المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أقوال الأئمة الأربعة في النهي عن التقليد - القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد

[الشوكاني]

الفصل: ‌أقوال الأئمة الأربعة في النهي عن التقليد

‌أَقْوَال الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي النَّهْي عَن التَّقْلِيد

وَمن المصرحين بِهَذِهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فَإِنَّهُ قد صَحَّ عَن كل وَاحِد مِنْهُم هَذَا الْمَعْنى من طرق مُتعَدِّدَة قَالَ صَاحب الْهِدَايَة فِي رَوْضَة الْعلمَاء أَنه قيل لأبي حنيفَة إِذا قلت قولا وَكتاب الله يُخَالِفهُ قَالَ اتْرُكُوا قولي بِخَبَر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقيل لَهُ إِذا كَانَ قَول الصَّحَابِيّ يُخَالِفهُ فَقَالَ اتْرُكُوا قولي بقول الصَّحَابِيّ اه وَقد روى عَنهُ هَذِه الْمقَالة جمَاعَة من أَصْحَابه وَغَيرهم وَذكر نور الدّين السنهوري نَحْو ذَلِك عَن مَالك قَالَ ابْن مديني فِي منسكه روينَا عَن معن بن عِيسَى قَالَ سَمِعت مَالِكًا يَقُول إِنَّمَا أَنا بشر أخطئ وَأُصِيب فانظروا فِي رَأْيِي كل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوا بِهِ وَمَا لم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوه اه وَنقل الأَجْهُورِيّ والخوش هَذَا الْكَلَام وَأَقَرَّاهُ فِي شرحيهما على مُخْتَصر خَلِيل وَقد روى ذَلِك عَن مَالك جمَاعَة من أهل مذْهبه وَغَيرهم

ص: 54

وَأما الإِمَام الشَّافِعِي فقد تَوَاتر عَنهُ ذَلِك تواترا لَا يخفى على الْقصر فضلا عَن كَامِل فَإِنَّهُ نقل عَنهُ غَالب أَتْبَاعه وَنَقله أَيْضا عَنهُ جَمِيع المترجمين لَهُ إِلَّا من شَذَّ

وَمن جملَة من روى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ فَإِنَّهُ سَاق إِسْنَادًا إِلَى الرّبيع قَالَ سَمِعت الشَّافِعِي وَسَأَلَهُ رجل عَن مَسْأَلَة فَقَالَ يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ كَذَا فَقَالَ لَهُ السَّائِل يَا أَبَا عبد الله أنقول بِهَذَا فارتعد الشَّافِعِي واصفر وَحَال لَونه وَقَالَ وَيحك وَأي أَرض تُقِلني وَأي سَمَاء تُظِلنِي إِذا رويت عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم شَيْئا وَلم أقل بِهِ يعم على الرَّأْس وَالْعين نعم على الرَّأْس وَالْعين

وروى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ إِذا وجدْتُم فِي كتابي خلاف سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقولُوا بِسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا مَا قلت

وروى الْبَيْهَقِيّ عَنهُ أَيْضا قَالَ إِذا حدث الثِّقَة عَن الثِّقَة حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَهُوَ ثَابت عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا يتْرك لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَدِيث أبدا إِلَّا حَدِيث وجد عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَدِيث يُخَالِفهُ

وروى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَنهُ أَنه قَالَ لَهُ رجل وَقد روى حَدِيثا أنأخذ بِهِ فَقَالَ مَتى رويت عَن رَسُول الله

ص: 55

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا صَحِيحا فَلم آخذ بِهِ فأشهدكم أَن عَقْلِي قد ذهب

وَحكى ابْن الْقيم فِي أَعْلَامه الموقعين أَن الرّبيع قَالَ سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول كل مَسْأَلَة يَصح فِيهَا الْخَبَر عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عِنْد أهل النَّقْل بِخِلَاف مَا قلت فَأَنا رَاجع عَنْهَا فِي حَياتِي وَبعد مماتي

وَقَالَ حَرْمَلَة بن يحيى قَالَ الشَّافِعِي مَا قلت وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد قَالَ بِخِلَاف قولي فَمَا صَحَّ من حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم أولى وَلَا تقلدوني

وَقَالَ الْحميدِي سَأَلَ الرجل الشَّافِعِي عَن مَسْأَلَة فأفتاه وَقَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَذَا وَكَذَا فَقَالَ الرجل أَتَقول بِهَذَا يَا أَبَا عبد الله فَقَالَ الشَّافِعِي أَرَأَيْت فِي وسطي زنارا أَترَانِي خرجت من الْكَنِيسَة أَقُول قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَتقول لي أَتَقول بِهَذَا أروي عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا أَقُول بِهِ اه

وَنقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي نهايته عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ إِذا صَحَّ خبر يُخَالف مذهبي فَاتَّبعُوهُ وَاعْلَمُوا أَنه مذهبي أه

وَقد روى نَحْو ذَلِك الْخَطِيب وَكَذَلِكَ الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخ الْإِسْلَام والنبلاء وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر

ص: 56

وَقَالَ الْحَافِظ بن حجر فِي توالي التأسيس قد اشْتهر عَن الشَّافِعِي إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي وَحكى عَن السُّبْكِيّ أَن لَهُ مصنفا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة

وَأما الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فَهُوَ أَشد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة تنفيرا عَن الرَّأْي وأبعدهم عَنهُ وألزمهم إِلَى السّنة وَقد نقل عَنهُ ابْن الْقيم فِي مؤلفاته كأعلام الموقعين مَا فِيهِ التَّصْرِيح بِأَنَّهُ لَا عمل على الرَّأْي أصلا وَهَكَذَا نقل عَنهُ ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيره من أَصْحَابه وَإِذا كَانَ من الْمُخَالفين للرأي المنفرين عَنهُ فَهُوَ قَائِل بِمَا قَالَه الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة المنقولة نصوصهم على أَن الحَدِيث مَذْهَبهم وَيزِيد عَلَيْهِم بِأَنَّهُم سوغوا الرَّأْي فِيمَا لَا يُخَالف النَّص وَهُوَ مَنعه من الأَصْل وَقد حكى الشعراني فِي الْمِيزَان أَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة كلهم قَالُوا إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مَذْهَبنَا وَلَيْسَ لأحد قِيَاس وَلَا حجَّة اه

إِجْمَاع الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة على تَقْدِيم النَّص وَإِذا تقرر لَك إِجْمَاع أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة على تَقْدِيم النَّص على آرائهم عرفت أَن الْعَالم الَّذِي عمل بِالنَّصِّ وَترك قَول أهل الْمذَاهب هُوَ الْمُوَافق لما قَالَه أَئِمَّة الْمذَاهب والمقلد الَّذِي قدم أَقْوَال

ص: 57

أهل الْمذَاهب على النَّص هُوَ الْمُخَالف لله وَلِرَسُولِهِ ولإمام مذْهبه وَلغيره من سَائِر عُلَمَاء الْإِسْلَام

ولعمري إِن الْقَلَم مبري بِهَذِهِ النقول على وَجل من الله وحياء من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فيا لله الْعجب أيحتاج الْمُسلم فِي تَقْدِيم قَول الله أَو رَسُوله صلى الله عليه وسلم على قَول أحد من عُلَمَاء أمته إِلَى أَن يعتضد بِهَذِهِ النقول يَا لله الْعجب أَي مُسلم يلتبس عَلَيْهِ مثل هَذَا حَتَّى يحْتَاج إِلَى نقل هَؤُلَاءِ الْعلمَاء رحمهم الله فِي أَن أَقْوَال الله وأقوال رَسُوله صلى الله عليه وسلم مُقَدّمَة على أَقْوَالهم فَإِن التَّرْجِيح فرع التَّعَارُض وَمن ذَاك الَّذِي يُعَارض قَوْله قَول الله أَو قَول رَسُوله صلى الله عليه وسلم حَتَّى نرْجِع إِلَى التَّرْجِيح والتقديم سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم فَلَا حَيا الله هَؤُلَاءِ المقلدة الَّذين ألجأوا الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة إِلَى التَّصْرِيح بِتَقْدِيم أَقْوَال الله وَرَسُوله على أَقْوَالهم لما شاهدوهم عَلَيْهِ من الغلو المشابه لغلو الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ

وَهَؤُلَاء الَّذين ألجؤونا إِلَى نقل هَذِه الْكَلِمَات وَإِلَّا فَالْأَمْر وَاضح لَا يلتبس على أحد وَلَو فَرضنَا وَالْعِيَاذ بِاللَّه أَن عَالما من عُلَمَاء الْإِسْلَام يَجْعَل قَوْله كَقَوْل الله أَو قَول رَسُوله

ص: 58

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ كَافِرًا مُرْتَدا فضلا على أَن يَجْعَل قَوْله أقدم من قَول الله وَرَسُوله فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون مَا صنعت هَذِه الْمذَاهب بِأَهْلِهَا وَإِلَى أَي مَوضِع أخرجتهم وليت هَؤُلَاءِ المقلدة الجناة الأجلاف نظرُوا بِعَين الْعقل إِذْ حرمُوا النّظر بَين الْعلم ووازنوا بَين رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَبَين أَئِمَّة مذاهبهم وتصوروا وقوفهم بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَهَل يخْطر ببال من بقيت فِيهِ بَقِيَّة من عقل هَؤُلَاءِ المقلدين أَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة المتبوعين عِنْد وقوفهم المعروض بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانُوا يردون عَلَيْهِ قَوْله أَو يخالفونه بأقوالهم كلا وَالله بل هم أتقى لله وأخشى لَهُ فقد كَانَ أكَابِر الصَّحَابَة يتركون سُؤَاله صلى الله عليه وسلم فِي كثير من الْحَوَادِث هَيْبَة وتعظيما وَكَانَ يعجبهم الرجل الْعَاقِل من أهل الْبَادِيَة إِذا وصل يسْأَل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليستفيدوا بسؤاله كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح وَكَانُوا يقفون بَين يَدَيْهِ كَأَن على رؤوسهم الطير يرْمونَ بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى مَا بَين أَيْديهم وَلَا يرفعونها إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم احتشاما وتكريما وَكَانُوا أَحْقَر وَأَقل عِنْد أنفسهم من أَن يعارضوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بآرائهم وَكَانَ التابعون يتأدبون مَعَ الصَّحَابَة بقريب من هَذَا الْأَدَب وَكَذَلِكَ تابعوا التَّابِعين كَانُوا يتأدبون من قريب من آدَاب التَّابِعين مَعَ الصَّحَابَة فَمَا ظَنك أَيهَا الْمُقَلّد لَو

ص: 59

حضر إمامك بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِذا فاتك يَا مِسْكين الاهتداء بهدى الْعلم فَلَا يفوتنك الاهتداء بهدى الْعقل فَإنَّك إِذا استضأت بنوره خرجت من ظلمات جهلك إِلَى نور الْحق فَإِذا عرفت مَا نَقَلْنَاهُ عَن أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة من تَقْدِيم النَّص على آرائهم فقد قدمنَا لَك أَيْضا حِكَايَة الْإِجْمَاع على مَنعهم التَّقْلِيد وحكينا لَك مَا قَالَه الإِمَام أَبُو حنيفَة وَمَا قَالَه إِمَام دَار الْهِجْرَة مَالك بن أنس من ذَلِك أَو لَاحَ لَك مِمَّا نَقَلْنَاهُ قَرِيبا مَا يَقُوله الإِمَام مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي من منع التَّقْلِيد وَقد قَالَ الْمُزنِيّ فِي أول مُخْتَصره مَا نَصه اختصرت هَذَا من علم الشَّافِعِي وَمن معنى قَوْله لأقراه على من أَرَادَهُ مَعَ إِعْلَامه بنهيه عَن تَقْلِيده وتقليد غَيره لينْظر فِيهِ لدينِهِ ويحتاط فِيهِ لنَفسِهِ اه فَانْظُر مَا نَقله هَذَا الإِمَام الَّذِي هُوَ من أعلم النَّاس بِمذهب الشَّافِعِي رحمه الله من تصريحه بِمَنْع تَقْلِيده وتقليد غَيره

وَأما الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فالنصوص عَنهُ فِي منع التَّقْلِيد كَثِيرَة قَالَ أَبُو دَاوُد قلت لِأَحْمَد الْأَوْزَاعِيّ أتبع أم مَالك فَقَالَ لَا تقلد دينك أحدا من هَؤُلَاءِ مَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه فَخذ بِهِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد سمعته يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول الِاتِّبَاع أَن يتبع الرجل مَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه من هُوَ من التَّابِعين بِخَير اه

ص: 60

فَانْظُر كَيفَ فرق بَين التَّقْلِيد والإتباع وَقَالَ لي أَحْمد لَا تقلدني وَلَا مَالِكًا وَلَا الشَّافِعِي وَلَا الْأَوْزَاعِيّ وَلَا الثَّوْريّ وَخذ من حَيْثُ أخذُوا وَقَالَ من قلَّة فقه الرجل أَن يُقَلّد دينه الرِّجَال قَالَ ابْن الْقيم وَلأَجل هَذَا لم يؤلف الإِمَام أَحْمد كتابا فِي الْفِقْه وَإِنَّمَا دون أَصْحَابه مذْهبه من أَقْوَاله وأفعاله وأجوبته وَغير ذَلِك

وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تلبيس إِبْلِيس أعلم أَن الْمُقَلّد على غير ثِقَة فِيمَا قلد وَفِي التَّقْلِيد إبِْطَال مَنْفَعَة الْعقل ثمَّ أَطَالَ الْكَلَام فِي ذَلِك

وَبِالْجُمْلَةِ فنصوص أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فِي الْمَنْع من التَّقْلِيد وَفِي تَقْدِيم النَّص على آرائهم وآراء غَيرهم لَا تخفى على عَارِف من أتباعهم وَغَيرهم وَأما نُصُوص سَائِر الْأَئِمَّة المتبوعين على ذَلِك الْأَئِمَّة من أهل الْبَيْت عليهم السلام فَهِيَ مَوْجُودَة فِي كتبهمْ مَعْرُوفَة قد نقلهَا العارفون بمذاهبهم عَنْهُم وَمن أحب النّظر فِي ذَلِك فليطالع مؤلفاتهم وَقد جمع مِنْهَا السَّيِّد الْعَلامَة الإِمَام مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْوَزير فِي مؤلفاته مَا يشفي وَيَكْفِي لَا سِيمَا فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالقواعد فَإِنَّهُ نقل الْإِجْمَاع عَنْهُم وَعَن سَائِر عُلَمَاء الْمُسلمين سَلام على تَحْرِيم تَقْلِيد الْأَمْوَات وَأطَال فِي ذَلِك وأطاب وناهيك بِالْإِمَامِ الْهَادِي يحيى بن الْحُسَيْن فَإِنَّهُ الإِمَام الَّذِي صَار أهل الديار اليمنية مقلدين لَهُ متبعين لمذهبه من عصره وَهُوَ

ص: 61