الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَقْوَال الْعلمَاء فِي النَّهْي عَن التَّقْلِيد
قَالَ ابْن عبد الْبر أَنه لَا خلاف بَين أَئِمَّة أهل الْأَعْصَار فِي فَسَاد التَّقْلِيد وَأورد فصلا طَويلا فِي محاججه من قَالَ بالتقليد وإلزامه بطلَان مَا يزعمه من جَوَازه فَقَالَ يُقَال لمن قَالَ بالتقليد لم قلت بِهِ وخالفت السّلف فِي ذَلِك بِهِ فَإِنَّهُم لم يقلدوا فَإِن قلت قلدت لِأَن كتاب الله تَعَالَى لَا علم لي بتأويله وَسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم أحصها وَالَّذِي قد قلدته قد علم ذَلِك فقلدت من هُوَ أعلم مني قيل لَهُ أما الْعلمَاء إِذا أَجمعُوا على شَيْء من تَأْوِيل كتاب الله أَو حِكَايَة لسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَو اجْتمع رَأْيهمْ على شَيْء فَهُوَ الْحق لَا شكّ فِيهِ وَلَكِن قد اخْتلفُوا فِيمَا قلدت فِيهِ بَعضهم دون بعض فَمَا حجتك فِي تَقْلِيد بعض دون بعض وَكلهمْ عَالم وَلَعَلَّ الَّذِي رغبت عَن قَوْله أعلم من الَّذِي ذهبت إِلَى مذْهبه فَإِن قَالَ قلدته لِأَنِّي علمت أَنه صَوَاب قلت لَهُ علمت ذَلِك بِدَلِيل من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع فَإِن قَالَ نعم فقد أبطل التَّقْلِيد وطولب بِمَا ادَّعَاهُ من
الدَّلِيل وَإِن قَالَ قلدته لِأَنَّهُ أعلم مني قيل لَهُ فقلدت كل من هُوَ أعلم مِنْك فَإنَّك تَجِد من ذَلِك خلقا كثيرا وَلَا تخص من قلدته إِذْ علمك فِيهِ أَنه أعلم مِنْك فَإِن قَالَ قلدته لِأَنَّهُ أعلم النَّاس قيل لَهُ فَهُوَ إِذا أعلم من الصَّحَابَة وَكفى بقوله مثل هَذَا قبحا اه مَا أردْت نَقله من كَلَامه وَهُوَ طَوِيل وَقد حكى فِي أَدِلَّة الْإِجْمَاع على فَسَاد التَّقْلِيد فَدخل فِيهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة دُخُولا أوليا
وَحكى ابْن الْقيم عَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف أَنَّهُمَا قَالَا لَا يحل لأحد أَن يَقُول بقولنَا حَتَّى يعلم من أَيْن قُلْنَاهُ وَهَذَا هُوَ تَصْرِيح بِمَنْع التَّقْلِيد لِأَن من علم بِالدَّلِيلِ فَهُوَ مُجْتَهد مطَالب بِالْحجَّةِ لَا مقلد فَإِنَّهُ الَّذِي يقبل القَوْل وَلَا يُطَالب بِحجَّة وَحكى ابْن عبد الْبر أَيْضا عَن معن بن عِيسَى بِإِسْنَاد مُتَّصِل بِهِ قَالَ سَمِعت مَالِكًا يَقُول إِنَّمَا أَنا بشر أخطئ وَأُصِيب فانظروا فِي رَأْيِي فَكل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوهُ وكل مَا لم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوه
وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِالْمَنْعِ من تَقْلِيده لِأَن الْعَمَل بِمَا وَافق الْكتاب وَالسّنة من كَلَامه هُوَ عمل بِالْكتاب وَالسّنة وَلَيْسَ بمنسوب إِلَيْهِ وَقد أَمر أَتْبَاعه بترك مَا كَانَ من رَأْيه غير مُوَافق للْكتاب وَالسّنة وَقَالَ سَنَد بن عنان الْمَالِكِي فِي شَرحه على مدونة سَحْنُون
الْمَعْرُوفَة بِالْأُمِّ مَا لَفظه أما مُجَرّد الِاقْتِصَار على مَحْض التَّقْلِيد فَلَا يرضى بِهِ رجل رشيد وَقَالَ أَيْضا نفس الْمُقَلّد لَيْسَ على بَصِيرَة وَلَا يَتَّصِف من الْعلم بِحَقِيقَة إِذْ لَيْسَ التَّقْلِيد بطرِيق إِلَى الْعلم بوفاق أهل الرفاق وَإِن توزعنا فِي ذَلِك أبدينا برهانه فَنَقُول قَالَ الله تَعَالَى {فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ} وَقَالَ {فِيمَا آتاك الله} وَقَالَ {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَالَ {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَمَعْلُوم أَن الْعلم هُوَ معرفَة الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ فَنَقُول للمقلد إِذا اخْتلفت الْأَقْوَال وتشعبت من أَيْن تعلم صِحَة قَول من قلدته دون غَيره أَو صِحَة قربَة على قربَة أُخْرَى وَلَا يبدر كلَاما فِي ذَلِك إِلَّا انعكس عَلَيْهِ فِي نقيضه سِيمَا إِذا عرض لَهُ ذَلِك فِي مزية لإِمَام مذْهبه الَّذِي قَلّدهُ أَو قربه يُخَالِفهَا لبَعض أَئِمَّة الصَّحَابَة إِلَى أَن قَالَ أما التَّقْلِيد فَهُوَ قبُول قَول الْغَيْر من غير حجَّة فَمن أَيْن يحصل بِهِ علم وَلَيْسَ لَهُ مُسْتَند إِلَى قطع وَهُوَ أَيْضا فِي نَفسه بِدعَة محدثة لأَنا نعلم بِالْقطعِ أَن الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم لم يكن فِي زمانهم وعصرهم مَذْهَب لرجل معِين يدْرك ويقلد وَإِنَّمَا كَانُوا يرجعُونَ فِي النَّوَازِل إِلَى الْكتاب وَالسّنة أَو إِلَى مَا يتمحض بَينهم من النّظر عِنْد فقد الدَّلِيل وَكَذَلِكَ تابعوهم أَيْضا يرجعُونَ إِلَى الْكتاب وَالسّنة فَإِن لم يَجدوا نظرُوا إِلَى مَا
أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة فَإِن لم يَجدوا اجتهدوا وَاخْتَارَ بَعضهم قَول صَحَابِيّ فَرَآهُ الْأَقْوَى فِي دين الله تَعَالَى ثمَّ كَانَ الْقرن الثَّالِث وَفِيه كَانَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَابْن حَنْبَل فَإِن مَالِكًا توفّي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَتُوفِّي أَبُو حنيفَة سنة خمسين وَمِائَة وَفِي هَذِه السّنة ولد الإِمَام الشَّافِعِي وَولد ابْن حَنْبَل سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَكَانُوا على منهاج من مضى لم يكن فِي عصرهم مَذْهَب رجل معِين يتدارسونه وعَلى قريب مِنْهُم كَانَ ابتداعهم فكم من قَوْله لمَالِك ونظرائه خَالفه فِيهَا أَصْحَابه وَلَو نقلنا ذَلِك لخرجنا عَن مَقْصُود ذَلِك الْكتاب مَا ذَاك إِلَّا لجمعهم آلَات الِاجْتِهَاد وقدرتهم على ضروب الاستنباطات وَلَقَد صدق الله نبيه فِي قَوْله خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ذكر بعد قرنه قرنين والْحَدِيث فِي صَحِيح البُخَارِيّ
فالعجب من أهل التَّقْلِيد كَيفَ يَقُولُونَ هَذَا هُوَ الْأَمر الْقَدِيم وَعَلِيهِ أدركنا الشُّيُوخ وَهُوَ إِنَّمَا حدث بعد مِائَتي سنة من الْهِجْرَة وَبعد فنَاء الْقُرُون الَّذين أثنى عَلَيْهِم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أه
وَقد عرفت بِهَذَا أَن التَّقْلِيد لم يحدث إِلَّا بعد انْقِرَاض
خير الْقُرُون ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ وَإِن حُدُوث التمذهب بمذاهب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة إِنَّمَا كَانَ بعد انْقِرَاض الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَإِنَّهُم كَانُوا على نمط من تقدمهم من السّلف فِي هجر التَّقْلِيد وَعدم الِاعْتِدَاد بِهِ وَإِن هَذِه الْمذَاهب إِنَّمَا أحدثها عوام المقلدة لأَنْفُسِهِمْ من دون أَن يَأْذَن بهَا إِمَام من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين وَقد تَوَاتَرَتْ الرِّوَايَة عَن الإِمَام مَالك أَنه قَالَ لَهُ الرشيد أَنه يُرِيد أَن يحمل النَّاس على مذْهبه فَنَهَاهُ عَن ذَلِك وَهَذَا مَوْجُود فِي كل كتاب فِيهِ تَرْجَمَة الإِمَام مَالك وَلَا يَخْلُو من ذَلِك إِلَّا النَّادِر وَإِذا تقرر أَن الْمُحدث لهَذِهِ الْمذَاهب والمبتدع لهَذِهِ التقليدات هم جملَة المقلدة فَقَط فقد عرفت مِمَّا تقرر فِي الْأُصُول أَنه لَا اعْتِدَاد بهم فِي الْإِجْمَاع وَإِن الْمُعْتَبر فِي الْإِجْمَاع إِنَّمَا هم المجتهدون وَحِينَئِذٍ لم يقل بِهَذِهِ التقليدات عَالم من الْعلمَاء الْمُجْتَهدين أما قبل حدوثها فَظَاهر وَأما بعد حدوثها فَمَا سمعنَا عَن مُجْتَهد من الْمُجْتَهدين أَنه يسوغ صَنِيع هَؤُلَاءِ المقلدة الَّذين فرقوا دين الله وخالفوا بَين الْمُسلمين بل أكَابِر الْعلمَاء مُنكر لَهَا
وَسَاكِت عَنْهَا سكُوت تقية لمخافة ضَرَر أَو لمخافة فَوَات نفع كَمَا يكون مثل ذَلِك كثيرا لَا سِيمَا من عُلَمَاء السوء وكل عَاقل يعلم أَنه لَو صرح عَالم من عُلَمَاء الْإِسْلَام الْمُجْتَهدين فِي مَدِينَة من مَدَائِن الْإِسْلَام فِي أَي مَحل كَانَ بِأَن التَّقْلِيد بِدعَة مُحرمَة لَا يجوز الِاسْتِمْرَار عَلَيْهِ وَلَا الِاعْتِدَاد بِهِ لقام عَلَيْهِ أَكثر أَهلهَا إِن لم يقم عَلَيْهِ كلهم وأنزلوا بِهِ الإهانة والإضرار بِمَالِه وبدنه وَعرضه بِمَا لَا يَلِيق بِمن هُوَ دونه إِذا سلم من الْقَتْل على يَد أول جَاهِل من هَؤُلَاءِ المقلدة وَمن يعضدهم من جَهله الْمُلُوك والأجناد فَإِن طبائع الْجَاهِلين بِعلم الشَّرِيعَة مُتَقَارِبَة وهم لكَلَام من يجانسهم فِي الْجَهْل أقبل من كَلَام من يخالفهم فِي ذَلِك من أهل الْعلم وَلِهَذَا طبقت هَذِه الْبِدْعَة جَمِيع الْبِلَاد الإسلامية وَصَارَت شَامِلَة لكل فَرد من أَفْرَاد الْمُسلمين فالجاهل يعْتَقد أَن الدّين مَا زَالَ هَكَذَا وَلنْ يزَال إِلَى الْحَشْر وَلَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا وَهَكَذَا من كَانَ من المشتغلين بِعلم التَّقْلِيد فَإِنَّهُ كالجاهل بل أقبح مِنْهُ لِأَنَّهُ يضم إِلَى جَهله وإصراره على بِدعَة التَّقْلِيد وتحسينها فِي عُيُون أهل الْجَهْل الازدراء بالعلماء الْمُحَقِّقين والعارفين بِكِتَاب الله وبسنة رَسُوله صلى الله عليه وسلم ويصول عَلَيْهِم ويجول وينسبهم إِلَى الابتداع وَمُخَالفَة الْأَئِمَّة والتنقص
بشأنهم فَيسمع ذَلِك مِنْهُم الْمُلُوك وَمن يتَصَرَّف بالنيابة عَنْهُم من أعوانهم فيصدقونه ويذعنون لقَوْله إِذْ هُوَ مجانس لَهُم فِي كَونه جَاهِلا وَإِن كَانَ يعرف مسَائِل قلد فِيهَا غَيره لَا يدْرِي أهوَ حق أم بَاطِل لَا سِيمَا إِذا كَانَ قَاضِيا أَو مفتيا فَإِن الْعَاميّ لَا ينظر إِلَى أهل الْعلم بِعَين مُمَيزَة بَين من هُوَ عَالم على الْحَقِيقَة وَمن هُوَ جَاهِل وَبَين من هُوَ مقصر وَمن هُوَ كَامِل لِأَنَّهُ لَا يعرف الْفضل لأهل الفضيل إِلَّا أَهله وَأما الْجَاهِل فَإِنَّهُ يسْتَدلّ على الْعلم بالمناصب والقرب من الْمُلُوك واجتماع المدرسين من المقلدين وتحرير الْفَتَاوَى للمتخاصمين وَهَذِه الْأُمُور إِنَّمَا يقوم بهَا رُؤُوس هَؤُلَاءِ المقلدة فِي الْغَالِب كَمَا يعلم ذَلِك كل عَالم بأحوال النَّاس فِي قديم الزَّمن وَحَدِيثه وَهَذَا يعرفهُ الْإِنْسَان بِالْمُشَاهَدَةِ لأهل عصره وبمطالعة كتب التَّارِيخ الحاكية لما كَانَ عَلَيْهِ من قبله وَأما الْعلمَاء الْمُحَقِّقُونَ المجتهدون فالغالب على أَكْثَرهم الخمول لِأَنَّهُ لما كثر التَّفَاوُت بَينهم وَبَين أهل الْجَهْل كَانُوا متقاعدين لَا يرغب هَذَا فِي هَذَا وَلَا هَذَا فِي هَذَا ومنزلة الْفَقِيه من السَّفِيه كمنزلة السَّفِيه من الْفَقِيه فَهَذَا زاهد فِي حق هَذَا وَهَذَا أزهد مِنْهُ فِيهِ وَمِمَّا يَدْعُو الْعلمَاء إِلَى مهاجرة أكَابِر الْعلمَاء ومقاطعتهم إِنَّهُم يجدونهم غير راغبين فِي علم التَّقْلِيد الَّذِي هُوَ رَأس مَال فقهائهم وعلمائهم والمفتين مِنْهُم بل يجدونهم مشتغلين بعلوم الِاجْتِهَاد وَهِي عِنْد هَؤُلَاءِ المقلدة
لَيست من الْعُلُوم النافعة بل الْعُلُوم النافعة عِنْدهم هِيَ الَّتِي يتعجلون نَفعهَا بِقَبض جرايات التدريس وَأُجْرَة الْفَتَاوَى ومقررات الْقَضَاء وَمَعَ هَذَا فَمن كَانَ من هَؤُلَاءِ المقلدة مُتَمَكنًا من تدريسهم فِي علم التَّقْلِيد إِذا درسهم فِي مَسْجِد من الْمَسَاجِد أَو فِي مدرسة من الْمدَارِس اجْتمع عَلَيْهِ مِنْهُم جمع جم يُقَارب الْمِائَة أَو يجاوزها من قوم قد ترشحوا للْقَضَاء والفتيا وطمعوا فِي نيل الرياسة الدُّنْيَوِيَّة أَو أَرَادوا حفظ مَا قد ناله سلفهم من الرياسة وَبَقَاء مناصبهم والمحافظة على التَّمَسُّك بهَا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أسلافهم فهم لهَذَا الْمَقْصد يلبسُونَ الثِّيَاب الرفيعة ويديرون على رُؤْسهمْ عمائم كالروابي فَإِذا نظر الْعَاميّ أَو السُّلْطَان أَو بعض أعوانه إِلَى تِلْكَ الْحلقَة البهيمية الْمُشْتَملَة على الْعدَد الْكثير والملبوس الشهير والدفاتر الضخمة لم يبْق عِنْده شكّ أَن شيخ تِلْكَ الْحلقَة ومدرسها أعلم النَّاس فَيقبل قَوْله فِي كل أَمر يتَعَلَّق بِالدّينِ ويؤهله لكل مشكلة ويرجو مِنْهُ من الْقيام بالشريعة مَا لَا يرجوه من الْعَالم على الْحَقِيقَة المبرز فِي علم الْكتاب وَالسّنة وَسَائِر الْعُلُوم الَّتِي يتَوَقَّف فهم المعلمين عَلَيْهَا وَلَا سِيمَا غَالب المبرزين من الْعلمَاء وَتَحْت ذيول الخمول إِذا درسوا فِي علم بَين عُلُوم الِاجْتِهَاد فَلَا يجْتَمع عَلَيْهِم فِي الْغَالِب إِلَّا الرجل وَالرجلَانِ وَالثَّلَاثَة لِأَن الْبَالِغين من الطّلبَة إِلَى هَذِه الرُّتْبَة المستعدين لعلم الِاجْتِهَاد هم أقل
قَلِيل لِأَنَّهُ لَا يرغب فِي علم الِاجْتِهَاد إِلَّا من أخْلص النِّيَّة وَطلب الْعلم لله عز وجل وَرغب عَن المناصب الدُّنْيَوِيَّة وربط نَفسه برباط الزّهْد وألجم نَفسه بلجام القنوع فَلْينْظر الْعَاقِل أَيْن يكون مَحل هَذَا الْعَالم على التَّحْقِيق عِنْد أهل الدُّنْيَا إِذا شاهدوه فِي زَاوِيَة من زَوَايَا الْمَسْجِد وَقد قعد بَين يَدَيْهِ رجل أَو رجلَانِ من مَحل ذَلِك الْمُقَلّد الَّذِي اجْتمع عَلَيْهِ المقلدون فَإِنَّهُم رُبمَا يَعْتَقِدُونَ أَنه كواحد من تلامذة الْمُقَلّد أَو يقصر عَنهُ لما يشاهدون من الْأَوْصَاف الَّتِي قدمنَا ذكرهَا وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُم لَا يقفون على فَتْوَى من الْفَتَاوَى أَو سجل من السجلات إِلَّا وَهُوَ بِخَط أهل التَّقْلِيد ومنسوب إِلَيْهِم فيزدادون لَهُم بذلك تَعْظِيمًا ويقدمونهم على عُلَمَاء الِاجْتِهَاد فِي كل اصدار وإيراد فَإِذا تكلم عَالم من عُلَمَاء الِاجْتِهَاد وَالْحَال هَذِه بِشَيْء يُخَالف مَا يَعْتَقِدهُ المقلدة قَامُوا عَلَيْهِ قومه جَاهِلِيَّة وَوَافَقَهُمْ على ذَلِك أهل الدُّنْيَا وأرباب السُّلْطَان فَإِذا قدرُوا على الْإِضْرَار بِهِ فِي بدنه وَمَاله فعلوا ذَلِك وهم بفعلهم مشكورون عِنْد أَبنَاء جنسهم من الْعَامَّة والمقلدة لأَنهم قَامُوا بنصرة الدّين بزعمهم وذبوا عَن الْأَئِمَّة المتبوعين وَعَن مذاهبهم الَّتِي قد اعتقدها أتباعهم فَيكون لَهُم بِهَذِهِ الْأَفْعَال الَّتِي هِيَ عين الْجَهْل والضلال من الجاه والرفعة عِنْد أَبنَاء جنسهم مَا لم يكن فِي حِسَاب
وَأما ذَلِك الْعَالم الْمُحَقق الْمُتَكَلّم بِالصَّوَابِ فبالأحرى أَن لَا ينجو من شرهم وَيسلم من ضرهم وَأما عرضه فَيصير عرضه للشتم والتبديع والتجهيل والتضليل فَمن ذَا ترى ينصب نَفسه للانكار على هَذِه الْبِدْعَة وَيقوم فِي النَّاس بتبطيل هَذِه الشنعة مَعَ كَون الدُّنْيَا مُؤثرَة وَحب الشّرف وَالْمَال يمِيل بالقلوب على كل حَال فَانْظُر إِلَيْهَا أَيهَا الْمنصف بِعَين الْإِنْصَاف هَل يعد سكُوت عُلَمَاء الِاجْتِهَاد على إِنْكَار بِدعَة التَّقْلِيد مَعَ هَذِه الْأُمُور مُوَافقَة لأَهْلهَا على جوارها كلا وَالله فَأَنَّهُ سكُوت تقية لَا سكُوت مُوَافقَة مرضية وَلَكنهُمْ مَعَ سكوتهم عَن التظاهر بذلك لَا يتركون بَيَان مَا أَخذ الله عَلَيْهِم بَيَانه فَتَارَة يصرحون بذلك فِي مؤلفاتهم وَتارَة يلوحون بِهِ وَكثير مِنْهُم يكتم مَا يُصَرح بِهِ من تَحْرِيم التَّقْلِيد إِلَى مَا بعد مَوته كَمَا روى الأرتوي عَن شَيْخه الإِمَام ابْن دَقِيق الْعِيد أَنه طلب مِنْهُ ورقة وكتبها فِي مرض مَوته وَجعلهَا تَحت فرَاشه فَلَمَّا مَاتَ أخرجوها فَإِذا هِيَ فِي تَحْرِيم التَّقْلِيد مُطلقًا وَمِنْهُم من يُوضح ذَلِك لمن يَثِق بِهِ من أهل الْعلم وَلَا يزالون متوارثين لذَلِك فِيمَا بَينهم طبقَة بعد طبقَة يُوضحهُ السّلف للخلف ويبلغه الْكَامِل للمقصر وَأَن انحجب ذَلِك عَن أهل التَّقْلِيد فَهُوَ غير محتجب عَن غَيرهم وَقد رَأينَا فِي زَمَاننَا مَشَايِخنَا
المشتغلين بعلوم الِاجْتِهَاد فَلم نجد فيهم وَاحِدًا مِنْهُم يَقُول أَن التَّقْلِيد صَوَاب وَمِنْهُم من صرح بانكار التَّقْلِيد من أَصله وَإِن كَانَ فِي كثير من الْمسَائِل الَّتِي يعتقدها المقلدون فَوَقع بَينه وَبَين أهل عصره قلاقل وزلازل ونالهم من الامتحان مَا فِيهِ توفير أُجُورهم وَهَكَذَا حَال أهل سَائِر الديار فِي جَمِيع الاعصار
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا أَمر يُشَاهِدهُ كل أحد فِي زَمَنه فَإنَّا لم نسْمع بِأَن أهل مَدِينَة من الْمَدَائِن الإسلامية أَجمعُوا أَمرهم على ترك التَّقْلِيد وإتباع الْكتاب وَالسّنة لَا فِي هَذَا الْعَصْر وَلَا فِيمَا تقدمه من العصور بعد ظُهُور الْمذَاهب بل أهل الْبِلَاد الإسلامية أجمع أَكْتَع مطبقون على التَّقْلِيد وَمن كَانَ مِنْهُم منتسبا إِلَى الْعلم فَهُوَ إِمَّا أَن يكون غلب عَلَيْهِ معرفَة مَا هُوَ مقلد فِيهِ وَهَذَا عِنْد أهل التَّحْقِيق لَيْسَ من أهل الْعلم وَإِمَّا أَن يكون قد اشْتغل بِبَعْض عُلُوم الِاجْتِهَاد وَلم يتأهل للنَّظَر فَوقف تَحت ربقة التَّقْلِيد ضَرُورَة لَا اخْتِيَارا وَإِمَّا أَن يكون عَالما مبرزا جَامعا لعلوم الِاجْتِهَاد فَهَذَا الَّذِي يجب عَلَيْهِ أَن يتَكَلَّم بِالْحَقِّ وَلَا يخَاف فِي الله لومة لائم إِلَّا لمسوغ شَرْعِي وَأما من لم يكن منتسبا إِلَى الْعلم فَهُوَ إِمَّا عَامي صرف لَا يعرف التَّقْلِيد وَلَا
غَيره وَإِنَّمَا ينتمي إِلَى الْإِسْلَام جملَة وَيفْعل كَمَا يَفْعَله أهل بَلَده فِي صلَاته وَسَائِر عباداته ومعاملاته فَهَذَا قد أراح نَفسه من محنة التعصب الَّتِي يَقع فِيهَا المقلدون وَكفى الله أهل الْعلم شَره فَهُوَ لَا وازع لَهُ من نَفسه يحملهُ على التعصب عَلَيْهِم بل رُبمَا نفخ فِيهِ بعض شياطين المقلدة وسعى إِلَيْهِ بعلماء الِاجْتِهَاد فَحَمله على أَن يجهل عَلَيْهِم بِمَا يوبقه فِي حَيَاته وَبعد مماته
وَأما أَن يكون مرتفعا عَن هَذِه الطَّبَقَة قَلِيلا فَيكون غير مشتغل بِطَلَب الْعلم لكنه يسْأَل أهل الْعلم عَن أَمر عِبَادَته ومعاملته وَله بعض تَمْيِيز فَهَذَا هُوَ تبع لمن يسْأَله من أهل الْعلم إِن كَانَ يسْأَل المقلدين فَهُوَ لَا يرى الْحق إِلَّا فِي التَّقْلِيد وَإِن كَانَ يسْأَل الْمُجْتَهدين فَهُوَ يعْتَقد أَن الْحق مَا يرشدونه إِلَيْهِ فَهُوَ مَعَ من غلب عَلَيْهِ من الطائفيين وَأما أَن يكون مِمَّن لَهُ اشْتِغَال بِطَلَب علم المقلدين وأكباب على حفظه وفهمه وَلَا يرفع رَأسه إِلَى سواهُ وَلَا يلْتَفت إِلَى غَيره فالغالب على هَؤُلَاءِ التعصب المفرط على عُلَمَاء الِاجْتِهَاد ورميهم بِكُل حجر ومدر وإيهام الْعَامَّة بِأَنَّهُم مخالفون لإِمَام الْمَذْهَب الَّذِي قد ضَاقَتْ أذهانهم عَن تصور عَظِيم قدره وامتلأت قُلُوبهم من هَيْبَة من تقرر عِنْدهم أَنه فِي دَرَجَة لم تبلغها الصَّحَابَة فضلا عَمَّن بعدهمْ وَهَذَا وَأَن لم يصرحوا بِهِ فَهُوَ مَا تكنه صُدُورهمْ وَلَا تنطق بِهِ
ألسنتهم فَمَعَ مَا قد صَار عِنْدهم من هَذَا الِاعْتِقَاد فِي ذَلِك الإِمَام إِذا بَلغهُمْ أَن أحد عُلَمَاء الِاجْتِهَاد الْمَوْجُودين يُخَالِفهُ فِي مَسْأَلَة من الْمسَائِل كَانَ هَذَا الْمُخَالف قد ارْتكب أمرا شنيعا وَخَالف عِنْدهم شَيْئا قَطْعِيا وَأَخْطَأ خطئا لَا يكفره شَيْء وَإِن اسْتدلَّ على مَا ذهب إِلَيْهِ بِالْآيَاتِ القرآنية وَالْأَحَادِيث المتواترة لم يقبل مِنْهُ ذَلِك وَلم يرفع لما جَاءَ بِهِ رَأْسا كَائِنا من كَانَ وَلَا يزالون منتقصين لَهُ بِهَذِهِ الْمُخَالفَة انتقاصا شَدِيدا على وَجه لَا يستحلونه من الفسقة وَلَا من أهل الْبدع الْمَشْهُورَة كالخوارج وَالرَّوَافِض ويبغضونه بغضا شَدِيدا فَوق مَا يبغضون أهل الذِّمَّة من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمن أنكر هَذَا فَهُوَ غير مُحَقّق لأحوال هَؤُلَاءِ
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عِنْدهم ضال مضل وَلَا ذَنْب لَهُ إِلَّا أَنه عمل بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عليه وسلم واقتدى بعلماء الْإِسْلَام فِي أَن الْوَاجِب على كل مُسلم تَقْدِيم كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عليه وسلم على قَول كل عَالم كَائِنا من كَانَ