المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانى: فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم - العزف على أنوار الذكر

[محمود توفيق محمد سعد]

الفصل: ‌الفصل الثانى: فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم

‌الفصل الثانى: فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم

***

أشرت فيما سبق إلى أن القرآن الكريم نزلت آياته منجمة فى ثلاث وعشرين سنة وأن الوحى كان ينزل بالآية أو ما دونها أو ما فوقها وينزل بتحديد ما نزل به فى سورته، فكان المُنَزَّلُ وموضِعُه وحيا من الحق عز وجل -ذلك موضع اتفاق بين أهل العلم وكتاب الله سبحانه وتعالى أضحى بديهة ومسلمة لا ينازع فيها. وإذا ما كان موضع النجم النازل محدًدا توقيفا، فهذا يعنى أنَّ علاقته بما قبله وما بعده لا تتأثر بتقدمه أو تأخُّره عنه فى النزول، فتنجيمه لا يقتضى قطع علائق آيات السورة الواحدة ذلك أنَّ القرآن الكريم فى تنزله الأول إلى اللوح المحفوظ وتنزله الثانى إلى بيت العزة إنّما كان فى صورته الكاملة وكان فى عرضته الأخيرة على رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلا آيات قليلة جدًا نزلت ما بين رمضان وربيع الأول وكان فى صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم كمثله فى اللوح المحفوظ وبيت العِزَّة، وكذلك كان عند رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى عند كثير من الصحابة المحافظين آياته وسوره (1)

وإذا ما كان تقسيم القرآن الكريم وتفصيله إلى سور عدتها أربع وعشرون ومائة سورة توقيفا من قبل الحق جل جلاله فإنَّ من فوائد هذا التفصيل كما يقول جار الله الزمخشرى «إنّ التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملائمة بعضها لبعض وبذلك تتلاخط المعاني ويتجاوب النظم» . (2)

(1) - مقدمتان في علوم القرآن: 40

(2)

- الكشاف: 1/241

ص: 80

فى قوله تتلاحظ المعانى ويتجاوب النظم من الدلالة على أن آيات كلّ سورة إنَّما يكون بينهما من التناسب والتجاوب والتآخى والتناغى ما يحقِّقُ لكُلِّ سورة وحدة بيانيّة معجزة مُدْهِشةً. بل إنَّ تسمية كلِّ قسم من هذه الأقسام باسم (سورة) - وهى تسمية توقيفية - أيضًا - تدلُّ على أنَّ كلَّ قسمٍ سُمِّيَ باسم " سورة" إنَّما يجمع آياته غرضه الرئيسيّ وتربطها علائقُ جوانِيَّةٌ وثيقةُ، فإنّّ كلمة (سورة) يمكن أن تقول هي مأخوذة مما يدل على معنى المنزلة أو الرتبة أو الإحاطة أو البقية على نحو ما ذكره أهل العلم فى اشتقاقها اللغوى. (1)

يقول أبو الحسن الحَرالّيّ (ت:637) : «السورة تمام جملة من المسموع محيط بمعنى قام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة» (2)

ومعنى ذلك أنَّه كما أنَّ سور المدنية يحيط بجمع من البيوت فى بلد إحاطة جامعة يكون لكلِّ ما فى داخله ما يَنْسِقُه ويربطه مع غيره، ويكون كُلّ ما فيها تحت سلطانٍ بيده تصريف أمر ما فى المدينة كذلك الآيات والجمل والكلمات التى هى أجزاء السورة وعناصرها يحيط بها سور عام، ويكون لكُلٍّ ما ينسِقُه ويتواخى بينه وبين ما اجتمع فيها ويكونُ كُلُّ ما فيها تحت سلطانٍ واحدٍ ميهيمن عليه.

وإذا كانت السورة بمعنى المنزلة والمرتبة، فذلك دلالة على أنَّ ما جمعته من آيات فى محيطها المحكم يمثل منزلة ومرتبة من مراتب المعنى القرآنيّ المتصاعد، فإنَّ كل سورة من سور القرآن الكريم مترتبة على التى قبلها، فهى منزلةٌ من منازله المتصاعدة.

(1) - المفردات للراغب: 247-248،عمدة الحفاظ للسمين:254، تفسير الطبري:1/86-87،البرهان للزركشي:1/ 263،الإتقان:1/150، مناهل العرفان للزرقاني:1/350

(2)

نظم الدرر للبقاعي ج1ص162- ط: الهند

ص: 81

وإذا كانت السورة من"السُّؤْرِ"الَّذِي هو بقية مِمَّا يُشْرَبُ، ثُمَّ خُفِّفَتْ همزتُه، فإنَّ فى ذلك دَِلالةً على تجانس آياتها من جهة وتجانسها مع سائر السور الأخرى؛ لأنَّ سؤرَ الشَّرابِ يجانس سائره.

ولعلَّ معنى الجمع الذى هو الرئيس فى اسمه (القرآن) واسمه (الكتاب) يؤازر دَِلالة التَّناسق والتَّناسب والتَّآخي والتَّناغي بين آيات وكلمات السُّورة من وجه وسوره جميعا فيما بينها من وجهٍ آخر؛ لأنَّ العزيز الحكيم العليم لا يجمع بين ما تناقر فى ظاهره وباطنه، وهو الذى ألَّف بين أرواح خلقه فيما هدى إليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

«عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» . (حديث: 3336 – بخاري: أحاديث الأنبياء والنّص له،ومسلم: البر – حديث: 6867)

كذلك آيات القرآن الكريم، وسوره جنود مجندة، فعالم الإنسان من خلقه وعالم القرآن من أمره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: من الآية54)

وكل ما يُخيل أنَّ له أثرا فى ضعف فحول الأدباء اتقانَ وجوه التناسق والتناسب والتآخى والتناغى بين أجزاء بيانهم الإبداعى لا يتطرق إلى عقل أن يتخيله إذا ما كان الأمرُ تناسقَ وتناسبَ وتآخي وتناغي جمل وآيات السورة القرآنية وسور القرآن الكريم كلِّه؛ ذلك أنَّ الذى قاله وأنزله إنَّما هو الله رب العالمين العزيز الحكيم العليم الحميد.

يقول الحق جل جلاله فى شأن القرآن الكريم:

{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 192)

{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (يّس:5)

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الزمر:1)

ص: 82

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (غافر:2)

{تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت:2)

{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)

فكلُّ هذه الآيات دالةٌ على أنَّ القرآنَ الكريم لم تجمع آياته فى سوره بين دفتيه جمعًا غير حكيم، فإبراز وصف العِزَّة والحِكمَة والعِلم والرحمة وربوبيته العالمين وإبراز أنَّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإبراز الحديث عن مظاهر من عالم الخلق لا يخْفى اتساقها وتناسبها وتأخيها وتناغيها فى مرأى العين،وإبراز أنَّه ليس بقول شاعر ولا قول كاهن، كُلُّ ذلك آياتٌ بيناتٌ على أنَّ القرآن الكريم فى جمل آياته وآيات سوره وفى جميع سوره متناسب متناغم متآخٍ محكم.

ولو أنَّ الإنس والجن والخلق أجمعين تظاهروا على أن يلمحوا مجرد لمح أىَّ فرق بين تناسق وتناسب وتآخي وتناغي آيات سورةٍ أنزلت منجمة فى عِدَّةِ أعوام كسورة " البقرة " وسورة أنزلت جملة واحدة كسورة " الأنعام " – على ما يذهب إليه بعض أهل العلم - أو أن يلمحوا الفرق بين آيات النصف الأول والنصف الثانى فى سور نزل نصفها الأول جملة،ثُمَّ نزل نصفها الآخر جملة، كمثل سورة (العلق) ، ولو أنّهم أجمعين تظاهروا على أن ينسقوا آيات سورة من القرآن الكريم على نحو آخر غير الذى هى عليه منذ أن لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلى يومنا هذا والى أن تقوم الساعة أو أن يضيفوا إليه آية أو يحذفوا منه آية لتجَلّى للعالمين شَنَارُ صنيعهم ولأدرك كل من له علم بالإسلام والعربية أن ما فعلوا ظاهر العوار، بيّنَ الفَضِيحَةِ.

فهم ليسوا بالعاجزين عن الإتيان بسورة من مثله فحسب بل هم العاجزون عن أن يعيدوا نسق آيات سورة من سوره على نحو آخر يحفظ لها بلاغتها وإعجازها في هديها.

ص: 83

وإذا ما كان بعضُ أهل العلم قد استطاع أن يدُسَّ فى بعض قصائد الجاهلين أبياتا أو استطاع أن ينتحل على بعض الشعراء قصائد تامة مما هو معروف فى مظانّه، فإنَّ أهل العلم بالشعر قد مازُوا النَّسيب من الزَّنيم، ولم يخف عليهم ما انتحل. (1)

هذا فى الكلمة الشاعرة التى يأتيها الباطل بين يديها ومن خلفها، فكيف بالكلمة المعجزة كلمة العزيز الحكيم العليم الحميد؟ !!!

والذى لا ريب فيه أن سور القرآن الكريم ولاسيما السبع الطُّول والمئيين إنّما هى ذات معانٍ كليّة ومعانٍ جزئية تمثل الجملة والآية المعنى الجزئى الذى هو عنصر من عناصر تكوين المعنى الكُلّيّ الذى يشكِّلُ معقِدًا من فصول ومعاقد السورة.

والسورة القرآنية فى تشكيل جملِها وآياتها معاقد بمعانيها الكليّة التى يتولى كُلُّ معقد منها تبيان قضية من قضايا الوحى تستوجب أن يكون على بال من المستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر فى أولها دون آخرها، ولا فى آخرها دون أولها، فإنَّ القضية وأن اشتملت على جمل، فبعضها متعلِّق بالبعض؛ لأنَّها قضية واحدة نازلة فى شئ واحد، فلا محيص للمتفهِّم عن رَدِّ آخر الكلام على أوَّله وأوَّله على آخره " (2)

(1) - يقول "ابن سلاّم الجمحي ": "وليس يشكلُ علَى أهلِ العلم زيادة الرّواة، ولا ما وضعوا، ولا ما وضعَ المولدون، وإنّما عضَل بهم أن يقول الرجل من أهلِ البادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال "

طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي:1/46-47- ت: شاكر

(2)

- الموافقات في أصول الشريعة: للشاطبي:3/413- تح: عبد الله دراز

ص: 84

ولابد له من بعد ذلك من الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب السورة برُمَّتها، فتعدد قضايا السورة الواحدة وتعدد معانيها الكلية نازل على سلطان الغرض الأعظم من كلّ سورة، فليست منزلة القضية الواحدة ذات المعانى الجزئية من السورة إلا كمنزلة الجملة والآية من القضية الواحدة، فكما أنَّه لا يستقيم إلا رَدُّ أوَّل الكلام على آخره فى كل قضية ومعقد من معاقد المعاني الكلية، كذلك لا يستقيم إلَاّ رَدُّ أوّل الكلام على آخره فى كل سورة من سور القرآن الكريم.

"وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع فى فهم المكلف، فإن فَرَّقَ النظر فى أجزائه لا يتوصل إلى مراده، فلا يصح الاقتصار على بعض أجزاء الكلام إلا فى موطن واحد وهو النظر فى فهم الظاهر بحسب اللسانِ العربِيِّ وما يقتضِيه لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صَحَّ له الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام، فَعَمَّا قريب يبدو له منه المعنى المراد، فعليه بالتعبُّد به (1)

فَوَجب على من أراد أن يعرفَ ما يريد منه الحق سبحانه وتعالى بكلامه وما يُحبُّ، ويرضى من قليل الخير وكثيره ودقيقه وجليله، وما يبغض ربنا عز وجل ويكره من شىءٍ: التَّقوُّل والفعل والاعتقاد أن ينظرَ فى الخطة التى بها يستكشف المراد، ويوقف على المقصود، وهى خطة من أساسها ملاحظة أول الكلام وآخره

والشّاطيِيُّ يفرق بين غاية الفقيه، وما يلزمها من مجال حركة التّدبر، وغاية البيانِيِّ، وما يلزمها من مجال حركة التّدبّر:

غاية الفقيه تحصيل المعنى الشرعي المتمثل في الحلال ودرجاته، والحرام ودرجاته، وهذه الغاية تتحقق بحركة تدَبُّريّةٍ مجالها قد يكون آية أو آيتين أو عدة آيات.

(1) - السابق: 3 / 413 - 414

ص: 85

وغاية البيانيِّ المعنى القرآنيُّ في كماله وامتداده، والذي بِه تتحقق الدلالة على أنَّ القرآن الكريم آية النبوة المحمدية، وهذا لا يتحقق إلا بامتداد النظر في سياق السورة والسُّوَرِ، ذلك أنَّ الوقوفَ على أوجه الإعجاز القرآنيّ وما تزخر به كلّ سورة من الرقائق والدقائق واللطائف لا يَتِمُّ إلَاّ بالنَّظرِ فى أوَّل السورة وآخرها و" إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر، فالاقتصارعلى بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود، كما أن الاقتصار على بعض الآية فى استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر فى جميعها. (1)

وإذا ما كان النظرفى الآية كلها أوفى جملة من الآيات يمكن اكتساب الوقوف على المعنى الجُمهوريّ فيها، فإنَّ ما فى هذه الآية أو الجملة من الآيات من المعانى الإحسانية التى هى مطمحُ أهل التُّقَى والإحسان لا يمكن استبصار شىء منه إلا بالتدبر للوجود الجمعيّ (النصِّيِّ) للسورة كلها.

ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الرزاق رضي الله عنه فى "المُصَنّف " سيدنا " بلالا " رضي الله عنه حين سمعه يخلط فيقرأ من هذه السورة آيات ومن تلك السورة آيات، فقال له: اقرأ كلَّ سورة على نحوها (المصنف: كتاب الصلاة – قراءة الليل) وفى رواية أخرى إذا قرأت السورة فأنفذها) (2)

(1) - السَابق: 3 / 415

(2)

- الزركشي: البرهان:1/469، والبقاعي:مصاعد النظر:1/450

ص: 86

وما ذاك إلَاّ لأنَّ لِكُلِّ سورةٍ طابِعَها الروحيَّ الذى فيه تعبق المعاني الإحسانية بأرَجِها، والمسلم الناصح نفسه لا يَقْصُرُها على المعانى الجمهوريَّة من القرآن الكريم التى بها يكون جَذْرُ الإيمان بالقلب، وإنَّما شأن المسلم النَّاصح أن يغذُو قلبه نميرَ المعانى الإحسانية، ولذلك كان الأمر بالتَّدبر في آيات القرآن الكريم، فذلك هو السبيل إلى استبصار المعانى الإحسانية وإدراك ما بين المعاني الجزئية فى الآية أو الجملة من الآيات أيسر من إدراك ما بين المعانِي الكليَّة فى السورة، وما المعانى الجزئية فى تلاحمها إلَاّ كمثل أجزاء العضو الواحد من الإنسان بينما المعاني الكلية فى السورة كلِّها تلتحم فيها " كما تلتحم الأعضاء فى جسم الإنسان، فبين كلِّ قطعة وجارتها رباطٌ موضِعِىٌّ من أنفسهما، كما يلتقى العظمان عند المفصل، ومن فوقها تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب من وراء ذلك كلّه يسرِي فى جملة السورة فى اتجاه معين، وتؤدى بمجموعها غرضًا خاصًا، كما يأخذ الجسم قواما واحدًا، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد مع اختلاف وظائفه العضوية. (1)

وبناء السورة القرآنِيَّة من معان كلّيّة بُنِيَت من معانٍ جزئيَّة يكون على أنحاءٍ ومناهج عديدة.

(1) - دراز: النبأ العظيم:155-الكويت 1397-

لايخفى عليك أن حديث الشيخ "دراز" تمثيليّ تقريبيّ. وكذلك غالب حديث البلاغيين والمفسرين في شأن القرآن الكريم تقريب لما تعجز الألسنة عن الإبانة عن حقيقته الجليلة? ? التي لاتحيط بها العقول، وتدركها القلوب المؤمنة إدراكًا نورانيّا يُبنى عليه إدراك عِرفاني يتولد منه إدراك إحساني عَلِيّّ كريم العطاء

ص: 87

ومجمل الأمر فى هذا " أنَّ كلَّ سورة لها مقصدٌ واحدٌ يُدار عليه أوَّلُها وآخرُها، ويستدلُّ عليه فيها، فترتَّب المقدِّمات الدَّالة عليه على أتقن وجه وأبدع نهج، واذا كان فيها شئٌ يحتاج إلى دليلٍ استدلّ عليه، وهكذا فى دليل الدليل، وهلمَّ جرّا، فإذا وصل الأمرُ إلى غايتِه ختِمَ بما منْه ابتدأ، ثم انعطف الكلامُ وعاد النظر عليه على نهج آخر بديع، ومَرَّ فى غير الأوَّل منيع، فتكونُ السورة كالشجرة النَّضيرة العالية والدَّوحة البهيجة الأنيقة الحَالِية المُزَيَّنة بأنواع الزِّينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدُّر وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر، وكلُّ دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة بما بعدها، وآخر السُّورة قد واصل أولها، كما لاحم انتهاؤها ما بعدها وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كلُّ سورة دائرة كبرى مشتملة على دوائر الآيات الغُرِّ البديعة النظم العجيبة الضَّمِّ بِلِينِ تعاطف أفنائها، وحسن تواصُلِ ثمارِها وأفنانِها. (1)

فمن مقتضَيات هذا أنَّ " مَنْ حقَّقَ المقصودَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ عرف تناسبَ آياتها وقصصها وجميع أجزائها. (2)

فالسُّورةُ فى تناسب جُملها وآياتِها ونجومِها ومَعاقِدِها تُشبه الشَّجرةَ ذات الأوراق والأغصان، والتى يسرى فيها كلِّها عصارة واحدة، فلا تختلف طعومها ولا رائحتها، فجميع ثمارها سواء، وجميع أغصائها وأوراقها سواء، هذه العصارة فى الشجرة هى المقصود والمغزى فى السورة وهى المبدأ المُهيمن على كل شئ فيها (3)

(1) - البقاعيّ: مصاعد النظر: 1/149

(2)

- السابق

(3)

- قد يتسابق إلى قلبك حين تقرأ كلام البقاعي (ت:885) ما قاله النقاد المحدثون في هذا:

«في القصيدة وحدة مصدرها المبدأ الذي يصبغ عناصرها لون واحد، والذي ينساب في أطرافها جميعا كما تنساب العصارة الخضراء التي تغذي الشجرة جذرا وساقا وأغصانا وأوراق، ولهذا فنحن نطلب من القصيدة التي تتحقق فيها الوحدة أنْ ترتبط عناصرها جميعا كما يرتبط الجذر والساق والأغصان والأوراق، فيؤدي كلّ عنصر فيها وظيفته حقا غير منفصلة عن الوظيفة التي يقومُ بأدائها عنصرٌ آخر بحيثُ تسيرُ هذه الوظائفُ مجتمعةً في اتجاه واحد، وتؤدي إلى غاية واحدة هي الأثرُ الكُليُ الموحد الذي تولّده القصيدة في نفس القارئ ". ?

- راجع: دراسات في الشعر والمسرح للدكتور مصطفى بدوي: ص7- ط: 2/ سنة 1979، الهيئة المصرية العامة للكتاب، فنّ الشعر لإحسان عباس: ص:196- ط:6 سنة 1979- بيروت. وكتاب الخطيئة والتكفير لعبد الغذامي: ص 116-ط: النادي الأدبي بجدة سنة1405

وهذا المعنى تجده في غير قليل من كتب النقد الأدبي الحديث، لم أشأ أن أثقل عليك بتعدادها، فإذا مالقيك منها، فتذكر مقالة البقاعيّ،ولا تغرنَّك حداثة ما لقيك من مقالاتهم النقدية.

ص: 88

وفى تشبيه السورة بالدائرة وجهٌ آخرُ من وجوه تناسب آياتها ومعاقد معانيها، فكلُّ آيةٍ فى السُّورة دائرة صُغرى ينعطفُ آخرها على آولها وهذه الآيات (الدوائر الصُّغرَى) تتلائم فى محيط دائرة كبرى (السورة) حيث ينعطف آخرُها على آولها، ويلتحم مقطعها بمطلعها، ويرتدُّ عجزها على صدرها، فكلُّ سورةٍ دائرةٌ كبرَى مشتملةٌ على دوائر الأيات،وكلُّ دائرةٍ منها لها شعبة متصلة بما قبلها.

وليس بين تشبيه السُّورة بالشَّجرة وتشبيهها بالدَّائرة الكُبرى المحيطة بدوائر صغرى إلا التكامل:

التشبيه بالشجرة إنَّما هو فى مجال العلاقة الكليَّة بين عناصر السورة ويكشف عن الروح الموحد، كالشجرة فى سريان عصارة واحدة هى المقصود فى السورة.

والتشبيه بالدائرة إنَّما يوضح علاقة آخر الآية بصدرها، ثُمَّ علاقة الآية بالأخرى، فهو ربط الآيات ببعضها المُسَمَّى بالرَّبْط الجُزْئى الذى هو أيسرُ من الربط الكُلى وهذا الرَّبْطُ الجُزئى (الدائرى) لا يكشف المبدأ المهيمن والرُّوحَ السَّارِي والعصارةَ الخضراءَ،وهو ما يسميه العلماء المقصود الأعظم لكلَّ آيات السُّورة، والذى يدار عليه أولها وآخرها، ومن حقَّقه عرف تناسب آيات السورة وقصصها وجميع أجزائها، وبه ينكشف غامض المعنى وتتبين أسرار القصص المكررات

وأنَّ كلَّ سورة أعيدت فيها قصة، فلمعنى ادعي فى تلك السُّورة استدلّ عليه بتلك القصة غير المعنى الذى سيقت له فى السورة السابقة، ومن هذا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع أنَّها لا يخالف شئ من ذلك أصل المعنى الذى تكونت به القصة. (1)

(1) نظم الدرر للبقاعي:1/14- ط: الهند

ص: 89

فالمقصد الكُلىّ والمغزى هو الروح المهيمن على جميع عناصر السورة بدأ من الكلمة فى أصغر صورها وانتهاء إلى المعقد ذى الآيات العِدَّة فى أكبر صوره، فإذا العناصرُ كلُّها المكونة للسورة متحدةٌ اتحادَ أعضاء الجسدِ الواحد وأجزاء الشَّجرة الواحدة، يتغلغل فى كلِّ عنصرٍ منها القصدُ الرئيسيُّ، فيطبع صورته ومعناه وموقعه وعلاقاته بالطابع التى يطبع به كل ما اتحد معه فى تكوين السورة، فإذا كُلُّ كلمة أو جملة أو آيةٍ أَوْ نَجْمٍ من نُجومِ السورة يعكس لنا حقيقة واحدة كليَّة هى المغزى الرئيسيّ المهيمن، وهذا ما ترى به كلَّ عنصرٍ معتمدا فى أداء رسالته الكليِّة على بقية العناصر كلها ومتعاونا معها تعاونا لا تغفل عنه البصيرة مما يجعل كلَّ عنصرٍ من هذه العناصر خارج السياق الجمعيّ للسورة غيره وهو فى ثَبَجِ هذا السياق الجمعيّ وعلى لاحِبِه، فيكون لهذا العنصر مفردًا عن منظومته السياقية روحٌ غير تلك التى كانت له وهو فى تلك المنظومة السياقية، والتى سماها " مصطفى الرافعى"(روح التركيب) والتى «لم تعرف قَطُّ فى كلام عربيّ غير القرآن، وبها انفرد نظمه، وخرج مما يطيقه النَّاسُ، ولولاها لم يكن بحيث هو كأنَّما وُضِعَ جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين إذ تراه ينظر فى التركيب إلى نظم الكلمة وتاليفِها، ثُمَّ إلى تاليف هذا النظم: فمِنْ هاهنا تعلَّق بعضُه ببعضٍ، وخرج فى معنى تلك الروح صفة واحدة هى صفة إعجازه فى جملة التركيب.

وإن كان فيما وراء ذلك متعدِّدَ الوجوه التى يُتصرَّف فيها من أغراض الكلام ومناحى العبارات على جملة ما حصل به من جهات الخطاب، كالقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال إلى نحوها مما تدور عليه» . (1)

(1) - الرافعي:إعجاز القرأن والبلاغة النبوية: ص 279 – ط:8 –1389- المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة.

ص: 90

وبهذا الروح يتحقق التمازج بين السياقين الكلِّيَّين للقرآن الكريم: السياق التشريعيّ والسياق التثقيفى. ترى آيات التشريع العقدي والسلوكي ممزوجة بآيات التثقيف والتربية النفسية للامة لتقبل على التشريع إقبالَ رغبةٍ وشغفٍ وتلذُّذٍ في ما شَرَع الله سبحانه وتعالى لذة ومتعة واسترواحا، فتسهترت النفس المطمئنة فىذلك استهتار الفاجرة الأمَّارة بالسوء فى الموبقات والآثام، بل إنَّ هذه الروح لتمزج التشريع والتثقيف فى الآية الواحدة مزجًا لا تحس معه أىُّ نفسٍ مُرْهفة أىَّ شيءٍ مِنَ التَّبايُن والتّفاصُل على الرغم ممَّا قد يُظنُّ أنَّ البيانَ التَّشريعِيّ يقتضِي غيرما يقتضِيه البيان التثقيفى مفرداتٍ وتراكيبَ وتوقيعا صوتيا..الخ.

اقرأ ما شئت مما سمى بآيات الأحكام بقلبٍ سليمٍ وحِسٍّ لغويٍّ مرهفٍ وذائقة بيانيَّة نافذةٍ، وانظر ماذا ترى؟

ترى آيات التشريع العقديّ والسلوكيّ تمازج بها نَمِيرُ التثقيف والتربية النفسية والشحذ الروحيّ للقوى بحيث لا ترى نفسُ المسلم فيما جاء فيها من واجبات أثر المشقة والإثقال وتكبيل حرية الحركة السلوكية للمسلم فى الأرض، بل ترى فى ذلك إشراقة الهدى والإعانة والتنظيم والوقاية وجلال التشريف بالسوق الرؤوف على مدارج القرب الأقدس. ولهذا لا ترى تفاوتا بين بلاغة القرآن الكريم المعجزة فى وجه من وجوهها:

لا ترى تفاوتا بين أيَّ ضربٍ من ضروب آياته التشريعية أو التثقيفية، ولا بين أيّ سورة وسورة أخرى، فجميع جمله وآياته وسُوَرِه على درجة سواء فى بلاغتها المعجزة ذلك أنَّ الإعجاز البلاغيّ للجملة أو الآية أو السورةٍ ليس فى كثرة ما اشتملت عليه من خصائص التراكيب، وصنوف التصوير وضروب التَّحْبِير:

ص: 91

ليست الآية التى حوت عشرات من خصائص التركيب والتصوير بأشدّ إعجازا فى بلاغتها من الآية التى حوت ثلاثا من ذلك، وليست سورة "البقرة " بأشدَّ إعجازا من سورة " الكوثر " فإنَّ إعجازه البلاغيَّ ليس بكثرة ما حوى من خصائص التركيب وضروب التصوير والتَّحبير، ولكن بكيفية تركيب المعنى القرآنيّ بناءًا وتصويرًا وتحبيرًا فى السورة القرآنِيَّة جميعها، ثُمَّ في القرآن الكريم كله، ففي هذا يكتمل سلطان الروح التركبييّ المنبثق من المقصد والمغزى الكليّ الرئيسيّ لكلِّ سورة وبغير اكتمال هذا السُّلطان لا يكتمل لبلاغة القرآن ِ الكريمِ إعجازُه.

هذا المغزَى الكُلِّيُّ والمقصودُ الرئيسيُّ هو مفتاح خزائن كلِّ سورة من لطائف المعانى، ورقائقها، وحقائقها، لأنَّه المهيمن على كلِّ عنصر من عناصر البيان فى السورة (1)

(1) - يشير بعض نقدة النصوص الإبداعية إلى شيءٍ من أهمية السعي إلى استكشاف المغزى الدقيق الذي يهيمن على أجزاء النّصّ الذي يصالح بين الفقرات المتعارضة، ففي كلّ نصٍّ لابد أن يكون ثَمَّ معنى ينسجم مع كلّ الفقرات، وبه يكون كلّ جزءٍ منه متلائمًا متّصلا ببقية = = الأجزاء. ومنهم من يذهب إلى أنّ في كلّ نصّ جملة مفتاحية، بها يكون الولوج إلى أدغال النصّ، ويعدّ العثور على تلك الجملة عثورًا على المفتاح الأعظم.

راجع: قواعد النفد الأدبي لكرومبي -تر: محمد عوض- ص: 56، ومجلة (فصول) ص:56- مجلد:1 عدد 2 - يناير: 1981، وكتاب قضايا النقد الأدبي لزكي العشماوي:- ص:146، وفن الشعر لإحسان عباس:210،

ص: 92

فكان الاعتناءُ باستبصاره واستحضاره هو فى حقيقته سعيٌ الى امتلاك مفاتح خزائن المعنى القرانيّ فى السورة وهو من اللطافة والدّقة ما يُخيّل للنَّاظر العّجِل أنَّ لسورتين من القرآن الكريمِ تقارنتا أو تباعدتا مغزًى ومقصدًا واحدًا، وانَّ لخزائن معانيها مفتاحًا واحدًا اغتررًا بتقارب بعض الجمل والآيات والمعاقد فى السورتين، فلا يَكَادُ يُجْدِي حينَذاك استِفْتَاحُهُ خَزَائنَ المَعَانِي فِي السُّورتَينِ بمفتاحٍ واحدٍ فى استبصار شيءٍ من دقائقِ المعانيِ ورقائِقِها ولطائفِها فى السُّورتين التى بها يرتقى المرء فى مقامات القرب الأقدس.

- - -

- روافد استبصار المقصود الأعظم

استكشاف المغزى والمقصود الكليّ فى سورة يحتاج الى مصابرة ومدارسة فسيحة عميقة متكاثرة الروافد، أشير هنا إلى بعض هذه الروافد التى يمكن أن يُسْتَقَى منها فقهه واستبصاره.

- اسم السورة:

لكلِّ سُورةٍ من القران الكريم اسمٌ تعرف به بين أصحاب القرآن الكريم منذ عصر النبوة الماجد، وبعض السور لها أكثر من اسم منها ما هو توقيفِيّ جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لسان بعض صحابته رضي الله عنهم ومنها ما هو اصطلاحى (1)

واسم كل سورة مترجم عن مقصودها؛ لأنَّ اسم كلِّ شئ تلحظ المناسبة بينه وبين مسماه، عنوانه الدَّال بالإجمال على تفصيل ما فيه (2)

(1) - تفسير الطبري:1/84

(2)

- مصاعد النظر:1/209

ص: 93

ولعله لذلك كان تعليم آدم الأسماء، ففى الاسم بيان العنوان الدَّال على ما في المُسَمَّى به. وسواء قولنا إنّ (الاسم) مشتق من السُّمُوِّ: الارتفاع كما ذهب اليه البصريون من أنَّه معتلُّ " اللام"، أو مشتقٌ من الوَسْمِ كما هو مذهب الكوفيين، فيكون معتلَّ " الفاء "،فإنَّ فى الارتفاع والسمو دَِلالةً على أنَّه أظهرَ مسماه ورفعه للعيان، فصار به مرفوعًا معلومًا، وفى الوَسْمِ دَِلالةٌ على أنَّه تميَّز بكشف ما فيه عن غيره، فإذا ما كان الاسم توقيفا كانت دَِلالته على مضمون مُسمَّاه، وما به امتاز عمَّا عداه جِدّ وثيقة.

ألا تَرَى أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذى سمَّى خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم محمدًا (1) وهى تسمية دالة على حقيقته وكنهه. وجاء قول الله سبحانه وتعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (الفتح: من الآية29) جامعا بين ما هو كاشف عن حقيقته: (محمد) وما هو كاشف عن وظيفته (رسول الله) وكذلك أسماءُ سور القرآن الكريم سُمِّيَتْ كُلُّ سُورةٍ باسم كاشفٍ عن مقصودها الأعظم، فهي لا تُسمَّى إلَاّ بما هو أهمُّ ما فيها فى علاقته بالروح المهيمن على جميع كَلِمِها وجُملها وآياتها ومعاقدها، وليس بما كثُرَ ذكرُهُ فيها،أو بسط القول فيه، أو اختصت بذكره دون غيرها أو غلب ذكرُه فيها، فكُلُّ هذا ممَّا جاء عن بعض أهل العلم إنَّما هو غير معتبر، ألا ترَى أنَّ رسولَ اللهِ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - ذكر في أربع سور (آل عمران – الأحزاب – محمد – الفتح) ولم تُسمَّ به إلَاّ سُورة واحدة:(محمد) ، وكان مقتضى الظاهر أن تُسمَّى باسمه سورة (الأحزاب) أو سورة (الفتح) .

(1) - ينظر: الروض الأنف:1/182- دار المعرفة- بيروت، وأنساب الأشراف للبلازري: 1/80-81 = تح: محمد حميد الله – دار المعارف- مصر.

ص: 94

الناظر فى السورة التى سميت باسمه وفيما كان من شانه صلى الله عليه وسلم منذ نشأ إلى أنْ لَحِقَ بالرَّفيق الأعلى من المجاهدة فى سبيل الله سبحانه وتعالى فاستوعب صور الجهادِ الحِسِّيِّ والمعنويِّ والقتاليِّ والتربويِّ والدَّعويِّ والدِّفاعيِّ والفَتحِيِّ والعمليِّ والعِلْمِيِّ وكذلك قارئ الآيات التسع من فاتحة السورة التى سميت باسمه والتى لم تستفتح سورة بمثل ما استفتحت به:

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

ص: 95

يدرك عظيم الاعتلاقِ بين مضمونِ هذه السّورةِ، ومقصودها الأعظم واسم رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نبيِّ الملحمة القائل فيما أخرجه البخارى رضي الله عنه في كتاب الجهاد بسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم:«جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى» . (حديث: 88)(باب: ما قيل في الرماح)

والقَائل فيما رواه البخاري رضي الله عنه بسنده عن عبد الله بن أبي أوفَى رضي الله عنهما في كتاب الجهاد أيضًا: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» (باب الجنة تحت بارقة السيوف) حديث: 2818

ويدرك فى الوقت نفسه عظيم التناسب بين اسمها (محمد) واسمها (القتال) من جهة وبينها وبين مضمونها ومقصودها الأعظم.

وكذلك سورة (يونس) تراها سميت بذلك مع أنَّ قصة سيدنا (يونس) عليه السلام جاءت فى سورة (الصافات) فى عشر آيات. وفى سورة (الانبياء) بينما لم يأت ذكره فى سورة (يونس) عليه السلام إلَاّ فى آية واحدة.

{فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:98)

وكانت هذه السورة أحقَّ باسم (يونس) عليه السلام فإنَّ قصة يونس فيها " هى المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغة العذاب لهم، فيتوبون الى ربهم سبحانه وتعالى وفى الوقت سعة، وهم وحدهم فى تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب، فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم عليه السلام قبل وقوعه بهم كما هى سنة الله جل جلاله فى المكذبين المُصِرّين"(1)

ومطلع السورة هاد الى ذلك:

(1) سيد قطب: في ظلال القرآن: 1752

ص: 96

{بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} (يونس:1- 2)

ولم يرد هذا المطلع فى مفتتح سورة أخرى، ولا فى غير مطلعها، ففيه دَِلالة على أنَّ القرآنَ الكريمَ وحيٌ من عند الله عز وجل،وليس من عند غيره وأنَّ غيره لا يقدر على شئ من ذلك، ولذلك استنكر تعجب الناس أن يوحِى الله سبحانه وتعالى الى رجل منهم بإنذار المعاندين وتمكين المؤمنين إذ كيف يعجبون ولا يستطيعه أحد سواه جل جلاله.

وكذلك كشف العذاب وتمكين قوم لما آمنوا لا يستطيعه أحد سواه، ففى تفرُّد قوم (يونس) عليه السلام بالايمان الجَمْعِيّ وكشف العذاب عنهم دون غيرهم من الأمم آية صادقة على أنَّ القرآن الكريم من عند الله سبحانه وتعالى وحده أوحاه إلى رجلٍ من العرب عبده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره من العرب.

ص: 97

وإذا نظرنا فى قصة سيدنا (موسى) عليه السلام رأينا أنَّها أكثر قصص الأنبياء وُرودًا فى عديد من السور، وقد بسطت فى سور كثيرة، ولم تُسمَّ سورة واحدة باسم (موسى) عليه السلام وإن سميت سورة (الإسراء) باسم (بنى إسرائيل) ، وعلى الرغم من أنَّ سيدنا (موسى) عليه السلام من أولِي العزم من الرُّسل الذين سمى باسم ثلاثة منهم (نوح – إبراهيم – محمد) عليهم السلام سورة من سور القرآن الكريم خلا سيدنا (موسى) و (عيسى) عليهما السلام، وموسى كليم الله عز وجل وعيسى كلمة الله سبحانه وتعالى ففى كلٍّ منهما ماليس فى غيره من الأنبياء وسيدنا (موسى) عليه السلام قد ورد اسمه فى القرآن الكريم ستا وثلاثين ومائة مرة (136) وسيدنا (عيسى) ورد اسمه خمسا وعشرين مرة. وكان ظاهر الأمر أن تسمَّى سورة (القصص) باسم سيدنا (موسى) عليه السلام فقد أفردت السورة لقصته منذ ولادته إلى انتصاره وهلاك أعدائه: فرعون وهامان وقارون، وحين ذُكرت قصة (قارون) كانت لاحقة بقصة (موسى) عليه السلام:

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ

} (القصص: من الآية76)

وكان إفراد سورة (القصص) لقصة (موسى) عليه السلام أشبه بإفراد سورة (يوسف) عليه السلام لقصته.

وكان مقتضى الظاهر أيضا فى سورة (النمل) أن تسمى سورة (سليمان) عليه السلام او سورة (الهُدهُد) ، فإنَّ شأنَ (الهُدهُد) لا يقلُّ عن شأن (النملة) فى القصة، ولا سيما أنَّ سورة (النمل) مقصودها الأعظم إظهار العلم والحكمة، وفى قصة "الهدهد": {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل: من الآية22)

ص: 98

وفى قصة النملة {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل:18)

ترى فى مقالتها الحكمة ممزوجة بالعلم، ولا ترى فى مقالة (الهدهد) إلا أظهار العلم فى ثوب فخر، فكانت مقالة (النملة) أعلقَ بمقصود السورة، فالاعتداد فى التسمية ليست فى قلة ذكر ما سُمِّيَ به أو كثرته. فالامر مرجعه إلى إنباء الاسم عن وَسْمِ السورة.

وقد يكون للسورة الواحدة أكثرمن اسم توقِيفيّ، كما فِي سُورة (الفاتحة)(1) وكثرة الاسماء التوقيفية آيَةٌ على عِظمِ مقصودِها، فإنَّ كلَّ اسمٍ من أسمائها ناظرٌ إلى وجه من وجوه مقصودِها، وهذا له أصول تصلح لإقامة علم فقه أسماء سور القران الكريم، وذلك وحده جدير بأن يفرغ له بعض أهل العلم لمدارسته وتحقيقه.

***

- فاتحة السورة وخاتمتها:

لم يشأِ الله عز وجل أن يجعل القرآن الكريم كلّه سورة واحدة بل جعله سورًا تتفاوت في عدد آياتها وكلماتها،وجعل لكلّ سورة مطلع تلاوة ومقطعها، فهل لذلك علاقة بالغة بمقصود السورة الأعظم؟.

? الفاتحة والمطلع: (2)

(1) - تفسير الطبري: 1/89-90،

(2)

- في كلّية اللغة العربية بالقاهرة دراسة لنيل العالمية في البلاغة للدكتور:" إبراهيم صلاح السيد الهدهد" الأستاذ المساعد في الكلية موضوعها (علاقة المطالع بالمقاصد في القرآن الكريم: دراسة بلاغية) أشرف عليها شيخي: محمد أبو موسى،وقد شاركت في مناقشتها سنة 1414، وقد أفدت منها خيرًا وافرًا.

ص: 99

من سنة العربية فى بيانها أن تجعل فى الصدر دلالة على المراد وإنباءً بالمقصود، كيما يكون السَّامع على بصيرة بما هو متلقٍ له وشان العربيّ فى حياته الاستدلال بما كشف له على ما غاب عنه، وقد علمته حياة الصحراء الاستدلال والفراسة، فكانوا يستخدمون الدليل فى أسفارهم؛ ليكشف لهم ما غاب عنهم، ويهديهم ما اشتكل فى مناهج أسفارهم.

وهم فى بيانهم من قبل نزول القرآن الكريم يتخذون من صدور قصائدهم هوادى إلى مضامينها، وجاء الذكر الحكيم على ما كان من سننهم فى الإنباء بمطالع البيان على مقاصدهم، فكان مطلع كلِّ سورة مضمَّنا معالمَ هادية إلى مقاصدها.

فاتحة الكتاب وأمِّ القرآن الكريم هى مطلعه وفيها إجمال تفصيل القرآن من الأصول والفروع تشريعًا ومن والمعارف واللطائف تثقيفًا، فيحصل لمن تدبَّر " من معانى الفاتحة – تصريحا وتضمينا- علم إجمالى بما حواه القرآن من الأغراض، وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلّب التفصيل على حسب التمكن والقابلية، ولاجل هذا فرضت قراءة (الفاتحة) فى كل ركعة من الصلاة حرصًا على التذكر مما فى مطاويها "(1)

وكأنَّ المُصلِّي قد استذكر المعاني القرآنيَّة على سبيل الإجمال والإحكام فى كل ركعة.

(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور: 1/134

ص: 100

إذا ما كان هذا فى إنباء مطلع القرآن الكريمِ بما حواه تفصيلا فى سوره، فالأمر كمثله فى كلِّ سُورة، إذْ ينبئ مطلعُ كلِّ سورة على مضمونها ومقصودها. وأهل العلم بالبيان على أن يكون الابتداءُ دلائلَ البيان مناسبًا لقصد المتكلم من جميع جهاته (1) فاستبصار مقصود المتكلم من مفتح كلامه نهج قديم وسنن تليد دعا إليه وأخذ به الأقدمون وهو فى باب التدبُّر القرآنيّ أسمق وأوسق. (2)

واذا ما كانت سور القران الكريم ليست على درجة سواء فى طولها وقصرها وعدد آياتها، فانَّه لمن العسير أن يكون ثَمَّ معيار كَمِّيٌّ للمطلع، وليس هناك تلازم توافقي بين مقدار المطلع ومقدار سورته طولا وقصرا، ولكن الذى هو أقرب أنَّ المطلع هو مجموع ما انتظم به تمام المعنى ولهذا تستطيع أن تستانس فى هذا بهدى النبوة.

روى الدَّارميُّ رضي الله عنه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه – موقفا:

(1) - الصناعتين للعسكري: 489، سرّ الفصاحة:270، منهاج البلغاء لحازم: 309

(2)

- يقول البدر بن مالك "ت 686 هـ": «واذا نظرت الى فواتح السورجملها ومفرداتها رايت من البلاغة والتقنن وأنواع الاشارة ما يقصر عن كنه وصفة العبارة» (المصباح:271) ويقول الخطيب (739 هـ)«وأحسن الابتداءات ما ناسب المقصود» (الإيضاح: بغية: 4/130) ثم يقول فى آخر العبارة له فى الايضاح «جميع فواتح السور وخواتمها واردة على احسن وجوه البلاغة واكملها – يظهر ذلك بالتامل فيها مع التدبر لما تقدم من الاصول) .

وهى مقالة كثيفة متَّسمة بالإشارة إلى أنَّ استبصار دلالة المطلع على المقصود إنَّما يكون بالتامل والتدبر وفقا لأصول علوم البلاغة المعانى والبيان من خصائص أنماط التراكيب وضروب التصوير وصنوف التحبير، فهذا إيماء إلى وجوب التدبر البيانيّ لمطلع السورة لاستكشاف دلالتها على مقصود السورة، وذلك يعنى أن دلالته على المقصود ذات خفاء لا يستبصره إلا أهل العلم.

ص: 101

«مَنْ قَرَا أربعَ آياتٍ من أوّل سورةِ البقرةِ وآية الكرسى وآيتين بعد آية الكرسيّ، وثلاثًا من آخر سورة " البقرة " لم يقربْه، ولا أهلَهُ يومئذٍ شيطانٌ، ولا شيءٌ يكرهه، ولا يُقْرِأَنَّ على مجنون إلا أفاق» سنن الدرمي: فضائل القرآن –: فضل أول سورة البقرة وآية الكرسي.

ومثل هذا وإن كان موقوفًا على سيدنا "ابن مسعود" رضي الله عنه فإنَّه مما لا يقوله الصحابى من عند نفسه؛ لأنَّه من الغيب الذى لا يُعلمُ إلَاّ عن طريق الوحى، ولعل عدم رفع سيدنا " ابن مسعود" رضي الله عنه مقالَه هذا الى النبيّ صلى الله عليه وسلم مخافة أن يكون فى مقاله ما هو على غير يقين من منطوقه، وإن كان على يقين من مضمونه، فحين يقوم فى ظنِّ الصحابيّ مخافة أن يتجاوز المنطوق يروى المضمون ولا يرفع.

وهذا من عظيمِ وروعهم،وصدقهم،وأمانتهم.

وهذا الموقف قد جاء مرفوعا من السيدة عائشة رضي الله عنها الى النبيّ صلى الله عليه وسلم فى " مسند الفردوس " مثله:

«مَنْ قرَأ من أول البقرة أربع آياتٍ وآية الكرسى والآيتين بعدها والثلاث من آخرها كلأه الله فى أهله وولده وماله ودنياه وآخرته» (1)

وإذا نظرنا ألفينا أنَّ مطلع سورة " البقرة " من أولها إلى آخر قوله سبحانه وتعالى:

(1) - البقاعيّ: مصاعد النظر: 2/57

في هذا الحديث دَِلالة على أنّ (الم) في مفتتح البقرة ليس آية مستقلة كما هو شائع، فيكون عدد آيات سورة البقرة خمسًا وثمانين ومئتين، فقد انفرد العدّ (الكوفيّ) بجعل (الم) آية مستقلة، وليست جزءًا من آية. والمدنيّ والمكي والبصري والشامي لايعدونها،وهذا ما يتفق مع الحديث الموقوف والمرفوع.

ص: 102

{أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة:5) وختامها من أول قوله عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 284 – 286)

ص: 103

وقلب السورة الآيات: {اللَّهُ لا إِلَهَ إلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:255-257)(1)

مطلع السورة هو مقدمتها التى تبدأ من أوَّلها إلى نهاية قول الله سبحانه وتعالى: {

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: من الآية20)

فمقدمة السورة أبسط وأمد من مطلعها هنا، وكذلك فى سورة (آل عمران) فإنَّ مطلعها هو قوله سبحانه وتعالى:{الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}

(1) - إذا ما كان قلب القرآن سورة (يس) وهي ليست في وسطه، فإنَّ لكل سورة قلبا، ولا يلزم أن يكون في وسطها كما في سورة الفاتحة حيث جاء قول الله سبحانه وتعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) في وسطها، فقد يكون قلبها قريبا من بدايتها أو نهايتها.

ص: 104

ولكن مقدمتها تمتد إلى نهاية قوله جل جلاله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (آل عمران:9)

وقد يكون المطلع هو المقدمة، كما فى سورة (النساء) فإنَّ مطلعها هو الآية الأولى منها:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1)

وهى أيضا المقدمة وما بعدها موضوعها.

ص: 105

وإذا ما نظرنا فى مطلع سورة (البقرة) ألفينا أنَّه مجموع ما انتظم به تمام الدلالة على أم المعنى القرآنى فى السورة، ففى هذا المطلع ثلاثة مرتكزات:(الكتاب- المتقين - الإيمان بالغيب وما بعده) الثانى والثالث (المتقين - الإيمان بالغيب) من الأول (الكتاب) ، ولذلك جاءت العبارة عنه فى قوله- سبحانه وتعالى {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} فى غاية الإيجاز لمعنى جدّ مديد بسيط لا يُحاط به، ولأهل العلم من المفسرين والبلاغين مقالات فى بيان التعريف فى (ذلك الكتاب) وفى النفى فى قوله {لا ريب فيه} ثُمَّ فى ما تعلق بقوله (هدى) فإن قوله (للمتقين) أي المتقين صراط المغضوب عليهم من اليهود، ومن اتخذ منهاجهم في نبذ الحقّ بعد علمه تكبّرًا وجحدًا، وصراط الضَّالين من النصاري ومن اتخذ منهاجهم في العبادة على جهل بما يعبد وكيفية العبادة التي ترضيه وهذا المعنى أساس الإيمان وما يبنى عليه من منازل الطاعة والقرب. (1)

وقد شاع فى هذه السورة الحديث عن شيئين بهما تأطيد معنى كمال ذلك الكتاب:

- الأول: الإيمان بالغيب

(1) - ذلك ما أذهبُ إليه من تقييد قوله (المتقين) بمعمول مفهوم من ختام سورة الفاتحة، والتقوى هنا ليست هي التقوى في قوله سبحانه وتعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) والتي جاء في البيان النبويّ كشفُ حقيقتها ومبدأ أمرها بقوله صلى الله عليه وسلم {لايبلغ العبدأن يكون َ مِنَ المتّقِين حتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ البَأسُ} (رواه ابن ماجه: كتاب الزهد – باب: الورع والتقوى – حديث:4215) فهذاالمتقى يدع سبعين بابا من الحلال مخافة الوقوع فى شئ من الحرام التي هي منزل أعلى من منزل الإيمان.

وهذا من تلاحظ المعنى في مطلع سورة البقرة ومختتم سورة الفاتحة.

ص: 106

- والآخر: (التقوى) فقد وردت هذه الكلمة ومشتقاتها فى سورة " البقرة" ستا وثلاثين مرة، وهذا ما لم يك فى غيرها.

وفى مطلع كل سورة تكون مفردة من مفردات القرآن الكريم تذكر من بعد ذلك فى السورة على نحو لافت بمادتها وصيغتها أو مادتها فقط وعلى نحو لا يكون مثله مقدارا وكيفية فى أى سورة أخرى، وكذلك يتوارد فى السورة ما كان من الأسرة الدلالية لهذه المفردة وفى هذا آية على أنَّ دلالة هذه المفردة عنصر رئيس من عناصر المقصود الأعظم للسورة، فليس بقية السورة من بعد ذلك عمل عقيم أو عابث لا يجدى، فإنَّه تنزيل من عزيز حكيم عليم حميد، فمن النصح للقرآن الكريم تدبُّرا ملاحظة ذلك فى استبصار عناصر المقصود الأعظم للسورة.

ولما كانت التقوى أساسُها ملاحظة الله سبحانه وتعالى الذى هو الغيب المطلق ذاتا والشهود الحاضر فى الكون صفة وفعلا كانت التَّقوى قائمة على يقين راسخ بالغيب.

لهذا كان لسورة البقرة عنايةٌ خاصَّة وظاهرة بأمرالغيب والإيمان به، وبكلِّ ما هو من سبيله، وعلى رأسه الإيمان بالبعث، وقد انتشر ذلك فى السورة على نحو ظاهر:

فى قصة أبينا (آدم) عليه السلام إبراز لمعنى الإعلام بالغيب على نحو لا يتكرر فى هذه القصة فى سورة أخرى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (ي: 30)

{قَالُوا سُبْحَانَكَ لاعِلْمَ لَنَا إلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (ي:32)

{إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (ي:33)

وفى غيرهذه القصة جاء قوله- سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (ي:72)

{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (ي:77)

ص: 107

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (ي:255)

وغير ذلك كثير وعنيت السورة بأمر البعث وهو من أمر الغيب:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (ي:28)

{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (ي:46)

{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (ي:48)

{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (ي:123)

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (ي:203)

{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (ي:56)

{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (ي:73)

ومن أبرز هذا قوله جل جلاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (ي:243)

وقوله عز وجل فى محاجة سيدنا إبراهيم عليه السلام وقد تفردت السورة بذكرها:

ص: 108

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (ي:258)

وكذلك فى مخاطبته ربه جل جلاله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (ي:260)

وكان فيها آخر آية أنزلت: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (ي:281)

فجمع فيها بين التقوى والبعث.

وكثير مما جاء من تشريعات لا يقبله إلا من آمن بالغيب وأيقن بالبعث من نحو تشريعات الإنفاق صدقة أو قرضاً، وتشريع حرمة الربا وتشريع فريضة الصيام والحج بل أنَّ الحديث عن أركان الإسلام:(الصلاة والزكاة والصيام والحج) لم يجمع القول فيه مبسوطاً فى سورة كمثل جمعها هنا.

وهى أركان مبنية على الإيمان بالغيب والبعث، ومثل ذلك ما اعتنت السورة بذكره من أمر الجهاد، ولا يُقْدِمُ عليه إلَاّ من آمن بالغيب والبعث وأيقن بهما.

فأنت تجد أنَّ مطلع السورة قد جعل من خصال المتقين الذين كان الكتاب الكامل الحق لهم هدى الإيمان بالغيب الشامل كلَّ هذه الفرائض كما أنَّ المَطْلَعَ قد عُنِيَ بصفة إيمانهم بما أنزل من قبل وإيقانهم باليوم الآخر.

ص: 109

كل هذا دال على المقصود الأعظم لهذه السورة: «إقامة الدليل على أن الكتاب هدى يتبع فى كلِّ حال وأعظم ما يهدى إليه الإيمان بالغيب،ومجمعه الإيمان بالآخرة،ومداره الإيمان بالبعث الذى أعربت عن قصة البقرة التى مدارها الإيمان بالغيب، فلذلك سميت بها السورة» (1)

مطلع السورة واسمها منبئان عن مقصودها، واذا ما كنت قد تجاوزت القول فى (ألم) فى مطلع السورة،فإن «استخراج مناسبات هذه الحروف وأحوالها إلى مقاصد السور وأغراضها يحتاج إلى مزيد من التوفر والفهم والصفاء ووراءه علم دقيق ومعرفة لطيفة شريفة» (2)

ومذاهب العلماء فى استبصار دلالات هذه الاستفتادات كثيرة وقليل منها ما سعى أصحابها إلى استخراج ما بينها وبين مقاصد سورها ومعانيها من تناسب ونتائج.وهي محاولات لا تسلم من المناقدة والتوقف (3)

***

- الخاتمة والمقاطع:

إذا ما كان فى مطلع تلاوة كُلِّ سورة دلائلُ على مضمونِها وقرائن هداية إلى حسن استبصار معالم مقصودها الأعظم، فإنَّ من سنن بناء الكلام فى أدب العربية أن ينعطفَ آخرُ الكلام على أوَّله، ويكون فى آخره ما يتأخى مع أوله ويتناعى مع مفتتحه.

وقد جعل"شبيب بن شيبه" العناية بجودة الانتهاء كمثل العناية بجودة الابتداء يقول:" الناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه وأنا موكل بتفضيل جودة القطع ويمدح صاحبه "(4)

(1) - البقاعي: نظم الدرر:1/55، ومصاعد النظر:2/9

(2)

- شيخنا أبو موسى:الإعجاز البلاغي:236

(3)

- ينظر: البرهان للزركشي: 1/168، نظم الدرر:12/156

(4)

- البيان والتبيين: 1/112

ص: 110

فإنَّه إذاماكان فى المطلع، والافتتاح إسهام، وأرصاد، وإنباء بما يتضمنه الكلام من مقاصد، فإن فى مقطع التلاوة، ومختتمها استجماعَ معانى الكلام، واكتنازَ مقاصده، فهو آخر ما يسمع، فوجب أن يكون كنزا جامعا لمعانيه ومقاصده. ومن ثَمَّ عُنِىَ أهل الأدب به. (1)

فى الذكر الحكيم خاتمة السورة كمطلعها «فإنَّ الله سبحانه وتعالى ختمَ كلَّ سورةٍ من سوره بأحسن ختامٍ، وأتمها بأعجبِ إتمام ختامًا يطابق مقصدها، ويؤدي معناها» (2)

ومقطع تلاوة كلِّ سورة يقابل مطلعها، فقد يكون ذلك المقطع هو خاتمة السورة وقد يكون آخر خاتمتها، فإذا نظرنا فى سورة "البقرة" فى ضوء ما سبق أن ذكرناه فى الحديث عن مطلعها ألفينا أنَّ مقطعها هو خاتمتها بخلاف مطلعها، فهو أول مقدمتها، فإنَّ مقدمتها من أولها إلى آخر الآية العشرين أما خاتمتها، فهى من قوله جل جلاله {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:284)

إلى آخر السورة.

(1) - في كلية اللغة العربية بالمنوفية بحث للعالمية (الدكتوراه) موضوعه خاتمة القصيدة العربية للدكتور: " حسين عبد الوهاب "المدرس في قسم الأدب. ومن قبله نشر الصديق " كاظم الظواهري" الأستاذ في قسم الأدب بكلية اللغة العربية بالمنوفية بحثًا عنوانه (خاتمة القصيدة العربية ودلالاتها التاريخية والفنية) في حولية الكلية العدد السادس سنة 1406، ونحن نفتقر إلى دراسة مستوعبة مدققة لخواتيم السور القرآنية وعلاقتها بالمطالع وعلاقتها أيضًا بالمقاصد، وهو باب لا يصلح فيه إلا الاستيعاب التام للخواتيم.

(2)

- العلوي: الطراز: 3/ 183

ص: 111

وأنت إذا ما تأملت هذه الخاتمة ألفيتها دالة على ما يتآخى مع ما دلَّت عليه مطلعها فإنَّه " لما ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذى لا ريب فيه على الوجه الذى تقدم ختمها بعد تفصيل الإنفاق الذى وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهى "(1)

فأنت فى الخاتمة تلحظ استظهار الإيمان بالغيب الذى هو صدر صفات المتقين الذين كان القرآنُ الكريم هدًى لهم وتلحظ التعانق البديع بين قوله سبحانه وتعالى فى المطلع: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة:4)

وقوله جل جلاله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)

وكذلك بين قوله عز وجل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة:5) في مطلعها، وذلك الدعاء البديع فى آخرها ولا سيما قوله سبحانه وتعالى:

{

أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (ي:286)

فمن كان الله سبحانه وتعالى مولاه وكان منصورًا على الكافرين كان يقينا على هدى من ربه وكان مفلحا.

(1) - البقاعي: نظم الدرر: 4/ 168

ص: 112

وكذلك التعانق بين قوله سبحانه وتعالى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة: 3) فى مطلعها وحديثه عن أحكام الإنفاق فى سبيل الله عز وجل صدقة وحديث عن الإقراض فى الآية السابقة على ختمها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ

} (البقرة: 282) فكان فى هذا ضربٌ من التآخى جد بديع مما جعل رد المقطع على المطلع المُنْبئ عن المقصود من الأعظم ردًا جدَّ وثيق، فدلَّ على أنَّ فى ختمها اكتنازًا لمقصودها، وهكذا الشأن فى كلِّ سورِ القرآن الكريم (1)

- - -

تدبر الفروق البيانية بين المعانى الكلية المصرفة فى السور:

تشتمل السبع الطول والمئون على معان كلية مكونة من معان جزئية. هذه المعاني الكلّيّة قد يتشابه بعضها فى سورة مع بعض فى سورة أخرى، لما يتسم به الذكر الحكيم من التصريف، وهذايثْمِرُ فروقًا بيانيَّةً فى بناء آيات تلك المعانى الكلية فِي السّورتين.

وتصريف المعاني فى القرآن الكريمِ وجه من وجوه بلاغة المعجزة كما نص على ذلك الأقدمون (2)

(1) - قد كان "برهان الدين البقاعى"(885 هـ) ذا عناية فائقة برد عجز كل سورة ومقطعها على مطلعها؛لأنَّه يرى أنَّ كلَّ سورة يتلاحم طرفاها تلاحما جد لطيف، كالحلقة المفرغة، فإذا ما كان فى طرفها ابتداء إنباء بمقصودها الأعظم، فإنَّ فى طرفها انتهاء استجماع، واكتناز لذلك المقصود. وإذا ما كان لمح إنباء الابتداء بالمقصود بحاجة إلى لقانية وفراسة بيانية، فإنَّ استبصار استجماع الانتهاء ذلك المقصود بحاجة أشد إلى تلك اللقانية والفراسة.

(2)

- الرماني: النكت في إعجاز القرآن:101 (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – تح: خلف الله وسلام – دار المعارف – مصر

ص: 113

وهذا التصريف للمعاني ينفى عنها وصف التكرار والإعادة؛لأنَّه تصريفٌ منبثِقٌ عن المقصود الأعظم لكل سورة، وأكثر ما يكون جلاء ذلك التصريف فى القصص القرآنيّ حتى كان القول بالتصريف البياني فيها مما شاع ذكره فى أسفار أهل العلم.

وفد سبق أن تبين لك من شيخنا " أبي موسى" كيف أنَّ قصة موسى عليه السلام قد اختلف بناؤها القصصيّ والبيانيّ فى كل من سورة (الشعراء) و (النمل) و (القصص) وهى سور متوالية فى الترتيب الترتيليّ.

وكذلك ترى التصريف جليًّا فى وصف أعمال الذين آمنوا وثوابهم يوم القيامة ووصف أعمال الذين كفروا وعقابهم. وكذلك فى وصف مشاهد اليوم الآخر وغير ذلك كثير.

وفى تديُّر بناء كل معنى من المعاني الكليّة المصرَّفة فى السور استكشاف للمقصود الأعظم لكلِّ سورة، وهو استكشافٌ يملك به المتدبرُ مفاتِحَ خزائن المعنى القرآني فى السورة.

والنظر البيانيّ فى مثل هذا مصروفٌ إلى ملاحظة بناء المعنى الكليّ من المعانى الجزئية الماثلة فى الجملة القرآنية على اختلاف مقاديرها إيجازًا وبسطًا، وهو نظر لا يرى فى هذا تكرارا بل يراه من قبيل التتميم والتكميل الذى هو وجه من وجوه التصريف؛ لأنَّ كلَّ معنى كليٍّ من تلك المعاني مكمّلٌ ومتممٌ لما قاربه فى سورة سابقة على سورته، وهذا التتميم إنَّما يكون بجديد يتناغَى مع السياق الذى أقيم فيه، ومن هنا كانت الفروق البيانية شكلا ومضمونا مما اقتضاه تشابه سياقات المعاني الكليّة فى بعض سور القرآن الكريم، والتَّفرُّس والتَّدبُّر لما بين المعاني الكليّة فى سورة ما وما بين المشابه لها فى أخرى رافد من روافد تحرير المقصود الأعظم للسورة وما فى استبصار تصريف المعانى الكلية المتشابه فى السور من حزونه لا يتغلب عليها إلا بطول الصحبة ونفوذ الرؤية والمثابرة.

***

تَدَبّر المعاني الكلية الخاصّة.

ص: 114

إذا ما كان كثير من المعاني الكليّة التى هى معاقد بناء المعنى فى السورة قد صار مصرفاً فى أكثر من سورة، فإنَّ بعضَ المعانِي الكليّةِ قد خصَّت به سورةٌ دون غيرها من سور القرآن الكريم. وفى تدبُّر هذا ما يُعينُ على استبصار الروحِ المُهَيمِنِ على تلك السورة، ذلك أنَّ معالم ذلك الروح ستكون باديةً فى ذلك المعنى الكليّ المخصوص به تلك السورة.

قِصّةُ "البقرة" مثلاً لم ترد في غير سورة "البقرة"، وكذلك قصّة " هاروت وماروت"،وقصّة تحويل القبلة،وفريضة الصيام، وبيان أحكامها، وقصّة:" طالوت وجالوت " وقصّة الذين خرجوا من ديَارِهِمْ وهُم ألُوفٌ حذرَ الموتِ، وقصّة الذي حاج "إبراهيم " عليه السلام في ربّه، وقصّة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصّة " إبراهيم " عليه السلام والطير، وأحكام المداينة

كلُّ ذلك مما أختصت به سورة (البقرة) ولم يكن فى غيرها مما يدلُّ على أنَّ فى هذه المعاني ما هو أعلق بمقصود سورة البقرة من غيرها فلم تصرّف هذه المعانى فى ما دونها من السور.

وكذلك سورة (الكهف) إختصت بقصة أصحاب الكهف وقصة العبد الصالح عليه السلام مع موسى عليه السلام وقصة صاحب الجنتين وقصة ذى القرنين، وفى هذا دلالة على أنَّ فيما بين هذه القصص ما يُوحّد بينها من جهة وما يجعلها أشدَّ تناسباً بمقصودها الأعظم، فاختصت بها من دون غيرها من السور.

وتكاد كلّ سورة ولاسيما السور الطول والمئين تنفرد بمعنى كلّيّ لا يتصرّف في غيرها، مثلما تجد في كلّ سورة من الطول والمئين معنى هو تصريف معنى في سورة أخرى. (1)

(1) - دراسة فرائد البيان القرآني: الكلمات مادة وصيغة وموقعا وأداءً ورسمًا وكذلك الجمل والصور البيانية والمعاقد الكلية والقصص والأحكام التشريعية من الدراسات التي نقتقر إلى مزيد من العناية بها وهي جديرة بإفرادها بدراسة مستوعبة تعتمد على منهاج التحليل والتأويل والتعليل.

ص: 115

دراسة مثل هذا يكشف لنا عن بعض معالم الرُّوح المهيمن على السورة، وبه يتبين لنا الوجه فى عدم تصريف هذه المعانى فى سور آخرى، فلولا أنَّ فى تلك المعاقد من معانٍ خاصة تفَرِّقُ بين الروح المُهيمن على سورتها والروح المهيمن على ما عداها لكانت جديرة بالتَّصريف الذى هو سَمْتٌ غالب على كثير من المعانى الكليّة فى القرآن الكريم

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلَاّ نُفُورا} (الاسراء:41)

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَاّ كُفُوراً} (الاسراء:89)

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف:54)

***

تَدبُّر الفروق البيانية بين المعاني الجزئية المصرفة في السورة

المعاني الكلية المصرَّفة فى السور مكوَّنة من معانٍ جزئية تمثلها الجمل القرآنية على إختلاف مقاديرها، وأكثر سور القرآن الكريم فيها غير قليل من المعانى الجزئية المصرَّفة المتشابهة فى بعض وجوه النظم مع معان جزئية فى سورة آخرى.

وما بين هذه المعانى وصورها من وجوه اتفاق وافتراق كثيراً ما تستجلى معالمه فى ضوء السياق الجزئيّ القريب الذى هو إمتداد السياق الأكبر مما يجعله أقرب إدراكاً، ومنه يتوصل إلى الروح المهيمن على السياق الكليّ للسورة الذى هو المهيمن على السياق الجزئيّ الذى هو أظهر سلطاناً على مشتبه النظم فى المعانى الجزئية.

وهذا يستوجب المناظرة بين مناهج التفصيل للمعانى المصرَّفة مناظرةً تتجاوز الاكتفاء بتسجيل ظواهر الاتفاق والافتراق فى مشتبه النّظم إلي السعي إلى استبصار أثر السياق الجزئيّ أولاً، ثُمَّ الانتقال منه إلى السياق الكلى للسورة الذى به تُستبين معالم المقصود الأعظم الذى هو الروح السارى فى السورة كلّها.

ص: 116

وإذا ما كان مشتبه النظم قد لقى عناية بالغة من أهل العلم قديماً وحديثاً، فقد غلب على كثير منهم ملاحظته واستبصاره فى سياقه الجزئى الذى هو خطوة إلى أمد أبعد، وقليل من أولئك من مد استبصاره وتدبره مشتبه النظم فى ضوء السياق الكلى للسورة ملاحظاً سلطان المقصود الأعظم، وما ذلك إلَاّ لخفاء ذلك السلطان على مشتبه النظم فى المعانى الجزئية التى يغلب أن يكون نظمها نظماً تركيباً بخلاف سلطان المقصود الأعظم على سياق المعانى الكلية ومشتبه النظم الترتيبي فيها، فإنَّه أجلى منه فى التركيب، وبهذا يتبين لك أنَّ مشتبه النظم فى المعانى الجزئية غيره مشتبه النظم فى المعانى الكليّة التى هى معاقد السورة ونجومها الكبرى.

ذلك أنَّ النظم القرآنيّ الكريم ضربان:

- نظم تركيبيّ

- ونظم ترتيبيّ

الثانى منهما مرتب على الأول، والتركيبيّ مجاله المعانى الجزئية التى هى عناصر بناء المعانى الكلية، والترتيبيّ مجاله المعانى الكلية التى هى عناصر بناء السورة كلها، والنظم التركيبى أقرب إدراكاً لأنَّ معالمه أجلى للبصائر، واشتغال أهل العلم به،ولا سيما النحاة والبلاغيون والمفسرون أعظمُ، بل إنَّ أغلبَهم قصر سعيه فى ميدانه.

والنظم الترتيبيّ أبعد، ُوأعسرُ إدراكاً؛ لأنَّ معالمه أخفى، وقليل من أهل العلمِ مَنْ عُنِى بترتيب المعانى الكليّة وبمنهجِ بنائها لإقامة السورة القرآنية كلها. (1)

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة (آل عمران) :

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133)

ويقول عز وجل في سورة (الحديد) :

(1) - كان برهان الدين البقاعى من أبرز وأكثر أهل العلم اعتناء بالنظم الترتيبى فى القرآن الكريم وبملاحظة السلطان المقصود الأعظم على مشتبه النظم التركيبى مثل ملاحظة سلطانه على مشتيه النظم الترتيبيّ.

ص: 117

{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:21)

ما يبين الآيتين من تصريف المعاني ومن مشتبه النظم جليٌ لا يخفى: فى آية (آل عمران) وسارعوا (وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر بغير واو عطف وكذلك هو فى مصاحف المدينة والشام وقرأ بقية العشرة بواو العطف وعليه مصاحف مكة والعراق)

{عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} دون أداة تشبيه مع جمع السماء)

{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}

وفى آية الحديد: {سابقوا} (عند القراء العشرة) بغير عطف.

{عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} بداه تشبيه مع ذكر المشبه المضاف (عرض) وأفراد المضاف اليه (السماء)

{أعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}

وغير خفيٍّ أنَّ هذه المفارقات فى العطف والتشبيه والحذف والأفراد والجمع وغير ذلك له ما يقتضيه من سياقه الجزئى وسياقه الكلى لسورةِ كُلٍّ. (1)

(1) - لم ينظر الخطيب الإسكافى " (420هـ) ولا الكرمانى (القرن الخامس) فيما يبين الآيتين من مشتبه النظم إلا أن أبا جعفر بن الزبير (708هـ) والبقاعى (885هـ) من بعده قد نظرا فيما يبين الآيتين من مفارقات بيانية ومرد تلك المفارقات وهما وأن تفاوتاً فى مستوى النظر ومجاله فإنما التقيا على النظر فى السياق الجزئى للآية وفى السياق الكلى للسورة.

انظر ملاك التأويل لابن الزبيرجـ1ص171-176 (تحقيق محمود كامل- طبعة بيروت/1405) ونظم الدور للبقاعى ج 2 ص156، ج 7 ص:454 (ط/ بيروت) .

ص: 118

فى آية سورة (آل عمران) كان الأمر بالمسارعة وفى آية سورة (الحديد) بالمسابقة، وكانت الجنَّة الموعود بها فى آية سورة (آل عمران) عرضها السموات والأرض، والجنة الموعود بها فى آية سورة (الحديد) عرضها كعرض السماء والأرض، وفى آية سورة (آل عمران) كانت الجنة للمتقين، وفى آية سورة (الحديد) كانت الجنة للذين آمنوا.

آية سورة (آل عمران) سياقها الحَضُّ على الجهاد وتعظيم فضله والإبلاغ فى ذلك، وسورة (آل عمران) إنّما هى سورة التوحيد وسورة الاصطفاء والمصطفين الأخيار الذين من أهم صفاتهم التقوى والصبر، وقد شاعت هاتان الصفتان فى آيات السورة على نحو جِدّ ظاهر.

وهذه الآية فى سورة (آل عمران) جاءت عقيب بيان أسباب النصر وأسباب الخذلان الذي من أهم أسبابه الإقبال على الدنيا التى أشار إلى ذمها بقوله جل جلاله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14)

وعقيب الأمر بما تضمن الفوز والنجاة والقرب، فجأة الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والى جنة عرضها السموات والأرض، ويبيِّن أنَّ أولئك الذين أُعدَّت هذه الجنة لهم هم المتقون الذين تقدمت الإشارة إليهم كثيراً والذين يتخلّوْنَ عن الأموال وجميع مصانع الدنيا فلا تمتد أعتينهم إلى الإزدياد من شىء منها، ويتحلَّون بالزُّهد فيها والإنفاق لها فى سبيل الله سبحانه وتعالى.

ص: 119

أمَّا آية سورة (الحديد) فقد جاءت فى سياق الأمر بالإيمان بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والإنفاق فى سبيل الله جل جلاله مما استخلفهم فيه وحثهم على الإنفاق ورغبهم فى الإقرض الحسن إبتغاء أجرِ يومٍ كبير، ناعِيًاً عدم خشوع قلوبهم لذكر الله عز وجل، وما نزل من الحق الداعى إلى الإيمان والإنفاق والإقراض مؤكدًا الحثَّ على الصدقة والإقراض، مبينًا حقيقة الدنيا ومتاعها، فالسياق الكليّ كما ترى يدفع بطائفة ليست على المستوى الإيمانى العَلِيّ، فيدعوهم إلى المسابقة فيما بينهم إلى مغفرة وجنة عرضها كعرض السماء والأرض.

وهى جنة دون جنة "آل عمران " التى أعدت للمتقين؛ لأنَّ أصحاب هذه الجنة إنما هم الذين آمنوا: الذين ما تزال فيهم رغبة فى الحياة الدنيا، ومنْ ثَمَّ كان الأمر هنا بالمسابقة لا بالمسارعة؛ لأنَّ المسابقة وإن تكنْ فعل من يسابق شخصاً، فهو يسعى فى سبقه إلَاّ أنَّها ربَّما كانت المسابقة بين بَطِيئَيْنِ يَسِيرَانِ الْهُوَيْنَا، فلا يلزم من المسابقة الإسراع، وهذا أليق بحال الذين آمنوا: الذين لم يرتقوا إلى درج التقوى.

ص: 120

أمَّا المسارعة فلا تكونُ الَاّ بجهد النفس مع السُّرعة، وهى قريبة لفظاً وإقتضاء من (المُصارعة) الدَّالة على القوة والاجتهاد مما يدل على حاجة المسارعة إلى قوة واجتهاد، وهذا ما يتناسب مع حال من أعدت لهم جنة (آل عمران) فإنَّهم قد بلغوا فى التقوى مبلغاً صارت التقوى صفة لهم، وهذا لا يكون مناسباً لمن لهم سياق آية (الحديد) ولهذا كانت المسارعة فى سياق (آل عمران) والمسابقة فى سياق آية سورة (الحديد) وليس اختصاص كل منهما بما جاء فيها لأن المسارعة أسبق من المسابقة كما ذهب اليه (أبو جعفر ابن الزبير) فأعطى الأول (المسارعة) لما هو أسبق ترتيلا:سورة آل عمران، وأعطى الآخر:(المسابقة) لمن هو تالٍ ترتيلاً: سورة الحديد، كلَاّ،بل ذلك مرجعه إلى السياق الكليّ والجزئيّ فى كلٍ على نحو ما فصَّلتُ.

ص: 121

وكان جمع السموات فى سياق (آل عمران) وحذف أداة التشبيه وحذف المضاف (عرض) ؛لأنَّ فى ذلك إبلاغاً فى وصف ما أُعِدَّ للمتقين يتناسب مع سياق السورة القائم على الإبلاغ فى تحقيق الوحدانية وفى تحقيق صفات المصطفين والاتقياء، فكان نظم آية (آل عمران) يحتمل المعنَى معه إرادة الطول والعرض معًا، أيْ عرض الجنّة هذه هو طول وعرض السماوات جميعها والأرض، فلم يذكر كلمة العرض ليشمل إرادة الطول والعرض معاً مضافاً إلى أنها ليستْ طول وعرض سماءٍ واحدةٍ بل السماوات كلها، ومضافاً إلى ذلك - أيضًا - أنَّ عرض هذه الجنة ليس مقارباً أو مشابها عرض السماء والأرض كما فى سورة (الحديد) بل هو طول وعرض السموات جميعاً والأرض بل والأرضين بدلالة جمع السماوات، فالقرآن الكريم لا يجمع الأرض وإنَّما تفهم إرادة الجمع من عطف الأرض على جمع السماء: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأََرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق:12) .

***

- تكرار أو تصريف نمط تركيبى فى سياق السورة:

يكون فى بعض سور القرآن الكريم إعادةُ بعض الجمل أو الأنماط التركيبية الجزئية على نهجٍ متميِّزٍ لا يكونُ فى غيرها، ومثل هذا فيه دَِلالةٌ على إعتناء السُّورة بما يتضمنه هذا العنصر التركيبيّ المصرف أو المكرّر فيها، لما له من مزيد اعْتلاقٍ بمضمونها وسياقها الكليّ ومقصودها الأعظم، وهذا على ضربين:

ص: 122

- الضرب الأول هو التكرار النظميّ الذي تكون فيه الإعادة لنمط تركيبى بحروفه ومعناه فى سياق السورة الواحدة، كتكرار قوله سبحانه وتعالى:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} في سورة (القمر) وتكرار قوله عز وجل: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فى سورة (الرحمن)، وتكرار قوله جل جلاله {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} فى سورة المرسلات وتكرار قوله جل جلاله:(اتقوا الله) فى سورة (البقرة) وقوله عز وجل: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهذا لم يكن كذلك في غيرها، وتكرار قوله عز وجل: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} في سورة (الشعراء)، وكذلك:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .

- الضرب الثاني:

هو التصريف النظميّ الذى تكون فيه الإعاداة لنمط تركيبي ذي عدول فى بعض مفرداته أو مواقعها فى سياق السورة الواحدة، وهو ما يعرف بمشتبه النظم فى السورة الواحدة.

ومن نحو قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:33)

ص: 123

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:41)

ومن نحو قوله تعالى فى سورة الأنفال:

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال:52)

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} (الأنفال:54)

وغير ذلك جد كثير لا يخفى.

وهذا الضرب جدير باسم التصريف لما فيه من تصريف فى العبارة هو آية على تصريف فى المعنى مما يَصْرِفُه عن استحقاق اسم التكرار، فانَّه كما ذهب اليه الإمام" عبد القاهر" من أنَّه لا يكون لإحدى العبارتين مزيّة على الأخرى حتى يكون لها فى المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها

وقد تكون تلك المزيّة تقديم حرف من حروف المعانى على آخر من نحو قولك:" كأنَّ زيداً أسدٌ " وقولك " إنَّ زيداً كالأسد".

وجود هذين الضربين أو إحداهما فى سورة ما فيه دَِلالة على أنَّ ثَمَّ مزيداً من اعتلاق مضمونه بالسياق الكلي للسورة ومقصودها الأعظم.

ص: 124

وهذا الذى نقوله فى دَِلالة تكرارأوتصريف بعض عناصرالسورة وانتشارها على لا حب سياقها في وحدتها البيانية، وما يهيمن عليها من الروح السّاري في جملها وآياتها ومعاقدها إنّما يقول بمثله بعض مذاهب النقد الحديث، ونحن لا نقول ذلك إستظهاراً بمذهب نقديّ على صحة مذهب فى البيان القرآنيّ، بل لبيان أنَّ ما نذهبُ إليه هنا إنّما هو من معين الإدراك الفطريّ الرشيد للحقائق فى أى ضرب من ضروب البيان..

***

المعجم اللغوى.

لكلِّ سورة من سور القرآن الكريم معجمٌ لغويٌّ يتميز بصنفين من الكلمات ? الصنف الأول: ما توارد فيها على نحو لافت للبصر.

- والصنف الآخر ما اختصت به دون غيرها على نحو من الأنحاء: مادة أو اشتقاقاً وتصريفاً.

الصنف الأول:

يشمل المعجمُ الكلماتِ التى تنمتى إلى إسرة لغوية واحدة بحيث يكون بين تلك الكلمات قرابة دلالية قد تكون جلية حيناً، وقد تكون خفية حيناً آخر.

والأسرة اللغوية تُسْتَجْمَعُ فيها الكلمات عن طريق الاشتقاق الذى تلتقى الكلمات فيه حول جذر لغوي واحد.

ويمكن أن يجمع إلى تلك الأسرة اللغوية تلك الكلمات التى تتلاحظ معانيها، ويتجاوب، وأن لم يكن بينهما اشتقاق لغوى، كمثل كلمات التقوى والطاعة والايمان، والاحسان، الإيقان، فهى من أسرة دلاليّة متقاربة، وكذلك ما يتعلق بذلك من عبادات كالصلاة والزكاة والجهاد والقتال ونحو ذلك.

ص: 125

ولتوارد أسماء الله الحسنى فى سورة ما على نحو خاص مزيد عناية بملاحظة وتدبُّر إعتلاق معانيها بسياق ومقصود السورة التى فيها،فالله عز وجل لايقيم اسمًا من أسمائه الحسنى إلا في سياقه ليدل على ما يترادف من فيوض المعاني على ذلك السياق، فكان فقه معانى أسماء الله الحسنى ومواقعها فى الذكر الحكيم بابًا من العلم جدُّ عظيم، ولا يقوم به إلا من كان محتسبًا متخلقًا بما يليق به من معاني تلك الأسماء،فيكون له من ذلك زاد إلى زاد عرفانه العلمي يهديه إلى حسن استبصار الروح المهيمن على السورة (1)

إنَّ من السور ما اختص بكثرة ذكراسم من أسماء الله الحسنى على نحو فريدٍ،كمثل اسمه (العليم) جاء فى سورة (البقرة) إحدى وعشرين مرة، كان مفردًاغير مقترن باسمٍ آخر ثماني مرات، ومقترنًا باسمه الحكيم مرة واحدة، وباسمه الشاكر مرة واحدة، وباسمه الواسع أربع مرات، وباسمه السميع سبع مرات.

(1) - يقول "أبو الحسن الحرالّيّ" في الباب الثالث من كتابه " مفتاح الباب المقفل":

«لكلّ اسمٍ من أسمائه الحسنى بيانٌ يخصّ إقامته طورًا من أطوار خلقه تفصيلاً وإجمالا، فمن تفطّنَ إلى رتب الخطاب في القرآن بحسب أسماء الله، وأطوار الخلق وتنزلات الأمر، ورتب تنامي القلوب في الرجوع إلى الله، ورتب الأخلاق والأعمال، وما يقابل ذلك من دركات البعد والبغض والطرد واللعن فتح الله له بابًا إلى الفهم يجد به يقين تجربة إبانته ووضوح صدق إنبائه عن كنه الذوات ورتب التنزلات

»

هذا متن دقيق كثيف لطيف، نقلته لك برغم من ذلك إغراء بأنَّ في مقالات أهل العلم ما يفتقر إلى السعي إلى استنباط ما فيه من دقيق العلم وشريفه، فكم ترك الأول للآخر، وليس في علوم القرآن الكريم علم نضج حتّى احترق كما يتصايح به جمع، فينصرف طلبة العلم يائسين،إنَّ حدائق العلم رحيبة الأرجاء كريمة العطاء.

ص: 126

وجاءاسمه (الحكيم) سبع مرات اقترن بالعليم مرة واحدة، وبالعزيز ست مرات.

واسمه (الواسع) لم يتكرر في سورة غير البقرة، ولم يقترن في البقرة باسم آخر غير العليم، بل لم يقترن باسم آخر في القرآن الكريم إلا مرة واحدة باسمه الحكيم في سورة النساء:

{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً ً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} (النساء:130)

واسمه (الشاكر) لم يرد في القرآن الكريم إلا مرتين في البقرة، وآية النساء.

واسمه (الغفور) جاء فى سورة (النساء) عشر مرات وجاء فيها اسمه (الرحيم) ثلاث عشرة مرة.

وإسمه (الرحمن) جاء فى سورة (مريم) ست عشرة مرة.

وجاء إسمه (العزيز) فى سورة (الشعراء) تسع مرات

ومثل هذا الاستبصار رافد من روافد فقه الروح المهيمن على بيان السورة،فاذا مالا حظنا معه أمراً آخر هو اقتران بعض الأسماء مع بعض على نحو فريد فى بعض السور كان ذلك أيضاً معينا على معرفة معالم المقصود الأعظم، فاسمه (العزيز الرحيم) لم يأت على ذلك النحو كمثل ما جاء فى سورة (الشعراء) بل لم يرد فيها إسمه (العزيز) أو اسمه (الرحيم) ألا مقترنين مع تقديم (العزيز) على (الرحيم) على الرغم من أن الذى هو شائع فى القرآن الكريم اقتران إسمه (العزيز) باسمه (الحكيم) .

ومن الجدير بالملاحظة أنَّ كلمات الأسرة اللغوية إذا ما تكاثر تواردها فى سورة ما كان فى هذا آية على هيمنة ما تلتقى عليه تلك الكلمات دلاليا على موضوع السورة، ذلك أنَّ حشد مفردات هذه الأسرة اللغوية وتَجْييشها في سورة واحدة لن يكون عملاً عقيماً أو عابثاً، فهو تنزيل من عزيز حكيم عليم حميد.

إذا نظرنا فى سورة (البقرة) ألفينا أن فى معجمها اللغوى كلمات قد تواردت على نحو لم يكن فى غيرها، وهى مفردات تتناسل من رحم مقصودها الأعظم الذى أشرت إليه من قبل، وهى فى الوقت نفسه مفردات تتجاوب مع مفردات مطلع السورة.

ص: 127

نجد أن مفردات (الإيمان) جاءت أربعاً وسبعين مرة.

ومفردات معنى (التقوى) جاءت ستا وثلاثين مرة

ومفردات (الهدى) جاءت ثلاثين مرة

ومفردات (الخير) جاءت سبعا وعشرين مرة

ومفردات (الإحسان) جاءت اثنتى عشرة مرة.

وجاءت مفردات (الصلاة) جاءت اثنتى عشرة مرة

ومفردات (الزكاة) خمس مرات

ومفردات (الانفاق) عشرين مرة

ومفردات (الصيام) ست مرات

ومفردات (الحج والاعتمار) عشر مرات

ومفردات (القتال والجهاد) ست مرات.

ومثل هذا لم يجتمع فى سورة على ذلك النحو الفريد فى غير هذه السورة

وجاء اسم أبى الأنبياء (ابراهيم) خمس عشرة مرة وهذا ما لم يكن مثله فى غيرها

فهذه المفردات فى معجم سورة (البقرة) منبثقة من سياقها الكلي، واستبصار تلك المفردات فى دلالتها السياقية يهدى إلى معالم مقصودها الأعظم.

والصنف الآخر

هوالذى تختص به السورة دون غيرها على نحو من الأنحاء، فانَّ كثيراً من السور تختص بكلمات لا تكون فى غيرها على اطلاق الوجوه كلها، أو تختص بها من وجه دون وجه، مثل اختصاصها بها من وجه الاشتقاق دون وجه المادة أو وجه الجمع دون الأفراد....إلى آخر ذلك.

والناظر فى معجم الكلمات القرآنية يرى كثيراً منها لم يرد ذكره الا فى سورة واحدة، وبين يدى عشرات من فرائد المفردات فى الذكر الحكيم، وغير خفيّ أنَّ فى هذا الاختصاص آياتٍ بيّنةً على مزيد اختصاص معناها بمقصود سورتها، ولولا ذلك ما كان لها أن تختص السورة بها من دون غيرها، ولا سيما أن غيرها قد يرد فيها ما يتوارد معها فى معناها العام.

ومن هذا اختصاصُ بعض السور باسم من أسماء الله الحسنى فاسمه (المقيت) لم يأت إلا فى قوله سبحانه وتعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} (النساء:85)

ص: 128

واسمه (البر) لم يأت إلا فى قوله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (الطور:28)

واسمه (المليك) لم يأت إلا فى قوله جل جلاله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر:55)

وإسمه (الفتاح) لم يأت إلا فى قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (سبأ:26)

***ُ

ومما يحسن استبصاره فى هذا أسماء الجنة والنار واليوم الأخر فان بعض السور تختص باسم غير معهود من ذلك مما ينبىء عن مزيد إعتلاق بين معنى ذلك الاسم وسياقه الجزئي، فالكلي، ثم مقصود السورة الأعظم، وقد يكون فى اختصاص معنى ما بمقصود سورتها خفاءٌ يستوجب مزيد اجتهادٍ فى الاستبصار والتدبر، وان كان اختصاص معناها بسياقها الجزئى أجلى وأظهر.

إنَّ تدبر فرائد المفردات في البيان القرآني ذو عونٍ على حسن فقه المعاني الإحسانية التي بها يتصاعد العبد في مقامات القرب الأقدس

إذا نظرنا فى سورة (البقرة) ألفينا أن فى معجمها اللغوى كلمات لم ترد فى غير سورة البقرة من ذلك كلمة (يسفك) و (فاقع)(إعتمر)(العمرة)(انفصام)(صفوان)(وابل)(طل)(يتخبط)(يربي)

وإذا ما نظرت في سورة (القمر) مثلاً رأيت كلمات التي لم ترد في غير سورة القمر من نحو: (منهمر) ، (دسر) ، (منقعر) ، (أشر) ....

فهذا قليل من مفردات قرآنية خاصة بمعجم سورة "البقرة" وسورة "القمر"ولن يكون اصطفاء هذه المفردات دون غيرها، ولا سيما التى لها ما يقارب دلالتها الا إذا ما كان لهذه المفردات وثيق اعتلاق بسياقها الجزئى أولاً وبسياقها الكليّ ثانياً من أن السياق الجزئيّ عنصر من عناصر بناء السياق الكليّ للسورة الذى يهيمن عليه المقصود الأعظم لتلك السورة وأن تحدرت على لاحبه موضوعات عديدة متنوعة إلَاّ أنَّها فى تعددها وتنوعها خاضعة لسلطان روح واحد مهيمن عليها ومعدن الجمال والكمال إنَّما هو تنوع العناصر فى وحدة تسوقها إلى غاية عظمة مثلما الكون كلُّه على اختلاف أجناسه وأنواعه مسوق إلى تحقيق عبوديته لله رب العالمين الواحد القهار.

ص: 129