكلمات لغير ما وجه إعرابي أو صرفي من نحو (تغن)(يدع)(الداع) ليتناغى ما يحدثه حذف الحرف من إسراع في النغم مع ما يكون من إسراع في دعوة الداعي،ويتآخى مع الإشارة إلى انتفاء الإغناء في (فما تغن النذر)

ص: 262

وتجد العناية بالقيم الصوتية ظاهرة في في اختيار كلمات ذات جرس خاص يملأ الأذن مثلما لها قدرة على التصويرواستحضارالهيئة المرهبة من نحو قوله (مهطعين) و (منهمر) و (صرصر) و (منقعر) ،و (المحتظر) و (حاصبا) و (تماروا) و (طمسنا)

لتنظر موقع كلمة (النُّذُر) بجرسها هذا تجد أنها جاءت في القرآن الكريم أربع عشرة مرة، كان لسورة (القمر) منها إحدى عشرة مرة، مما يجعل لهذه الكلمة مبنى ومعنى خصوصية في الدلالة على ما تساق السورة إليه وتقام لتصويره في القلوب.

إذا نظرت في فواصل هذه السورة ألفيت أن جميع فواصلها قد بنيت على حرف الراء المسبوقة بحرف متحرك، وأن فواصلها مما لم يكثر ذكره في غيرها في مواقع الفاصلة أو موضع آخر،تجد فواصلها على النحو التالي:(القمر – مستمر – مستقر – مزدجر –النذر – نُكُر – منتشر – عسِر – ازدجر – انتصر- منهمر – قُدِر – دُسِر – كُفِر – مدّكر – مستمر – منقعر – سُعُر – أَشِر – اصطبر- محتضر – عقر – محتظر- سَحَر – شَكَر – مقتدر – الزُّبُر –منتصر – الدّبر – أَمَر- سَقَر – قَدَر – البصر – مستطر – نَهَر)

كثير من هذه الكلمات لم يأت إلا في سورة القمر مثل: (مزدجر – نكر – منتشر – منهمر – دسر – مدكر – مستمر – منفعر – سعر – أشر – محتضر – المحتظر – منتصر – الدبر – مستطر – نهَر)

وقد غلب على الفاصلة وزن: (مفتعل – فُعُل -منفعل) مما يمنح الفواصل مزيدًا من التوازي الذي يزيد إيقاع البيت تناسبًا وتماثلا.

ترى العناية بالقيم الصوتية في نظم الكلمات وفي بناء الايات من نحو قوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ)(القمر:6-8)

ص: 263

فظاهر النظم أن يقال: يخرجون من الأجداث خشعا أبصارهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر. ولكنه قدم بعض الكلم على بعض ليحقق للكلام جرسه وإيقاعه المرهب، وليقيم في القلب تطلعًا إلى ما سيكون منهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر، فيأتي قوله (خشعا أبصارهم) ليملأ القلب فزعا، يزيده ذلك التشبيه (كأنَّهم جراد منتشر) فما أبشع هوانهم يومئذٍ، وهم الذين كانوا من قبل إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّوَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ.

كلّ ما في السورة يصدح بالنذير، ومن ثمّ بسط البيان في خاتمتها لما سيكون للمجرمين يوم القيامة: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)

وليجعل مقطع التلاوة هذا النغم الرقيق ينساب في قلوب المتقين: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

فيرسم بهاتين الآيتين صورة للنعيم بطرفيه – كما يقول سيد قطب -

? " نعيم الحسّ والجوارح في تعبير جامع شامل (في جنات ونهر)

يلقي ظلال النعماء واليسر حتّى في لفظه الناعم المنساب، وليس لمجرد إيقاع القافية تجيءُ كلمة (نَهَر) بفتح (الهاء) بل كذلك لإلقاؤ ظلّ اليسر،والنعومة في جرس اللفظ،وإيقاع التعبير.

? ونعيم القلب والروح. نعيم القرب والتكريم {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} فهو مقعد ثابت مطمئن قريب كريم مأنوس بالقرب مطمئن بالتمكين ذاك أنهم المتقون...." (1)

(1) في ظلال القرآن: 3442

ص: 264

***

ولي أن أختم الإبحار في تدبّر وتذوق إيقاع البيان القرآني بسبحة في إيقاع سورة (الشرح) وهي سورة حبيبة إلى نفسي أسكن إليها حين تضيق النفس بما حولها أو مما حولها.

{بسم الله الرحمن الرحيم * أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}

سورة مكية يمتد فيها المعنى المنساب من سورة (الضحى) امتدادًا كالمفسّر للنعمة التي حَثَّ الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم على أن يتحدث بها، فما ذكر في سورة الشرح من أجل ما أفاض عليه من النّعم.

والسورة شأنها شأن السور المكية تمنح القيم الصوتية فيها مكانة في تكوين صورة المعنى وتشكيلها، على تنوع هذه القيم الصوتية فيها،ومن أبرز تلك القيم ما تواطأت عليه رؤوس الآيات من التناغم المتنوع تنوعًا مرهونًا بالجو الذي يشيع في كلّ مقطع من مقاطعها على قصرها وقلة عدد آياتها.ممّا يدلّ على أنَّ تنوع الفواصل ليس معياره كثرة الآيات في السورة وامتداد سياقها بل مرده اقتضاء المعنى والغرض المنصوب له الخطاب.

انتهت فواصل الآيات الأربع الأولى بالكاف المسبوقة بالراء المفتوحة: (صَدْرك – وِزْرك – ظَهْرك – ذِكْرك) ولو أنك أصغيت إلى وزن هذه الفواصل وجدت الفاصلة الأولى والثالثة (صدرك – ظهرك) على زنة (فًعْلَكَ) بفتح فسكون ففتح..والفاصلة الثانية والرابعة (وزرك – ذكرك) على زنة (فِعْلَكَ) بكسر الفاء وسكون العين. وهذا ضرب من التنسيق لطيف طريف. هذا التوازي والتوازن والتساوي أيضًا يتناغم مع المعنى الذي تضمنته الآيات كما سيتبين لك.

ص: 265

وإذا نظرت رأيت أن كلّ آية من هذه الأربع قد تعادلت في حركاتها وسكناتها، وقد غلب على حركاتها صوت الفتحة، ولم تأت الكسرة إلا في ثلاثة مواضع (وذرك – الذي- ذكرك) وهذا يبين لك أهمية الإتيان بقوله:(لك) في الآية الأولى، و (عنك) في الثانية، و (لك) في الرابعة، ولو رفعت هذه الكلمات، فقيل في غير القرآن الكريم: الم نشرح صدرك ووضعنا وزرك الذي انقض ظهرك ورفعنا ذكرك، لضاع التناسق النغمي، واختل نسق الإيقاع الذي بنيت عليه الآيات.

وإذا نظرت ما بنيت عليه فواصل هذه الآيات الأربع رأيت (الراء) المفتوحة ذات توقيع صوتي متميز: تحمل من صوت التكرار الكثير، كما أنها صوت مجهور مفتوح، ثُمَّ ما تضيفه حركة الفتح، وهي نصف الألف من انطلاق، فالفتح كما لا يخفى يمنح الجرس الصوتيّ انطلاقًا يتلاءم مع حركة التكرير وتوقيعه في صوت (الراء) ليكون أكثر انطلاقًا لخفة الفتحة، وليتلاءم مع مخرج (الراء) فهو من طرف اللسان الأدنى إلى ظهره ومع ما فوق الثنايا حيث يتيح ذلك للنغم أن يتردد، ولكن هذا الانطلاق مقيد بصوت الكاف الساكنة.

يأتي (الكاف) وهي إلى أقصى اللسان أقرب مع ما لها من الهمس والشدة، وما يعتريها من السكون بالوقف أحدث ضربًا من التوقيع البديع المتنوع، فتكون نغمات صوت (الراء) أشبه بنغمات الحركة، ونغمات صوت (الكاف) أشبه بالسكتة في التنغيم، فيكاد يكون الكاف أشبه بقرار التنغيمات التي تتردد من صوت (الراء)

ساعد ذلك كلّه قصر الآيات.

كلّ هذا وفوقه تناسبٌ دقيقٌ وثيقٌ بين عطاء صوت الكاف الساكن في الآيات الأربع الأولى وما تزخر به هذه الآيات من المعنى.

ألا ترى العبْءَ المتثاقل في صوت (الكاف) والسكون متناسقًا متناغمًا مع مضمون هذه الآيات الأربع حيث الصدر المفعم بالكمد والوزر المتثاقل على الكاهل والظهر الذي كاد يتهاوَى تحت وطأته

ص: 266

الأيات الأربع تصورما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم من الضيق والهمّ المتثاقل، وما تجلت عليه الرحيمية الجليلة بالشرح ووضع الوز ورفع الذكر

تناسق بين صوت (الكاف) الساكن وقفًا والضيق الخانق والتوتر العارم المتردد في النفس من قبل الشرح كما يشير إليه صوت (الراء) من قبل (الكاف) فالسجع مصور لك ما كان في صدر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الشرح.

ثُمَّ تأتي بعد هذا فاصلتان اعتمدتا على التكرار (يسرا) منتهيتان بصوت الراء المتلو بالألف لتقوم الألف بإطلاق حركة التردد والتكرار الذي كان محبوسًا بدرجة ما بصوت الكاف الساكن في الفواصل الأربع السابقة، وكأنَّ في مجيء (الألف) هنا من بعد (الراء) تفريغًا لما تبقى من شحنات التردد الصوتي الذي سيصاحب شحنات تردد داخلي لدى التالي إذا ما كان مؤديا حق الترتيل من انسجام جواني مع توقيعات الترتيل، فالألف في (يسرا) حين تأتي وتتكرر في فاصلة آيتين قصيرتين تعتمدان على تكرير صوتيّ جُمَلي تغييرًا وتنويعًا لتكرير صوتيّ حرفيّ، وتسعى الألف في آخر الآيتين إلى استفراغه حتّى تهيء المتلقى بهذا الاستفراغ إلى أن يستشرف عطاءات ما تبقى من السورة

الإيقاع في الآيتين الخامسة والسادسة يصور ما كان من إطلاق للضيق الذي كان يملأ نفس النبيّ صلى الله عليه وسلم بما يوحي به إطلاق صوت الألف من بعد (الراء) وكأن هذا يتواءم مع طبيعة المرحلة الثانية: مرحلة التكبليف بالرسالة حيث الهدي والتعهد الربانيّ بالرضا المطلق، فيفرغ الصدر مما كان قد أفعه من الهم في مبدأ المبعث، وفي صوت (الألف) أيضًا إشارة إلى امتداد اليسر في حياة الأمة، وأنه لن ينقطع عنها، وهذا يتآخى معه تكرير الآية، فيقوم معناها ومغناها في القلب، فلا يغفل عن هذا الوعد الربانيّ الكريم.

ص: 267

كلّ هذا إنما هو تهيئة لما هو آتٍ في آخر السورة في الآية السابعة والثامنة: إذا فرغت من كلّ ما يعيقك من تخوف واضطراب من قبل الإرسال، فانصب وشمر عن ساعدك وانصب قامتك للدعوة واتعب في تحقيق ما تصبو إليه واسكن إلى ربك الذي إليه المنتهى والمستقرّ والقرار كلّ القرار

هذه المعاني التي انتهت إليها السورة يتجاوب معها ويتناغى صوتُ (الباء) الساكن في فاصلةالآية السابعة والثامنة: انصبْ – ارغبْ

(الباء) صوت شفوي هو آخر مراحل الرحلة الصوتية، وهذا السكون يتواءم مع صوت (الباء) القوي المجهور، فإنَّ في سكون الطمأنينة قوة، وفي بلوغ الغاية سكينة.

هذا الّذي رأيت في تآخي وتناغي القيم الصوتية ممثلا في فواصل السورة مع المعنى والغرض المساق له الخطاب يزيده ما يأتيك إذا ما بسطت النظر، ومددت الإنصات إلى إيقاع مباني الكلمات ومعاني الآيات.

كيف إذا ما تحسّست وقع إيقاع ذلك الاستفهامِ المُسْتَفْتَحِ به البيان، والحامل إلى قلب المخاطب فيْضًا من اليقين بتحقيق الأمل، ونشر النّور الشّارح للصدور.

صوت الهمزة في (ألم) الداخل على حرف النّفي المُحْدِث في الفعل جزمًا إعرابيّا وفي القلب جزمًا إيمانيًّا بتحقيق الأمل المتآخي مع الوعد الإلهيّ في {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى:5) هذا التّفاعل الدّلاليّ بين مدلول (الهمزة) ومدلول (لم) يصوّره تناغٍ بين صوت (الهمزة) بكل ما يحمله من قوة وجهارة، وصوت الحسْم والغنّة في (لم) .

وكيف إذا ما تحسّسْت وقع إيقاع صوت التّفشي في (شين) : (نشرح) مع صفيرالصاد في (صدرك) مع تكرار (الراء) في (نشرح – صدرك) .

ص: 268

كلّ هذا تجده في الجملة المستفتح بها البيانُ المستَفْتِح أبوابَ الأمل والفرج والطمأنينة والسكينة في قلب المخاطب، وقلب كلّ تالٍ لتلك السُّورةِ مصغيًا بقلبه إلى إيقاع مغانيها الروحيّة ومعانيهاالإيمانية لينتهي به سَبْحُهُ في فضاء السورة إلى الاستجابة إلى الحضّ الربانيّ للمخاطب بأن تكون رغبته إلى ربّه عز وجل وحده {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ، فيتصاعد في درجات العبودية لله ربّ العالمين

لهذا فإنّي أفزع إلى هذه السورة وإلى سورة الضّحى في صلاتي حين تضيق النفس فأجد في ترتيلهما شيئًا ممَّا يعيد النفس إلى سكينتها وأنسها بخالقها ورازقها عز وجل.

والله الهادي إلى الصراط المستقيم

فاصلة القول

لم تكن تلك الأوراق المنثورة بين يديك قائمة إلى أن تحقق نموذجًا من نماذج الإبحار في قاموس فقه المعنى القرآني.

قامت لتضع بين يدك – طالبَ علمٍ في مفتتح سعيه إلى فقه المعنى القرآني – معالم الطريق إلى فقه المعنى القرآني الكريم

والطريق إلى المعنى القرآني الكريم متعدّد المناهج وفقًا لتعدّد مجالات البحث عنه.

المبحوث عنه هو المعنى القرآنيّ المكنوز فيه معالم الهداية إلى الصراط المستقيم: صراط المنعم عليهم ربهم عز وجل.

والمبحوث فيه عن ذلك المعنى القرآني الكريم هو البيان المتلوّ المتعبد بترتيله وبالتغنّي به ممثلا في أصوات حروفه وحركاتها وفي أنماط تكوين وتشكيل كلمه وفي نظم جمله،وترتيب آياته ومعاقد سوره وسوره كلّها.

ص: 269

والمنهج المسلوك في البحث في البيان القرآني الكريم عن معاني الهدى إلى الصراط المستقيم يتنوع ويختلف اختلاف تكامل لا اختلاف تناقض، ومن تلك المناهج أعمّها واهمّها – عندي - وأولها قدرًا ومنزلا: المنهج البيانيّ المشكَّل من أصول النظر القائمة من تصوّر وتدبّر وتذوّق أسلافنا الأئمة العلماء وأشياخنا النبلاء: نبل قلب وسلوك.

مجال النظر البيانيّ في بحثه عن المعنى القرآني في البيان القرآني متعدد أيضًا، فقد يكون مجال البحث أسلوبًا من أساليب البيان في سورة أو غرض، وقد يكون بحثًا عن أساليب عديده في سورة أو غرض.، أو غيرذلك.

وقد قامت هذه الأوراق لترسم لك معالم الطريق إلى البحث البياني عن المعنى القرآني في سياق السورة.

كذلك حَدَّدتُ لك المبحوث عنه (المعنى القرآني) ومجال البحث (سياق السورة) ومنهاجه (البحث البيانيّ) ناظرًا إلى أنّ هذا لا يعدو أن يكون تصورًا نظريًّا يفتقر إلى تجريب يتجاوز طور التطبيق؛ لأنّه لم يَرْقَ إلى أن يكون منهجًا محقققًا محررًا. لا أقول ذلك تواضعًا، فإنّما يتواضع الكبار، وإنما أقوله وصفًا لواقع مشهود مرصود.

وهذا يفرض على من سلك السبيل أن يكون ذا عزم على ألا يكون " إمّعة " يُلبِّي ما يُغْرَى به دون مناقدة ومباحثه، فليس ذلك من شأن أهل العلم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وطلبته.

أدبهم أنّ كلَّ البشر يؤخذ منه خيرُه ويردّ عليه غيره خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنّه لا يأتينا منه إلا الحقّ والخير. {إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:4)

ذلك موقف المسلم من عقل الآخر وفعله: لايرفضه كلَّه، ولا يأخذه كله.

ص: 270

منهج قائم على مثاقفة الآخر والوقوف على ما علمه وعمله، وعلى منهاجه في حركة حياته؛ ليستثمر ذلك فيما ينفعه هو أولا، وليقف على السبيل إلى قلبه، ليدعوه إلى الإسلام، فينفث فيه معاني الهدى إلى الصراط المستقيم.

إنَّك إذا لم تعرف الآخر، فلن يكون لك سبيل إلى عقله وقلبه، كلّ مسلم مسؤول عن إبلاغ الدعوة الإسلامية كما جاء بها الكتاب والسنة بلسان حاله أولا ولسان مقاله آخرًا إلى الناس كافة في كلّ عصر ومصر، وبكل لسان ومنهاج كريم.

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف:43-44)

والبحث البياني عن المعنى القرآني ليس غاية في نفسه، وإلا كان علما غير نافع يستعاذ بالله عز وجل منه كما هدت السنة المطهرة إلى ذلك بل هو وسيلة إلى غاية جليلة هي فقه المعنى القرآني فقها يبعث القلب على الإقبال على ما يهدي إليه عز وجل أمرًا ونهيًا أقبال محبة وإجلال لينعم العبد بجنة معرفته ومحبته في الدنيا، ولينعم بجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

فاحذر أن تنفق عمرك في طلب العلم وتغفل عن العمل بما علمت، فشأن المسلم أن يتعلم على قدر طاقته في العمل، فإذا عمل بما علم اتسعت طاقته لما هو أعظم وأكرم، فيقبل على العلم، ثُم يقبل على العمل بما أضافه من العلم، فإذا هو الحالّ المرتحل بين العلم النافع والعمل الصالح.

ص: 271

ولا تكن ممن أنفق عمره في تحقيق الوجوه الإعرابية في قول الله تعالى: {.فَنِعِمَّا هِيَ..} (البقرة: 271) مثلا، أو مذاهب العلماء في الاستعارة في قول الله عز وجل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولا يخرج من تورك عقليّ إلا ليسقط في تورّك عقليّ أعتَى، وما عمّر ليلة بقيام، ولا نهارًا بصيام، ولا مريضًا بعود، ولا مستنصرًا بنصر.

إنَّ علومنا الشريفة وسائل إلى غايات جليلة تمنح هذه العلوم شرفها، فهي شريفة من غاياتها لا من ذاتها ،.

{بسم الله الرحمن الرحيم. وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }

وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيه ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأمته كما يحب ويرضى، والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 272

بيان أهمّ المصادر والمراجع.

الاتقان فى علوم القرآن للسيوطى - تحقيق محمد أبو الفضل طبعة 1387 - المشهد الحسينى بالقاهرة.

أسرار البلاغة - عبد القاهر الجرجانى - تحقيق محمود شاكر دار المدنى بجدة.

الإعجاز البلاغى لشيخنا: محمد أبو موسى - مكتبة وهبة بالقاهرة.

إعجاز القرآن والبلاغة النبوية - مصطفى الرافعي - ط سنة:1389- المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة.

البرهان فى علوم القرآن لبدر الدين الزركشى- تحقيق محمد أبو الفضل بيروت.

البرهان في ترتيب سور القرآن لأبي جعفر بن الزبير - تح:محمد شعباني - المغرب - وزارة الأوقاف 1410

البلاغة القرآنية فى تفسير الكشاف لشيخنا: محمد أبو موسى مكتبة وهبة - الطبعة الثانية.

البيان في إعجاز القرآن لأبي سليمان الخطابي - ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن - تحقيق: محمد خلف الله وزغلول سلام - دار المعارف بالقاهرة 1378التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور - الدار التونسية للنشر- تونس.

التصوير البياني: شيخنا محمد أبو موسى - ط: مكتبة وهبة - القاهرة

التصوير الفنى فى القرآن لسيد قطب - ط: التاسعة 1978 - دار الشروق.

جامع البيان في تأويل القرآن لأبي جعفر الطبري: نشر دارالغد العربي بالقاهرة 1996

جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر - جمع وقراءة وتقديم د: عادل سليمان جمال - ط: الخانجي - 1424 هـ

دراسة فى البلاغة والشعر لشيخنا: محمد أبو موسى - مكتبة وهبة -بالقاهرة.

دلائل الاعجاز - عبد القاهر الجرجانى - تحقيق محمود شاكر دار المدنى بجدة.

فى ظلال القرآن لسيد قطب - دار العلم للطباعة والنشر بجدة:ط سنة 1406

قراءة جديدة لتراثنا النقدي: بحث تمام حسان: موقف النقد العربي التراثي من دلالات ما وراء الصياغة اللغوية -النادي الأدبي الثقافي بجدة1410هـ

الكشاف عن حقائل التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل - لأبي القاسم جار الله محمود بن عمرالزمخشرى - مطبعة الحلبى سنة 1392 هـ.

اللغة الشاعرة: مزايا الفنّ والتعبير في اللغة العربية - عباس العقاد - مطبعة الاستقلال - مكتبة غريب - القاهرة (د ت)

المثل السائرفي أدب الكاتب والشاعر: لضياء الدين ابن الأثير تح: محمد محيي الدين عبد الحميد- ط: المكتبة العصثرية - بيروت "1411

مدخل إلى كتابي عبد الفاهر الجرجاني:شيخنا محمد ابو موسى - ط:1418- مكتبة وهبة

مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور لبرهان الدين البقاعي - تح: عبد السميع حسنين - الرياض 1408

من أسرار التعبير القرآنى:دراسة تحليلية لسورة الأحزاب - لشيخنا: محمد أبو موسى - ط: الثانية -1416 - مكتبة وهبة.

مناهل العرفان فى علوم القرآن - محمد عبد العظيم الزرقانى - ط: الثالثة - عيسى الحلبى - القاهرة.

الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي - تحقيق:عبد الله دراز - دار الفكر العربي - القاهرة

النبأ العظيم - محمد عبد الله دراز - دار القلم الكويت.

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبرهان البقاعيّ ط: بيروت: دار الكتب العلمية.

النكت في إعجاز القرآن للرماني - ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن تحقيق محمد خلف الله،وزغلول سلام - دار المعارف

ص: 273

المحتويات

المقدمة

المخل إلى المنهج

الدعوة إلى التدبر

مفهوم التدبر

المبتغَى إليه بالتدبر

مفهوم المعنى القرآني

مجال التدبر والبحث عن المعنى القرآني

مراحل الطريق إلى فقه المعنى القرآني

توطئة

*****************

الفصل الأول

فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآني

تنزلات القرآن

وجه تسمية الفاتحة أم الكتاب

محور المعنى في أم الكتاب

البقرة رأس التفصيل وسنامه

أنواع المعنى القرآني في السورة

علاقة ذلك بتبيان موقع السورة على السياق الكلي

علاقة هذا بغرض عبد القراهر من كتابه (أسرار البلاغة)

مذهب السيوطي في بيان موقع السورة على السياق القرآني

تأويل مذهبه

مذهب شيخنا أبي موسى في علاقة الطواسيم ببعضها وموقع كل على السياق القرآني

عناية البقاعي بموقع السورة في السياق القرآني

بيانه علاقة البقرة بالفاتحة

علاقة آل عمران بالبقرة والفاتحة

مذهبه في تناسل مقاصد السور

مذهبه في تقسم القرآن الكريم إلى مراحل

علاقة مفتتح ومختتم كل مرحلة بمفتتح ومختتم المراحل الأخرى

علاقة السور المفتتحة بالحمد

ومواقعها في السياق القرآني

مذهب السعد التفتازاني

تفصيل البقاعي مذهب السعد

تأويل الفصل بين السور المستفتحة بالحمد

علاقة هذه السور الفاصلة بما قبلها وما بعدها

**************

الفصل الثاني

فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم

وجه تفصيل القرآن إلى سور

دلالة التسمية بالسورة على وحدة المقصد

من إعجاز القرآن عجز الخلائق عن إعادة نسق ترتيب آيات سوره

فريضة العناية بالنظر في أول الكلام وآخره لمن تدبّر

موقف الشاطبي من غاية الفقه وغاية البياني من تدبر القرآن الكريم

أثر ذلك في تدبر وحدة مقصود السورة

لكل سورة طابعها الروحي

مذهب الشيخ دراز

تحقيق المقصود سبيل إلى عرفان تناسب الآيات

تشبيه السورة بالشجرة في تناسبها

تشبيه السورة بالدائرة في بنائها

تكرار القصص ووحدة مقصود السورة

المقصد الكلّي هو الروح المهيمن

روح التركيب عند الرافعي

أثر روح التركيب في تمازج السياقين التشريعي والتكليفي في القرآن

لا تفاوت بين بلاغة ضروب البيان التشريعي والتثقيفي

روافد استصار المقصود الأعظم في السورة:

اسم السورة

منهج التسمية ووجه الدلالة

فاتحة السورة

خاتمةالسورة

تدبر الفروق البيانية بين المعاني الكلية المصرفة في السورة

تدبر المعاني الكلية الخاصة

تدبر الفروق البيانية بين المعاني الجزئية المصرفة في السورة

تكرار أو تصريف نمط تركيبي في سياق السورة

المعجم اللغوي

***********

الفصل الثالث

تقسيم السورة إلى معاقد كلية

اشتمال السور على معانٍ كلية مترابطة

أساس تقسيم السور إلى معاقد كلية

أثر هذا التقسيم

تقسيم سورة البقرة إلى معاقد: المطلع والمقدمة - قلب السورة - خاتمتها

تأصيل ذلك من السنّة والآثار الموقوفة والمرفوعة.

مذهب الشيخ دراز في تقسيمها

ما أذهب إليه في تقسيم سورة البقرة ووجه ذلك الاختيار

علاقة معاقد سورة البقرة ببعضها

************

الفصل الرابع

التحليل البياني لكلمات وجمل وآيات السورة

بين يدي السفر في التأويل

التحليل البياني هو القادر على إضاءة السورة من داخلها

التحليل البياني قراءة تأويلية لبيان السورة

منزلة الذاتية في التحليل البيلاني

ما يقوم عليه المنهج

اهمية العناية بالتصريف البياني عن المعنى القرآني في منهج التحليل البياني

أهميبة العناية بتوجيه القراءات القرآنية في منهج التحليل البياني

التحليل البياني بين التفكيك والتركيب

مجال التحليل البياني للسورة

التحليل البياني للمفردات

التحليل البياني للتراكيب

التحليل البياني للصورة البيانية

التحليل البيان للجرس والإيقاع

فاصلة القول

ص: 274

(212)

بيان أهم المصادر والمراجع

(216)

للمؤلف

دلالة الألفاظ عند الأصوليين: دراسة بيانية ناقدة (نفد)

سبل الاستنباط من الكتاب والسنة: دراسة بيانية ناقدة (نفد)

صورة الأمر والنهي في الذكر الحكيم

إشكالية الجمع بين الحقيقة والمجاز في الْقُرْآن الكَريم

مسالك العطف بين الإنشاء والخبر في الْقُرْآن الكَريم

معالم التكليف والتثقيف في آيات الربا من سورة البقرة (نفد)

إعجاز الْقُرْآن الكَريم بالصرفة - دراسة ناقدة (نفد)

الإمام البقاعي: جهاده ومنهاج تأويله بلاغة الْقُرْآن الكَريم

فقه تغيير المنكر- نشر في سلسلة كتاب الأمة العدد 41 (نفد)

تغييب الإسلام الحق دراسة في نقض اعتداء ادعياء التنوير على الْقُرْآن الكَريم

الإغريض في الفرق بين الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض لتقي الدين السبكي: تحقيق ودراسة (نفد)

قراءة في المثل السائر لابن الأثير (نفد)

فقه بيان النبوة: دراسة في البلاغة النبوية

من ميراث النبوة: دراسة في البلاغة النبوية (نفد)

قطرات الندى: معالم الطريق إلى فقه الشعر (نفد)

***

هذه الكتب منشورة في مكتبة (وهبة) شارع الجمهورية رقم 14 - عابدين - القاهرة

صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم

ص: 276