الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالحشمة فإن أهل الشيخ لشيء من الخدمة عَدَّ ذلك من جزيل النعمة. (القشيرية ص184) .
فجعلوا خدمة شيوخهم من جزيل النعمة ومن تفضل الشيخ على المريد والأمر على العكس لأن من يخدم غيره دون أجر هو المتفضل لقوله صلى الله عليه وسلم للذين خدموا إخوانهم في السفر [ذهب المفطرون بالأجر كله] :
" وقبول قلوب المشايخ للمريد أصدق شاهد لسعادته ومن رده قلب شيخ من الشيوخ فلا محالة يرى غِبَّ ذلك ولو بعد حين ومن خذل بترك حرمة الشيوخ فقد أظهر رقم شقاوته وذلك لا يخطئ ". . ا. هـ.
وهذا يعني أن غضب الشيخ الصوفي على المريد هو غضب الله. فليس له قبول أبدًا. . وهذا من أعجب العجب. .
كتمان لشيء من الأسرار عن الشيخ
وحتى يتم أخذ المريد من نفسه والسيطرة الكاملة على كل قلبه وإحساسه وهواجسه فإن شيوخ التصوف قد فرضوا على المريد أن لا يحجب شيئًا من أسراره عن شيخه سواء كانت هذه الأسرار معاصي ارتكبها فإن الشيخ يتحملها عنه إذا أفضى بها إليه، وهذا نظير صكوك الغفران عند النصارى أو كانت في زعمهم مكاشفات وأنوارًا وعلومًا إلهية (لدنية) فإن شيخه سيفرح بذلك ويطلب له المزيد.
يقول القشيري:
" وإذا التزم المريد استدامة الذكر وآثر الخلوة فإن وجد في خلوته ما لا يجده قلبه إما في النوم وإما في اليقظة أو بين اليقظة والنوم من خطاب يسمع أو معنى يشاهده مما يكون نقصًا للعادة فينبغي أن لا يشتغل بذلك البتة ولا يسكن إليه ولا ينبغي أن ينتظر حصول أمثال ذلك فإن ذلك كله شواغل عن الحق سبحانه ولا بد له في هذه الأحوال في وصف ذلك لشيخه حتى يصير قلبه
فارغًا عن ذلك ويجب على شيخه أن يحفظ عليه سره فيكتم عن غيره أمره ويصغر ذلك في عينه فإن ذلك كله اختبارات والمساكنة إليها مكر فليحذر المريد عن ذلك وعن ملاحظاتها وليجعل همته فوق ذلك واعلم أن أضر الأشياء بالمريد استئناسه بما يلقى إليه في سره من تقريبات الحق سبحانه له ومنه بأني خصصتك بهذا وأفردتك عن أشكالك فإنه لو قال يترك هذا فمن قريب سيختطف عن ذلك بما يبدو له من مكاشفات الحقيقة وشرح هذه الجملة بإثباته في الكتب متعزز. . " ا. هـ. (القشيرية ص183، 184)
وهذا الذي يقرره القشيري هنا فيه كثير من التلبيس الذي لا بد من بيانه فالشاهد فيه أولًا هو أن المريد لا يجوز له كتمان ما يطالعه مما يسمونه بالأنوار أو المكاشفات أو السماع من الملك أو مما نقض للعادة ويمثلون لذلك بسطوح الأنوار في الغرفة المظلمة مثلًا أو رفع سقفها أو رؤيته لشيخه أمامه أو حضور الرسول عنده ونحو هذا مما يدعونه من الخرافات والتهيؤات الشيطانية وذلك أن الأذكار التي تعطي للمريد بأعدادها الرهيبة وطرق أدائها كأن يكون الإنسان جاثيًا على ركبتيه مغمضًا إحدى عينيه أو متجهًا ببصره شمالًا أو يمينًا، وكذلك الجو المحيط بذلك من أظلام الغرفة، والمكث ساعات طوال على ذلك مع أعداد تربو أحيانًا على عشرات بل مئات الآلاف من المرات. . كل ذلك مع انتظار حدوث أمر غريب يجعل المريد يفقد السيطرة على نفسه وأعصابه فتتهيأ له أمور كثيرة أو يتسلط الشيطان عليه لما هو فيه من البدعة والبعد عن هدي النبوة المستنير فيتلاعب به الشيطان فيتهيأ له أحيانًا بصورة شخصية أو بصورة مكذوبة غير صورة الرسول ويلقي في روعه أنه رسول الله، وأنه يأمره بكذا وكذا. . وأحيانًا ما يتهيأ له أن السقف انشق وأن الظلام الدامس قد تحول إلى نور ساطع، وأن الملائكة قد هبطت عليه، وهو في هذه الحالة الشيطانية من قراءة الأذكار المبتدعة التي تشتمل غالبًا على أسماء الشياطين وتخليط بضع آيات من القرآن، مقطعة عن
مواضعها موضوعة في غير أماكنها فتنزل عليهم الشياطين لذلك وتعبث بعقولهم وأفئدتهم وهذا ما عناه القشيري من أن المريد إذا شرع في الذكر فلا بد أن يرى شيئًا من ذلك فعليه كما زعم أن لا ينظر إلى شيء من ذلك البتة لأن كما قال شواغل الحق وهو يريد أن يرى الله وأن يصلي إلى الله نفسه لا إلى هذه الأمور العارضة. . وعليه بعد رؤيته لهذه الأمور أن يحكيها لشيخه ولا يخفيها عنه. .
فهذا أحمد بن المبارك يصف حال المريد مع شيخه وينقل كلام شيخه عبد العزيز الدباغ لهم فيقول:
" وكان رضي الله عنه يقول: لا تكتموا عني شيئًا من الأمور التي تنزل بكم في الدين والدنيا وأخبرونا حتى بالمعاصي التي تقع لكم وإن لن تخبروني أخبركم فإنه لا خير في صحبة يستر معها شيء من أحوال المتصاحبين وكان رضي الله عنه يقول أما أنا فلا أكتم عنكم شيئًا من أموري ثم يشرح لنا رضي الله عنه حاله حتى بلغ ذلك ويذكر لنا جميع ما وقع له من العاديات وغيرها، ويقول لنا رضي الله عنه إن لم أخبركم ولم أطلعكم على أحوالي فإن الله يعاقبني ويحاسبني لأنكم تظنون بي الخير فاصبروا حتى أذكر لكم الأمور الباطنية التي لم تطلعوا عليها فمن شاء منكم بعد ذلك أن يبقى معي فليبق وحينئذ يحل لي أكل طعامه وقبول هديته ومن شاء أن يذهب فليذهب فإن سكوتي عن ذكر تلك الأمور غش لكم وما كان رضي الله عنه لأصحابه إلا رحمة محضة يشفع لهم في زلاتهم ويتكفل لهم بنوائبهم ويتحلل لهم ما يخشون عاقبته ويهتم لأمرهم أكثر مما يهتم لأموره. وقال لي رضي الله عنه ذات يوم الرجل الذي لا يشاطر صاحبه في سيئاته ما هو بصاحب له وقال إن لم تكن الصحبة إلا على الحسنات فما هي بصحبة. وبالجملة فما كان رضي الله عنه لأصحابه إلا رحمة مرسلة من الله عز وجل فعلى مثله يبكي الباكون ولو رمنا تفصيل أعيان الجزئيات الواقعة لنا معه ولغيرنا في هذا الباب لطال الكلام " ا. هـ. (الإبريز ص212) .
قلت وهذا الكلام معناه في النهاية إيقاف المريد عاريًا أمام شيخه وأستاذه وإيهامه بأنه إن لم يعترف بما عنده من الأسرار فإن الشيخ بنفسه يطلع على ذلك ونقل في هذا بيت صاحب الرائية:
سوى الشيخ لا تكتمه سرًا فإنه ** بساحة كشف السر يجري على بحر
ويقول القشيري أيضًا:
" يجب عليه حفظ سره حتى عن زره إلا عن شيخه ولو كتم نفسًا من أنفاسه عن شيخ فقد خانه في حق صحبته ولو وقع له مخالفة فيما أشار عليه شيخه فيجب أن يقر بذلك بين يديه في الوقت ثم يستسلم لما يحكم عليه به شيخه عقوبة له على جنايته ومخالفته إما بسفر يكلفه أو أمر ما يراه ".
أي وعليه أن يستسلم إذا خالف هذا الأدب فكتم شيئًا عن الشيخ أن يستسلم لحكم الشيخ فيما يحكم عليه به، ويكون راضيًا بذلك. وإذا كان القشيري قد قال مثل هذا الكلام منذ القرن الخامس الهجري فإن الصوفية قد نسجوا على منواله وساروا على أقدامه. .
وجاء من زاد في هذه الأمور ووسع فيها أكثر من ذلك تحمل الشيخ للحمالات والذنوب ولعل كل ما مضى يهون إلا أن يجعل الصوفية الشيخ في مرتبة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإيمان المريد متعلق بشيخه بل جميع أموره الدنيوية والأخروية لا نجاح ولا فلاح له فيها إلا إذا آمن بشيخه وجعله كل شيء في حياته. وفي ذلك يقول صاحب كتاب الإبريز:
" وقد سمعت الشيخ رضي الله عنه يقول: الشيخ للمريد في درجة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإيمانه متعلق به، وسائر أموره الدنيوية والدينية وأرباب البصائر يشاهدون ذلك عيانًا وكنت أخرج معه كثيرًا رضي الله عنه وأنا لا أعرف درجته فكان يقول لي: مثلك مثل من يظل يمشي على عالي أسوار المدينة وشرفاتها مع ضيق المحل الذي تجعل فيه رجلك وبعد محل السقوط فلم أفهم معنى هذا الكلام إلا بعد حين فكان بعد ذلك إذا جرى هذا