الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحرير عنوان الكتاب
لم ينص المؤلف على عنوان كتابه في مقدمته، ولكنه أحال عليه في ثلاثة كتب من مؤلفاته باسم «المعالم» يعني:«معالم الموقعين عن ربِّ العالمين» ، كما سبق في المبحث السابق. أما كتب التراجم ومخطوطات الكتاب فورد فيها هذا العنوان وعنوان آخر اشتهر به الكتاب، ولا فرق بينهما إلا في الكلمة الأولى، ولا شك أن كليهما من تسمية المؤلف. ولكن قبل أن نتكلم على العنوان المشهور، نبدأ بالجزء الثاني منه الذي لا خلاف فيه، فمن الموقِّعون عن رب العالمين؟
للإجابة عن هذا السؤال نرجع إلى كتاب المؤلف: «التبيان في أيمان القرآن» الذي يقول فيه، وهو يذكر أنواع الأقلام (ص 306، 307): «والقلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله، وهو قلم الفقهاء والمفتين. وهذا القلم أيضاً حاكم غير محكوم عليه، فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق. وأصحابُه مخبِرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده» . والقلم السابع عنده: «قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق، وتنفَّذ به القضايا، وتراق به الدماء، وتؤخذ به الأموال والحقوق من اليد العادية، فتُرَدُّ إلى اليد المحقّة، وتثبت به الأنساب، وتنقطع به الخصومات» . فهذا قلم القضاة. ثم يذكر النسبة بين القلمين، فيقول:«وبين هذا القلم وقلم التوقيع عن الله عموم وخصوص: فهذا له النفوذ واللزوم، وذاك له العموم والشمول» .
وفي مقدمة كتابنا هذا قسم المؤلف علماء الأمة إلى ضربين: أحدهما حفاظ الحديث وجهابذته، والثاني: فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام. ثم قال في علو منزلتهم وما يشترط وصفهم به (1/ 17):
«ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلمَ بما يبلغ والصدقَ فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالمًا بما يبلِّغ، صادقًا فيه. ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضيَّ السيرة، عدلًا في أقواله وأفعاله، متشابه السرِّ والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله. وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحلِّ الذي لا يُنكَر فضله، ولا يُجهَل قدرُه، وهو من أعلى المراتب السنيَّات، فكيف بمنصب التوقيع عن ربِّ الأرض والسماوات؟
…
وَلْيعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وَلْيوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله».
وقال في آخر الكتاب في الفائدة الثامنة عشرة من الفوائد المتعلقة بالفتوى (5/ 59): «فخطرُ المفتي عظيم، فإنه موقِّع عن الله ورسوله، زاعم أن الله أمر بكذا، وحرّم كذا، وأوجب كذا» .
نصوص المؤلف هذه صريحة في أن المقصود بالموقِّعين عن ربِّ العالمين في عنوان الكتاب: الفقهاء والمفتون. وإذا دخل فيهم القضاة، فإنما يدخلون للنسبة المذكورة بين قلمهم وقلم المفتين.
فإذا ألقينا نظرة خاطفة على المطالب العظيمة التي دار عليها الكتاب، مثل تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وبالرأي المخالف للنص، وأقسام الرأي والاستصحاب والقياس، وبيان أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، وشمول النصوص للأحكام، وشرح كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري، وتفصيل القول في التقليد، وتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة وغيرها، وسدّ الذرائع، والكلام على الحيل وغيرذلك، ثم ختم الكتاب بفوائد بلغ عددها تسعين فائدة تتعلق بالفتوى والمفتي، ثم أورد
فصولا مرتبة من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم = ظهر لنا أن تلك المطالب العظيمة بمنزلة صُوى ومعالم ومنارات نصبها المؤلف رحمه الله للموقعين عن ربِّ العالمين، ليهتدوا بها إذا عميت عليهم المسالك، ويستنيروا بها إذا أظلمت عليهم السبل. ومن هنا سمّى كتابه «معالم الموقعين عن رب العالمين» ، فكان الاسم مطابقًا لمسمّاه.
وبهذا العنوان ذكرالكتاب صلاح الدين الصفدي (ت 764) في كتابيه «الوافي بالوفيات» (2/ 271) و «أعيان العصر» (4/ 369)، وعنه ابن تغري بردي (ت 874) في «المنهل الصافي» (9/ 242). وكذا سماه «معالم الموقعين» أبوذر أحمد بن برهان الدين سبط ابن العجمي (ت 884) في «تنبيه المعلم» (ص 107)، وابن العماد الحنبلي (ت 1089) لما نقل منه في «شذرات الذهب» (1/ 259) نصًّا في ترجمة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وبهذا الاسم سمِّي الكتاب في نسخ من النسخ الخطية القديمة والمتأخرة، كما سيأتي.
ولكن يظهر أن المؤلف رحمه الله آثر فيما بعد تركيب «أعلام الموقِّعين» لكونه أخفَّ على اللسان من تركيب «معالم الموقِّعين» ، ثم لأنه لا فرق بينهما في المعنى، إذ لفظ الأعلام مرادف للفظ المعالم، فكلاهما يؤدي الغرض المقصود بعينه. وهذا الإمام الخطابي سمَّى شرحه لسنن أبي داود «معالم السنن» ، ولما توخَّى المعنى نفسه في شرحه لصحيح البخاري سماه «أعلام الحديث». ثم انظر إلى قول المؤلف في «الصواعق المرسلة» (4/ 1572) عن الكواكب: «وجُعلت زينةَ السماء، ومعالمَ يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر
…
». وقوله عنها في الصفحة التالية:»
…
وجُعِل بعضُها
ظاهرًا لا يحتجب أصلا، بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر، فهم ينظرون إليها متى أرادوا، ويهتدون بها حيث شاؤوا».
وما ذكرنا من طلب الخفّة والسلاسة في العنوان يظهر جليًّا في تغيير المؤلف عنوان كتاب آخر له أيضا، سمّاه أولا «بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلّل السباق والنضال» . وهذا العنوان مثل عنوان كتابنا «معالم الموقعين عن رب العالمين» ذكره الصفدي في كتابيه. ولا يخفى ما فيه من ثقل لتوالي الإضافات في السجعة الثانية مع العطف في الإضافة الأخيرة، فاستطال التركيب، فاختار المؤلف فيما بعد عنوانًا آخر فكّ فيه الإضافات، وانتقى كلمات أخرى أخفّ وألطف، وهو «بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل». وهذا العنوان الجديد مثل عنوان كتابنا «أعلام الموقعين عن رب العالمين» ذكرهما شهاب الدين ابن رجب (ت 774) في معجم شيوخه (المنتقى:101) وابنه زين الدين ابن رجب (ت 795) في «الذيل على طبقات الحنابلة» (5/ 175)، والأب والابن كلاهما من تلامذة المؤلف.
ومما يدل على أن العنوان الأول وهو «معالم الموقعين عن رب العالمين» الذي ذكره الصفدي أقدم من هذا الذي ذكره ابن رجب: حجمه الذي نص عليه الصفدي، وهو «سفر كبير» ، مثل حجم طريق الهجرتين، لا كحجم زاد المعاد الذي في «أربعة أسفار» . أما عند ابن رجب فزاد المعاد في «أربعة مجلدات» كما قال الصفدي، وطريق الهجرتين في «مجلد ضخم» كما قال الصفدي أيضا؛ ولكن أعلام الموقعين في «ثلاثة مجلدات»
خلافًا للصفدي، وهذا هو حجم الكتاب في جميع نسخه التي وصلت إلينا. فدلّ ذلك على أن المؤلف قد أضاف إلى كتابه الذي كان في سفر كبير ــ عند ما قيَّد الصفدي اسمه وحجمه نقلا عن المؤلف، وقد يكون وقف على مسودة الكتاب عنده ــ زيادات كثيرة تبلغ نحو الثلثين، فجاءت النسخة النهائية منه في ثلاثة أسفار. ولكن لا يعني ذلك أنه لما أنجز الكتاب في صورته الأخيرة سمّاه «أعلام الموقعين عن رب العالمين» ، بل الظاهر أنه أخرجه بعنوان «معالم الموقعين عن رب العالمين» ، وانتسخت منه النسخ، ثم بدا له أن يستبدل بالمعالم لفظ الأعلام، فسمِّي الكتاب في نسخ أخرى بالعنوان الجديد. وهذا العنوان هو المذكور في المصادر الآتية:
- «الدرر الكامنة» (3/ 402) لابن حجر (ت 852).
- «بغية الوعاة» (1/ 58) للسيوطي (ت 911).
- «طبقات المفسرين» (2/ 96) للداوودي (ت 945).
- «كشف الظنون» (1/ 81) لحاجي خليفة (ت 1067).
- «شذرات الذهب» (8/ 289) لابن العماد (ت 1089).
- «البدر الطالع» (2/ 144) للشوكاني (ت 1250).
الجدير بالذكر أن السيوطي اعتمد في ترجمة ابن القيم وأسماء مؤلفاته على الصفدي، لكنه لم يتابعه في عنوان كتابنا. هذا إن كان ما ورد في النسخ المطبوعة من بغية الوعاة سالمًا من تغيير الناشرين.
أما ابن العماد، فقد نقل جريدة مؤلفات ابن القيم عن ذيل ابن رجب، فسماه «أعلام الموقعين» ، ثم نقل في ترجمة عمرو بن شعيب (2/ 84) من
كتابنا كلامًا لابن القيم عن صحيفته عن أبيه عن جده، فسماه كذلك. ولكن لما نقل منه في ترجمة أم المؤمنين عائشة (1/ 259) سماه «معالم الموقعين» كما سبق. ولا غرابة في هذا، فلعله استفاد في الموضعين من نسختين مختلفتين من الكتاب، سمي في إحداهما بالمعالم وفي الأخرى بالأعلام، غير أن من الأصول التي اعتمدنا عليها في إخراج نشرتنا هذه نسخةً وقف عليها ابن العماد، وطالعها «مطالعة تفهّم» ، كما ذكر في آخر المجلد الأول منها. وكان العنوان المكتوب في أول هذه النسخة وخاتمتها:«معالم الموقعين» ، ولكن غيّر بعضهم كلمة المعالم إلى الأعلام! فالظاهر أن مصدر ابن العماد فيما نقل وسمّى نسختنا هذه.
وذكّرنا هذا التغيير بما فعله محققُ «شذرات الذهب» في هذا الموضع، إذ تصرَّف في متن الكتاب، فأثبت «إعلام الموقعين» مكان «معالم الموقعين» خلافًا لما جاء في نسخته المنقولة من خط ابن العماد وفي الطبعة السابقة، وقال في تعليقه:«في الأصل والمطبوع: «معالم الموقعين» وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه»!
ولعلك تنكرهذا التسرُّعَ في تغيير المتن، وهذا الجزمَ في التخطئة والتصحيح، وتُنحي باللائمة على المحقق؛ ولكنه عندنا غير ملوم، فإنه صرّح في مقدمته (1/ 95) بأن والده ــ غفر الله له ــ علّمه أن «التحقيق يعني محاكمة النص
…
وذلك لتقويم ما قد يقع فيه من الخطأ، واستدراك السّقط، لأن العلماء المتقدمين الذين خلَّفوا لنا هذا التراث العظيم هم مثلنا من بني البشر، وبنو البشر عرضة للخطأ والنسيان، مهما كان موقع أحدهم من أهل عصره». فلم يذكر المحقق ــ كما ترى ــ أن والده علّمه «احترام النص» ،
وأنت خبير بأن احترام النص هوالذي يحمل المحققَ ــ إذا خالجه شكٌّ في شيء منه ــ على التثبت والتأني والمبالغة في التفتيش والتقصّي. على أننا إن فرضنا أن تحقيق النص يعني محاكمته كما زعم، فإن المحاكمة أيضا تحتاج إلى آلات أخرى كثيرة غير كرسي الحكم!
وهذا التصرف من محقق الكتاب جعلنا نشك في الموضع الآخر الذي نقل فيه ابن العماد من الكتاب باسم «أعلام الموقعين» ، ولاسيما لأن الموضعين متقاربان، وكلاهما منقول من المجلد الأول، الذي أكمل مطالعته مطالعةَ تفهُّم سنة 1076، قبل الفراغ من تأليف «شذرات الذهب» سنة 1080؛ وإن لم يكن ذلك يهمّنا من جهة التسمية نفسها، إذ كان ابن القيم هوالذي سمَّى كتابه بالاسمين، وكلاهما يؤدي المعنى نفسه كما سبق.
أما الذين أفادوا من هذا الكتاب مثل برهان الدين ابن مفلح (ت 884)، وعلاء الدين المرداوي (ت 885)، وشهاب الدين الشويكي (ت 939)، وشرف الدين الحجاوي (ت 968)، والبهوتي (ت 1051) وشمس الدين السفاريني (ت 1188) وغيرهم ــ وسيأتي تفصيل نقولهم ــ فجُلُّهم أحالوا عليه بعنوان «أعلام الموقعين» .
تبيَّن من هذا العرض أن العنوان الأخير وهو «أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين» صار أشهر من العنوان الأول، وزاد في شيوعه وانتشاره أنه طبع الكتاب بهذا الاسم. ولكن حدث إشكال في ضبط كلمة الأعلام. يقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه «ابن قيم الجوزية» (ص 211):«وهذا (يعني «إعلام الموقعين» بكسر الهمزة) هو الضبط المشتهر على ألسنة علماء قطرنا، أعني في الديار النجدية. ولم أر من ضبطه بالحرف من قدماء النقلة
ومتأخريهم». ثم قال عن «أعلام الموقعين» بفتح الهمزة (ص 212): «وهذا الضبط منتشر عند بعض علماء الأقطار من غير نجد» . ونقل من حاشية للشيخ عبد الفتاح أبوغدة على كتاب «قواعد في علوم الحديث» للشيخ ظفر أحمد التهانوي (ص 97) أنه سمع هكذا بكسر الهمزة من غير واحد من شيوخه، ومنهم الشيخ راغب الطباخ (1293 - 1370) والشيخ زاهد الكوثري (1296 - 1371).
ولا شك أن الناطقين بالكسر لم يكن لديهم مستند في ذلك، وإنما جرى على ألسنتهم دون نظر وتحقيق. ولعل من أسباب الوهم شيوع لفظ «الإعلام» في أسماء كتب كثيرة مشهورة، مثل «إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء» لابن الجوزي، و «إعلام الساجد بأحكام المساجد» للزركشي، و «إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب» للسيوطي، و «إعلام الناسك بأحكام المناسك» لنور الدين الشافعي، و «إعلام النبيه بما زاد على المنهاج من الحاوي والبهجة والتنبيه» لابن قاضي عجلون، و «إعلام الأعلام بمن ولي قضاء الشام» لابن اللبودي، و «إعلام الورى بمن ولي نائبًا من الأتراك بدمشق الكبرى» لابن طولون وغيرها.
ويضاف إلى هذا الشيوع للفظ الإعلام في عنوان الكتاب قربُ معناه وكثرةُ دورانه على ألسنة الناس في عموم كلامهم. ونخشى أن يكون سجع العنوان (الموقعين + العالمين) أيضًا ساعد على الوهم، إذ خيَّل إلى الناس أنه عنوان تامّ، فخفي عليهم ما فيه من نقص وقصور لعدم ذكر ما يتعلق به لفظ الإعلام. فلو فسّرت العنوان كاملاً على وجه الكسر، فقلت:«إخبار المفتين» = لظهر ما كان خافيًا من النقص والضعف، بل تبيَّن عجزُ واضع
العنوان أيضًا إذ أعياه تكملة عنوانه بسجعة ملائمة تُتِمّ معناه! ولذلك قلّما تجد عنوانًا ورد فيه لفظ الإعلام إلا ومتعلقه مذكور فيه، كما رأيت في العناوين التي ذكرناها آنفا. أما عنوان كتاب ابن طولون:«إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» ، فإنما حُذف فيه متعلّقُ لفظ الإعلام لدلالة متعلّق «السائلين» المذكور عليه، فالسؤال والجواب كلاهما عن «كتب سيد المرسلين» .
وقد ذكر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في حاشيته المذكورة أنه كتب إلى الشيخ مصطفى الزرقاء يستطلع رأيه في ترجيح الفتح أو الكسر في عنوان كتابنا، فأجاب:«لا يوجد ــ فيما أعلم ــ دليل يصلح للقطع بأن مؤلفه رحمه الله تعالى وضعه هكذا أو هكذا، لأني أتذكر أنني تتبعت الدلائل كثيرًا، فلم أصل إلى نتيجة قطعية. ولكلٍّ دليل» . ثم ذكر دليل الفتح، فقال:«فذكرُه كبارَ أهل الفتيا والقضاء من الصحابة والتابعين على نطاق واسع يوحي بالفتح جمعًا لعَلَم. أما دليل الكسر فهو كون الكتاب «يتضمن كثيرًا من الفقه والتوجيه والتأصيل الشرعي من رأيه وفهمه واجتهاده، كأنما هو خطاب للمتصدّين للفتوى والقضاء، الموقّعين عن الله، فهو إعلام لهم» . فالقضية عنده قضية ترجيح واستحسان، لا قضية خطأ وصواب. قال الشيخ عبد الفتاح:«وهي كلمة فصل» . كذا قال! وإنما هي ــ كما ترى ــ كلمة تردّد، إذ لم يصل الشيخ مصطفى الزرقاء إلى نتيجة قطعية، كما اعترف بصراحة في أول الجواب.
أما ما ذكره من توجيه الفتح، فإنه «ليس بالقائم، وسبيله الرفض» كما يقول الشيخ بكر أبو زيد في كتابه «ابن القيم» (ص 213)، لأن ذكر أعلام الفتيا والقضاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ليس إلا جزأ من مقدمة
المؤلف، واستغرق نحو عشرين صفحة فحسب من الكتاب الزائدة صفحاته على 1600 صفحة (من طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله). وأما توجيه الكسر فقد تقدم ما فيه.
وبعد، فإن اسم الكتاب في نسخة المكتبة الأزهرية التي وقفنا على المجلد الثاني منها كتب هكذا: «أَعلام الموقعين
…
»، فوضعت علامة الهمزة فوق الألف مع ضبطها بالفتح. وهذه النسخة أصل جليل متقن مكتوب سنة 790، ولكن عنوان الكتاب فيها ليس بخط ناسخها. وبين أيدينا نسخة أخرى من الكتاب محفوظة في مكتبة مديرية الأوقاف العامة ببغداد، وهي نسخة قديمة أيضًا وصل إلينا منها المجلد الأول، ولعل صفحة العنوان منها ضاعت، غير أن أحد مالكيها سنة 995 كتب اسم الكتاب «اَعلام الموقعين
…
»، وضبط أوله بالفتح.
أما طبعات الكتاب، فإن طبعته الأولى التي صدرت في الهند سنة 1313 - 1314 لم يضبط فيها أول كلمة «اعلام» بالفتح أو الكسر، على طريقتهم في تجريد الألف من علامة الهمزة في الخط الفارسي وخط النسخ كليهما، كما ترى في الكتب العربية المطبوعة قديمًا طباعة حجرية أو بتنضيد الحروف في الهند وتركيا وإيران، بل في بعض مطبوعات مصر أيضا، وكان ذلك امتدادًا لطريقة ناسخي المخطوطات العربية عمومًا. ولما طبع الكتاب أول مرة في مصر سنة 1325 كتب عنوانه أيضًا «اعلام الموقعين» دون ضبط أوله كالطبعة الهندية. نعم، وضعوا في خاتمة الكتاب علامةً على الألف تشبه نقطتين، ولكنها ليست بهما ولا علامة الهمزة. وتابعتها في عدم الضبط الطبعة المنيرية غير المؤرخة. أما طبعة الشيخ محمد محيي الدين
عبد الحميد الصادرة سنة 1374 (1955 م)، فإنها أيضًا أثبتت في صفحة العنوان «اعلام الموقعين» دون ضبط غير أنها التزمت في خاتمة كلِّ مجلد وبداية فهرسه ونهايته بوضع علامة الهمزة فوق الألف:«أعلام الموقعين» . وكأنها بصنيعها هذا قد مهدت لصدور ثلاث طبعات: طبعة الشيخ عبد الرحمن الوكيل سنة 1389 (1969 م)، وطبعة الشيخ طه عبد الرؤوف سعد سنة 1973 م، وطبعة الشيخ عصام الحرستاني سنة 1419 باسم «أعلام الموقعين» دون تردد. ولكن الشيخ مشهور بن حسن لما أصدر الكتاب بتحقيقه سنة 1423 كانت نشرته أول نشرة، في تاريخ الكتاب مخطوطِه ومطبوعِه، أُثبِت فيها العنوانُ بكسر الهمز «إعلام الموقعين» !
هذا، وقد ذكر الأمير صديق حسن خان في حاشية كتابه «سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند» (ص 84) وهو مطبوع في الهند سنة 1293 أن في كشف الظنون:«الموفَّقين» يعني: في موضع «الموقِّعين» ، والإحالة هنا على نسخة خطية من الكشف، فإن هذا التصحيف لم يقع في نشرة فلوجل من الكتاب (1/ 360 - 361)، التي صدر المجلد الأول منها سنة 1837 م (1253 هـ) قبل طباعة كتاب الأمير. والجدير بالذكر أن الطبعة التركية من الكشف أيضا بريئة من هذا الخطأ. ولكن الغريب حقًّا أن الشيخ أنور شاه الكشميري (1292 - 1352) نقل في كتابه «فيض الباري على صحيح البخاري» (2/ 267) من كتابنا هذا، وقال: «ومرّ عليه ابن القيم في أعلام الموقَّعين، والصواب: أعلام الموفَّقين
…
». قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بعد ما نقل كلامه في حاشيته المذكورة: «وأثبته بفتح الهمزة، وبلفظ الموفقين بالفاء ثم القاف من التوفيق. وهو شيء غريب يعدّ من سبق القلم وتغيير الاسم
العلَم، وهو ليس بجائز إلا عن نصٍّ من صاحبه». قلنا: وبصرف النظر عن تصحيحه الجازم من غير حجة، هل ذهب على الشيخ أنور شاه أن بعده في العنوان «عن رب العالمين» ، فكيف يكون تأويل «الموفقين عن رب العالمين» عنده؟ نعم، لوقال: إن الصواب «
…
الموفقين عند رب العالمين»، كما ذكر البغدادي في «هدية العارفين» (2/ 158)، لكان له وجه من التأويل، مع بُعده عن الصواب أكثر من الأول لتصحيف الكلمتين.
ولم ينته شقاء هذا العنوان بعدُ، إذ قرأ المستشرق الألماني غوستاف فلوجل ــ وهوالذي أخرج الطبعة الأولى من «كشف الظنون» مع ترجمته اللاتينية ــ لفظ «الموقعين» بفتح القاف، وفسره بمعنى المنكوبين الذين ابتلاهم الله بالمصائب!
وهكذا أصيب ثلاثة أخماس هذا العنوان بتصحيف أو تحريف أو سوء تأويل! ولو علم المؤلف رحمه الله أن كلمة «الأعلام» المشتركة ستجلب إلى عنوانه الجديد كلّ هذا التخليط لصرَف النظرَ عنه بالكلية، وأبقى على العنوان الأول الصريح الدلالة على ما ضمّن كتابه العظيم من صُوى وأعلام يهتدي بها الفقهاء والمفتون والقضاة. ألا، وهو:«معالم الموقعين عن ربِّ العالمين» ، وبه سمِّي الكتاب في ثلاث نسخ من النسخ التي بين أيدينا.
وقد اخترنا عنوان «أعلام الموقعين» لأنه الذي أقرَّه المؤلف أخيرًا لخفته على اللسان، وهو مرادف للفظ «المعالم» الذي ذكره المؤلف في بعض كتبه، ولا فرقَ بينهما في المعنى. أما «إعلام الموقعين» بكسر أوله فبعيد كما سبق تفصيله.
* * * *