الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هنا تفجرت فلسفة الأنوار العلمانية كحركة تصحيحية للدين المسيحي وإرجاعه لطبيعته الأولى الذي أخرجته الكنيسة منها بجعل ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
«الأمر الذي جعل سجن الدين في الكنيسة وفي الضمير الفردي ثورة تصحيح ديني، وليس عدوانا على الدين» (1).
أما في تاريخنا الإسلامي فكانت هناك سلطة سياسية واحدة تستمد مشروعيتها من بيعة العلماء والفقهاء والكتاب والوجهاء.
وكان العلماء والقضاة جزءا من الشعب ومرجعا له في القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها في تناغم وتجانس تام.
ولم يعرف تاريخ الإسلام سلطة دينية من جهة وأخرى سياسية.
5 - السبب الخامس: الحروب الدينية
.
«العلمانية لم تكن نتاج مطارحات فكرية هادئة أو مجرد تعبير عن رغبة مزاجية عنت لبعض الأفراد أو المجموعات الفكرية والسياسية، بقدر ما كانت عبارة عن حل عملي فرضته أجواء الحروب الدينية التي شقت عموم القارة الأوروبية في القرنين السادس والسابع عشر.
(1) نفس المرجع (20).
(2)
الإسلام والعلمانية وجها لوجه (50).
فالعلمانية كانت في صورتها العامة عبارة عن تسويات تاريخية فرضتها أجواء الحروب الدينية، مما جعل من غير الممكن استمرار الوضع على ما هو عليه، أو العودة به إلى ما قبل مرحلة الحروب الدينية» (1).
أدارت الكنيسة البابوية حروبا دائمة ولا هوادة فيها ضد من أسمتهم هراطقة الداخل وضد وثنيي وكفرة الخارج (2).
مرت أوروبا على امتداد (130) سنة (1559 - 1689) أي منذ ظهور الحركة البروتستانتية في الشمال الأوروبي ثم محاولة امتدادها نحو الوسط، بحالة واسعة من الاضطرابات السياسية والحروب الدينية المفزعة (3).
لذلك وفي ظل هذا الجو القاسي المفزع كان لابد من الخلاص من هذا الكابوس المرعب.
في حين كان الإسلام عامل راحة وطمأنينة لجميع المسلمين، ولم يَقُد رجال الدين فيه حروبا دينية، ولم تعش البلاد الإسلامية رعبا باسم الإسلام.
والحاصل أن العلمانية الأوروبية كانت رد فعل لصكوك الغفران والحرمان والطغيان الكنسي ومظالم الحكومة الدينية المتحدثة باسم الله، والتي اعتبرت كل ما لم يرضه رجال الكنيسة مخالفا للإرادة الإلهية (4).
وكانت ردة فعل للحروب الدينية التي أفزعت أوروبا وأقلقت راحتها.
وقد اعترف جمع من العلمانيين بأن العلمانية نبت غربي محض، خارج إطار التطور الطبيعي لبلادنا الإسلامية:
(1) في العلمانية والدين والديمقراطية (26).
(2)
نفس المرجع (27).
(3)
نفس المرجع (27).
(4)
انظر تهافت العلمانية في الصحافة العربية (74).
منهم العلماني التونسي المتطرف عبد المجيد الشرفي، وهذه عبارته: إن العلمانية قد ظهرت أول ما ظهرت في المجتمعات المخالفة لنا في الدين ولم تنشأ من رحم مجتمعاتنا ومن تطورها الذاتي (1).
واعترف شريف حتاتة أن العلمانية في الغرب نتجت من خلال الصراع بين الرأسمالية الناشئة والإقطاع المدعوم من طرف الكنيسة الكاثوليكية، وأن هذا الصراع لم يحدث في البلدان العربية (2).
وهذا علماني راديكالي آخر يقر بأن العلمانية ولدت في سياق آخر وتاريخ آخر غير تاريخ الشعوب الإسلامية، وأنها إنتاج غربي تم فرضه مع الاستعمار. إنه محمد أركون (3). وهذا اعتراف هام.
وهذه علمانية بنت أحد علماء السوء الذين استغفلهم الغرب وصنعهم بيده فباعوا دينهم بدنياهم: إنها ماجدة بنت رفاعة الطهطاوي.
فحسب ماجدة فإن العلمانية دخلت مع الاستعمار (4). بل زادت المسألة إيضاحا فأقرت أنها نتيجة لتحولات تاريخية، كما حدث في أوروبا، لكنها ظهرت إما كنتيجة لقرارات علوية، وإما كاستجابة للضغوط الخارجية أو الاثنين معا، لذلك لم يكن لها مرتكزات اجتماعية في داخل المجتمعات العربية (5).
(1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (129).
(2)
نفس المرجع (103 - 104).
(3)
قضايا في نقد العقل الديني (212).
(4)
العلمانية مفاهيم ملتبسة (327 - 328) وقدر العلمانية في العالم العربي (141).
(5)
نفس المرجع (328) وقدر العلمانية في العالم العربي (141).
بل زادت الاعتراف اعترافا فقالت: وإنما جاءت نتيجة عدوان خارجي وإخضاع المجتمعات العربية لاحتياجات التراكم الرأسمالي في المركز الأوروبي المسيطر (1).
وأكد محمد سبيلا العلماني المغربي على التميز الواضح بين الحالة الغربية والحالة العربية وأن بلادنا لم تعش حروبا طاحنة بين الفرق الدينية التي جاءت العلمانية حلا لمشاكلها. بينما لم نشاهد هذه الظاهرة في العالم العربي والإسلامي. ولم يظهر كهنوت متحالف مع الإقطاع (2).
ووضَّح سبيلا أنه لا يجد أي حرج عندما يقول: إن المجتمع العربي الإسلامي غير مستعد الآن لطرح إشكالية علمنة المجتمع (3).
وغنى العلماني المغربي أحمد عصيد خارج السرب وقفز فوق الحقائق، ضاربا عرض الحائط للثوابت التاريخية أن العلمانية جاءت مع الاستعمار فزعم أن العلمانية هي سيرورة تاريخية من داخل المجتمعات العربية واستشهد بأن أجداده الأمازيغ رغم أنهم كانوا ينصبون إماما للصلاة، ففي شؤونهم الدنيوية كانوا يحتكمون إلى أعرافهم وعقولهم وقوانينهم الخاصة (4).
وأنا على يقين أنه هو نفسه يعلم أن هذا كذب وتزوير للتاريخ، فلا زال المغاربة بشتى أطيافهم يحتكمون إلى شريعة الإسلام طيلة حكم الدول الإسلامية التي تعاقبت على المغرب إلى أن جاء المستعمر.
(1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (329).
(2)
نفس المرجع (228).
(3)
نفس المرجع (231) وقدر العلمانية في العالم العربي (45).
(4)
العلمانية مفاهيم ملتبسة وقدر العلمانية في العالم العربي (149).
وسنعود لهذه (العصيدة) التي ادعاها عصيد في رسالة مفردة نفند فيها مزاعمه ومزاعم غيره في هذا الباب.
ولكننا نهمس الآن في أذنه بهمستين:
الأولى: ولماذا وجد الظهير البربري إذن؟ ولماذا قاومه المغاربة جميعا؟ أليس لأنه أراد التفريق بين العرب والأمازيغ في الحكم وأن الشريعة خاصة بالعرب، بينما يحتكم البربر إلى قوانين خاصة، فثار المغاربة جميعا عربهم وبربرهم ضد العلمانية الاستعمارية وسياستها. فلو لم يكن الأمازيغ يحكمون بالشريعة لما ثاروا ضد الوافد الجديد.
أليست هذه (العصيدة) امتدادا لتلك السياسة الاستعمارية؟
والثانية: يكفي عصيد أن يراجع ما قاله عدد من رفاقه في مفاهيمهم الملتبسة، في تنصيصهم على دخول العلمانية مع الاستعمار، وقد نقلت له أقوالهم، وأزيد هنا نقلا واحدا لشاكر النابلسي الذي يمارس نوعا من الدعارة الفكرية، فكتب يمتن للمستعمر الغازي الذي أنقذه من الشريعة بفرض العلمانية، بما في ذلك غزو بوش للعراق، الذي اعتبره فتحا مجيدا.
قال: العلمانية العربية لم تفشل، بل على العكس من ذلك فمنذ مطلع القرن العشرين وبفضل الاستعمار البريطاني والفرنسي للمنطقة العربية، تم تبني العلمانية الاقتصادية أو البنوك الربوية، وفصل الدين عن الاقتصاد، وكذلك بفضل هذين الاستعمارين تم تبني العلمانية في السياسة
…
وتم جزئيا فصل الدين عن الدولة ولم يبق من الدين في الدولة والدستور غير نص (دين الدولة