المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: طغيان رجال الكنيسة - العلمانية وموقف الإسلام منها

[حمود الرحيلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأول: في تعريف العلمانية ومفهومها

- ‌المبحث الأول: تعريف العلمانية في اللغة والاصطلاح

- ‌المبحث الثانيالتضليل والخداع في تسميتها

- ‌المبحث الثالثمراحل العلمانية أو (صورها)

- ‌الفصل الثاني: أسباب ظهور العلمانية وآثارها في الغرب

- ‌المبحث الأول: أسباب ظهور العلمانية وظروف نشأتها في الغرب

- ‌المطلب الأول: طغيان رجال الكنيسة

- ‌المطلب الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم

- ‌المطلب الثالث: الثورة الفرنسية

- ‌المطلب الرابع: نظرية التطور

- ‌المطلب الخامس: طبيعة التعاليم النصرانية

- ‌المطلب السادس: دور اليهود

- ‌المبحث الثانيآثار العلمانية في الغرب

- ‌الفصل الثالثالإسلام يتنافى مع العلمانية

- ‌الفصل الرابع: عوامل إنتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي وآثارها السيئة علية

- ‌المبحث الأول: عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي

- ‌المطلب الأول: انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة

- ‌المطلب الثاني: الاستعمار الغربي والشرقي

- ‌المطلب الثالث: الغزو الفكري

- ‌المطلب الرابع: المستشرقون

- ‌المطلب الخامس: المنصرون

- ‌النطلب السادس: الأقليات غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية

- ‌المطلب السابع: تقدم الغرب الهائل في مضمار العالم الإسلامي

- ‌المطلب الثامن: البعثات إلى الخارج

- ‌المبحث الثانيآثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي

- ‌الفصل الخامسموقف الإسلام من العلمانية

- ‌المبحث الأولحكم الإسلام من العلمانية

- ‌المبحث الثاني: عمد وقواعد العلمانية وتفنيدها

- ‌المبحث الثالث: التطبيق العلمي للإسلام

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المطلب الأول: طغيان رجال الكنيسة

‌الفصل الثاني: أسباب ظهور العلمانية وآثارها في الغرب

‌المبحث الأول: أسباب ظهور العلمانية وظروف نشأتها في الغرب

‌المطلب الأول: طغيان رجال الكنيسة

الفصل الثاني

أسباب ظهور العلمانية وآثارها في الغرب

المبحث الأول

أسباب ظهور العلمانية وظروف نشأتها في الغرب

ويشتمل على ما يلي:

أولاً: طغيان رجال الكنيسة:

لقد عاشت أوروبا في القرون الوسطى فترة قاسية، تحت طغيان رجال الكنيسة وهيمنتهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الأمة الساذجة، ثم اضطهادهم الشنيع لكل من يخالف أوامر أو تعليمات الكنيسة المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لو كانت أموراً تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهد العلمية.

وقد شمل هيمنة الكنيسة النواحي الدينية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها على الإطلاق وسنعرض إلى شيء من ذلك بإيجاز:

أ - الطغيان الديني:

1-

إنَّ الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وإن عيسى عبد الله ورسوله، قد تحول في عقيدة النصارى إلى إيمان باله مثلث يتجسد، أويحلُّ بالإنسان ذي ثلاثة أقانيم (الأب والابن ورح القدس) .

ص: 339

وذلك أنه منذ مجمع نيقية سنة 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني والإرهاب في أبشع صوره، ففرضت بطغيانها هذا عقيدة التثليث قهراً، وحرّمت ولعنت مخالفيها، بل سفكت دماء من ظفرت به من الموحدين، وأذاقتهم صنوف التعذيب وألوان النكال.

وتتفق المصادر على أن اليد الطولى في تحريف العقيدة النصرانية تعود إلى بولس "شاؤل" اليهودي، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة مدعياً أنه ابن الله1 تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

2-

والعبادات قد دخلت فيها أوضاع بشرية كنسية مبتدعة، وهذه المبتدعات حمّلها النصارى مفاهيم غيبية، وفسّروها بأن لها أسراراً مقدسة، وجعلوا لها طقوساً تُمارس في مناسباتها، ويجب احترامها والتقيد بها.

3-

والأحكام التشريعية معظمها أوامر وقرارات كنسية بابوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وهى تُحلّلُ وتُحرِّم من غير أن يكون لها مستند من كتاب الله، أو من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام2.

ونصّبت الكنيسة نفسها عن طريق المجامع المقدسة "إلهاً" يُحلُّ ويُحرِّمُ، ينسخُ ويضيف، وليس لأحد حق الاعتراض، أو على الأقل حق إبداء الرأي كائناً من كان، وإلا فالحرمان مصيره، واللعنة عقوبته؛ لأنه كافر ((مهرطق)) 3.

1 العلمانية لسفر ص36، النصرانية لأبي زهرة ص84 وما بعدها، المسيحية لأحمد شلبي ص 110.

2 انظر: كواشف زيوف لعبد الرحمن الميداني ص 23.

3 انظر: العلمانية لسفر ص128، والهرطقة - كما فهمتها الكنيسة إذ ذاك - هي: مخالفة رأي الكنيسة، فرأي يراه عالم في العلوم الكونية هرطقة، ومحاولة فهم الكتاب المقدس لرجل غير كنسي هرطقة، وانتقاد شيىء يتصل بالكنيسة هرطقة. انظر: المسيحية، لأحمد شلبي ص 256.

ص: 340

وقد كان الختان واجباً فأصبح حراماً، وكانت الميتة محرمة فأصبحت مباحة، وكانت التماثيل شركاً ووثنية فأصبحت تعبيراً عن التقوى، وكان زواج رجال الدين حلالاً فأصبح محظوراً، وكان أخذ الأموال من الأتباع منكراً فأصبحت الضرائب الكنسية فرضاً لازماً، وأمورٌ كثيرة نقلتها المجامع من الحل إلى الحرمة أو العكس دون أن يكون لديها من الله سلطان، أو ترى في ذلك حرجاً.

وأضافت الكنيسة إلى عقيدة التثليث عقائد وآراء أخرى تحكم البديهة باستحالتها ولكن لا مناص من الإيمان بها والإقرار بشرعيتها على الصورة التي توافق هوى الكنيسة1.

بعض شعائر المسيحية:

ومن شعائر المسيحية الحالية والتي هى خليط من وثنيات العالم القديم ما يلي:

1-

التعميد: وطريقته هى: رش الماء على الجبهة أو غمس أي جزء من الجسم في الماء، ويكثر أن يغمس الشخص كله في الماء، ولابد أن يقوم بهذه العملية كاهن يعمد الإنسان باسم الأب والابن وروح القدس، ولا يقوم غير الكهنة بالتعميد إلا للضرورة، وحينئذ يسمى التعميد:"تعميد الضرورة"2.

2-

العشاء الرباني: ويرمز به إلى عشاء عيسى الأخير مع تلاميذه إذ اقتسم معهم الخبز والنبيذ، والخبز يرمز إلى جسد المسيح الذي كُسِّرَ لنجاة

1 انظر: العلمانية لسفر ص 128.

2 المسيحية لأحمد شلبي ص168، والنصرانية لأبي زهرة ص135.

ص: 341

البشرية، أما الخمر فيرمز إلى دمه الذي سفك لهذا الغرض، ويُستعمل في العشاء الرباني قليل من الخبز وقليل من الخمر لذكرى ما فُعل بالمسيح ليلة موته وكذلك ليكون هذا طعاماً روحياً للمسيحيين، فمن أكل هذا الخبز وشرب هذا الخمر استحال الخبز إلى لحم المسيح والخمر إلى دمه فيحصل امتزاج بين الآكل وبين المسيح وتعاليمه1 إلى غير ذلك من المزاعم الباطلة.

3-

تقديس الصليب وحمله: إن تقديس الصليب عند المسيحيين سبق صلب المسيح نفسه، فقد ورد عن المسيح قوله:"إن أراد أحدٌ أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني"2.

ومعنى حمل الصليب عندهم هو الاستهانة بالحياة والاستعداد للموت في أبشع صورة، أي صلبا على خشبة كما يفعل بالمجرمين والآثمين، وقويت فكرة تقديس الصليب بعد صلب عيسى -على زعمهم- فأصبح أداة تذكر المسيحيين بالتضحية الضخمة التي قام بها المسيح من أجل البشر. 3وقولهم هذا باطل، قال تعالى:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 4.

4-

عقيدة الخطيئة الموروثة: وأساس هذا الموضوع عند المسيحيين أن من صفات الله العدل والرحمة، وبمقتضى صفة العدل كان على الله أن يعاقب ذرية آدم بسبب الخطيئة التي ارتكبها أبوهم، وطُرد بها من الجنة، واستحق هو وأبناؤه البعد

1 المسيحية لأحمد شلبي ص169-170، والنصرانية لأبي زهرة ص 135.

2 لوقا: 9/23

3 انظر: المسيحية لأحمد شلبي ص 170 - 171، والنصرانية لأبي زهرة ص 129-130.

4 سورة النساء، الآيتان (157- 158) .

ص: 342

عن الله بسببها، وبمقتضى صفة الرحمة كان على الله أن يغفر سيئات البشر، ولم يكن هناك من طريق للجمع بين العدل والرحمة إلا بتوسط ابن الله ووحيده وقبوله في أن يظهر في شكل إنسان، وأن يعيش كما يعيش الإنسان، ثم يصلب ظلماً ليكفّر عن خطيئة البشر1.

وقد ورد في العهد الجديد ما نصه: "وإن ابن الإنسان قد جاء ليخلص ما قد هلك، فبمحبته ورحمته قد صنع طريقاً للخلاص، لهذا كان المسيح هو الذي يكفّر عن خطايا العالم، وهو الوسيط الذي وفق بين محبة الله تعالى وبين عدله ورحمته، إذ إن مقتضى العدل أن الناس كانوا يستمرون في الابتعاد عن الله بسبب ما اقترف أبوهم، ولكن باقتراف العدل والرحمة وبتوسط الابن الوحيد، وقبوله للتكفير عن خطايا الخلق، قرب الناس من الرب بعد الابتعاد"2.

فهذه الأناجيل تذكر أن أهم الأغراض التي ظهر من أجلها المسيح ابن مريم أو المسيح ابن الله - على زعمهم - هو أن يكفر بدمه الخطيئة التي ارتكبها آدم عليه السلام والتي انتقلت بطريق الوراثة إلى جميع نسله، وأنه صلب بالفعل، فحقق بذلك أهم غرض ظهر من أجله.

والقرآن يرد على هذه الفرية، ويبين أن آدم عليه السلام قد أناب إلى الله تعالى واستغفر من خطيئته التي ارتكبها إذ أكل من الشجر فغفرها الله له، وأن الخطيئة لا يحمل وزرَها غير مقترفها، قال تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3.

1 انظر: المسيحية لأحمد شلبي ص154-155، والنصرانية لأبي زهرة ص125.

2 انظر: انجيل مرقص الاصحاح العاشر الفقرة 44 ومابعدها، وانجيل يوحنا 3: 16، ورسالة رومية 3: 23 ومابعدها، و 5: 10 وما بعدها، والإصحاح السادس.

3 سورة فاطر، الآية (18) .

ص: 343

وقال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1.

وقال عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 2.

كما أن الوزر لا يحمل تبعته إلا من اقترفه قال تعالى: {

أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} 3.

وعززت الكنيسة سلطتها الدينية الطاغية بادعاء حقوق لا يملكها إلا الله؛ مثل: حق الغفران، وحق الحرمان، وحق التحلة، ولم تتردد في استعمال هذه الحقوق واستغلالها.

صكوك الغفران والحرمان:

فأما غفران الذنوب فقد أصبح بدعة عجيبة، وذلك أنه إذا أراد البابا أن يبني كنيسة أو يجمع مالاً لشيءٍ ما؛ طبع صكوك الغفران ووزعها على أتباعه ليبيعوها للناس؛ كالذين يبيعون أسهم الشركات. وبالصك فراغٌ تُرِكَ ليُكتب به اسم الذي سيغفر ذنبه، والعجيب أن هذا الصك يَغفر لمشتريه ما تقدم من الذنوب وما تأخر، فهو بعبارة أخرى إذن بارتكاب كل الجرائم بعد أن ضُمنت الجنة لهذا المحظوظ.

الاعتراف:

ولم تقف قضية غفران الذنوب عند هذه الصكوك، بل سرعان ما دخلها عنصر جديد فاضح ذلك ما يسمى "الاعتراف" فكان على المذنب أن يعترف

1 سورة البقرة، الآية (37) .

2 سورة طه، الآيتان (121 -122) .

3 سورة النجم، الآيتان (38-39) .

ص: 344

بذنبه، في خلوة مع قسيسه؛ ليستطيع هذا القسيس أن يغفر له ذنبه، وفي خلوات الاعتراف حدثت أشياء يقشعر له الوجدان1.

وأما حق التحلة فهو حق خاص يبيح للكنيسة أن تخرج عن تعاليم الدين وتتخلى عن الالتزام بها متى اقتضت المصلحة - مصلحتها هى -ذلك2.

حياة الرهبنة:

قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} 3.

قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} "أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين:

أحدهما: الابتداع في دين الله مالم يأمر به الله.

والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل"4.

وتمارس حياة الرهبنة داخل الأديرة بالانقطاع عن الحياة العامة، وبالامتناع عن الزواج وتضم الراهبين والراهبات، وكأي حياة تنافي الفطرة وتلغيها، شهدت الأديرة أحط ألوان الفسوق بما نمسك عنه.

إلى غير ذلك من العقائد والمبتدعات النصرانية التي فرضتها الكنيسة على أتباعها، وكل هذه العقائد واضح بطلانها بحمد الله في العقيدة الإسلامية، وإنَّ ديناً من هذا القبيل هو مقطوع الصلة بما أنزل الله تعالى من الحق، وغير

1 المسيحية لأحمد شلبي ص255، والنصرانية لأبي زهرة ص203.

2 معالم تاريخ الإنسانية (3/896) هـ. ج ويلز، ت: عبد العزيز جاويد، القاهرة 1967م.

3 سورة الحديد، الآية (27) .

4 تفسير ابن كثير (4 /336-337) .

ص: 345

صالح لأن يكون له سلطان على العقول البشرية في عصور التنور الفكري، والتقدم الحضاري، وانتشار العلوم والمعارف.

ب- الطغيان المالي:

إن المتأمل في الأناجيل - على الرغم من تحريفها - يجد أنها لم تنه عن شيء كنهيها عن اقتناء الثروة والمال.

جاء في إنجيل متى: "لا تقتنوا ذهباً ولا فضةً ولا نحاساً في مناطقكم ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا "1.

وجاء في إنجيل مرقص: "مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسر من أن يدخل غنيٌ إلى ملكوت الله"2.

وجاء في إنجيل لوقا: "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون، الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس، تأملوا الغربان، إنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقيتها، كم أنتم بالحرى أفضل من الطيور"3.

إلا أن القرون التالية قد شهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقعها العملي، حتى صار جمع المال والاستكثار من الثروات غاية لديهم، فتهالك رجال الدين على جمع المال والإسراف والبذخ والانغماس في الشهوات والملذات.

ويمكن إيجاز مظاهر الطغيان الكَنَسِيّ في هذا المجال فيمايلي:

1 متى: 10: 10-11.

2 مرقص: 10:25.

3 لوقا: 12: 22- 24.

ص: 346

1-

الأملاك الإقطاعية:

يقول ديورانت1: "أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فقد كان دير "فلدا" مثلاً يمتلك (15000) قصر صغير، وكان دير "سانت جول" يملك (2000) من رقيق الأرض، كان "الكوين فيتور" أحد رجال الدين سيداً لعشرين ألفاً من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأديرة

وكانوا يقسمون يمين الولاء لغيرهم من الملاك الإقطاعيين ويلقبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية

وهكذا أصبحت الكنيسة جزءاً من النظام الإقطاعي.

وكانت أملاكها الزمنية: أي المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحي متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين ومصدراً للجدل والعنف بين الأباطرة والبابوات"2.

2-

الأوقاف:

كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافاً للكنيسة، بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة، وبناء الكنائس، وتجهيز الحروب الصليبية، إلا أنها أسرفت في تملك الأوقاف حتى وصلت نسبة أراضي الكنيسة في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق، وقد قال المصلح الكنسي "ويكلف" - وهو من أوائل المصلحين -: "إن الكنيسة

1 ديورانت هو مؤلف كتاب قصة الحضارة، وهو كتاب كبير يقع في 30مجلداً، تحدث فيه عن قصة الحضارة منذ فجر التاريخ إلى العصر الحاضر. انظر: مقدمة كتاب قصة الحضارة.

2 قصة الحضارة 14/ 425.

ص: 347

تملك أراضي إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقي، وطالب بإلغاء هذه الأوقاف واتهم رجال الدين بأنهم "أتباع قياصرة لا أتباع الله"1.

3-

العشور:

فرضت الكنيسة على كل أتباعها ضريبة (العشور) وبفضلها كانت الكنيسة تضمن حصولها على عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين ولم يكن في وسع أحد أن يرفض شيئاً من ذلك فالشعب خاضع تلقائياً لسطوتها 2.

4-

ضريبة السنة الأولى:

لم تشبع الأوقاف والعشور نهم الكنيسة الجائع، وجشعها البالغ، بل فرضت الرسوم والضرائب الأخرى، لاسيما في الحالات الاستثنائية؛ كالحروب الصليبية والمواسم المقدسة، وظلت ترهق بها كاهل رعاياها، فلما تولى البابا حنا الثاني والعشرون جاء ببدعة جديدة هى "ضريبة السنة الأولى" وهى مجموعة الدخل السنوي الأول لوظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية تدفع للكنيسة بصفة إجبارية، وبذلك ضمنت الكنيسة مورداً مالياً جديداً 3.

5-

الهبات والعطايا:

وكانت الكنيسة تحظى بالكثير من الهبات التي يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء، أو يهبها البعض بدافع الإحسان والصدقة. وقد

1 انظر: تاريخ أوربا لفيشر (2/362-364) .

2 المرجع السابق (2 / 380) .

3 معالم تاريخ الإنسانية (3/913) .

ص: 348

قويت هذه الدوافع بعد مهزلة صكوك الغفران، إذ انهالت التبرعات على الكنيسة، وتضخمت ثروات رجال الدين تضخماً كبيراً.

هذا. ولا ننسى المواسم المقدسة والمهرجانات الكنيسية التي كانت تدرُّ الأموال الطائلة على رجال الكنيسة؛ فمثلاً في سنة 1300م عقد مهرجان لليوبيل1 واجتمع له جمهور حاشد من الحجاج في روما بلغ من انهيال المال إلى خزائن البابوية أن ظل موظفان يجمعان بالمجاريف الهبات التي وضعت عند قبر القديس بطرس2.

6-

العمل المجاني "السخرة":

لم تقنع الكنيسة بامتلاك الإقطاعيات برقيقها وما يملكه بعض رجال الدين من آلاف الأرقاء، بل أرغمت أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها، ولاسيما بناء الكنائس والأضرحة وكان على الناس أن يرضخوا لأوامرها ويعملوا بالمجان لمصلحتها مدة محدودة، هى في الغالب يَوْمٌ واحِدٌ في الأسبوع، ولا ينالون مقابل ذلك جزاءً ولا شكورا3.

وبهذا يتبين لنا أن الانحراف والفساد الديني والاجتماعي قد وصل على يد الكنيسة النصرانية ورجالها وتعاليمها المزيفة إلى حد لم يعد يتحمله الناس ولا تطيقه فطرة البشر، حيث شقيت أوروبا برجال الدين الدجالين، وبتسلطهم ونفوذهم باسم الدين، وباسم الرب.

1 اليوبيل: ذكرى مرور خمس وعشرين سنة وتعرف باليوبيل الفضي، أو خمسين سنة وتعرف باليوبيل الذهبي، أو خمس وسبعين سنة وتعرف باليوبيل الماسي على حدث شخصي أو عام. القاموس العربي الشامل ص647.

2 معالم تاريخ الإنسانية (3/913) .

3 لمزيد من التفصيل انظر: تاريخ أور لفيشر (1/259) كواشف زيوف ص52، العلمانية لسفر ص143

ص: 349