الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباطنية التي سعى القوم إلى غرسها وبنائها، وأنها التحقق ـ في زعمهم ـ من أن الموجودات ما هي إلا مظاهر لحقيقة واحدة هي الله، وأن الأفعال لا تتفاضل ولا تتناقض إلا بالنظر إلى الخلق، وأما بالنظر إلى الله الفاعل الحقيقي ـ في زعمهم ـ فإنما هي شيء واحد يدل على ذات واحدة.
وبهذه العقيدة هدموا جميع الأديان، وأبطلوا جميع الشرائع واستحلوا كل المحرمات، وهذا الذي أقرره هنا لا أقرره أيضًا استنباطًا واجتهادًا، وتحميلًا لألفاظ القوم ما لا تحتمل، فقد مر بك بيت
الشعر المنسوب إلى ابن عربي
عقد البرية في الإله عقائدًا ** وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
وقد فسره ابن عربي بأن من اعتقد بأن هناك دينًا واحدًا حقًا، وبقية الأديان باطلة فقد فاته خير كثير، لأنه آمن بجزء من الحقيقة، ولم ير الحقيقة كاملة، وهي أن كل هذه الأديان التي ظنها باطلة هي مرادة لله تبارك وتعالى بل هو خالقها وبارئها.
وأصرح من هذا كله ما وصل إليه الشيخ النابلسي، وهو أن مقام الزهد المشهور في التصوف ما هو إلا مرحلة في الطريق الصوفي، وأما المرحلة النهائية في فهو ترك الزهد، والاستمتاع بالمقسوم على أتم وجه، وفي ذلك يقول النص:
" وأما بالنظر إلى غير الله تعالى فهو اشتغال الروحانية بما يرد عليها من أسئلة الأكوان السائرة للكون الحق، والستر هو الكفر، وأصحاب هذا الاشتغال المذكور هم الزهاد الذين يزهدون في الأشياء، فإنهم لولا ملاحظتهم للأشياء وادعاؤهم بثبوتها ما زهدوا فيها، فقد استتر الحق عنهم بزهدهم في الأشياء، فكفروا كفرًا خفيًا، ولو عقلوا لما زهدوا في شيء، لأن الذي ليس لهم عدم، فكيف يزهدون في العدم وهو غير مقدور، والذي لهم لا بد أن يصيبهم، فلو زهدوا فيه، لما أمكنهم وعاندوا الأقدار فهم مشغولون بزهدهم عن الله تعالى، فمتى يتفرغون له تعالى؟ ولله در القائل:
تجرد عن مقام الزهد فلبي** فأنت الحق وحدك في شهودي
أأزهد في سواك، وليس شيء** أراه سواك يا سر الوجود
(الفتح الرباني ص134) .
فانظر كيف نسب الكفر الخفي إلى الزهاد، لأنهم اشتغلوا بزهدهم في الأشياء، لأن الذي ليس لهم عدم، أي أن ما قدر لهم لا بد أن يكون. ولذلك يقول:" والذي لهم لا بد أن يصيبهم، فلو زهدوا فيه لما أمكنهم ".
ولذلك رآهم النابلسي معارضين للأقدار، مشغولين بزهدهم عن الله تبارك وتعالى. .
أحب أن أكرر هنا أن النابلسي ليس رجلًا مغمورًا جاهلًا، بل هو مقدم عند القوم، مستشهد بأقواله عند الجميع وبعضهم يعتذر عن مثل مقالاته هذه بأنه من الشطح، والشطح مغفور لهؤلاء، لأن ذلك من غلبة وجدهم وحبهم لمولاهم.
وأقول: إذا كان ثم شطح مغفور عند الله، معذور صاحبه، فهو أن تصدر كلمة أو جملة في غلبة حال كما يقولون. أما أن يؤلف رجل مئتي كتاب، كلها على هذا النحو، وذلك يستغرق آلاف الساعات والأيام، فكيف يكون التأليف والتحقيق شطحًا وسكرًا؟ فافهم أخي المسلم هذه الحقيقة فإنها سهم قاتل لهذا الباطل.
وبعد هذا الاستطراد أعود إلى السياق الأصلي، وهو أن القوم في نهاية مطافهم وصلوا إلى هدم الأديان، والتسوية بين الكفر والإيمان، بل وجعل مرتبة الزهد التي هي بداية للطريق الصوفي، ومرحلة من مراحله شركًا خفيًا بالله، لأن ذلك غيبة بالزهد عن الله تعالى.
ولعل ظانًا يظن أن هذه العقيدة الباطنية التي وصل إليها كانت عقيدة نظرية فقط، ولم يكن لها واقع عملي في حياة القوم، وهذا الظن ساذج ومريض، بل إن القوم قد مارسوا هذه العقيدة الباطنية ممارسة واقعية، وقد جاءت ممارستهم الواقعية لهذه العقيدة شيئًا صارخًا لا يكاد العقل يصدق به. ولكن ماذا نفعل والحقيقة قد أصبحت أكبر من الخيال.