المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآنى - العزف على أنوار الذكر

[محمود توفيق محمد سعد]

الفصل: ‌الفصل الأول: فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآنى

‌الفصل الأول: فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآنى

***

للقرآن ثلاثة تنزلات:

التنزيل الأول: من الله سبحانه وتعالى إلى اللوح المحفوظ {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (البروج:21-22)

{بسم الله الرحمن الرحيم* حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف:1-4)(1)

(1) - يقول ابن جرير في تأويل هذه الآية: يقول تعالى ذكره: وإنَّ هذا الكتاب أصل الكتاب الذي منه نسخ هذا الكتاب [أي القرآن الكريم] عندنا لعلِيّ، يقول لذو عُلوٍ ورفعة، حكيم: قد أحكمت آيته ثُم فصلت، فهو ذو حكمة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:

عن عطية بن سعد في قول الله تبارك وتعالى {وإِنّه فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنا لَعليٌّ حَكِيمٌ} يعني القرآن في أم الكتاب الذي عند الله، منْهُ نُسِخَ. (جامع البيان في تأويل القرآن ج11ص178-179، ط: دار الغد العربي - القاهرة

ص: 25

وقد نزل القرآنُ الكريمُ جملة فى اللوح المحفوظ، وذلك اللَّوح هو الذى أودع الله عز وجل كلَّ شىء فيه:{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} (القمر:53)

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام:38)

التنزيل الثانى: من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة فى السماء الدنيا جملة واحدة فى ليلة القدر {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1)

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:185)

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (الدخان:3)

وروى الحاكم بسنده فى المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:

«فُصِلَ القرآنُ مِن الذِّكْرِ فوضِعَ فى بيت العِزَّةِ من السَّماء الدُّنيا، فجَعَلَ جبريلُ ينزل به على النبى صلى الله عليه وسلم يُرتِّلة ترتيلا» (المستدرك: التفسير – أنزل القرآن جملة واحدة – حديث رقم: 2881/10)

وروى الحاكم فى المستدرك والبيهقى فى الأسماء والصفات، والطبرانى فى (الكبير) عن ابن عباس رضي الله عنهما فى قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1)

ص: 26

قال: «أُنْزِلَ القرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ القَدْرِ إلَى السَّماءِ الدُّنيَا وَكانَ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وكانَ ينزل على رسُولِه صلى الله عليه وسلم بعضَه فى أثَرِ بعض

» (المستدرك الكتاب السابق – حديث:2878/7)

وفي تفسير "ابن جرير سورة (القَدْرِ) فيضٌ من الأحاديث الموقوفة المؤكدة ذلك المعنى.

وإذا ما كان هذا موقوفا على سيدنا " ابن عباس" رضي الله عنهما فإنَّ ما هو موقوف على الصحابى فيما لا مجال فيه للرأى كالمرفوع؛لأنَّه لن يقول صحابى فى هذا من عند نفسه بل لابد أن يكون قد سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم (1) .

التنزيل الثالث: من بيت العزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثلاث وعشرين سنة بدأت بليلة القدر: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الاسراء:106)

{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء:192-195)

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان:32- 33)

فالتنزيل الثالث كان منجَّما على حسب الأحداث والوقائع وفى هذا ضرب من ضروب التربية للأمَّة ومعالجة لأحوالها.

فكان للقرآن الكريم سياقٌ تنزيلِىّ تاريخى اقترنت فيه الآيات نزولا بملابسات ووقائع فى السياق الاجتماعى للأمَّة زمن البعثة.

(1) - ينظر: الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن ج1 ص43-47- ط: عيسى الحلبي

ص: 27

وإذ ما نظرنا ألفَيْنا النُّزول الأوَّل والثانى كان نزولا جَمْعِيًّا للقرآن الكريم، وكان النزولُ الثَّالثُ نزولاً مُفرَّقا: قد تنزلُ آياتٌ من سورة، فتَتْلوها آياتٌ من سورة أخرى قبل تمام السورة الأولى: ظلت سورة البقرة تتوالى آياتها نزولا سنوات عِدَّة، وكان فى أثناء نزول آياتها تنزل آيات سور آخرى، وكان جبريل عليه السلام ينزل بالآية وموضعها من سورتها على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم كتاب الوحى بأن توضع آية كذا فى سورة كذا مُحَدِّدًا موضعها حتَّى إذا ما تم القرآن الكريم نزولاً كانت كلُّ آيةٍ فى كل سورة فى موضعها المحكم، وكذلك كل سورة فى موضعها من النسق الكُلِىِّ للقرآن الكريم على النحو الذى هو عليه فى اللوح المحفوظ وفى بيت العزة من السماء الدُّنْيَا (التنزيل الأوَّل والثانى)

ولذا كانت العرضتان الأخيرتان للقرآن الكريم فى شهر رمضان الأخير من حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم مطابقتين فى ترتيب الآيات والسور لما هو عليه فى اللوح المحفوظ فى بيت العزة، وبذلك تطابقت صورة الترتيب الكليّ للقرآن الكريم فى أطورها التنزيليّة الثلاثة، فما بين أيدينا من صورته الترتيبيَّة آياته وسورة هو ما عليه القرآن الكريم فى اللوح المحفوظ وفى بيت العزة (1)

ولعل هذا بعض من معنى قول الله سبحانه وتعالى:

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:1)

لهذا كان للمعنى القرآنيّ سياقٌ كُلّيٌّ تقع كُلُّ سورةٍ من سُوَرِهِ على مَدْرَجَةٍ من مدارج هذا السياق القرآنى يبدأ هذا السياق بأم الكتاب التى تجمع معانى القرآن الكريم كلِّه فيها فكانت جديرةً بأن تكون أمَّ القرآن وبذلك جاءت السُّنة مؤكدة أنها (أم القرآن) وأنها السبع المثانى والقرآن العظيم.

(1) - ينظر: مقدمتان في علوم القرآن: ص 39،وما بعدها

ص: 28

روى البخاري رضي الله عنه في كتاب (فضائل القرآن) من صحيحه بسنده عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه قَالَ كُنَّا فِى مَسِيرٍ لَنَا، فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَىِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غُيَّبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ، فَبَرَأَ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَناً، فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِى؟ قَالَ: لَا، مَا رَقَيْتُ إِلَاّ بِأُمِّ الْكِتَابِ. قُلْنَا:لَا تُحْدِثُوا شَيْئاً حَتَّى نَأْتِىَ - أَوْ نَسْأَلَ - النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟!! اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِى بِسَهْمٍ» (حديث:5007)

ص: 29

وروى رضي الله عنه في كتاب التفسير من صحيحه بسنده عَنْ أَبِى سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّى فِى الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى. فَقَالَ «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ثُمَّ قَالَ لِى: لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ» . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ «لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ» ؟. قَالَ: « (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِىَ السَّبْعُ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِى أُوتِيتُهُ» (حديث:4474)

ومثله فى الموطأ للأمام مالك رضي الله عنه من حديث أبى ابن كعب رضي الله عنه ولأبى داود رضي الله عنه والدَّارمى رضي الله عنه عن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الحمد لله رب العالمين} أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى".

وأمُّ كل شىءٍ أصلُه، فهى أصل القرآن الكريم والجامعة معانيه، ولعلَّه لذلك وجب أن تقرأ فى كل ركعة من الصلاة:

روى مسلم رضي الله عنه في كتاب الصلاة من صحيحه بسنده عن عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْتَرِئْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» . (حديث:901)

ص: 30

وفى رواية له بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْىَ خِدَاجٌ - ثَلَاثاً - غَيْرُ تَمَامٍ» . فَقِيلَ لأَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ. فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِى نَفْسِكَ، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ

فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِى عَبْدِى

وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِى.

وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِى عَبْدِى - وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَىَّ عَبْدِى –

فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ.

فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ» . (حديث: 904)

فهذا دال على أنَّ قوله سبحانه وتعالى {إِيَّاك نَعْبُدُ وَإِيَّاك نَسْتَعين} هو مِحْوَرُ المعنى لأم الكتاب، وهو فى الوقت نفسه محور المعنى القرآنيّ كلّه فجميع معانى القرآن الكريم منبثقة من هذه الأية التى هى مفتاح المعنى القرآني كله. والتى كان فيها المقصود الأعظم للقرآن الكريم وهو (جمع العباد على الله جمع عبادة واستعانة)

وكانت سورة " الفاتحة " بالنسبة للقرآن الكريم كلّه بمنزلة مكة من قرى الأرض ومدتها فهى أم القرى:

ص: 31

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام:92)

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى:7)

يقول الراغب الأصفهانى:" ويقال لكلِّ ماكان أصلا لوجود شئ أو ترتيبه أو إصلاحه أو مبدئه " أمّ ".

قال الخليل: كل شئ ضم إليه سائر مايليه يسمى أما"

وقد ثبت علميا أن (مكة) هى مركز الأرض فهى أم القرى ومحور أقطارها (1) وكذلك الفاتحة هى محور القرآن الكريمِ كله والجامعة معانيه، فكلُّ معانيه مرتبطة بسورة الفاتحة وبمحورها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

ثم تأتى السور من بعدها بدأ من سورة (البقرة) لتفصل الإجمال والإحكام لمعنى القرآن الكريم الذى اشتملت عليه سورة الفاتحة، وهذا يفسِّر وجها آخر من قول الله سبحانه وتعالى:

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود:1)

فكلّ معنى في كلِّ سورة ولاسيما المعاني الكليّة وثيق الاعتلاق والانتساب إلى سورة (أم القرآن) على اختلاف درجات ظهورالاعتلاق والانتساب.

(1) - راجع مجلة " البحوث الإسلامية" ص 242 – العدد السادس سنة 1402 – الرياض

ص: 32

ولِكُلِّ سورة موقع على مَدْرَجَة سياق المعنى الكُلِّىِّ للقرآن الكريم وهى مدرجة متصاعدة، فإذا المعنى القرآني فى حركة نمَاءٍ متكامِلٍ، فكلُّ سورة تتلو أخرى يكون فيها من المعانى الكلية والجزئية ماهو مؤكِّدٌ ما سبق تأسيسُه فى السابق وتأسيسُ ما هو مُكْمِلٌ ما سبقه حتى يصل المعنى القرآني إلى ذروته فى سورة (الإخلاص) و (المعوذتين) وقد نصَّت السنّة المطهرة على أنَّ منزلة البقرة من القرآن الكريم منزلة السنام:

روى الترمزي رضي الله عنه في كتاب قضائل القرآن من جامعه بسنده عن أبي هُريْرَةَ رضي الله عنه عنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ، وإنَّ سنام القرآنِ سُورةُ البقَرَةِ، وفِيها آيَةٌ هِيَ سَيّدةُ آيِ القرآنِ هي آيةُ الكرسيّ» (حديث رقم: 2878) وفي مسند أحمد (5:26) مثله

ونصت السنة أيضا علَى أنَّ " يس " قلب القرآن الكريم:

روى الترمزي رضي الله عنه في الكتاب السابق من جامعه بسنده عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لكلِّ شيءٍ قلبًا وقَلْبُ القرآنِ يس

» (حديث: 2887) وموقعُ السورَةِ على مدرجة السياق الكلّيّ للقرآن الكريمِ به تتبين منزلة كل معنى كُلِّيّ أو جزئِى من معانيها من التأسيس والتأكيد، وبه يتمكن المرء من فقه معانى هذه السورة إذا ما ضَمَّ كل معنى كلىّ أو جزئيّ إلى شكله وقرينه من المعانى السابقة على مدرجة السياق القرآني.

وفى تحديد موقع السورة من مدرجة سياق المعنى القرآنيّ لتحديد معانيها الكلية والجزئية من التأسيس والتأكيد بعضُ من الصُّعوبة، ولاسيَّما السُّورُ التى تكون بعيدة الموقع من سورة الفاتحة فى السياق الترتيليّ إلَاّ أنَّه ممَّا ييسِّرُ الأمْرَ أنَّ كلَّ سورة لها نوعان من المعانى:

? مَعانٍ كُلِّيَّةٌ هى معاني المعاقد والنجوم التى تتكون منها السورة.

ص: 33

ومعانٍ جزئيَّةٌ هى معانى الجمل والأيات فى كل نجم ومعقِدٍ من معاقِدِ معانى السورة ونجومها.

وحين تكون السورة قريبة من سورة " الفاتحة " فأنَّه من اليسير رَدُّ المعانى الكلية والجزئية بما ترتبط به من معانى السورة السابقة عليها، بل ومن غير العسير ردّ المعانِي الكُليّة إلى ماترتبط به من سورة الفاتحة.

أمَّا السُّور التى تقارب نهاية السِّياق الترتيليّ من القرآن الكريم، فإنَّ ردَّ معاقد المعاني وهي المعاني الكليّة إلى ماسبقها كافٍ فى تِبيان موقع السورة على مدرجة المعنى الكليّ للقرآن الكريم.

وهذه المرحلة وإنْ كان فيها من الصّعوبة غيرُ قليلٍ إلَاّ أنَّ لها من الأثر والمنزلة فى فقه معنى السورة ومنهج بنائها هذا علاوة على أنَّ فيها بيانًا لتناسب سور القرآن الكريم، وذلك التناسب ضربٌ من إحكام القرآن الكريم لايقلُّ البتّة عن تناسب آيات السُّورة الواحدة.

" وهو من أبواب البلاغة العالية التى تََرُوعُ من غير أن تكون داخلة تحت مصطلح من مصطلحات مُتُونِ علم البلاغة؛ لأنَّها علاقات معان تتفق، وتختلف، وتتقارب، وتتباعد، ولها فى تقاربها وتباعدها درجات.

كلُّ ذلك بتدبيردقيق، واعتبارات، وسياقات، ومقامات منها ظاهر وخفى (1)

وهذا الضرب من العلم يمكن أن نُسْلِكَه فى الغرض الأعظم الذى أقام عليه "عبد القاهر" كتابه العظيم (أسرار البلاغة) يقول الامام رحمه الله:

(1) - شيخنا أبو موسى: من أسرار التعبير القرآنيّ ص 24-25 – ط: 1412- مكتبة وهبة

ص: 34

«وأعلم أنَّ غرضي فى هذا الكلام الذى ابتداتُه والأساسِِ الذى وضعتُه أن أتوصَّل إلى بيان أمر المعانى كيف تختلف، وتتفق، ومن أين تجتمع، وتفترق، وأفصّل أجناسَها وأنواعها، وأتتبعُ خَاصَّها ومُشاعها، وأبيّنُ أحوالَها فى كرم مَنْصيِها من العقل، وفى تمكُّنها فى نِصابِه، وقرب رحمها منه، أو بعدها - حين تُنسب - عنه، وكونها كالحليف الجارى مَجْرَى النَّسَب، أوالزَّنِيمِ المُلْصَق بالقوم، لا يقبلونه، ولا يَمْتَعِضُونَ له، ولا يَذُبُّونَ عنه» (1)

فدراسة موقع السورة القرآنية على مدرجة السياق الكليّ للمعنى القرآنيّ بها يتبَيَّن أمر المعاني اختلافا واتفاقا واجتماعا وافتراقا

الخ

وقد كان لأهل العلم عناية ببيان علاقة السورة بما قبلها، وكانت جهودهم متفاوتةً، فمنهم من يكتفى ببيان علاقة ظاهر فاتحة السورة بخاتمة ما قبلها وكثيراً ما يقف عند التشابه اللغوى، ومنهم من يتجاوز ذلك في لطف قد لا يتبين لمتعجِّل:

وأنت إذا ما نظرت في صنيع تلميذ "البقاعيّ":" الجلال السيوطي" رأيت شيئًا من هذا الذي لايتبين لمن تعجَّل.

لننظر فيما قاله " السيوطى " فى علاقة سورة (النحل) بسورة (الحجر) فى كتابه (تناسق الدرر) :

(1) عبد القاهر: أسرار البلاغة – ص:26- ط: شاكر.

يجمُل بك أن تعيد قراءة مقالة "عبد القاهر" وأن تصغي إلى وقع أجراس حروفها وحركتها، وما أقامها عليه من التعادل الصوتي الذي يملأُ الأذن، فينفذ في القلب، فيشغله بما حمله إليه ذلك الإيقاع الفخم من المعاني، وكيف أن عبد القاهر يوظف ذلك إيصالا لمراداته ومعانيه ومغازيه إلى قلبك، فيبعثه على أن يستغرق في لذة الفهم التي هي خصيصة الصفوة من أبناء آدم عليه السلام، فمن ذاق عرف ومن عرف عشق السعي في التي هي أهدى وأقوم.

ص: 35

«وجه وضعها بعد سورة الحجر أنَّ آخرها شديد الالتئام بأول هذه، فإنَّ قوله فى آخر تلك:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99) الذى هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة لقوله سبحانه وتعالى هنا: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النحل:1)

وانظر كيف جاء فى المقدمة بـ «يأتيك اليقين» وفى المتأخرة بلفظ الماضى؛ لأنَّ المستقبل سابق علىالماضى، كما تقرر فى المعقول والعربية.

وظهر لِى أنَّ هذه السورة: (أى النحل) شديدة الاعتلاق بسورة " إبراهيم" وإنَّما تأخرت عنها لمناسبة " الحجر فى "كونها من ذوات (الر)(1)

النظرة العجلَى في مقال " السيوطى " يسرِعُ إليها أنَّه لا يعدو ظاهر العلاقة ولا يتبيّن به المرء وثيق الاعتلاق بين السورتين على لاحب السياق الكلىّ للقرآن الكريم، وأنَّ دعْوَاه أنّه فُصل بين سورة "ابراهيم" عليه السلام و" النحل" وهما متأخيتان بالحجر؛ لأنّ " الحجر" من ذوات (الر) كسورة "ابراهيم" عليه السلام إنما هى دعوى لاتناسب، ولكنَّك إن تمهَّلت وتبصَّرت أمكنك أن تبصر في مقال السيوطي أمرًا لطيفًا:

لعلّك تبصر إشارة إلى أن سورة"الحجر" ذات اعتلاق بسورة "إبراهيم" عليه السلام وثيق مِنْ أنَّ كلاً مستفتح بقوله سبحانه وتعالى {الر} وهذا فيه إفادة أنَّهما شقيقتان ومن مخرج واحد وأن افتتاح سورتين بصيغة واحدة من صيغ ما يسمّى بالحروف المقطعة سيُغري القلب بالنظر فيما بين السورتين من تناسب أومأ إليه الافتتاح بهذه الصيغة.

(1) الجلال السيوطي: تناسق الدرر-ص:111 تح: عبد القادر عطا (أسرار ترتيب القرآن)

ص: 36

واعتلاق سورة" النحل " بسورة " إبراهيم" عليه السلام أيضًا جدّ وثِيق إلَاّ انَّه من وجه أخر غير وجه اعتلاق سورة " الحجر " بها، فقدمت " الحجر " من أنهما من (الر) فوجه الاعتلاق أظهره اتفاق المفتتح به في سورة " إبراهيم " عليه السلام وسورة " الحجر" ويزيد عليه ما بين سورة "الحجر" وسورة "النحل " من اعتلاق لطيف يستوجب تقديم سورة "الحجر"على سورة " النحل".

نحن مفتقرون إلى أن ننظر فيما بين سورة " إبراهيم " عليه السلام وسورة " الحجر" من جهة وسورة "إبراهيم " عليه السلام وسورة النحل" من أخرى، ولعلك إذا ما نظرت في خواتيم سورة "النحل": (ى:120- 128) وهو ذروة معناها:

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *}

ص: 37

وعلاقته بسورة "إبراهيم" عليه السلام توافد عليك من لطائف المعاني ما لم يكن لك من قبل: خواتيم النحل تجهر ببيان منهاج الدعوة لإخراج النَّاس من الظلمات إلى النور الذي أنزل الكتاب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أجله: {بسم الله الرحمن الرحيم * الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم:1)

{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (إبراهيم:52)

فعلاقة سورة (النحل) بسورة (إبراهيم) عليه السلام من جهة غير التي كانت للنحل بسورة "الحجر"، فألمح " السيوطي " إلى شيءٍ من ذلك.

والذى يقتضية المقام أن يكون النظر فى علاقة السورة بما قبلها أنفذ فى معاقد المعانى الكلية فى كل سورة بحيث تستكشف العروة الوثقى فى كل معقد من معاقد كل سورة.

يقول شيخنا: " لاشك أننا إذا درسنا ترتيب (الطواسيم) وعلاقات المعاني التي فى هذه السور الثلاث: (الشعراء، النمل، القصص) فإنَّنا واجدون - لا محالة - بابًا من أبواب البلاغة الغائبة.

ص: 38

حاول أن تستخلص قصة " موسى" عليه السلام فى السور الثلاثة وكيف تكاملت تكاملا يمتد ترتيبا بتكليف موسى عليه السلام بالرسالة وأن يأتى القوم الظالمين، بينما بدأت فى سورة " النمل" وهى السورة الثانية بقصة " موسى" عليه السلام مع أهله، وأنَّه آنس بمن جانب الطور نارا، وأنَّه سيأتيهم منها بخبر، ثُمَّ كان لقاؤه بربِّه سبحانه وتعالى واعداده للنبوة، وإظهار المعجزات له وسماعه نداء ربه عز وجل:{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (النمل:9) وألقَى عصاه ورآها تهتز، وأخرج يده إلى آخره، وهذا الجزء سابق للجزء الذى جاء فى " الشعراء "؛ لأنَّه قبل الأمر بالذهاب إلى فرعون، ثم جاءت " القصص" وهى السورة الثالثة والأخيرة فى (الطواسيم) وتبدأ بقصة " موسى" عليه السلام مع طفولته:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص:7)

وكأنَّنا مع ترتيب تنازلى يتقدم فى السورة إلى الأمام، وفى القصة إلى الخلف، وهكذا إذا حلَّلت بقية المعاني وجدت من خبرها مالا تعرف، وما يحتاج إلى تحليل وتدبر، حتى تستطيع شرح المذهب الذى يثبت عليه القصة فى السور الثلاثة.

وقد ذكرت قصة "موسى"؛ لأنَّ القصة أظهر فى الذى أريده وفى المعانى والأحكام والمواعظ والعقائد وغير ذلك من المقاصد ما فى القصة، ويجري على هذه المعانى فى تنوعها، وترتيبها، وتكاملها ما يجرى على القصة، وقل مثل ذلك فى " الحواميم "(1)

(1) - شيخنا: من أسرار التعبير القرآني – ص: 29

ص: 39

يدُلُّك شيخنا على أنَّك اذا مانظرت فى قصة سيدنا" موسى" عليه السلام فى ثلاث سور متوالية استفتحت استفتحا أطلق عليها اسم (الطواسيم) ألفيت أنَّ أحداث القصة لا تأخذ فى نهج التسلسل التاريخى الصاعد منذ الميلاد إلى الانتصار وزهق الباطل، بل تأخذ فى نهج التسلسل المعنويّ الصاعد للسور، فسورة (الشعراء) فيها مع تسلية النبى صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا،وبيان سنة الله سبحانه وتعالى فى نصر الحق وزهق الباطل إظهار البطش والنقمة لمن خالف أمر الله عز وجل،فالجوّ الغالب عليها جو الانذار والعقاب لمن كذَّب؛ ليكون ذلك فى وجة تكذيب قريش وأعوانها واستهزائهم بالقرآن الكريم:{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إلَاّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الشعراء:5-6)

وقد جعل من لوازم معاقد المعانى الكلية فى السورة قوله سبحانه وتعالى:

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الشعراء:8-9)

وقد تكرَّر فيها ذلك ثمانى مرات عقب كل مقصد:

عقب قصة موسى عليه السلام (ى/10-66) وعقب قصة إبراهيم عليه السلام (ى/123-139) وعقب قصة صالح عليه السلام (ى/141-158) وعقب قصة لوط عليه السلام (160-173) وعقب قصة شعيب عليه السلام (176-189)

ثم جاء التعقيب بقصة مكذبي قريش ومناصريهم وموقفهم من القرآن الكريم وقد تكرر اسمه (العزيز) فى هذه السورة على نحو لم يتكرر فى غيرها، فقد جاء مقرونا باسمه (الرحيم) تسع مرات (1)

(1) - الشعراء الآية:9، 68،104،122،140،159،175،191،217

ص: 40

وفى اسمه (العزيز) تتاغ مع الانذار والتهديد للمعاندين وفيه تأنيس أيضا للنبيّ صلى الله عليه وسلم مثلما فى قوله (ربك) وقوله (الرحيم) ولم يأت اسمه (العزيز) مقرونا باسمه (الرحيم) فى غير سورة (الشعراء) إلا أربع مرات:

{

يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم:5)

{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (السجدة:6)

{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (يّس:5)

{إِلَاّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الدخان:42)

وسورة النمل فيها إظهار وصف العلم والحكمه، وقد ركَّزت السُّورة على العلم: «علم الله المطلق بالظاهر والباطن وعلمه بالغيب خاصة وآياته الكونية التى يكشفها للناس، والعلم الذى وهبه لداود- عليه السلام ولسليمان عليه السلام منطق الطير، وتنويهه بهذا التعليم،ومن ثَمَّ يجئ فى مقدمة السورة:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النمل:6)

ويجيء في التعقيب: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل:65)

{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} (النمل:66)

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (النمل:74-75)

ويجئ فى الختام {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل:93)

ص: 41

ويجئ فى قصة سليمان عليه السلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} (النمل:15)

وفى قول سليمان عليه السلام: {

يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (النمل:16)

وفي قول الهدهد: {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) (النمل:25)

وعندما يريد سليمان عليه السلام استحضارعرش الملكة لايقدر على احضاره فى حركة طرف العين عفريت من الجن إنما يقتدر على هذا {الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) (النمل: من الآية40)

وهكذا تبرز صفة العلم فى جوِّ السورة تظلها بشتى الظلال فى سياقها كله من المطلع إلى الختام (1)

وقد كان استفتاح السورة بقوله سبحانه وتعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (النمل:1-2)

ولم تُستفتح سورة بمثل هذا وما جاء فى الحجر قدّم فيه" الكتاب "على " القرآن ": {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (الحجر:1-2)

ولم يذكر قوله عز وجل: {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}

(1) - ينظر: في ظلال القرآن لسيد قطب: 2625

ص: 42

وختمت سورة "النمل" بقوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل:91-93)

وجاءت قصة " موسى" عليه السلام فى هذا السياق فأصطفى القرآن الكريم منها ماتآخى وتناغى مع هذا السياق العام، فكان مبدأ القصة هنا رؤيته النار وذهابه إليها وندائه وتكليفه وايناسه بالأيات،ثُمَّ تنتهى القصّة انتهاءً سريعًا يطوى فيها ما كان بينه وبين فرعون وقومه قائلاً:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل:13 -14)

وقد جاء قوله: (مبصرة) وقوله: (استيقنتها) متناغيًا مع سياق العلم الذى كانت السورة له، مثلما جاء قوله:(جحدوا بها) كذلك.

وفى سورة " القصص" كان السياق لبيان أنَّ الغلبة للقوى الأعظم، وأنَّه لا أقوى ممن كان الله سبحانه وتعالى معه، ولذلك بدأ ببيان ذلك فى حياة سيدنا "موسى" عليه السلام من بدايتها إلى نهايتها، وانتصاره على أقوى الطواغيت ومثلِهم الأعلى:

ص: 43

بدأ ببيان قصة " موسى " عليه السلام وليدا، وانتصاره، وتسخيره لتربيته، ورعايته، وهو لا يعلم سوء عقباه على يده، وهو الذى يدَّعى أنَّه الرب الأعلى، وقصته عليه السلام فتِيًّا وقصته نبياً، ففى كلِّ حلقة من هذه الحلقات من قصة حياة سيدنا " موسى" عليه السلام آية على انتصار قوة الحق وزهقها باطل الطاغوت وقد ختم القصة بقوله سبحانه وتعالى:

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إلَاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص:36-40)

فَبِالْيَمِّ كان هلاك الطاغوت فرعون، وباليمِّ كانت نجاة موسى وليدا.

ص: 44

" لقد كانت قصة موسى عليه السلام تبدأ غالبا فى السور الآخرى لا من حلقة الميلاد حيث يقف الإيمان القوى فى وجه الطغيان الباغى ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان فى النهاية، فأمَّا هنا، فليس هذا المعنى هو المقصود،إنَّما المقصود أنَّ الشَّر حين يتمحَّضُ يحمل سبب هلاكه فى ذاته، والبغي حين يتمرد لايحتاج إلى من يدفعه من الشر، بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدَى عليهم، فتتقذهم، وتستنقذ عناصر الخير فيهم، وتربيهم، وتجعلهم أئمة، وتجعلهم الوارثين.

فهذا هو الغرض من سوق القصة فى هذه السورة، ومن ثم عرضت من الحلقة التى تؤدى هذا الغرض، وتبرزه.

والقصة فى القرآن تخضع فى طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض، فهى أداه تربية للنفوس،ووسيله تقرير لمعانٍ وحقائق ومبادئ، وهى تتناسق فى هذا مع السياق الذى تعرض فيه، وتتعاون فى بناء القلوب وبناء الحقائق التى تعمر هذه القلوب" (1)

تبين لنا بهذا كيف أنَّ موقع كلِّ سورة ومقصدها الكلى هو الذى يكون معيارًا في تناسق معانيها واصطفاء ما يدرج فى سياق كل سورة مما يفرض على المتدبِّر أن يعيَ موقع كلِّ سورة من سور القرآن الكريم فى سياق المعنى الكليّ للقرآن. (2)

وقد يكون ما هو ظاهر من السورة غيرَ بَيِّنِ الاعتلاق بما قبلها وما بعدها مِمَّا يجعل ادراك موقعها على مدرجة المعنى الكلى للقرآن الكريم إدراكًا ضعيفًا ولكنَّ التَّدبُّرَ والتَّدقيقَ يُذكى طاقات الاستبصار الرُّوحى لمعاقد المعنى فى السورة مع ما قبلها وما بعدها من السور على جادة المعنى القرآنيّ.

(1) - سيد قطب: في ظلال القرآن:2676

(2)

- هذا الذي بسطته هنا يَجْمُل بك أن تستصحب وعيه وعرفانه في الفصل الثاني القادم لأنَّه وثيق الاعتلاق به - أيضًا - من وجه آخر، واستحضارك له يغنينا عن تكلف إعادة الإشارة إليه هناك.

ص: 45

وقد كان لـ" برهان الدين البقاعيّ" عناية بهذا في تفسيره " نظم الدّرَر في تناسب الآيات والسُّور " قد لا تجد مثلها عند غيره

كان ذا عناية ببيان علائق مقاصد السور ببعضها وتصاعد معانيها منسولة من ذلك المقصود الأعظم للقرآن العظيم، كان معنيًّا ببيان ترتب مقصود السورة على مقصود التى قبلها ممَّا يعنى أنَّ التَّرابط القائم بين سور القرآن الكريم ليس ترابطًا منحصرًا في تناسب أوَّل السُّورة مع خاتمة ما قبلها، بل الأمر أكبر من ذلك.

في تبيانه مقصود سورة " البقرة " يركز على المعنى الذي هو أساس المعاني المنسولة من معنى سورة "أمّ القرآن " الذي هو إجمال معنى القرآن العظيم فهو لها كالحجر الأساس في البناء: معنى الإيمان بالغيب، يقول:

" مقصودها إقامة الدليل على أنّ الكتاب هدًى؛ ليتبع في كلّ ما قال [حال] ، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه الإيمان بالاخرة، فمداره الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصَّة البقرة التي مدارها الإيمان بالغيب، فلذلك سمِّيتْ بها السّورةُ "(1)

كلَّ آيات سورة" البقرة " ناظرة إلى تقرير معنى الإيمان بالغيب في القلوب ومن ثَمَّ كانت فيها أول صفة للمتقين صراط المغضوب عليهم وصراط الضّالين صفةَ الإيمان بالغيب (هدى للمتقين الذين يُؤْمِنُونَ بِالغَيْب

) فهذا الإيمان بالغيب هو أساس كلّ عمل صالح مصلِح، فإنَّه لامعنى البتة لأيِّ عمل صالح أو إيمان بدين إذا لم يكن ذلك مؤسسا على تقرر معنى الإيمان بالغيب

ولا يصلح الإله المعبود أن يكون مشهودًا ملموسا بل لابد أن يكون غيبا مطلقا تشهد الأبصار والبصائر دلائل وجوده ووحدانيته وكمال جلاله وجماله وقهره ورحمته

إلخ

ومن ثَمَّ كان مقصود السورة الأولى من سور تفصيل أم الكتاب: " سورة البقرة " الهداية إلى الإيمان بالغيب.

(1) - نظم الدرر:1/24 - بيروت

ص: 46

وهذا تراه جليًا في تسمية السورة بالسنام، والذروة، والفسطاط، فإنَّ الفسطاط جامعٌ لما كان منه بسبب.

وإذا ما جاء " البقاعيّ " لتبيان المقصود الأعظم من سورة (آل عمران) فإنَّه يبسط القول في هذا:

يبيّن لنا ما كان قد ظهرله أوَّل الأمر في تاويلها، فلمَّا راجع وبالغ التدبّر تبين له تحرير مقصودها على نحو آخر، وهو يبسط القول، فيبين علاقة مقصود سورة (آل عمران) بمقصود سورة (البقرة) ومقصودهما معا بمقصود سورة (الفاتحة) بل إنه ليبسط النظر أكثر، فيمدُّه إلى مقصود سورة (النساء) .

يقول:" المقاصد التي سيقت لها هذه السورةُ إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، وإلإخبار بأنَّ رئاسةَ الدُّنْيَا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئًا في الدنيا، ولا في الآخرة، وأنَّ ما أعدَّ للمتقين من الجنَّةِ والرضوان هو الذي يَنْبغِي الإقبالُ عليْهِ والمسارعةُ إليهِ.

وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار ما ينعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة.

هذا ما كان ظهر لي أولاً.

وأحسنُ منه أن نخصَّ القصدَ الأول وهو التوحيد بالقصد فيها، فإنَّ الأمرين الأخيرين يرجعان إليه، وذلك؛ لأنَّ الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة، فالقيام يكون على كلّ نفسٍ، والاستقامة العدلُ

وهذا الوجه أوفق للترتيب

لأنَّ " الفاتحة " لماَّ كانت جامِعةً للدين إجمالاً جاء ما به التفصيلُ محاذِيًا لذلك، فابتدئ بسورة الكتاب [البقرة] المحيط بأمرالدين، ثُمّ بسورة التوحيد [آل عمران] الذي هو سرُّ حرف "الحمد"، وأوَّل حروف الفاتحة، لأن التوحيد هو الأمر الذي لايقوم بناءٌ إلَاّ عليه، ولمَّا صحَّ الطريقُ، وثبت الأساسُ جاءت التي بعدها [النساء] داعيةً إلى الاجتماع على ذلك.

ص: 47

وأيضًا فلمَّا ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنَّه هدى، وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه [آل عمران] لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى (يَأيُّها النَّاسُ اعْبُدُوا ربَّكُمْ) (البقرة:21) فأثبت الوحدانية لله عز وجل بإبطال إلهية غيره بإثبات أنّ " عيسى" عليه السلام الذي كان يحيى الموتى عبدُهُ، فغيره بطريق الأوْلَى، فلمَّا ثبتَ أنَّ الكُلَّ عبيدُهُ دعت سورة" النساء" إلى إقبالهم إليه، واجتماعهم عليه.

ومما يدلّ على أنَّ القصد بها [أي آل عمران] هوالتوحيد تسميتها بـ"آل عمران" فإنَّه لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعربَ عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من أخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه، فهو التَّاجُ الّذي هو خاصَّة الملك المحسوسة، كما أنَّ التوحيد خاصته المعقولة.

والتوحيد موجب لزهرة المتحلِّي به، فلذلك سمّيت الزهراء" (1)

هذه الوحدانية هي اللبنة الثانية في أساس الإيمان؛ لأنَّه إذا تقرَّر أنَّ الإله لابد أن يكون غيبا غير منظور أو ملموس، فإنَّه أيضًا لابدَّ أن يكون واحدًا، فكما أنه يتعاند مع معنى الألوهية أن يكون الإله مشهوداً منظورًا ملموسا يتعاند أيضًا مع معنى الألوهية أن يكون الإله غير واحد؛ لأنَّ هذا يترتَّبُ عليه فسادُ الكون والحياة فسادًا يقرره منطق العقل المُعافَى من الضلالة.

التعالق بين سورة " البقرة " وسورة " آل عمران " تعالق عظيم؛ لأنّهما قائمان على أمرٍ واحدٍ هو تقرُّرُ ما هو جوهرٌ في معنى الألوهية، وما يجب أن يكون أساسًا عظيما من أسس صفات الإله المعبود بحق:

(1) – نظم الدرر:2 / 3-4 –ط: بيروت

ص: 48

أن يكون غيبا لاتدركه الأبصار، وأن يكون واحدًا ليس كمثله شيء، وهذا كأنَّه من عطف الخاص على العام.

والبقاعي كما سمعته لم يكتف ببيان تعالق مقصود سورة (آل عمران) بمقصود سورة (البقرة) بل إنَّه ليمد النظر إلى علاقة مقصود سورة (النساء) بما قبلها.

في مفتتح تأويله سورة " النساء " يبيّنُ لنا ما به يتقرر العلم ويتأكّدُ أنَّ مقصودها مبنيٌّ على مقصود " آل عمران" المبنيّ على مقصود سورة "البقرة" قائلا:

" مقصودها: الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه " آل عمران "، والكتاب الذي حدت عليه "البقرة "؛ لأجل الدين الذي جمعته " الفاتحة " تحذيرًا مما أراده " شاس بن قيس ِ" ، وأنظاره من الفرقة "(1)

وأنت إذ تنظر في الأحكام والآداب التى قامت بها سورة "النساء" ترى أنها أحكامٌ وآدابٌ تحقق للمجتمعِ الآخذِ بها اجتماعُه على أساس الدين:" التوحيد "

هذا الأساس إذا ما أقيمت عليه علائق أي مجتمع، فإنِّك لن ترى في هذا المجتمع ما تراه في غيره من المجتمعات التى لا تُؤسِّس دينها على التوحيد الخالص.

ويأتي تأويل " البقاعي " وتبيانه المقصود الأعظم لسورة " المائدة " فلا يخرج عن ذلك المنهاج، فيقول:

" مقصودها الوفاء بماهدى إليه الكتاب، ودلَّ عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكرًا لنِعَمِه واستدفاعًا لنقمه "(2)

ويقول في سورة "الأنعام ": «مقصودها: الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد بأنّه الحاوي لجميع الكمالات من الإيجاد والإعدام والقدرة على البعث وغيره»

(1) – نظم الدرر: 2/ 204

(2)

– السابق: 2 / 385

ص: 49

ويقول أيضًا من بعد تأويله مطلع السورة:

«فقد لاح أنّ مقصد السورة الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب [البقرة] الذي تبين أنه الهدى من توحيد الله [آل عمران] والاجتماع عليه [النساء] والوفاء بعهوده [المائدة] بأنه سبحانه وتعالى وحده الخالق الحائز لجميع الكمالات من القدرة على البعث وغيره " (1)

هو بهذا يريك قيام مقصود " النساء " و" آل عمران " و" البقرة " في مقصود " المائدة " وقيام مقصود تلك السورة كلها في مقصود سورة " الأنعام ".

وأنت إذ تنظر في مقال البقاعي في صدر سورة " الأعراف " تراه يبين مقصودها بما يقرر بناءه على ماقررته مقاصد السور السابقة عليها بدأً من سورة " البقرة " وما قامت عليه من دعوة الكتاب المستفتح بيانها بالإشارة إلى عظيم قَدْرِهِ (ذلك الكتَابُ لارَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)

وما قامت عليه سورة " آل عمران " من تقرير معنى التوحيد، وما قامت عليه سورة " النساء " من تقرير الدعاء إلى الاجتماع على الخير، وما قامت عليه سورة" المائدة " من الدعوة إلى الوفاء بالعقود، وما قامت عليه سورة " الأنعام " من التدليل على ماسبق قيام السور السابقة عليها (2)

وهكذا تتناسل مقاصد السور تناسلا يقوم بأمرين جليلين:

الأول: تأسيس معنى لم يكن مؤسسا في التي قبلها 0

والآخر: تأكيد ما سبق تأسيسه.

وفي كل تأكيد تأسيسٌ من وجه آخر، ولايكون التأكيد بالتكرير بل بالتصريف البياني في تصوير المعاني ذلك أن القرآن الكريم لا يقوم على منهاج التكرير العقيم المنتجه إعادة البيانِ مكوِّنًا ومكنُونًا ذلك أنَّه لايتأتى البتة تكرّر عنصرٍ مهِمّ من عناصر البيان هو ذو أثر جليل في تصوير المعنى.

(1) – السابق: 2 / 578، 580

(2)

- السابق: 3 / 3

ص: 50

ذلك العنصر هو السياق الذي يقوم فيه البيان المًعاد ذكر مُكَوّنه المرتَّل، فإذا ما تغير موقع البيان المعاد مكوِّنه المرتلّ تغير المكنون المتذوّق، فليس القائم بالمعنى المكنون في البيان هو ما يرتِّله اللسانُ بل هنالك أمورٌ أخرى لاتقِلُّ منزلة عنه.

منها السياق المقالى الذي يقوم فيه لك البيان، وذلك السياق معصوم من التناسخ، فهو كدفقة الموج في سياق ماء المحيط الزّاخر لاتتكرّر أبدًا.

والبقاعيّ ينظر في السياق الكلّيّ للمعنى القرآنيِّ فيبصرُ أنّه من منازل ومراحل ذات وجوه عدَّة

من تلك الوجوه النظر في بيان الله سبحانه وتعالى عن القرآن الكريم منزلاً ومقصدًا ،، نظر" البقاعيّ " في هذا البيان فرأى أن تفصيل (أمّ الكتاب) قد بدأ بالبقرة المستهلة بيانها عن القرآن الكريم {ذَلِكَ الْكِتَابُ لارَيْبَ فِيه هُدًى لِلْمُتَّقينَ}

وكانت التالية لمفتتح هذه المرحلة هي سورة " آل عمران " وقد أثبت فيها أنَّ القرآن الكريم حقٌّ: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بِيْنَ يَدَيْهِ} (آل عمران:3)

وأنّ السياق قد امتدَّ حتى آخر سورة " التوبة " التي هي آخر (الطول) والنازلة في شأن غزوة العُسْرَةِ: تَبُوك، وهي في غَزْوِ الرُّومِ، وكان انتهاءُ التلاوة فيها:{يأيُّها الّذين آمنُوا قَاتِلُوا الّذِين يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّار وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظةً وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقينَ} إلى قوله عز وجل {فإنْ تَوَلَّوا فَقَلْ حَسْبِيَ اللهُ لاإِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ العَظِيمِ} (التوبة:123-129)

وابتدأ البيان من بعد هذه المرحلة بسورة (يونس) عليه السلام التي هي أوَّل (المِئين) والمستهِلَّةِ بيانَها - أيضًا - عن القرآن الكريم:

ص: 51

{بسم الله الرحمن الرحيم الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} (يونس:1-2)

وكان مقصودها الأعظم " وصف الكتاب بأنَّه من عند اللهِ لما اشتمل عليه من الحكمة...."

وكانت التالية لها سورة " هود " مقصودها " وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة "

{بسم اللهِ الرحمنِ الرحيم الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبيرِ} (هود:1)

وأن السياق قد امتدّ حتّى آخر سورة " الروم" النازلة في شأن الروم،وانتصار الفرس عليهم،ووعد الله سبحانه وتعالى بنصرالروم عليهم؛ ليفرح المؤمنون، وكان انتهاء التلاوة في هذه المرحلة قوله تعالى:

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كلِّ مثَلٍ وَلَئنْ جِئْتهُمْ بِآيِة لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أنْتُمْ إِلَاّ مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الّّذِين لا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلايَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لايُوقِنُونَ} (الروم:58-60)

وابتدأ البيان من بعد هذه المرحلة بسورة " لقمان" المستهلة بيانها أيضًا عن القرآن الكريم

{بسم اللهِ الرّحمن الحيم الم * تلك آياتُ الْكِتَاب الْحكِيمِ * هُدًى وَرَحْمةً للْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكاة وَهُمْ بٍِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَّبِّهِمْ وَأُولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لقمان:1-5)

وكانت التالية لها سورة " السجدة " مقررة نفي الريب عن القرآن الكريم ومقرّرة أنّه تنزيل من ربّ العالمين:

ص: 52

{بِسْمِ اللهِ الرّحمنِ الرحِيمِ* الم * تَنْزِيلُ الكِتابِ لارَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العَالَمينَ) (السجدة:1-2)

وتنتهي هذه المرحلة بانتهاء سورة " الفتح " التي هي آخر (المئين)

فأوَّلُ كلّ مرحلة حديث عن القرآن الكريم

وآخر كلّ مرحلة سورة من سور الجهاد وانتصار الحق (التوبة- الروم- الفتح)

وتأتي سور (المُفَصَّل) المفتتحة بسورة " الحجرات " - على مذهب البقاعي – (1) والمفصّل مَنْزِلُهُ مَنْزِلُ ملخَّص القرآن، فهي كالختام لمراحل السياق الكلّي للمعنى القرآنيّ الكريم.

يقول "البقاعيّ" في مفتتح تأويله البيان القرآنيّ في سورة (لقمان) :

«مقصودها إثبات الحكمة للكتاب اللازم منه حكمة منزله سبحانه وتعالى في أقواله وأفعاله، وقصّة لقمان المسمَّى بها السورة دليل واضح على ذلك كأنّه سبحانه وتعالى لمَّا أكمل ما أراد من أوَّل القرآن إلى آخر" براءة " التي هي سورة غزو الروم، وكان سبحانه وتعالى قد ابتدا القرآن بعد " أمّ القرآن " بنفي الرَّيب عن هذا الكتاب وأنَّه هدًى للمتّقين واستدلّ على ذلك فيما تبعها من السور، ثُمَّ ابتدأ سورة" يونس "بعد سورة غزو الروم بإثبات حكمته، وأتبع ذلك دليله إلى أنْ ختم سورة الروم، ابتدأ دورًا جديدًا على وجه أضخم من الأول فوصفه في أوّل هذه التالية للروم بما وصفه به في" يونس " التالية لغزو الروم، وذلك الوصف هو الحكمة، وزاد أنَّه هدى وهداية للمحسنين، فهؤلاء أصحاب النهايات، والمتقون أصحاب البدايات

(1) - ينظر في القول بأن (الحجرات) أول المفصّل: البرهان في علوم القرآن للزركشي:1 / 245- 246،وهو مذهب ياخذ به غير الجمهور.

ص: 53

ولمَّا أثبت في" آل عمران "[التالية للبقرة التي هي أوَّل المرحلة الأولى] أنّه أنزل بالحق أثبت في" السجدة " التالية للقمان التي هي أول المرحلة الثالثة] تنزيله ونفي الريب عن أنّه من عنده وأثبت أنّه الحقُّ واستمر فيما بعد هذا من السور مناظرًا في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكّر والتَّأمُّلِ والتَّدبُّر" (1)

ويقول في مفتتح تأويل سورة (الحجرات) :

«حاصل مقصودها مراقبة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأدب معه؛ لأنَّها أوَّل المفصّل الذي هو ملخَّصُ القرآن، كما كان مقصود (الفاتحة) التي هي أوَّلُ القرآن مراقبة الله عز وجل

وابتدئ ثاني المفصّل بحرف من الحروف المقطّعة، كما ابتدئ ثاني ما عداه [المئين والمثاني] بالحرف المقطَّعة» (2)

كذلك يتبيّن تصاعد المعنى القرآني، وتصاعد المقاصد الكلية في السياق الكُلّي للقرآن الكريم، الذي هو أساس عظيم في فقه حركة المعنى القرآني على لاحب سياق التّرتيل، وهو باب من أبواب البلاغة الغنية العَلِيّة التي نفتقر إلى مزيد العناية به.

(1) - نظم الدرر: 6 / 3

(2)

– السابق:7 / 220

ص: 54

وهذا يضاف إلى منهاج آخر كثُر عند غير قليل من المفسرين: منهاج علاقة فاتحة السورة بخاتمة ما قبلها، وهو منهج جليل يضيف إلى منهاج تصاعد المقاصد وتناسل المعاني، ذلك أنَّ مقصود كلّ سورة إنَّما يستهل مفتتحها بالإعلان عنه في لطفٍ، ومن ثَمَّ تنادَى العلماءُ ببراعة استهلال السور القرآنية، ففاتحة كل سورة عنوان بليغ لطيف لما قام فيها من المقصد الأعظم والمعاني الكلية. (1)

***

وإذا ما كان النظر فى علاقة السورة بما قبلها وبما بعدها من السُّور يُبِّين موقع السورة على لا حب سياق المعنى الكليّ للقرآن الكريم، وكان ذلك النّظر قد لقى عناية كثيرة من أهل العلم، فإنَّ ثَمَّ صورةً هى أبعد مدى، وأوفر جدًى [جَدَا](2)

(1) - البلاغيون والنقاد العرب لهم اعتناء بالغ بهذا في تدبرهم البيان القرآنيَّ، وتذوقهم بيان الشعر، فقديما قال ابن المقفع: ليكن في صدر كلامك دليلٌ على حاجتك، ويعلق الجاحظ قائلا:

إنه لا خير في كلام لا يدلّ على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي قصدت، والغرض الذي إليه نزعت " (البيان والتبيين: 1/116) ولمزيد من العرفان بهذا راجع: إحكام صنعة الكلام للكلاعي: ص 66، وقانون البلاغة للبغدادي – ص 450، وتحرير التحبير لابن أبي الإصبع: 172، ومقدمة تفسير ابن النقيب: 290، والجامع الكبير لابن الأثير: 187، والمثل السائر لضياء بن الأثير: 2/223، ومعيار النظار في علوم الأشعار لأبي المعالي الزنجاني: 302، والإيضاح (بغية) 4/130، والإكسير في علم التفسير للطوفي: 225

(2)

- الجدا يكتب بالألف وبالياء كما يقول " ابن السّكيت" وكتبته أعلى بالياء ليتشاكل مع (مدى) والجَدَا: المطر العام، وفي الحديث: اللهمّ اسقنا غيثًا غَدَقًا، وجَدًا طبَقًا.

والجدا: العطية، مثل الجَدْوَى، وأنت تسمع الناس يقولون:" دراسة جدوى المشروع " أي عطاؤه ونفعه،ومثنّي الجَدَا: جَدَوَانِ وَجَديان. ولكلٍّ من (الجدَا، والجَدى) مقام، فإن أردت قوة الجدا، فالألف أدل لأنَّ أصلها الواو، وهو صوت قويّ، وإن أردت اليسر، فالف المكتوبة ياء؛ لأنَّ أصلها الياء، وهو صوت فيه سهولة وخفض.

ص: 55

هى أن تنظر فى السور التى تقاربت فواتحها؛ لأنَّ فى تقارب الطوالع آية على تقارب المقاصد، ولا سيما أن قارئ كتاب الله سبحانه وتعالى يجدُ سُورًا قد تباعدت مواقِعُها فى السياق الترتيلى إلَاّ أنَّها تقاربت فواتِحُها ومطالِعُها وإذا ما كان الذكر الحكيم من عند رب العالمين فأدْنى النظر الظنُّ أنَّ من وراء ذلك ما يُغْرِي المَرْءَ باستبصاره واستنباط ما فيه من الهُدَى والرَّحمة.

صاحب القرآن الكريم يجِدُ خمسَ سورٍ قد استفتحت بحمد الله، وقد تباعدت مواقعها: سورة الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ،وفاطر.

وقد اختلف مقتضى الحمد المذكور فى مفتتح كل، وهي جميعها مكية النزول:

- (أم الكتاب:) : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة:1-4)

- (الأنعام:){بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرّحيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) }

ص: 56

- (الكهف) : {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً (5) }

- (سبأ:){بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) }

- (فاطر:){بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) }

ص: 57

فُصِلَ بين سورة (أمّ الكتاب) وسورة (الأنعام) بأربع سور، وبين سورة (الأنعام) وسورة (الكهف) بإحدى عشرة سورة، وبين سورة (الكهف) وسورة (سبأ) بخمسَ عشرة سورة، ولم يكن بين سورة (سبأ) وسورة (فاطر) فاصل، فليس لنا إلَاّ أن نعمد إلى السعي إلى تدبر واستبصار شيء من حكمة البيان القرآني على هذا الوجه من النّسق الترتيليّ، وأسلافنا الأماجد كان منهم سعْيٌ إلى ذلك:

يقول السعد التفتازانى (ت 792) في مفتتح شرحه التلويح في أصول الفقه: الحمد يكون على النعمة وغيرها، فالله تعالى يستحق الحمد أولا بكمال ذاته وعظمة صفاته وثانيا بجميل نعمائه وجزيل آلانه

نعمة الله سبحانه وتعالى على كثرتها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولا، وإيجاد وإبقاء ثانيا

أشير في الفاتحة إلى جميع النعم، وفي "الإنعام " إلى الإيجاد وفى (الكهف) إلى الإبقاء اولاً، وفى (سبأ) إلى الإيجاد وفى (الملائكة) إلى الإبقاء ثانيًا. (1)

وهذا الذي قاله السعد فيه إجمال (2)

(1) - السعد التفتازاني: التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه لصدر الشريعة الحنفي:1/ 4 – ط: محمد على صبيح: القاهرة.

(2)

- كان " الإمام: ابو عبد الله محمد بن أحمد الخزرجي الأندلسي القرطبيّ المصري توفي بصعيد مصر سنة671هـ قد سبق "السعد" بإشارة عجلى إلى ذلك: قال في مفتتح تأويل سورة (الأنعام) : "

فإن قيل: فقد افتتح غيرها بالحمد لله، فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره "، فيقال: لأنّ لكلّ واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة،وأيضًا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون "، فانظر في قوله (من أجل عقده بالنعم المختلفة) فإنه هادٍ بإشارته إلى ما جاء " السعد" فمنحه بعضًا من البيان.

وأذكر أنّي كنت قد اطلعت على مقالة لمفسر أظن أنّه يسبق القرطبي فيها شيء من التفصيل القريب من تبيين السعد، ويخيّل لي أنه " ابو بكر بن العربي " الفقيه المالكي،ولكني لا أكاد أتيقن من ذلك الآن، ولا أذكر أين قرأت ذلك، وهذا من العيوب التي يقع فيها طالب العلم: لايقيد بعقله أو قلمه ما يقرأ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار، ولعلّى أُهْدَى إليْه إنْ شاءَ الله تَعالَى.

ص: 58

،يعمد البرهان البقاعى (ت 885 هـ) فى تفسيره (نظم الدور) إلى تفصيله مبينا احتواء سورة (أم الكتاب) على مقتضيات الحمد على كمال الذات وعلى جميع نعم الإيجاد والإبقاء.

فالحمد على كمال الذات قوله سبحانه وتعالى (الحَمْدُ للهِ) أى (أنه المستحق لجميع المحامد لا لشىء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات)

أما الإيجاد الأول في قوله سبحانه وتعالى: (رَبِّ العالَمينَ) فإنَّ الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية.

وأما الإبقاء الأول في قوله سبحانه وتعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أى المنعم بجلائل النعم ودقائقها التى بها البقاء.

وأما الإيجاد الثانى في قوله سبحانه وتعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو ظاهر (أى – لا يكون مالكا لهذا اليوم إلا إذا أوْجَدَ الخلق مرة ثانية كمثل ما أوجدهم فى الأول.)

وأما الإبقاء الثانى في قوله سبحانه وتعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى آخرها، فإن منافع ذلك تعود إلى الآخرة) .

وأما سورة الأنعام فالحمد فيها على نعمة الإيجاد الأول: ولذلك برز فعل الخلق فى مطلعها: {

خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}

ثم انتشر الحديث عن الخلق والإيجاد فى آياتها:

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:14)

ص: 59

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام:38)

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:73)

{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:79)

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام:94)

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (الأنعام:95)

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأنعام:97)

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (الأنعام:98)

ص: 60

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام:99)

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنعام:100)

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنعام:101)

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الأنعام:102)

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الأنعام:136)

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام:141)

ص: 61

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَاّعَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الأنعام:164)

فهذه السورة كثر فيها الدلالة على فعل الخلق والإيجاد، ولم يرد فى غيرها أن وصف الله نفسه بقوله (فالق) وقد ذكره مرتين متتاليتين كما أنَّه لم يرد اسمه البديع إلا فى هذه السورة:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنعام:101)

وفى سورة البقرة: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (البقرة:117)

وانظر كيف جعل فى آية (الأنعام) قوله سبحانه وتعالى {وخلق كل شىء} ولم يجعل ذلك فى سورة (البقرة) .

وإذا نظرت رأيت أن سورة (الأنعام) مكية، وقد نزلت جملة واحدة، كما عليه جمع من أهل العلم، وسورة (البقرة) مدنية، وقد نزلت في سنين عددًا (1)

ومنزل سورة الأنعام من السور المكية منزل سورة (البقرة) من السور المدنية: سورة الأنعام "نزلنت مبيّنَةً لقواعد العقائد وأصول الدين

فغيرها من السور المكية المتأخر عنها نزولا مبنيٌّ عليها، وسورة البقرة قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الإنعام، فغير سورة (البقرة) من السور المدنية مبنيٌ عليها (2)

(1) - ينظر: مصاعد النظر للبقاعي: 2 / 119

(2)

- ينظر الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي:3 /406-407

ص: 62

فسورة الأنعام المكية عنيت بحمد الله سبحانه وتعالى على نعمة الإيجاد الأول الناظر إلى قوله سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة {ربِّ العَالمين} ، وقد نظرت في مواقع كلمة ربّ في السياق القرآني، فرأيت أنه يَعظم وقوعها في الآيات المكية، وقد جاءت في سورة (الأنعام) أكثر من خمسين مرة..

ولو أنَّا جمعنا معجم كلمات سورة (الأنعام) وتبصرنا المفردات المتعلقة بالخلق والإيجاد الأول لتبين لنا غلبة معنى الإيجاد الأول على هذه السورة المكية المقررة معنى التوحيد الذي هو أساس الدين الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده.

وفى خاتمة السورة- أيضًا - تناغ وتاخٍ مع مطلَعِها المُعْلِنَ حمد الله على نعمة الإيجاد الأول:

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَاّعَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (ي:164)

{وَهُوَالَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (ي:165)

فقد ختم السورة بما به ابتداءها فإن قوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (ي:165)

هو من مَعْدِنِ قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} (الأنعام:2)

ص: 63

وقوله جل جلاله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:14)

وقوله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام:164)

هما من معنى قوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام:1)

فدلَّ هذا كُلُّه على أن سورة (الأنعام)" تتكفل بتفصيل نعمة الإيجاد الأول لجميع العالمين من السماوات والأرض وما بينهما وما فيها من آدمى وغيره المشار إليه فى (الفاتحة) برب العالمين كما تقدم"(1)

فالتحميد في الأنعام فرد من أفراد تحميد (الفاتحة) تحقيقًا لكونها أمًّا (2)

(وأما سورة الكهف) فإنَّ الحمد فيها كان على كمال ذاته (الحمد لله) وعلى نعمة الإبقاء الأول: أى الإبقاء فى الأرض بنعمة الهداية وذلك الإبقاء إنَّما يكون بالكتاب المنزل وبالنبيّ المرسل صلى الله عليه وسلم، ولذلك استفتح السورة بهذين قائلا:

(1) - البقاعي: نظم الدرر: 2 / 580 – بيروت

(2)

- البقاعي: السابق:2 / 579

ص: 64

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً *}

فنصَّ على إنزال الكتاب على عبده مقدما قوله: (على عبده) تشريفا للرسول - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - وتباينا لمنزلته، وإشارة إلى أنَّه الذى أسري بعبده ليريه من آياته، وأنّه أنزل عليه الكتاب هداية للناس إلى الحق استبقاء لهم فى الأرض دون إهلاك، ولم يجعل لكتابه عوجا، فهو المستقيم الذى لا عيب فيه مما يجعل أسباب البقاء متينة، فهو الهادي إلى كلِّ حقٍ وخير، وهو الكتاب القيم المهيمن على غيره والمقيم له ولكل من استمسك به. وغير خفِيّ أن " نظام العالم وبقاء النوع الإنساني يكون بالنبيّ والكتاب "(1)

وقد نصّ عليهما في مفتتح السورة.

وقد كثر الحديث عن أسباب البقاء الأول فى الحياة الدنيا، فذكر قصة أهل الكهف الذين كتب الله سبحانه وتعالى لهم البقاء والعصمة من الهلاك بالفتنة فى دينهم كما انتظم بهم أمر من اطلع عليه من أهل زمانهم الذين كانوا على غير هُدى من الله عز وجل فأسلموا لما عرفوا من أمرهم

(1) - السابق: 4 / 442

ص: 65

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} (الكهف:21)

وجاء الأمر بتلاوة ما أوحى فيه الهدى والحفظ: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} (الكهف:27)

والأمر بالصبر مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشى يريدون وجه

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)

ففى ذلك تعاون على البر والتقوى الذين هما من أسباب البقاء الأول وذكر قصة صاحب الجنتين وصاحبه وما أحاط بصاحب الجنتين من فنائهما لعدم إيمانه واستمساكه بالهدى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) }

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف:46)

ص: 66

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

وذكر من قصة العبد الصالح مع سيدنا موسى عليه السلام أحوال من حفظوا من الفناء والهلاك كحال أصحاب السفينة وحال الأبوين الصالحين بقتل غلامهما الطاغى الكافر استبقاء لهم على الإيمان والصلاح وحال الغلامين اليتيمين ابنى الرجل الصالح وبناء الجدار استبقاء لكنزهما.

وهذه الحلقة من قصة سيدنا " موسى" عليه السلام لم تذكر فى غير سورة الكهف على الرغم من ذكر قصته عليه السلام فى مواطن كثيرة من سور القرآن الكريم. (1)

(1) - إذا ما تأملت الأحداث الثلاثة التي كانت من العبد الصالح، وما كان من شأن سيدنا موسى عليه السلام في الاستفهام عمَّا كان من العبد الصالح، وتأملت حال سيدنا موسى عليه السلام من قبل لرأيت أنه قد كان لسيدنا موسى عليه السلام حال، وهو رضيع كمثل حال خرق السفينة: ألا ترى أنّ أمه رضي الله عنها قد ألقت به في اليم لينجو؟ أتكون بمنطق العقل البشري نجاة في إلقاء وليد في اليم؟ أتلحظ شيئًا من الإشارة إلى معنى {ِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً} .

وكان منه قتل القبطيّ كمثل ما كان من العبد الصالح قتل الغلام الكافر.

وكان من سيدنا موسى عليه السلام سقي الغنم للفتاتين دون أجر، وهو الذي كان في افتقار إلى ذلك، وهذا كمثل ما كان من العبد الصالح من بناء الجدار في قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما. وهي قد نسقت في السورة كمثل ما نسقت نظائرها وقوعًا في حياة سيدنا "موسى" عليه السلام:الأول فالأول.

تأمل هذا التقارب، وما فيه من لطائف الإشارات، ووجه البيان عنه في سورة الحمد على نعمة الإبقاء الأول، ومنزلة الفقه عن الله عز وجل وأثره في تحقيق كمال البقاء الأول.

ص: 67

وذكر من قصَّة ذى القرنين ما انتظم به من حال جميع أهل الأرض بما أقامه من الردم الحاجز بينهم وبين يأجوج ومأجوج فحفظ لهم البقاء الأول

{

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} (الكهف: من الآية98)

هذا القصص مشير إلى أسباب البقاء الأول،ولم يذكر فى غير هذه السورة وهولم يذكر معها قصة (الروح) وجعلها فى سورة (الإسراء) :

{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلَاّ قَلِيلاً} (الاسراء:85)

على الرغم من أنَّ سؤال الكافرين كان عن الثلاثة: أصحاب الكهف وذى القرنين والروح (1) فجاء حديثه عن الروح فى (الإسراء) لأنَّه به أليق وأنسب، وذكر قصة الكهف وذى القرنين هنا لما فيهما من دلالة على نعمة الإبقاء الأول بالهداية إلى الحق والصراط المستقيم.

وقد ختم السُّورة بما هو دالٌّ على ذلك -أيضا - فكان متناغيًا متآخيًا مع ما استفتحت به إذ يقول سبحانه وتعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف:109 -110)

***

(1) - ينظر: تفسير ابن كثير:أول سورة الكهف، وأسباب النزول للواحدي ص:197- ط: الحلبي 1388

ص: 68

(وأما سورة سبأ) فإنَّ الحمد فيها كان على كمال ذاته جل جلاله (الحمد لله) وعلى نعمة الإيجاد الثانى بالبعث من القبور ويوم القيامة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآ خِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فقد جاء قوله {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} دون ذكر الأول، بينما جاء فى سورة "القصص":{وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إلَاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:70)

ولم يرد ما جاء فى سورة " سبأ "من اختصاص الآخرة بالذكر فى أى سورة أخرى.

وذكر علمه بما يلج فى الأرض وما يخرج وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهذا العلم الدقيق المحيط يستلزم القدرة على البعث وقد ذكر فى السورة ما يدل على التبديل والبعث فى مواطن عديدة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (سبأ:3-5)

ويبرز سبحانه وتعالى التعجيب من حال الذين كفروا في انكارهم الإيجاد الثاني:

ص: 69

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) }

فمقصود السورة تقرير أمر الآخرة البعث والإيجاد الثاني للحساب " ولقصّة "سبَأٍ" التي سميت بها السورة مناسبة كبيرة لهذا المقصد لما فيها من الآيات الشهودية المشهودة لاسيما عند العرب على قدرته سبحانه وتعالى على الإيجاد والإعدام للذات والصفات، والتحويل لما يريد من الأحوال، والتصرّف بالحكمةِ في الإعطاءِ والمنعِ ابتداءً وجزاءً لمن شكرأوكفر"(1)

{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} (سبأ:16)

{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلَاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ:21)

{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (سبأ:26)

{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (سبأ:30)

(1) البقاعي: مصاعد النظر: 2 / 377

ص: 70

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (سبأ:31)

{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (سبأ:5)

{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} (سبأ:38)

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (سبأ:40)

{فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} (سبأ:42)

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إلَاّ نَذِيرٌلَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46)

فآيات السورة كما ترى يشيع فيها الحديث عن البعث والإيجاد الثانى وما فيه من حشر وحساب وعقاب فظهر أنَّ سياق الكلام إلى إثبات الحشر والرد على منْكرى الساعة

وقد ازداد جلاء بما ختمها به من قوله جل جلاله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ* وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ* وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (سبأ: 51-54)

***

ص: 71

(وأما سورة فاطر) فإنَّ تسْتَهِلُّها بقوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فاطر:1) دالٌ دَِلالة بيّنة على نعمة الإبقاء الثاني يوم القيامة فقوله (يزيد في الخلق ما يشاء) يتجلى ظهوره لنا أعظم ما يتجلى في الجنة؛ "لأنَّه لا شىء يعدل ما فى الجنة من تجدد الخلق، فإنَّه لا يأكل منها شىء إلا عاد كما كان فى الحال، ولا يراد شىء إلا وجد فى أسرع وقت، فهى دار الإبداع والاختراع بالحقيقة، وكذا النار {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (النساء: من الآية56) ."(1) فكانت جديرة باسم (فاطر) الدّال على كمال تحققه في الدّار الآخرة دار البقاء الثاني.

ومن أعظم ما يتجلى فيه معنى قوله سبحانه وتعالى: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } هو الدار الآخرة: دار البقاء الأخير

وقد توالت فى السورة الآيات الدَّالة على ذلك الإبقاء الثانى:

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (فاطر:7)

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر:10)

(1) البقاعي: نظم الدرر: 6 / 199 – ط: بيروت

ص: 72

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (فاطر:12)

{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ

}

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (فاطر:29)

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32)

ثم ختم السورة بما هو جِدُّ جلى فى نعمة الإبقاء الثانى بإثابة الطائع ومعاقبة العاصى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً) (فاطر:45)

يعلم الطائع، فيُثيبُه بطاعته ثوابا لا ينقطع أبدًا،ويعلم العاصى، فيجازيه بعصيانه ما يستحق.

ص: 73

بهذا تبين لنا كيف أنَّ كلَّ سورة منها قد اختصت بغيرما اختصت به الأخرى من مقتضِيات الحَمْدِ، وكيف أنّها رتبت ترتيبا مُحْكَمًا، فكانت (أمُّ الكتاب) جامعة للمحامد وكانت الأنعام للإيجاد الأول الذى يسبق الإبقاء الأوَّل الذى كانت له (الكهف) وكان الإيجاد الثانى بسورة (سبأ) وكانت آخر السور الخمس (فاطر) للنعمة العظمى والأخيرة (الإبقاء الثانى) . (1)

وبهذا يتبين لك عظيم دلالة الاستهلال على المقاصد المتصاعدة في السياق القرآنيّ، فلا يكون بِمَلْكِ أحد من العالمين أن يقدم سورة على أخرى {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: من الآية78)

(بيان الفصل بين هذه السور)

قد يكون الالتفات إلى دلالة استهلال هذه السور بالحمد ميسّرًا، فينبعث القلب إلى التبصّر والتّدبّر، غير أن من اللطافةِ بمكانٍ فَصْلَ السياق الترتيلى بين سورة (الفاتحة) وسورة (الأنعام) بأربع سور:(البقرة،وآل عمران، والنساء، والمائدة) وهي جميعها مدنية بين مكيتين

(1) - كنت قد تناولت شيئًا من القول في استهلال هذه السور الخمس بالحمد في فصل من فصول بحثي لنيل درجة العالمية (الدكتوراه) سنة: 1403هـ، وهي لمَّا تنشر في الناس بعد =? ? == فراجعه في كلية اللغة العربية بالقاهرة إن احببت، أوراجع كتابي:(الإمام البقاعي: جهاده ومنهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم) وهومنشور، وأنا أشرف الآن على دراسة للعالمية (الدكتوراه) في بلاغة القرآن الكريم في كلية اللغة العربية بالمنوفية موضوعها (براعة الاستهلال بالحمد في السور الخمس: دراسة تحليلية) يقوم لها الباحث " شحاته عبد الرزّاق " المدرس المساعد بقسم البلاغة والنقد في كلية اللغة العربية بالمنوفية.

ص: 74

وفصل بين سورة (الأنعام) وسورة (الكهف) بإحدى عشرة سورة: الأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل، والإسراء، وهي مكيّة خلا الأنفال والتوبة

وفصل بين سورة (الكهف) وسورة (سبأ) بخمس عشرة سورة مكية خلا: سورة: الحج، والنور، والأحزاب فإنها مدنية.

ولم يفصل بين سورتي (سبأ) و (فاطر) وهما معًا مكيَّتان.

حكمة الفصل وتركه من اللطافة، فيفتقِرُ المرءُ معها إلى مزيد من الاستبصار والتّدبر، وما قد ينتجه التَّدبر هو أقرب إلى لطائف الإشارات منه إلى جليّ الدَِّلالات مما يجعل مجال التغاير في فقهه مُتَّسِعًا:

فصل بين سورة الفاتحة وسورة الأنعام بأربع سور (البقرة – آل عمران –النساء-المائدة) وقد كثر فى هذه السور الحديث عن تهيئة الإنسان، ولذلك جاء الحديث عن قصة سيدنا آدم عليه السلام قبل الإنزال إلى الأرض والحديث عن تعليمه الأسماء كلها والإيمان بالغيب الذي أعلاه الإيمان بالله والإيمان بالبعث، وتعليم التوحيد الذى أشارت إليه سورة (آل عمران) الذي هو سبب الاصطفاء، وتعليم الاجتماع على أهل الدين (حواء) الذى أشارت آية سورة (النساء) وتعليم الوفاء بالعهد (العهد بترك ألأكل من الشجرة) ذلك الوفاء الذي نصت عليه سورة (المائدة) . كل ذلك كان تعليمه للإنسان الأول في الجنّة قبل الإيجاد على الأرض.

ص: 75

ثُمَّ جاءت سورة الإنعام (الإيجاد الأول) وفصل بينهما وبين سورة (الكهف) بإحدى عشرة سورة، وقد ذكر فى هذا الفاصل الإنذار والتذكير بقصص السالفين فى (الأعراف) وما بعدها،وهذا يمهِّدُ للبقاء الأول، فإنَّ الإنذار والتذكير بسنن الله سبحانه وتعالى في خلقه الطائعين والعاصين مرشدٌ إلى الصراط المستفيم المطلوب الاهتداء إليه في سورة (أمِّ الكتاب) ،وكاشِفٌ عن صراط المغضوب عليهم،وصراط الضَّالين ليُتّقى، وكاشفٌ عن صراط الذين أنعم الله عز وجل عليهم ليُقتَدَى، حتى ختمت بسورة (النحل) سورة النعم والآلاء العامة المفاضة من اسمه (الرحمن) وسورة (الإسراء) سورة النعمة الخاصة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المفاضة من اسمه (الرحيم) وقد ختمها بقوله سبحانه وتعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الاسراء:111)

إشارة إلى أنَّه مما ينبغى أن يختم المرء وجوده بالحمد وبأعلى ما يكون من خصال الدين.

وفصل بين سورة (الكهف) سورة الإبقاء الأول وسورة (سبأ) سورة الإيجاد الثانى بخمسَ عشرةَ سورةً كان التأكيدُ فى هذه السور الفاصلة على أمرين:أهل وده وصفائه، ومهلة البرزخ، فقد أكثر من ذكر الموت وما بعده من البرزخ، ولم تذكر كلمة البرزخ بمعنى ما بين الموت والبعث إلا في سورة (المؤمنون) :{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون: من الآية100)

ص: 76

وقد تكرَّر الحديث عن الموت فى هذه السور الفاصلة على نحو ظاهر، وصدرت سور منها بالحديث عن الموت والبعث: سورة (الأنبياء، والحج) وجاءت سورة (سبأ) تتلوها سورة (فاطر) دون فاصل، لأنَّه ليس بين (الإيجاد الثاني: سبأ) والإبقاء الثانى: (فاطر) مهلة، فلم يقتضِ المقامُ الفصلَ بينهما. (1)

وهذه الإشارة الإجمالية لمقضيات الفصل وعدمه بين السور المفتتحة بالحمد تفتقر إلى مزيد من التفصيل في بحث مستقل مبسوط؛ لتبين لنا مقدار صحة هذا التصور في حركة التّدبّر، فإذا ما تجلَّت معالم ذلك زاد العِرفان التفصيليّ، وانتقلنا من طور المعرفة الإجمالية إلى طور المعرفة التفصيلية بأنَّ ترتيب السور على لاحب السياق القرآنى كُلِّه إنَّما هو فى غاية الإحكام والاتساق وأنَّ كلَّ سورة لها موقعها على مدرجة السياق القرآني لا يتأتى التقديم والتأخير، فيكون في هذا دفعًا لمقالة الذاهبين إلى أن ترتيب بعض السور اجتهاد، وليس توقيفًا،وهم يعتمدون في هذا على قرائن لا تثبت عند المناقشة والمناقدة (2)

(1) - راجع في هذا البقاعي: نظم الدرر ج4ص442-443 (مفتتح تفسير سورة الكهف)

ومما يحسن النّظر فيه العلاقة التوافقية بين سورة (الأنعام) و (سبأ) وسورة (الكهف) و (فاطر)

ليستبصؤر ما بين محاور المعنى في كلّ من التوافق والتكامل.

(2)

- في كتابي: الإمام البقاعيّ جهاده ومنهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم عرضت لشيء من مناقشة ذلك، ولك أن تبحر في الأسفار التي تناولت ذلك بالبسط والتحقيق من ذلك: تفسير المحرر الوجيز لابن عطية:1/34-35،والبرهان في ترتيب سور القرآن لأبي جعفر بن الزبير – ص:182،والبرهان في علوم القرآن للزركشي:1/257،والإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1 / 177، وتفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور: القدمة الثامنة ج 1 ص86، ومناهل العرفان في علوم القرآن لمحمد عبد العظيم الزرقاني: 1 /353،

وهذا الأمر نفتقر فيه إلى دراسة علمية بلاغية جامعة تحيط بمقالات أهل العلم في الأسفار المخطوطة والمطبوعة وتدرس مواقف العلماء نفيا وإثباتًا دراسة نقدية، وتحلل مناهج القائلين بالتوقيف في تبيانهم وجوه التناسب، وتقيم الأصول العلميَّة التي يحسن الاعتماد عليها في تأويل بلاغة ترتيب سور القرآن الكريم في سياقه الترتيليّ.

ومثل هذا المشروع العلميّ لا يقوم ببعض حقه قليل من الباحثين في مرحلتي التخصص والعالمية بل هو مستوجب ثلّة من الجادين المحتسبين من أهل الاختصاص بعلوم القرآن الكريم وبلاغته من قسم التفسير وعلوم القرآن في كلية أصول الدين وقسم البلاغة في كلية اللغة العربية.برعاية جامعة أو مركز علمي عالٍ.

ص: 77

إنَّ استبصار موقع السورة في السياق الكلّي لترتيل القرآن الكريم معين على استكشاف حركة المعنى فيها مبدأ ومنتهى واستكشاف علاقة المعانى الكلية والمعانى الجزئية فيها بما سبقها وبما سيتلوها تأسيسا وتأكيدا وإجمالا وتفصيلا

الخ.

ومثل هذا وان كان مستصعبا أو مظنونا أنَّه عقيم غير مُجْدٍ كما يتسارع إلى قذفِه بعض الأساتذة في وجوه طلاب العلم (1)

(1) - درج بعض الأساتذة إذا ما سأله طالب علم عن موضوع ما أن يلقي في وجهه بأن ذلك موضوع عقيم، وأنه قد استهلك قولا أوبحثًا، يقول ذلك دونما دراسة جادة ونظر محيط ثاقب فيما يحكم عليه بالعقم، والأمر أعظم من ذلك، فخير لطلاب العلم أن يستكشفوا الموضوعات بأنفسهم، ولا يستسهلوا الاعتماد على مشورة من لا يعرف خطر المشورة في مثل هذا.

أنا لا أعرف أنَّ هنالك موضوعًا عقيما إذا ما أنزل طالب العلم عليه سبحات غيثه التفكيريّ والتدبري، كلّ موضوعات العلم أرض نقيّة تقبل الماء الطهور فتنبت الكلأ والعشب الكثير. المهم أن يصيبها الغيث من سماء قلب طالب العلم النّافع. ولذا لا ارى وجها لما درجت عليه أنظمة الدراسات العليا في الجامعات من منع تسجيل دراسة في موضوع سبق تسجيله من سنين عديدة. لا أظنّ أنَّ هنالك من يمكنه أن يوفيّ أيّ موضوع حقّه وإن كان شيخ الشيوخ في عصره فلا يبقى من الموضوعِ الكثيرُ المفتقرُ إلى حقّه من النظر والمباحثة والمفاتشة.

ينبغي أن نعيد النظر في مثل هذا، بل ينبغي أن نأذن لأكثر من باحث العمل في موضوع واحد في وقت واحد تحت إشراف أستاذين مختلفين منهجًا وثقافة، فإنَّ ذلك يمنحنا فيضًا عظيمًا من العلم النافع، ولو أن الأمر بيدي في مثل هذا لعملت على تحقيقه، ولكن لا يطاع لقصير أمر.

ص: 78

، فإنَّ من يقترب من شاطئ قاموسه المحيط الذي لا تتراءى شطآنه يدرك بل يوقن أنَّ فقه بناء المعانى وتصويرها فى القران الكريم يلزم صاحبه التّبَصُّرَ والتّدبّر فيما كان عليه حال بناء هذا المعنى وتصويره فى سورة سبقت على جادة السياق الترتيلى وفى سورة لاحقة لها فى ذلك السياق ومثله لا يَُرَى إلا بتحقيق فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآنيّ تلك المدرجة التى هي في حقيقتها مدارج ارتفاع الروح فى رياض المعنى القرآني كله تضارعها مدارج إرتقاء صاحب القرآن الكريم يوم القيامة فى مدارج الجنة حين يقال له " أقرأ وارتقِ ورتِّلْ كما كنت تُرَتِّلُ فى الدنيا، فإنَّ منزلتك عن آخر آية تقرأها) . (سنن أبي داود: الصلاة- أبواب الوتر)

وقد جاء فى (شعب الإيمان) للبيهقى من حديث أم المؤمنين "عائشة" رضى الله عنها وأرضاها مرفوعا (عدد درج الجنة عدد آى القرآن فمن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة)

ص: 79