المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نصيحة بليغة لمن يتصدر للفتيا والقضاء من المقلدين - القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد

[الشوكاني]

الفصل: ‌نصيحة بليغة لمن يتصدر للفتيا والقضاء من المقلدين

كتموا الْحق فِي بعض الْأَحْوَال أما لتقية مسوغة كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم تقاة} أَو بمداهنة أَو طمع فِي جاه أَو مَال وَلَكنهُمْ على كل حَال إِذا عرفُوا من هُوَ طَالب للحق رَاغِب فِيهِ سَائل عَن دينه سالك مسالك الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم لم يكتموا عَلَيْهِ الْحق وَلَا زاغوا مِنْهُ فَإِن كنت لَا تثق بِأحد من الْعلمَاء وثوقك بإمامك الَّذِي نشأت على مذْهبه فَارْجِع إِلَى نصوصه الَّتِي قدمنَا إِلَيْك الْإِشَارَة إِلَى بَعْضهَا وفيهَا مَا ينفع الْغلَّة ويشفي الْعلَّة

‌نصيحة بليغة لمن يتصدر للفتيا وَالْقَضَاء من المقلدين

وَاعْلَم أرشدك الله أَيهَا الْمُقَلّد إِنَّك أَن أنصفت من نَفسك وخليت بَين عقلك وفهمك وَبَين مَا حررناه فِي هَذَا الْمُؤلف لم يبْق مَعَك شكّ فِي إِنَّك على خطر عَظِيم هَذَا إِن كنت مُقْتَصرا فِي التَّقْلِيد على مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَتك مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ أَمر عبادتك ومعاملتك إِمَّا إِذا كنت مَعَ كونك فِي هَذِه الرُّتْبَة الساقطة مرشحا نَفسك لفتيا السَّائِلين وللقضاء بَين المتخاصمين فَاعْلَم إِنَّك ممتحن وممتحن بك ومبتلي ومبتلى بك لِأَنَّك تريق الدِّمَاء بأحكامك وتنقل الْأَمْلَاك والحقوق من أَهلهَا وتحلل الْحَرَام وَتحرم الْحَلَال وَتقول على الله مَا لم يقل

ص: 97

غير مُسْتَند إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عليه وسلم بل بِشَيْء لَا تَدْرِي أَحَق هُوَ أم بَاطِل باعترافك على نَفسك بأنك كَذَلِك فَمَاذَا يكون جوابك بَين يَدي الله فَإِن الله إِنَّمَا أَمر حكام الْعباد أَن يحكموا بَينهم بِمَا أنزل الله وَأَنت لَا تعرف مَا أنزل الله على الْوَجْه الَّذِي يُرَاد بِهِ وَأمرهمْ أَن يحكموا بِالْحَقِّ وَأَنت لَا تَدْرِي الْحق وَإِنَّمَا سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته وَأمرهمْ أَن يحكموا بَينهم الْعدْل وَأَنت لَا تَدْرِي الْعدْل من الْجور لِأَن الْعدْل هُوَ مَا وَافق مَا شَرعه الله والجور مَا خَالفه فَهَذِهِ الْأَوَامِر لم تتَنَاوَل مثلك بل الْمَأْمُور بهَا غَيْرك فَكيف قُمْت بِشَيْء لم تُؤمر بِهِ وَلَا ندبت إِلَيْهِ وَكَيف أقدمت على أصُول فِي الحكم بِغَيْر مَا أنزل الله حَتَّى تكون مِمَّن قَالَ فِيهِ {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ فَهَذِهِ الْآيَات الْكَرِيمَة متناولة لكل من لم يحكم بِمَا انْزِلْ الله فَإنَّك لَا تَدعِي أَنَّك حكمت بِمَا أنزل الله بل تقر بأنك حكمت بقول الْعَالم الْفُلَانِيّ وَلَا تَدْرِي هَل ذَلِك الحكم الَّذِي حكم بِهِ هَل هُوَ من مَحْض رَأْيه أم من الْمسَائِل الَّتِي اسْتدلَّ عَلَيْهَا بِالدَّلِيلِ ثمَّ لَا تَدْرِي أهوَ أصَاب فِي الِاسْتِدْلَال أم أَخطَأ وَهل أَخذ بِالدَّلِيلِ الْقوي أم الضَّعِيف فَانْظُر يَا مِسْكين مَا صنعت بِنَفْسِك فَإنَّك لم يكن جهلك مَقْصُورا عَلَيْك بل جهلت على عباد الله فأرقت الدِّمَاء وأقمت الْحُدُود

ص: 98

وهتكت الْحرم بِمَا لَا تَدْرِي فقبح الله الْجَهْل وَلَا سِيمَا إِذا جعله صَاحبه شرعا ودينا لَهُ وللمسلمين فَإِنَّهُ طاغوت عِنْد التَّحْقِيق وَإِن ستر من التلبيس بستر رَقِيق فيا أَيهَا القَاضِي الْمُقَلّد أخبرنَا أَي الْقُضَاة الثَّلَاثَة أَنْت الَّذين قَالَ فيهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْقُضَاة ثَلَاثَة قاضيان فِي النَّار وقاض فِي الْجنَّة فالقاضيان اللَّذَان فِي النَّار قَاض قضى بِغَيْر الْحق وقاض قضى بِالْحَقِّ وَهُوَ لَا يعلم أَنه الْحق وَالَّذِي فِي الْجنَّة قَاض قضى بِالْحَقِّ وَهُوَ يعلم أَنه الْحق فبالله عَلَيْك هَل قضيت بِالْحَقِّ وَأَنت تعلم أَنه الْحق إِن قلت نعم فَأَنت وَسَائِر أهل الْعلم يشْهدُونَ بأنك كَاذِب لِأَنَّك معترف بأنك لَا تعلم بِالْحَقِّ وَكَذَلِكَ سَائِر النَّاس يحكمون عَلَيْك بِهَذَا من غير فرق بَين مُجْتَهد ومقلد وَإِن قلت إِنَّك قضيت بِمَا قَالَه إمامك وَلَا تَدْرِي أَحَق هُوَ أم بَاطِل كَمَا هُوَ شَأْن كل مقلد على وَجه الأَرْض فَأَنت بإقرارك هَذَا أحد رجلَيْنِ إِمَّا قضيت بِالْحَقِّ وَأَنت لَا تعلم بِأَنَّهُ الْحق أَو قضيت بِغَيْر الْحق لِأَن ذَلِك الحكم الَّذِي حكمت بِهِ هُوَ لَا يَخْلُو عَن أحد الْأَمريْنِ إِمَّا أَن يكون حَقًا وَإِمَّا أَن يكون غير حق وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ فَأَنت من قُضَاة النَّار بِنَصّ الْمُخْتَار وَهَذَا مَا أَظن بتردد فِيهِ أحد من أهل الْفَهم بأمرين أَحدهمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 99

قد جعل الْقُضَاة ثَلَاثَة وَبَين صفة كل وَاحِد مِنْهُم بَيَانا يفهمهُ المقصر والكامل والعالم وَالْجَاهِل الثَّانِي أَن الْمُقَلّد لَا يَدعِي أَنه يعلم بِمَا هُوَ حق من كَلَام إِمَامه وَلَا بِمَا هُوَ بَاطِل بل يقر على نَفسه أَنه يقبل قَول الْغَيْر وَلَا يُطَالِبهُ بِحجَّة ويقر على نَفسه أَنه لَا يعقل الْحجَّة إِذا جَاءَتْهُ فَأفَاد هَذَا أَنه حكم بِشَيْء لَا يدْرِي مَا هُوَ فَإِن وَافق الْحق فَهُوَ الَّذِي قضى بِغَيْر علم وَإِن لم يُوَافق فَهُوَ الَّذِي قضى بِغَيْر الْحق وَهَذَانِ هما القاضيان اللَّذَان فِي النَّار فَالْقَاضِي الْمُقَلّد على كلتا حالتيه يتقلب فِي نَار جَهَنَّم فَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر

خذا بطن هرشي أوقفاها فَإِنَّهُ

كلا جَانِبي هرشي لَهُنَّ طَرِيق

وكما تَقول الْعَرَب لَيْسَ فِي الشَّرّ خِيَار وَلَقَد خَابَ وخسر من لَا ينجو على كل حَال من النَّار فيا أَيهَا القَاضِي الْمُقَلّد مَا الَّذِي أوقعك فِي هَذِه الورطة وألجأك إِلَى هَذِه الْعهْدَة الَّتِي صرت فِيهَا على كل حَال من أهل النَّار إِذا دمت على قضائك وَلم تتب فَإِن أهل الْمعاصِي والبطالة على اخْتِلَاف أنواعهم هم أَرْجَى لله مِنْك وأخوف لَهُ لأَنهم يقدمُونَ على الْمعاصِي وهم على عزم التَّوْبَة والإقلاع وَالرُّجُوع وكل وَاحِد مِنْهُم يسْأَل الله الْمَغْفِرَة وَالتَّوْبَة وَيَلُوم نَفسه على

ص: 100

مَا فرط مِنْهُ وَيُحب أَن لَا يَأْتِيهِ الْمَوْت إِلَّا بعد أَن تطهر نَفسه من ادران كل مَعْصِيّة وَلَو دَعَا لَهُ دَاع بِأَن الله يبقيه على مَا هُوَ متلبس بِهِ من البطالة وَالْمَعْصِيَة إِلَى الْمَوْت يعلم هُوَ وكل سامع أَنه يَدْعُو عَلَيْهِ لَا لَهُ

وَلَو علم أَنه يبْقى على مَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَى الْمَوْت ويلقى الله وَهُوَ متلبس بِهِ لضاقت عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ لِأَنَّهُ يعلم أَن هَذَا الْبَقَاء هُوَ من مُوجبَات النَّار بِخِلَاف هَذَا القَاضِي الْمِسْكِين فَإِنَّهُ رُبمَا دَعَا الله فِي خلواته وَبعد صلواته أَن يديم عَلَيْهِ تِلْكَ النِّعْمَة ويحرسها عَن الزَّوَال وَيصرف عَنهُ كيد الكائدين وحسد الحاسدين حَتَّى لَا يقدروا على عَزله وَلَا يتمكنوا من فَصله وَقد يبْذل المخذول فِي استمراره على ذَلِك نفائس الْأَمْوَال وَيدْفَع الرشا والبراطيل والرغائب لمن كَانَ لَهُ فِي أمره مدْخل فَجمع بَين خسراني الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وتسمح نَفسه بهما جَمِيعًا فِي حُصُول ذَلِك فيشتري بهَا النَّار وَالْعلَّة الغائبة الْمَقْصد الْأَسْنَى وَالْمطلب الْأَبْعَد لهَذَا المغبون لَيْسَ إِلَّا اجْتِمَاع الْعَامَّة وصراخهم بَين يَدَيْهِ وَلَو عقل لعلم أَنه لم يكن فِي رياسة عالية وَلَا فِي مَكَان رفيع وَلَا فِي مرتبَة جليلة فَإِنَّهُ يُشَارِكهُ فِي اجْتِمَاع هَؤُلَاءِ الْعَوام وتطاولهم إِلَيْهِ وتزاحمهم عَلَيْهِ كل من يُرَاد إهانته إِمَّا بِإِقَامَة حد عَلَيْهِ أَو قصاص أَو تَعْزِير فَإِنَّهُ يجمع على وَاحِد من هَؤُلَاءِ مَا

ص: 101

لَا يجْتَمع على القَاضِي عشر معشاره بل يجْتَمع على أهل اللّعب والمجون والسخرية وَأهل الزمر والرقص وَالضَّرْب بالطبل أصضعاف أَضْعَاف من يجْتَمع على القَاضِي وَهُوَ ذُو زهو لركوب دَابَّة أَو مشي خَادِم أَو خادمين فِي ركابه فَليعلم أَن العَبْد الْمَمْلُوك والجندي الْجَاهِل وَالْولد من أَبنَاء الْيَهُود وَالنَّصَارَى تركب دَوَاب أنزه من دَابَّته وَيَمْشي مَعَه من الخدم أَكثر مِمَّن يمشي مَعَه وَإِذا كَانَ وُقُوعه فِي هَذَا الْعَمَل الَّذِي هُوَ من أَسبَاب النَّار على كل حَال من طلب المعاش واستدرار مَا يدْفع إِلَيْهِ من الجراية من السُّحت فَليعلم أَن أهل المهن الدِّينِيَّة كالحائك والحجام والجزار والاسكافي أنعم مِنْهُ عَيْشًا وأسكن مِنْهُ قلبا لأَنهم أمنُوا من مرَارَة الْعَزْل غير مهتمين بتحويل الْحَال فهم يتلذذون بدنياهم ويتمتعون بنفوسهم ويتقبلون فِي تنعمهم هَذَا بِاعْتِبَار الْحَيَاة الدُّنْيَا وَأما بِاعْتِبَار الْآخِرَة فخواطرهم مطمئنة لأَنهم لَا يَخْشونَ الْعقُوبَة بِسَبَب من الْأَسْبَاب الَّتِي هِيَ قوام المعاش ونظام الْحَيَاة لِأَن مكسبهم حَلَال وأيديهم مَكْفُوفَة عَن الظُّلم فَلَا يخَافُونَ السُّؤَال عَن دم أَو مَال بل قُلُوبهم مُتَعَلقَة بالرجاء وكل وَاحِد مِنْهُم يَرْجُو الِانْتِقَال من دَار شقوة وكدر إِلَى دَار نعْمَة

ص: 102

وتفضل وَأما ذَلِك القَاضِي الْمُقَلّد فَهُوَ منغص الْعَيْش منكد النِّعْمَة مكدر اللَّذَّة لِأَنَّهُ لما يرد عَلَيْهِ من خُصُومَة الْخُصُوم ومعارضة المعارضين ومصادرة الممتنعين من قبُول أَحْكَامه وامتثال حلّه وإبرامه فِي هموم وغموم ومكابدة ومناهدة ومجاهدة وَمَعَ هَذَا فَهُوَ متوقع لتحويل الْحَال والاستبدال بِهِ وغروب شمسه وركود رِيحه وَذَهَاب سعده عِنْد نحسه وشماتة أعدائه ومساءة أولياءه فَلَا تصفو لَهُ رَاحَة وَلَا تخلص لَهُ نعْمَة بل هُوَ مَا دَامَ فِي الْحَيَاة فِي أَشد الْغم وَأعظم النكد كَمَا قَالَ المتنبي

أَشد الْغم عِنْدِي فِي سرُور

تنقل عَنهُ صَاحبه انتقالا

وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ محسودا مُعَارضا من أَمْثَاله فَإِنَّهُ لَا يطْرق سَمعه إِلَّا مَا يكدره فحينا يُقَال لَهُ النَّاس يتحدثون أَنَّك غَلطت وجهلت وحينا يُقَال لَهُ قد خالفك القَاضِي الْفُلَانِيّ أَو الْمُفْتِي الْفُلَانِيّ فنقض حكمك وَهدم علمك وغض من قدرك وَحط من رتبتك وَقد يَأْتِيهِ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فَيَقُول لَهُ جهارا أَو كفاحا لَا أعمل على حكمك وَنَحْو ذَلِك من الْعبارَات الخشنة فَإِن قَامَ وناضل عَن حكمه ودافع فَهِيَ قومة جَاهِلِيَّة ومدافعة شيطانية

ص: 103

طاغوتية قد تكون لحراسة المنصب وَحفظ الْمرتبَة والفرار من انحطاط الْقدر وَسُقُوط الجاه وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ لَا يدْرِي هَل الْحق بِيَدِهِ أم بيد من نقض عَلَيْهِ حكمه لِأَن الْمِسْكِين لَا يدْرِي بِالْحَقِّ بِإِقْرَارِهِ وَجَمِيع المتخاصمين إِلَيْهِ بَين متسرع إِلَى ذمَّة والتشكي مِنْهُ وَهُوَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ يَدعِي أَنه حكم بَاطِل وارتشى من خَصمه أَو داهنه ويتقرر هَذَا عِنْده بِمَا يلقيه إِلَيْهِ من ينافر هَذَا الْمُقَلّد من أَبنَاء جنسه من المقلدة الطامعين فِي منصة أَو الراجين لرفده أَو النِّيَابَة عَنهُ فِي بعض مَا يتَصَرَّف فِيهِ فَإِنَّهُ يذهب يستفتيهم ويشكو عَلَيْهِم فيطلبون غرائب الْوُجُوه ونوادر الْخلاف ويكتبون خطوطهم بمخالفة مَا حكم بِهِ القَاضِي وَقد يعبرون فِي مكاتبتهم بعبارات تؤلم القَاضِي وتوحشه فَيَزْدَاد لذَلِك ألمه وَيكثر عِنْده همه وغمه هَذَا يَفْعَله أَبنَاء جنسه من المقلدين وَأما الْعلمَاء المجتهدون فهم يَعْتَقِدُونَ أَنه مُبْطل فِي جَمِيع مَا يَأْتِي بِهِ لِأَنَّهُ من قُضَاة النَّار فَلَا يعْرفُونَ لما يصدر عَنهُ من الْأَحْكَام رَأْسا وَلَا يَعْتَقِدُونَ أَنه قَاض لِأَنَّهُ قد قَامَ الدَّلِيل عِنْدهم على أَن القَاضِي لَا يكون إِلَّا مُجْتَهدا وَأَن الْمُقَلّد وَإِن بلغ فِي الْوَرع والعفاف وَالتَّقوى إِلَى مبلغ الْأَوْلِيَاء فَهُوَ عِنْدهم بِنَفس استمراره على الْقَضَاء مصر على الْمعْصِيَة

ص: 104

وينزلون جَمِيع مَا يصدر عَنهُ منزلَة مَا يصدر عَن الْعَامَّة الَّذين لَيْسُوا بقضاة وَلَا مفتين فَجَمِيع مسجلاته الَّتِي يكْتب عَلَيْهَا اسْمه ويحلل فِيهَا الْحَرَام وَيحرم الْحَلَال بَاطِلَة لَا تعد شَيْئا بل لَو كَانَت مُوَافقَة للصَّوَاب لم تعد عِنْدهم شَيْئا لِأَنَّهَا صادرة من قَاض حكم بِالْحَقِّ وَهُوَ لَا يعلم بِهِ فَهُوَ من أهل النَّار فِي الْآخِرَة وَمِمَّنْ لَا يسْتَحق اسْم الْقُضَاة فِي الدُّنْيَا وَلَا يحل تَنْزِيله منزلَة الْقُضَاة الْمُجْتَهدين فِي شَيْء وَبعد هَذَا كُله فَهَذَا القَاضِي المشئوم يحْتَاج إِلَى مداهنة السُّلْطَان وأعوانه المقبولين لَدَيْهِ ويهين نَفسه لَهُم ويخضع لَهُم ويتردد إِلَى أَبْوَابهم ويتمرغ على عتابتهم وَإِذا لم يفعل ذَلِك على الدَّوَام والاستمرار ناكدوه مناكدة تحرج عذره وتوهن قدره وَمَعَ هَذَا فأعوانه الَّذين هم مستدرون لفوائده والمقتنصون للأموال على يَده وَإِن عظموه وفخموه وَقَامُوا بقيامه وقعدوا بقعوده أضرّ عَلَيْهِ من أعدائه لأَنهم يتكالبون على أَمْوَال النَّاس وَيتم لَهُم ذَلِك بِقُوَّة يَده وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ مغفلا غير حَازِم وَلَا مطلع للأمور فتعظم الْمقَالة على القَاضِي وينسب دينهم إِلَيْهِ وَيحمل جَوْرهمْ عَلَيْهِ فَتَارَة ينْسب إِلَى التَّقْصِير فِي الْبَحْث وَتارَة إِلَى التغفيل وَعدم التيقظ وَتارَة إِلَى أَن مَا أَخذه الأعوان فَلهُ فيهم مَنْفَعَة تعود إِلَيْهِ وَلَوْلَا ذَلِك لم يُطلق لَهُم الرسن ولأخلي بَينهم وَبَين النَّاس وَأَيْضًا أعظم من

ص: 105

يذمه ويستحل عرضه هَؤُلَاءِ الأعوان فَإِن كل وَاحِد مِنْهُم يطْمع فِي أَن يكون كل الْفَوَائِد فَإِذا عرضت فَائِدَة فِيهَا نفع لَهُم من قسْمَة تَرِكَة أَو نظر مَكَان مشتجر فِيهِ فَالْقَاضِي الْمِسْكِين لَا بُد أَن يصيره إِلَى أحدهم فيوغر بذلك صُدُور جَمِيعهم وَيخرجُونَ وصدورهم قد ملئت غيظا فينطقون بذمه فِي المحافل وَلَا سِيمَا بَين أعدائه والمنافسين لَهُ وينعون عَلَيْهِ مَا قضى فِيهِ من الْخُصُومَات الْوَاقِعَة لَدَيْهِ بمحضرهم ويحرفون الْكَلَام وينسبونه إِلَى الْغَلَط تَارَة وَالْجهل أُخْرَى والتكالب على المَال حينا والمداهنة حينا

وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يقدر على إرضاء الْجَمِيع بل لَا بُد لَهُم من ثلبه على كل حَال وَهَؤُلَاء يَسْتَغْنِي عَنْهُم فيناله مِنْهُم محن وبلايا هَذَا وهم أهل مودته وبطانته والمستفيدون بأَمْره وَنَهْيه والمنتفعون بِقَضَائِهِ وَمَا أحقهم بِمَا كَانَ يَقُول بعض الْقُضَاة الْمُتَقَدِّمين فَإِنَّهُ كَانَ لَا يسمهم إِلَّا مناصل سهل وَلَا يخرج من هَذِه الْأَوْصَاف إِلَّا الْقَلِيل النَّادِر مِنْهُم فَإِن الزَّمن قد يتنفس فِي بعض الْأَحْوَال بِمن لَا يَتَّصِف بِهَذِهِ الصّفة فَهَذَا حَال القَاضِي الْمُقَلّد فِي دُنْيَاهُ وَأما حَاله فِي أخراه فقد عرفت أَنه أحد القاضيين اللَّذين فِي النَّار وَلَا مخرج لَهُ عَن ذَلِك بِحَال من الْأَحْوَال كَمَا سبق تَحْقِيقه وَتَقْرِيره فَهُوَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ

ص: 106

سَابِقًا من القلاقل والزلازل فِي نقمة بِاعْتِبَار مَا يخافه من الأخرة من أَحْكَامه فِي دِمَاء الْعباد وَأَمْوَالهمْ بِلَا برهَان وَلَا قُرْآن وَلَا سنة بل مُجَرّد جهل وتقليد وَعدم بَصِيرَة فِي جَمِيع مَا يَأْتِي ويذر ويصدر ويورد مَعَ وُرُود الْقُرْآن الصَّحِيح الصَّرِيح بِالنَّهْي عَن الْعَمَل بِمَا لَيْسَ بِعلم كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} والآيات فِي هَذَا الْمَعْنى وَفِي النَّهْي عَن إتباع الظَّن كَثِيرَة جدا والمقلد لَا علم لَهُ وَلَا ظن صَحِيح وَلَو لم يكن من الزواجر إِلَّا مَا قدمنَا من الْآيَات القرآنية فِي قَوْله {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} مَعَ مَا فِي الْآيَات الْأُخْرَى من الْأَمر بالحكم بِمَا أنزل الله وبالحق وبالعدل وَمَعَ مَا ثَبت من أَن من حكم بِغَيْر الْحق أَو بِالْحَقِّ وَهُوَ لَا يعلم أَنه الْحق أَنه من قُضَاة النَّار

فَإِن قلت إِذا كَانَ الْمُقَلّد لَا يصلح للْقَضَاء المبرم وَلَا يحل لَهُ أَن يتَوَلَّى ذَلِك وَلَا لغيره أَو يوليه فَمَا تَقول فِي الْمُفْتِي الْمُقَلّد

أَقُول أَن كنت تسْأَل عَن القيل والقال ومذاهب الرِّجَال فَالْكَلَام فِي شُرُوط الْمُفْتِي وَمَا يعْتَبر فِيهِ مَبْسُوط فِي كتب الْأُصُول وَالْفِقْه وَإِن كنت تسْأَل عَن الَّذِي

ص: 107

اعتقده وَأرَاهُ جَوَابا فعندي أَن الْمُفْتِي الْمُقَلّد لَا يحل لَهُ أَن يُفْتِي من يسْأَله عَن حكم الله أَو حكم رَسُوله أَو عَن الْحق أَو عَن الثَّابِت فِي الشَّرِيعَة أَو عَمَّا يحل لَهُ أَو يحرم عَلَيْهِ لِأَن الْمُقَلّد لَا يدْرِي بِوَاحِد من هَذِه الْأُمُور على التَّحْقِيق بل لَا يعرفهَا إِلَّا الْمُجْتَهد

هَكَذَا إِن سَأَلَهُ السَّائِل سؤالا مُطلقًا من غير أَن يُقَيِّدهُ بِأحد الْأُمُور الْمُتَقَدّمَة فَلَا يحل للمقلد أَن يفتيه بِشَيْء من ذَلِك لِأَن السُّؤَال الْمُطلق ينْصَرف إِلَى الشَّرِيعَة المطهرة لَا إِلَى قَول قَائِل أَو رَأْي صَاحب رَأْي وَأما إِذا سَأَلَهُ سَائل عَن قَول فلَان أَو رَأْي فلَان أَو مَا ذكره فلَان فَلَا بَأْس بِأَن ينْقل لَهُ الْمُقَلّد ذَلِك وَيَرْوِيه لَهُ إِن كَانَ عَارِفًا بِمذهب الْعَالم الَّذِي وَقع السُّؤَال عَن قَوْله أَو رَأْيه أَو مذْهبه لِأَنَّهُ سُئِلَ عَن أَمر يُمكنهُ نَقله وَلَيْسَ ذَلِك من التقول على الله بِمَا لم يقل وَلَا من التَّعْرِيف بِالْكتاب وَالسّنة

وَهَذَا التَّفْصِيل هُوَ الصَّوَاب الَّذِي لَا يُنكره منصف فَإِن قلت هَل يجوز للمجتهد أَن يُفْتِي من سَأَلَهُ عَن مَذْهَب رجل معِين وينقله لَهُ قلت يجوز ذَلِك بِشَرْط أَن يَقُول بعد نقل ذَلِك الرَّأْي أَو الْمَذْهَب إِذا كَانَا على غير الصَّوَاب مقَالا يُصَرح بِهِ أَو يلوح أَن الْحق خلاف ذَلِك

ص: 108

فَإِن الله أَخذ على الْعلمَاء الْبَيَان للنَّاس وَهَذَا مِنْهُ لَا سِيمَا إِذا كَانَ يعرف أَن السَّائِل سيعتقد ذَلِك الرَّأْي أَو الْمَذْهَب الْمُخَالف للصَّوَاب وَأَيْضًا فِي نقل هَذَا الْعَالم لذَلِك الْمَذْهَب الْمُخَالف للصَّوَاب وسكوته عَن اعتراضه إِيهَام للمغترين بِأَنَّهُ حق وَفِي هَذَا مفْسدَة عَظِيمَة فَإِن كَانَ يخْشَى على نَفسه من بَيَان فَسَاد ذَلِك الْمَذْهَب فَليدع الْجَواب ويحيل على غَيره فَإِنَّهُ لم يسْأَل عَن شَيْء يجب عَلَيْهِ بَيَانه فَإِن ألجأته الضَّرُورَة وَلم يتَمَكَّن من التَّصْرِيح بِالصَّوَابِ فَعَلَيهِ أَن يُصَرح تَصْرِيحًا لَا يبْقى فِيهِ شكّ لمن يقف عَلَيْهِ إِن هَذَا مَذْهَب فلَان أَو رَأْي فلَان الَّذِي سَأَلَ عَنهُ السَّائِل وَلم يسْأَله عَن غَيره

ص: 109