الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
بعد سقوط الشيوعية تحول الإسلام إلى عدو استراتيجي للغرب باعتراف نصر حامد أبي زيد (1) ومحمد أركون (2).
فلم يجد سلاحا أمضى من سلاح العلمانية لإزاحة الإسلام وزعزعته من المجتمعات الإسلامية والحد من هيمنته على الحياة العامة للمسلمين، وتحجيم دوره وتهميشه داخل جدران المساجد والزوايا، وتحويله في النهاية إلى نوع من الفولكلور أو التراث الشعبي.
فجُندت وحشدت جحافل من العلمانيين العرب للقيام بدور الطليعة الأولى والنيابة عن الغرب في نشر المشروع الحضاري الغربي.
ولا تعدو العلمانية في تقديري أن تكون واجهة للرجل الأبيض المتفوق، ومقدمة لهيمنة الحضارة الغالبة وتركيع باقي الحضارات.
وقد بين العلماني تركي علي الربيعو كيف سعى الخطاب الغربي عموما إلى إبراز تفوق الرجل الأبيض أو قل تبرير التمركز الأوربي عن طريق تبرير المعجزة الأوربية الحالية بأنها تستند إلى معجزة عريقة في تاريخ البشرية ألا وهي المعجزة الإغريقية، وبالتالي تبرير العرقية والعنصرية (3).
(1) دوائر الخوف (55).
(2)
قضايا في نقد العقل الديني (202).
(3)
أزمة الخطاب التقدمي (160).
من هنا جاء تبرير الاستعمار، وأن الرجل الأبيض المتفوق حضاريا يسعى إلى تحضير وتحديث الشعوب المتخلفة ونقلها إلى جنته.
وقد ظل الفكر الحداثي «هو الفكر الذي أُوكل إليه أو أوكل إلى نفسه مهمة إعادة تركيب النسيج الثقافي الاجتماعي العربي والإسلامي وفقا لنموذج أرقى، النموذج الغربي المكتمل للتاريخ للثقافة للمجتمع للعلمنة للدولة الأمة» (1).
وحاولت جوقة العلمانيين العرب القفز على هذه الحقائق وتسويق علمانيتهم كفهم تنويري تجديدي للإسلام، مرفقة ذلك بهجمة شرسة على الإسلام وأصوله وأحكامه، وتصوير مخالفيهم من العلماء الرسميين والإسلاميين بمثابة قطيع أو حثالة من الناس دوغمائيين متحجرين متزمتين لا عقلانيين متعطشين للدماء، خارج التاريخ وفوق الواقع.
والنقد في الخطاب العلماني دائما يتوجه إلى «الأنا» أي: إلى ذلك الموروث الثقيل الخرافي المكبل للحركة وللتقدم. وينسى أو يتناسى ذاك «الآخر» الغربي المترصد الباحث عن الهيمنة والسيطرة والإلحاق الحضاري. فالتراث هو الشيطان الأكبر، بل والوحيد، وهو الظلام الدامس الغارق في كل أصناف الرجعية والتخلف. والنور الوحيد والأمل الوحيد هو ذاك الغرب بفكره التنويري الحداثي، ولا يهم أنه هو الذي احتل أرضنا ونهب ثرواتنا وقسم بلادنا ولازال يعرقل حركتنا ويساند عدونا ويتآمر على مصالحنا.
والعلمانية ليست فصل الدين عن الدولة فقط كما يروج عدد من العلمانيين تسترا وتزييفا، بل هي كما سيأتي مفصلا فلسفة عامة للوجود، لها رؤية
(1) الخطاب العربي المعاصر (14).
للكون وللإنسان، تعتبر فيه الإنسان مركزا رئيسا ووحيدا لهذا الكون، ولا مكان فيها للماورائيات والغيبيات والأساطير الدينية. والتي تتحول إلى شيء فردي وشخصي شأنه شأن الأكل والشرب واللباس.
فيما سعى آخرون إلى الاستنجاد بالدين نفسه وبعلومه ورموزه وتاريخه، حتى زعم حسن حنفي أن الإسلام في جوهره علماني (3).
بينما فضل علماني آخر القول بأن العلمنة بدأت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
وزعم آخر أنها بدأت بمجيء الدولة الأموية.
(1) المفترون (246).
(2)
في العلمانية والدين والديمقراطية (125).
(3)
حوار المشرق والمغرب مواقف (58)(ص 80 - 90). واعتبر الجابري هذا قفزا على مسألة العلمانية وأنه طرح لا يحل المشكل.
وزعم آخرون أن التاريخ الإسلامي عرف نماذج علمانية فقط كالمعتزلة والفلاسفة وابن مسكويه وابن خلدون وابن عربي وآخرين (1). وهذا رأي محمد أركون وغيره.
وأكد كثيرون أن العلمانية لم تعرفها البلدان الإسلامية إلا مع الاستعمار، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
و «بذريعة مواجهة التطرف ظهرت في العقدين الأخيرين «ميلشيات» ضمت نفرا من المثقفين كانت مهمتهم ومازالت محاولة قطع الطريق على تقدم المسيرة الإسلامية بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وبشكل أساسي فإن الذين انخرطوا في تلك الميلشيات كانوا خليطا من غلاة العلمانيين والماركسيين وغيرهم من الذين نجحت حملات التعبئة في تخويفهم من الإسلام والمسلمين، أو الذين استقرت في أعماقهم كراهية الاثنين، ووجدوا أن مكانهم الطبيعي هو في معسكر «الضد» الرافض لكل ما هو إسلامي» (2).
وقد نجح الخطاب الرسمي في استقطاب أعداد هائلة من العلمانيين وجيشهم في صفه، مستثمرا موجة العداء للإرهاب، وبث في روعهم أن الخطر الداهم هو خطر الإسلاميين، ولذلك أصبحت ترى كيف أن المثقف التقدمي الماركسي الذي كان بالأمس يزعم مناصرة الطبقة الكادحة والمستضعفة كيف تحول إلى بوق من أبواق مَنْ هُم في نظره قوى رجعية تعادي التقدم.
(1) وإذا استثنينا الفلاسفة أو بعضهم لا تسلم لأركون ومن معه تلك المزاعم. وللعلمانيين تعلق شديد بالمعتزلة ظنا منهم أن كل الصيد في جوف الفرا، كما يقول المثل، لقلة خبرتهم بمذاهب الاعتزال.
(2)
المفترون (6).
فغدت حرية التعبير وتأسيس الأحزاب والجمعيات حكرا على الطائفة العلمانية، أما الإسلامي فهو الخطر الداهم.
إنها الديمقراطية الانتقائية أو ديمقراطية الاستثناءات.
لقد اختار كثير من العلمانيين الماركسيين الانحياز إلى الأنظمة المستبدة واختاروا أن يدعموها بتبرير سياستها تجاه الإسلاميين وابتلاع خطاياها وتحسين صورتها. لأنه بعد فشل مشروعهم وجدوا أن التعلق بأهداب الأنظمة الحاكمة بذريعة الدفاع عنها ضد الخطر الأصولي باب يكسبهم بعض الشرعية ودور يفتعل لهم قضية (1).
ولهذا لم تكن العلمانية يوما ما خيارا شعبيا ولا تتمتع برضى جماهيري، بل هي قرينة التسلط السياسي وانعكاس لمصالح بعض الفئات العلمانية النخبوية المتسلحة بمخالب الدولة، ثم بحماية القوى الخارجية (2).
وغالبا ما غازل الساسة العرب التيار العلماني لتشاركهم في مصالح فئوية ونخبوية ضيقة، وكره متطرف للآخر الإسلامي.
كان أغلب العلمانيين التونسيين يمثلون الطابور الخامس لحكم الطاغية ابن علي الذي أطاح به الشعب التونسي.
فعبد المجيد الشرفي ومحمد الشرفي وعبد الوهاب المؤدب والعفيف الأخضر وغيرهم من التونسيين لم يجدوا أمامهم من يستحق النقد والتجريح إلا
(1) المفترون.
(2)
في العلمانية والدين والديمقراطية.
القرآن والسنة وعلوم المسلمين وأحكام الشريعة وصحابة رسول الله وعلماء الأمة على مر التاريخ.
ولم يسلم من عضاتهم ونهشاتهم إلا الطاغية ابن علي وزبانيته. بل كان الثاني منهم وزيرا في حكومته.
وقد انكشف للعالم الآن بعد الثورة التونسية حجم الفساد والطغيان والقهر والظلم والتسلط التي كان يتمتع بها النظام التونسي الديكتاتوري الذي روج له الإعلام العلماني العالمي والمغربي بمثابة النظام العلماني الناجح، بل دعا كتَّاب الأحداث المغربية والاتحاد الاشتراكي عندنا في المغرب إلى استيراد النموذج التونسي وتعميمه.
ولذلك فأنا دائما أنبه إلى أن حراس الهيكل العلماني وسدنته غالبا ما يغطي بعضهم على بعض ويسكت بعضهم عن جرائم بعض، مهما قمع وقتل وسفك، ما دام يذب عن الهيكل.
والطغمة العلمانية الفاسدة سياسيا وماليا واجتماعيا تساندها وتبارك خطواتها مليشيات علمانية فاسدة فكريا وسياسيا ودينيا.
وأكثر العلمانيين في تناولهم للإسلام محكومون بسلف وبرؤية حاقدة مسبقة. كما سيأتي.
ويغلب على كتابات كثير منهم طابع التشنج والتصميم الإيديولوجي القبلي والجاهز، الرافض للآخر والمصمم على إقصائه وتهميشه، بل تصويره كحثالة من الذباب الهائج، كما سيأتي تفصيله في محله.
ولنؤجل الكلام عن سيد القمامة القمني الآن فهو فارس هذا الميدان بلا منازع، ولنختر علمانيا جزائريا يُسَوق له العلمانيون على أنه مؤرخ الفكر الإسلامي، إنه محمد أركون.
يظهر جليا لمتتبع كتبه وأبحاثه أنه محكوم برؤية استشراقية مغلفة بغلاف النقد التاريخي العلمي.
فهو كغيره من العلمانيين يكن عداءا عميقا وجذريا للإسلاميين، بل ولرجال الدين والعلماء والفقهاء على مر العصور، لكن هو أكثر عدائية مع الإسلاميين.
وعامة كتبه وخاصة «قضايا في نقد العقل الديني» مليء بالتهجمات الرخيصة، وطافح بأطنان من التهم البئيسة والاتهامات المجانية الخسيسة، ولا يفرق بين إسلامي وآخر، فالكل متطرفون دوغمائيون دمويون.
بينما نراه إذا ذكر أستاذه بلاشير ونحوه من الغربيين والمستشرقين انْحَلَّت حُبْوَتُه وانطلق لسانه كالسيل الجارف تمجيدا وتبجيلا.
بل الأكثر من هذا كتب في الكتاب (229) مقالا مطولا حول التسامح واللاتسامح. وفي نفس الكتاب كان نصيب الإسلام قرآنا وسنة وفقهاء: اللاتسامح. وكال لهم مختلف أنواع الاتهامات من مثل: إن الإسلام عنيف ويؤصل للعنف من خلال مصدره الرئيسي القرآن، وخاصة سورة التوبة.
فهو من جهة يؤصل لثقافة التسامح مع الآخر، ويعاتب القرآن والسنة لإشاعتها ثقافة اللاتسامح. ومن جهة يمارس اللاتسامح مع دينه وقرآنه وسنته تحت ستار النقد التاريخي.
فهو ليس معنيا بالتسامح مع غرمائه التقليديين، وإنما عليهم هم أن يتسامحوا معه ومع اليهود المحاربين والغاصبين وسندهم الدائم النصراني.
ثم أين التسامح في الفكر العلماني الحداثي عموما، ولا منهج له في دولنا إلا الاستئصال والنبذ والإقصاء؟
وأين التسامح في العلمانية الفرنسية مع أبناء بلده الجزائر لما كان تحت الاحتلال؟
وأين التسامح فيما يجري في العراق وأفغانستان وفلسطين؟
أليست العلمانية هناك هي القاتلة الناهبة المستعمرة؟
أين التسامح لما كانت الشيوعية تبيد الملايين، وتحول المساجد إلى اصطبلات؟
أليست فرنسا العلمانية داعما مركزيا للصهيونية العنصرية؟
كان العلمانيون يهدفون إلى توجيه ضربات موجعة للإسلام وعقائده وعلومه ورموزه عبر ترسانة ضخمة من المفاهيم والآليات النقدية الغربية.
لكن أثبتت التجارب والملاحظات فشل هذا المشروع التغريبي، وثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه كلما زادت جرعات العلمنة في المجتمع زادت قوة التدين، وأن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه (1). مما يؤكد ما قاله جماعة من الغربيين إن الإسلام يشكل استثناء في قبول العلمنة.
(1) قال فرانسوا بورجا في كتابه الإسلام السياسي: إن مقدار ضغط الغرب على المسلمين هو نفسه مقدار صحوة المسلمين مرة أخرى. الجديد في المخطط الغربي تجاه المسلمين (38).
مشكلة التيار العلماني أنه مصمم لرؤية واحدة ذات هدف واحد. يجعل من ديننا مشكلة، فلا يرى فيه إلا ظلامية وتطرفا وعنفا وتخلفا ورجعية، بينما يتغاضى عن جرائم أولياء نعمته.
فالعسكر الذي يتحكم في الجزائر، ومن خلفه فرنسا، التي تتحكم في مصائر شعوب إفريقية عديدة، وتتدخل فيها تدخلا سافرا وتحول دون تقدمها ونهضتها وتدعم الديكتاتوريات فيها التي تحتاج إلى ترسانة أركون الجزائري الضخمة من المناهج لسبر أغوارها وتفكيكها وفضحها. علما أن دينه المعشوق «العلمانية» هي السبب في جميع تلك الجرائم.
ألم تكن فرنسا لما احتلت الجزائر وقتلت وشردت ونهبت علمانية إلى النخاع؟.
قتل ونهب ودعم للظلم والطغيان والاستبداد، كل ذلك في صحيفة العلمانية التي احتضنت أغلب العلمانيين وربتهم على عينها ودججتهم بالأسلحة الفلسفية والمعرفية، وجَيَّشت معهم مُطَّوعين للإجهاز على ما تبقى من القوة الحضارية للمسلمين المتمثلة في هذا الدين العظيم (1).
(1) وبهذه المناسبة أدعو الباحثين الإسلاميين إلى تأسيس علم جديد اسمه علم الاستلاب الفكري، يهدف هذا العلم إلى دراسة الاستلاب الغربي للعقول العربية والإسلامية وتدجينها لخدمة مشروعه الحضاري التغريبي، والبحث في مناهجه وأساليبه وطرقه وأهدافه ومخططاته وتاريخه، بدءا من زعيم التغريب رفاعة الطهطاوي ومرورا بطه حسين وقاسم أمين وانتهاء بأبناء السربون أركون وحنفي وغيرهم ..
وقد دلت الشواهد التاريخية العديدة والوثائق المنشورة أن العلمانية سلاح غربي للهيمنة ومقدمة للغزو الفكري والإلحاق الحضاري والتبعية الثقافية وذوبان الهوية، أو لنقل بعبارة أدق كما سماها بعض الكتاب: العمالة الحضارية.
وإن التجديد الذي يزعم العلمانيون أنهم يمارسونه للدين ليس أكثر من عملية نقل أو سطو على ما هو شائع في الثقافة الغربية الوضعية، وعرضه في الساحة الثقافية العربية والإسلامية على أنه إبداع أصيل (1).
الأمر الذي جعل العلمانيين يتحولون إلى أسرى للغزو الفكري، ينظرون بنظارات غربية سميكة لا ترى في ديننا وحضارتنا وتاريخنا إلا صورا كربونية للحضارة الغربية ودينها وتاريخها (2).
ولو أزالوا تلك النظارات من أعينهم لتبين لهم أن الشريعة الإسلامية تمثل الطاقة المحركة للأمة نحو التحرر الوطني والعزة الوطنية والقومية، وصمام الأمان نحو التمايز الثقافي والحضاري، الذي يكرس التنوع والتعدد، لا الذوبان والتبعية والإلحاق الحضاري للحضارة الغربية (3).
والعلمانية هي الرمز لاستسلام الأمة الإسلامية لخيار التبعية للغرب الاستعماري والذوبان في الحضارة الغربية الوضعية المادية (4).
(1) العلمانيون والقرآن (637).
(2)
الغزو الفكري وهم أم حقيقة (87).
(3)
الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (8).
(4)
نفس المرجع.
وقد عبر العلماني اللبناني علي حرب عن هذه الحقيقة بقوله عن منجزات الفكر الغربي: لأننا نتغذى منه، بل نحن ثمرة من ثمراته. الممنوع والممتنع (231).
فالنموذج الغربي المحتذى يسكن في تلافيف دماغ المثقف العربي يمنعه من رؤية واقعه ويدفعه للتفكير وفق النموذج المحتذى (1).
وسيأتي مزيد بسط في محله لهذه المسألة إن شاء الله.
ولكن لننقل الآن ثلاثة نقول هامة في هذا الصدد:
الأول: قال المستشرق جب في كتابه «حيثما يتجه الإسلام» : إن جعل العالم الإسلامي غربيا، أو حمله على حضارة الغرب لا يتوقف على المظاهر الخارجية للتقليد والاقتباس، بل يجب علينا أن نبحث عن الآراء الجريئة والحركات المستحدثة التي ابتكرت بدافع من التأثر (2) بالأساليب الغربية، وينتهي إلى ضرورة خضوع العالم الإسلامي لقيم الغرب وعاداته. ويقول: المدارس والمعاهد ليست إلا خطوة في الطريق (3).
والثاني: قال السيناتور الأمريكي جوزيف ليبرمان المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات الأمريكية سنة 2000م: إنه لا حل مع الدول العربية والإسلامية إلا أن تفرض عليها أمريكا القيم والنظم والسياسات
(1) الحركات الإسلامية (124).
(2)
في المطبوع: التأثير. ولعل الصواب ما أثبت.
(3)
تهافت العلمانية (17).
التي نراها ضرورية. فالشعارات التي أعلنتها أمريكا عند استقلالها لا تنتهي عند الحدود الأمريكية بل تتعداها إلى الدول الأخرى (1).
والثالث: في كتاب الأقليات بين العروبة والإسلام لمحمد السماك (ص 57 - 59) أن فلاسفة الاستعمار الفرنسي ومنظروه أعلنوا أن الأسلحة الفرنسية هي التي فتحت البلاد العربية، وهذا يخولنا اختيار التشريع الذي يجب تطبيقه في هذه البلاد!. . ويجب فصل الدين الإسلامي عن القانون المدني. . وحصر الإسلام في الاعتقاد وحده. . والحيلولة دون اندماج العادات والأعراف في الشرع الإسلامي، ليتيسر دمجها في القانون الفرنسي بدلا من القانون الإسلامي (2).
ومن ناحية أكد جمع من الكتاب الغربيين والعرب العلمانيين أن الإسلام يمثل استثناء فريدا في الممانعة ضد العلمنة، وأنه رغم الهجمة الاستعمارية الشرسة والحملات التغريبية المتعددة والدعم اللامشروط للمليشيات العلمانية، ظل الإسلام عصيا على أي اختراق علماني باعتراف العلمانيين كما سيأتي بيانه في فصل خاص إن شاء الله.
مما أوقع العلمانية في أزمة ومأزق حقيقي حتى صارت مرادفة للكفر والإلحاد عند جماهير الناس، وشاع في الإعلام والجرائد والمجلات ومراكز البحوث والأوساط السياسية مقابلة الإسلام بالعلمانية والإسلاميين بالعلمانيين.
ولهذا سارع عدد منهم إلى محاولة التمظهر بالتدين وأن هدفهم فقط هو إبعاد الدين عن أي استغلال سياسي.
(1) الغرب والإسلام (84) نقلا عن صحيفة الأهرام في 16/ 01/2002.
(2)
الغرب والإسلام (73).
في حين فضل آخرون تجاوز هذا المصطلح لما ارتبط به من حمولة إلحادية معادية للدين. وأبرز من مثل هذا التيار هو الجابري، الذي فضل مصطلح الديمقراطية والعقلانية بدل العلمانية (1).
لكن لا تعدو المسألة أن تكون مناورة مكشوفة من الجابري. وقد بين العلماني اللبناني علي حرب في نقد النص (126) أن مراد الجابري عدم إثارة حفيظة الإسلاميين وحسب.
وفضَّل عبد العلي بنعمور استعمال مصطلح الزمنية بدل العلمانية، لأن العلمانية تحمل فكرة عقائدية مادية بارزة (2).
واقترح سعد الدين إبراهيم إبدال مصطلح «علماني» إلى «مدني» ، و «إسلامي» إلى «ديني» (3).
وكذا نقل نصر أبو زيد عن إخوانه تفضيل مصطلح «التنوير» و «الليبرالية» وغيرها على مصطلح العلمانية (4).
واستحسن عبد الله العروي مصطلح «دنيوي» أو «معاملاتي» أو «سلطاني» بدل علماني (5).
(1) في نقد الحاجة إلى الإصلاح له (83)، ومواقف (34)(ص 17 - 85 - 103 - ) ومجلة اليوم السابع، باريس عدد 22 آب 1988.
(2)
العلمانية مفاهيم ملتبسة (244) وقدر العلمانية في العالم العربي (58).
(3)
الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين (31).
(4)
التفكير في زمن التكفير (34).
(5)
السنة والإصلاح (211).
ولم تثمر هذه المحاولات شيئا يذكر، بل ظلت العلمانية مصطلحا ذا حمولة سلبية، زيادة على ذلك تحولت إلى مفهوم متحجر مغلق ونهائي، وتصلبت وتخشبت مفاهيمها حتى تحولت إلى أصنام وأوثان هامدة كما سيأتي بيانه في محله.
وهكذا كل فكر متسلط عبر التاريخ، فقد كانت الماركسية تزعم أنها الحقيقة العلمية الوحيدة، وأنها أرقى ما وصل إليه العقل البشري، وما عداها أفكار رجعية متخلفة.
وهكذا يرى جمع من العلمانيين أن العلمانية حتمية غير قابلة للنقاش (1)، فوق تاريخية ومطلقة، فإما العلمانية وإما الجحيم (2).
وهذا ما تنعاه العلمانية على الأديان.
ولهذا أحس جمع من العلمانيين بالمأزق الذي وصلته علمانيتهم فتحدثوا عن أزمة العلمانية أو ما بعد العلمانية، أو ما بعد الحداثة.
وكالعادة جاء النقد من الغرب، فما كان على المقلِّدين إلا الإتباع.
ومن أكثر العلمانيين نقدا لمأزق العلمانية العربية علي حرب وتركي علي الربيعو، وقليلا كمال عبد اللطيف، وقد عبر الأخير في كتابه التفكير في العلمانية (5) عن الالتباس الكبير في مفهوم العلمانية، ووصفه بأنه من أكثر مفاهيم الفكر السياسي العربي التباسا، سواء على مستوى اللفظ والرسم والجذر اللغوي، أو
(1) اعتبر أركون العلمانية حتمية وإجبارية لأنها مسألة تخص المعرفة. العلمنة والدين (10). ولفؤاد زكريا مقالة بعنوان: العلمانية ضرورة حضارة، في مجلة قضايا فكرية ع 8/ 1989.
(2)
لما سئل نصر أبو زيد: هل العلمانية ضرورية للمجتمعات العربية؟ قال: هي أو الموت. قدر العلمانية في العالم العربي (53).
على مستوى الدلالة المباشرة أو الدلالات المختزنة ضمن تلافيف طبقات معانيه العديدة المترسبة بفعل الزمان.
وقبل أن نختم هذه المقدمة لابد من التأكيد على الحقائق التالية:
الأولى: إذا كانت العلمانية حلا لمشاكل المجتمعات الغربية فإنها لما قطعت عن سياقها وشروطها أصبحت هي نفسها جزءا من المشكلة في المجتمعات العربية والإسلامية، بل هي المشكلة ذاتها، لأن الظروف غير الظروف والشروط غير الشروط والذهنيات مختلفة والحضارة مختلفة.
فلم نجن منها إلا البطالة والفقر والظلم والاستبداد ولم تنجح العلمانية في إخراجنا من تخلفنا، بل زادته عمقا وتعقيدا.
ولطالما سوق الإعلام الغربي والعربي والمغربي نموذج تونس باعتباره نموذجا علمانيا ناجحا واعدا. فجاءت الثورة البوعزيزية لتكشف الغطاء عن التضليل الإعلامي والضلال العلماني: دولة استبدادية قمعية بوليسية وتدهور اجتماعي وفساد إداري، والقائمة طويلة.
وطالما هتف العلمانيون بنموذج تركيا، التي لم تحس بنعمة الرفاهية والتقدم إلا في ظل حكم العدالة والتنمية الإسلامي.
قال أركون عن التجربة العلمانية التونسية: إنها تستحق أن تُستعار وتُقلد وتُعمم وتُرسَّخ في مجمل بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط (1).
(1) نحو نقد العقل الإسلامي (186).
وماذا عن حقوق الإنسان يا ابن السربون؟ أليس النظام الذي تريد أن تعممه علينا نظاما بوليسيا قمعيا استبداديا باعتراف المنظمات الفرنسية التي توجد بين أظهرها وتكتب في كل وقت عنه؟.
انظر كيف يتغاضى العلمانيون بعضهم عن بعض، فالهم الإيديولوجي فوق حقوق الإنسان والحريات العامة، أو لنقل إن العلمانية مقدسة وفوق كل الاعتبارات، وما دامت ستطبق فلا يهم بأية وسيلة، ولا بأس أن تكون على أشلاء الناس وجثثهم فضلا عن حقوقهم وآدميتهم.
وكانت العلمانية الفرنسية وعلى رأسها ساركوزي أكبر داعم للطاغية ابن علي، طوال 23 عاما. ولزمت الصمت طوال 23 يوما من القتل والقمع إبان الثورة.
وقد أدان مجموعة من السياسيين والحقوقيين الفرنسيين هرم السلطة السياسية الفرنسية العلمانية تواطؤهم مع الطاغية.
ولأن العلمانيين لا أيمان لهم، رفض ساركوزي استقبال صديقه الجلاد ابن علي، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} الحشر16 (1).
والثانية: إذا كانت محاكمة العلماء في محاكم التفتيش من أهم الأسباب التي أفرزت العلمنة في الغرب، فإنه لم يحاكم عالم لبحوثه العلمية في التاريخ الإسلامي باعتراف العلماني محمد أركون في تاريخية الفكر العربي (25).
(1) كتبت هذا قبل ثورة تونس، ثم جاءت ثورة تونس وأسقطت الطاغية وأعوانه إلى الأبد، وتحررت المساجد من قمع نظامه، وتصاعدت الحركات الإسلامية، وعادت البلاد إلى أهلها.
وقد شجع الإسلام العلم وطلبه، ولم يعرف تاريخه معارضة البحث العلمي الجاد. وقد نَعِم العلماء المسلمون بحرية مطلقة في بحوثهم خلال القرون السالفة في ميادين البحث المختلفة.
أما الكنيسة فكانت ترى أن الجهالة أم التقوى.
وإذا كانت الاكتشافات العلمية مضادة للتعاليم المسيحية المحرفة التي لا تمثل عقائد عيسى عليه السلام. فديننا بخلاف ذلك، فقد عضدت الاكتشافات العلمية ما دل عليه القرآن والسنة من حديث حول نشأة الأرض والكواكب والسحاب والأجنة وغيرها، كما هو معروف، حتى نشأ علم جديد يسمى علم الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وله رجاله ومؤلفاته ومؤتمراته، يشارك فيها المسلمون وغيرهم.
ولقد رماه العلمانيون عن قوس واحدة، وسخروا منه واستهزؤوا من رموزه، لأنه يهدم أصلا أصيلا من أصولهم، ألا هو تاريخية النص الديني. كما سيأتي تفصيله في الجزء الثاني عند حديثنا عن موقف العلمانيين من القرآن الكريم إن شاء الله تعالى.
وقد تواطأ العلمانيون على إدانته والتنقيص من قيمته، فأركون مثلا في تاريخية الفكر العربي (199) اعتبره من الأدبيات الإسلامية التبريرية التبجيلية، وقال: إن هذا خطأ يجب أن يدان فورا.
أما خليل عبد الكريم فأزعجه كثيرا وجود هذا العلم (1).
(1) الأعمال الكاملة (195).
ولهذا لم ير بأسا هو والقمني (1) في اختراع المغالطات حوله، فزعما أن علماءه يدعون أن في النصوص المقدسة سائر النظريات العلمية التجريبية والإنسانية التي ظهرت وتظهر وسوف تظهر إلى يوم القيامة (2).
وليس في المسلمين من يقول هذا، ولكن هذه سِلْعة المُفْلس. والقوم لا هَمَّ لهم بشيء اسمه كذب وافتراء، لأن علمانيتهم لا تهتم بهذه الأمور الإيمانية. وكلنا نعلم أن هذه الفرية من بنات أفكارهم ومما عملت أيديهم. ولا يوجد عالم واحد يقول إن كل النظريات المكتشفة في القرآن والسنة، ولكن يقولون: إن الله أودع في كتابه إشارات لبعض الحقائق العلمية من باب الحجة ومن باب إقامة البراهين المناسبة لهذا العصر لإظهار كون هذا الكتاب من عند الله وأنه حق.
فكل ما في الأمر أن القرآن والسنة اشتملا على حقائق علمية معينة إظهارا لإعجازه المستمر إلى يوم القيامة وتثبيتا لإيمان أهله.
والعجيب أن علماء غربيين في شتى التخصصات اعترفوا للقرآن والسنة بذلك، وشارك عدد منهم في مؤتمرات هذا العلم. ولكن الطابور الخامس يشكك ويهمز ويلمز.
وقال خليل عبد الكريم بعد أن ذكر أن عرب الحجاز كانوا في الدرك الأسفل من السلم الحضاري وأن محصولهم من الطب والفلك وغيرها كانت مجرد معارف، وإن تلك البيئة من المستحيل عقلا أن تنبثق عنها نصوص تحمل نظريات علمية، لأن فاقد الشيء لا يعطيه (3).
(1) انتكاسة المسلمين (26 - 35).
(2)
الأعمال الكاملة (218) والإسلام بين الدولة الدينية (8 - 9 - 10).
(3)
الأعمال الكاملة (195).
كان علماء السنة قديما يقولون عن الجهمية: إنهم يدورون على أنه لا يوجد إله في السماء.
وهكذا العلمانيون في تقديري، يتحدث خليل عبد الكريم عن القرآن والسنة بمثابتهما إفرازا ثقافيا لعرب الحجاز في القرن السابع، لا أن إلها في السماء يعلم السر وأخفى هو الذي أنزله. وهذه هي حقيقة «تاريخية النص» كما سيأتي تفصيله في الجزء الثاني.
وهذا عادل الجندي يقول: بل إن هناك من أدعياء الدين ممن يقومون بدور المشعوذ والساحر بصورة بارعة (راجع ما يقوم به خبراء الإعجاز العلمي في القرآن)(1).
وقال أشرف عبد القادر: وأتعجب من جريدة الأهرام المصرية كيف تسمح للمشعوذ زغلول النجار أن ينشر أكاذيبه وهذياناته عن الإعجاز العلمي في القرآن الذي هو كذب وقح على القرآن والعلم معا (2).
وجزم أبو زيد بأن النصوص الدينية ليست نصوصا مفارقة لبنية الثقافة التي تشكلت في إطارها بأي حال من الأحوال (3).
من هنا يستحيل عند أبي زيد الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن، لأنه ما دام نصا لغويا فيجب بحثه داخل إطار الثقافة التي تشكل فيها لا
(1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (320) وقدر العلمانية في العالم العربي (133).
(2)
العلمانية مفاهيم ملتبسة (10).
(3)
النص والسلطة (92) وانظر (145) منه.
خارجها، قال: وأي حديث عن الكلام الإلهي خارج اللغة من شأنه أن يجذبنا شئنا ذلك أم أبينا إلى دائرة الخرافة والأسطورة (1).
يتظاهر هنا أبو زيد بمثابة الناصح الأمين الحريص على عدم تحويل القرآن إلى خرافة وأساطير، مع أنه هو وإخوانه هم الذين طالما اتهموا القرآن بتضمنه الخرافات والأساطير.
لكن ما يسكت عنه أبو زيد ويضمره هو أن الإعجاز العلمي في القرآن سيقضي على مفهوم تاريخية القرآن التي يدور عليها مشروعه ومشروع إخوانه.
لأن القرآن إذا كان أخبر عن نظريات علمية لم تكن في عصر إنتاجه وتشكله حسب عبارة أبي زيد، إذا فالقرآن بهذا الاعتبار يلغي تماما الحديث عن تاريخيته، وبالتالي فهو نص مفارق فوق بشري.
وهذا يهدم الصرح العلماني بأسره.
وأما سيد القمامة فقد سخر في معظم كتبه من الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، منها: انتكاسة المسلمين (25 - 26)، وحجة القمني أمران:
1 -
إن القرآن كتاب إيمان وليس كتاب تكنولوجيا ورياضيات وبيولوجيا.
2 -
لماذا لم يكتشف المسلمون أيا من هذه النظريات اعتمادا على القرآن والسنة (2).
(1) نفس المرجع.
(2)
انتكاسة المسلمين (26).
وليس من همنا الآن بيان تهافت هذا الطرح. ونؤجل ذلك إلى بحوث قادمة إن شاء الله.
والثالثة: نَعَم للحداثة التقنية ولا للحداثة الفكرية الفلسفية.
الحداثة التقنية لها ارتباط بالترفيه المادي والتحديث الآلي، وليست لها أبعاد أيديولوجية ولا فلسفة حياتية، ولا أفكار مسبقة.
بينما الحداثة الفكرية مرتبطة تمام الارتباط بنظرة وجودية وفلسفة للحياة وموقف من الآخر سواء كان هذا الآخر دينا أو مذهبا أو حضارة أو شخصا أو غيره.
والحداثة التقنية يتفق عليها كل الناس. وهي جوهر الرقي والتقدم والازدهار. ولهذا فاليابان مثلا لها حداثة تقنية هائلة مع حفاظها على هويتها وأديانها المعروفة.
ويحاول العلمانيون خلط الحداثة التقنية بالحداثة الفكرية الفلسفية، وإيهام الجماهير بأن كل معارض للحداثة فهو ضد التحضر والتقدم.
مع أن الفرق واضح بين الأمرين.
والحداثة التقنية والعلمية شيء، والحداثة الفكرية الفلسفية التي تعني في الأصل إقصاء الدين من المجتمع وإبعاده عن المشاركة شيء آخر.
والحداثة الأولى مرحب بها من قبل الجميع، والثانية مقبولة كنيسيا وغربيا، ومرفوضة إسلاميا.
فمن الممكن كما قال رفيق عبد السلام في كتابه «في العلمانية والدين والديمقراطية» (125) الخروج من دائرة الروابط التقليدية الموروثة مثل رابطة القبيلة والطائفة والمذهب لصالح الانتماء الحديث، والانتقال من نمط الإنتاج
التقليدي إلى النمط الحديث، والتحول من عالم الريف والبادية إلى المدينة المفتوحة، دون أن يكون ذلك مشفوعا بالضرورة بانتقال نحو ثقافة العلمنة أو القطع مع التصورات والمسلكيات الدينية على نحو ما تدعي نظريات العلمنة غالبا.
وقد اعترف محمد أركون في نحو نقد العقل الإسلامي (270) بالفرق بين الحداثة الفكرية والثقافية، والحداثة المادية والتكنولوجية والمعلوماتية وأن الأولى تثير اشتباه رجال الدين، والثانية تثير شهيتهم.
ورغم وضوح هذه الحقيقة للأعمى والبصير، فإن علمانيا مثل القمني (1) اعتبر أن العلمانية أنتجت العلوم التقنية والطب الحديث والسيارات الفاخرة والطائرة، وقضت على الكوليرا والسل وغيره. بينما الأديان لم تفعل شيئا من ذلك رغم طِبِّها النبوي وغيره (2).
بهذه البساطة، بل الضحالة يكتب، مع وضوح الفرق بين العلم الذي لا علاقة له لا بدين ولا مذهب ولا شيء. وبين العلمانية كموقف سياسي واجتماعي واقتصادي مناهض للدين.
ومن أَلِف القمامة واعتاد عليها ليس من السهل عليه التفريق بين الإنتاج العلمي الذي يقوم به المتدين وغيره وبين الموقف الفلسفي.
ولكن لا بأس أن نسوق له خبرا هاما كتبه علماني مثله يلقمه أحجارا لا حجرا واحدا:
(1) الذي لم أر في العلمانيين أكثر احتقارا للشريعة وسخرية من أهلها وحملتها منذ الصحابة إلى هذه العصور منه.
(2)
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية له (282 - 283).
قال محمد الشيخ في «ما معنى أن يكون المرء حداثيا؟» (14 - 15): وبعد هذا، هذان رجلا دين كانا وراء أعظم ثورتين حداثيتين في مضمار العلم: القس النمساوي جريجور يوهان ماندل (1822 - 1884) الذي يقف وراء الثورة الجينية الحديثة، وذلك بوسمه واضع قواعد التوارث وضوابطه، والقس البلجيكي جورج هنري لوميتر (1894 - 1966) الذي يقف وراء الثورة الكوسمولوجية الحديثة، وذلك بوصفه أول من قال بنظرية الانفجار الأعظم، وعانى ما عاناه من زراية خصومه به، بما فيهم العالم الكبير ألبير اينشتاين بعد أن اتهموه بأنه استملى نظريته من عقيدته الدينية استملاء، مستندا إلى القول التوراتي: في البدء كان النور
…
ثم زاد وقال (15): فقد ثبت لدى المحققين من أهل النظر إمكان أن يكون الدين مفهوما الفهم الدقيق العميق ملهم الحداثة، وذلك بحسب ما بينه العلامة الاجتماعي الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير عن البروتستانتية وروح الرأسمالية. انتهى.
أقول هذا وأنا أعلم أن القمامي يصعب عليه فهم ما هو خارج دائرة التقمم. لكنه عبرة لغيره.
والحاصل أن التقدم العلمي والتقني والرفاهية والتحضر شيء، ورفض الدين أو قبوله شيء آخر. فقد يحصل التقدم العلمي التكنولوجي في ظل مجتمع علماني، وقد يحصل في ظل مجتمع متدين وخاصة الإسلامي لعدم معارضته للبحث العلمي.