المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بناء الكتاب وموضوعاته - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - المقدمة

[ابن القيم]

الفصل: ‌بناء الكتاب وموضوعاته

‌بناء الكتاب وموضوعاته

وصف المؤلف كتابه «طريق الهجرتين» في مقدمته بأنه جاء «غريبًا في معناه، عجيبًا في مغزاه» . ولوقال: «عجيبًا في مبناه» لكان مصداقَ قوله كتابان من كتبه بصفة خاصة: «مفتاح دار السعادة» ، و «أعلام الموقعين عن رب العالمين» .

ولا شك أن بناء «المفتاح» أغرب من بناء «الأعلام» ، لأن المؤلف رحمه الله استطرد في الأول إلى مباحث كبيرة كانت خليقةً بإفرادها، وأمعن في الاستطراد إمعانًا، حتى اضطرّ أخيرًا إلى إنهاء الكتاب دون إكماله حسب خطته المرسومة. أما كتاب «الأعلام» فليست غرابته في الاستطراد إلى مباحث بعيدة عن موضوع الكتاب، بل في إدراج أبواب كبيرة جدًّا، هي من مقاصد الكتاب وصميم الموضوع، تحت فصل لا يدل عنوانه عليها، على سبيل الاستطراد المتسلسل، الذي كلُّ استطراد فيه يفضي إلى استطراد آخر. ومثله كمثل قرية صغيرة، في مدخلها لوحة لا تحمل إلا اسم القرية، فإذا دخلتها أدّاك أحد أزقّتها الضيقة إلى مدينة فخمة واسعة، وبينما تجوِّل في هذه المدينة فإذا بطريق من طرقها نازل إلى نفق طويل مضيء يهجم بك على مدينة جديدة تحت المدينة الأولى أكبرمنها وأفخم!

قبل أن نخوض بك في فصول الكتاب، وترتيب المباحث فيه، ومنعرجات هذا الترتيب، نضع بين يديك البناء العام والموضوعات الكبرى التي اشتمل عليها الكتاب:

- مقدمة الكتاب.

ص: 29

- أقسام الرأي المحمود والرأي المذموم، وحجج أهل الرأي وناقديهم.

- شرح كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء.

- القياس: أنواعه، واحتجاجات القائلين به والمنكريه والمتوسطين بينهم.

- تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب.

- تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.

- سدّ الذرائع، وإبطال الحيل.

- جواز الفتوى بالآثار السلفية وفتاوى الصحابة وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم.

- خاتمة الكتاب الأولى: فوائد تتعلق بالفتوى والمفتي.

- خاتمة الكتاب الثانية: فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم.

الجدير بالذكر هنا أن شرح كتاب أمير المؤمنين جزء من الموضوع السابق وهو باب الرأي، والقياس جزء من شرح كتاب عمر. فكلاهما جاء استطرادًا كما سترى، ولكنهما من أهم أبواب الكتاب، ومقصودان عند المؤلف بالقصد الأول، وقد استغرقا نحو الثلث من هذا الكتاب. وبحث سدّ الذرائع والحيل كذلك جرّت إليه مسألةُ القصود في العقود في فصل تغيّر الفتوى، ولكنه باب مهم أيضا، وأفرده المؤلف بالكلام عليه. وللكتاب

ص: 30

خاتمتان كما ترى، استهل الأولى بقوله:«ولنختم الكتاب» ، والأخرى بقوله:«ونختم الكتاب» . ولعل الثانية أضافها فيما بعد.

والآن نلقي نظرة خاطفة على الكتاب تكشف بالاختصار عما تنطوي عليه الأبواب المذكورة من مطالب عظيمة وبحوث كثيرة نفيسة في الفقه وأصول الفقه وأسرار الشريعة، وغيرها، وتكشف أيضا عن الترتيب الداخلي لمباحث الكتاب، فتقف على بعض مناهج ابن القيم في التأليف وسياسته فيه.

* [مقدمة الكتاب](1/ 3 - 92):

قسم فيها المؤلف علماء الأمة إلى قسمين: الأول حفاظ الحديث وجهابذته النقاد، والثاني فقهاء الإسلام؛ وبيّن أهمية منصب المفتي لكونه موقِّعا عن الله عزوجل، وسرد أسماء المفتين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولما ذكر فقهاء بغداد ومنهم الإمام أحمد ذكر الأصول الخمسة التي بنيت عليها فتاواه. ثم تكلم على كراهية السلف للتسرع في الفتوى، وتحريم القول على الله بغير علم في الفتيا والقضاء.

* فصول في كلام الأئمة في أدوات الفتيا، وشروطها، ومن ينبغي له أن يفتي، وأين يسع قول المفتي: لا أدري. (1/ 93 - 98).

كذا وقع لفظ «فصول» في جميع النسخ الخطية، مع أنه فصل واحد. وسيأتي في آخر الكتاب باب طويل في آداب الفتيا وشروطها وما إلى ذلك.

* فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول. (1/ 98 - 185).

نقل فيه ما روي عن الصحابة من إنكار الرأي، ثم عقد فصلا لجواب

ص: 31

أهل الرأي، ونقل فيه ما روي عن الصحابة من الأخذ بالرأي، ثم ذكر أنه لا تعارض بين الآثار المذكورة، ويتبيّن ذلك بالفرق بين الرأي الباطل والرأي الحق. ثم فسر لفظ الرأي، وقسمه إلى ثلاثة أقسام: باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه. ثم قسم الرأي الباطل إلى خمسة أنواع، وذكر قول ابن عبد البر إن الآثار المروية في ذم الرأي لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة، وهنا نقل آثار التابعين ومن بعدهم في ذم الرأي.

ثم تكلم على الرأي المحمود، وقسمه إلى أربعة أنواع. ولما عقد فصلا للنوع الرابع منه وهو أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها فيه ففي السنة، فإن لم يجد فيها ففي أقضية الصحابة، وإلا فاجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من المصادر المذكورة. واستدل على ذلك بقول عمر لشريح:«ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم يستبِنْ في كتاب الله فمن السنَّة، فإن لم تجده في السنَّة فاجتهِدْ رأيَك» . ثم نقل خطاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، وأخذ في شرحه.

* شرح كتاب عمر إلى أبي موسى في القضاء (1/ 185 - 2/ 520).

وقد شرحه المؤلف فقرة فقرة. ومن المباحث المهمة التي جاءت ضمن الشرح:

- معنى البينة ونصاب الشهادة (1/ 194 - 223). وبيّن أن الأمر بالتعدد في جانب التحمل وحفظ الحقوق لا يلزم منه الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت، وأن الطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع، ثم استطرد إلى أن السنة تولية الأنفع للمسلمين على من هو أفضل منه. وقال في آخر البحث:«ولا تستطل هذا الفصل، فإنه من أنفع فصول الكتاب» .

ص: 32

- مسألة شهادة القريب للقريب (1/ 233 - 248).

- مسألة شهادة القاذف إذا تاب (1/ 260 - 273).

ولما وصل في الشرح إلى قول عمر: «ثم الفهمَ الفهمَ فيما أُدِليَ إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنَّة، ثم قايِسِ الأمورَ عند ذلك، واعرِفِ الأمثال، ثم اعمِدْ فيما ترى إلى أحبِّها إلى الله وأشبَهِها بالحق» (1/ 277) جعله مدخلًا لمبحث القياس الذي هو أحد الموضوعات الكبرى للكتاب، وقال:«هذا أحد ما اعتمد عليه القيّاسون في الشريعة» .

* القياس (1/ 277 - 2/ 506):

افتتحه بتفصيل أدلة أصحاب القياس (1/ 277 - 453). فذكر أولا ضروب الاستدلال، والأقيسة المستعملة فيه، وهي ثلاثة: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبَه، مع إيراد أمثلة من القرآن لكل من الأنواع المذكورة وتفسيرها في فصول مستقلة. ثم عقد فصلًا جديدًا افتتحه بقوله:«ومن هذا ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون» :

- أمثال القرآن (1/ 309 - 377)

وهو مبحث طويل ونفيس، ولكن لم يكن السياق مقتضيًا لكلِّ هذا. وكان حسبه أن يذكر مثلين أو ثلاثة، بعدما أورد من قبل أمثلة كثيرة لأنواع القياس الثلاثة. ويذكرون في ترجمة المؤلف كتابًا له بهذا العنوان، فلعله توسع في هذا المبحث فيما بعد. ولم يصل إلينا كتابه المذكور غير أن بعض علماء نجد استلّ مبحث الأمثال من هنا، وسماه «درر البيان في أمثال القرآن» ، وهو مطبوع.

ص: 33

ثم ذكر أدلة أخرى لأصحاب القياس من السنة وعمل الصحابة واختلافهم في مسائل كثيرة. وهنا جاء ببحث مهم ولطيف:

- منشأ غلط أرباب الألفاظ وأرباب المعاني في فهم مراد المتكلم (1/ 439 - 453).

وبعد ما فرغ من أدلة القيَّاسين قال: «قد أتينا على ذكر فصول نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منها! فلنذكر مع ذلك ما قابلها من النصوص والأدلَّة الدالّة على ذمِّ القياس، وأنه ليس من الدين، وحصولِ الاستغناء عنه والاكتفاء بالوحيين. وها نحن نسوقها مفصّلةً مبيّنةً بحمد الله» .

وبدأ تفصيل أدلة نفاة القياس (1/ 453 - 2/ 144) بذكر استدلالهم ببعض الآيات، واعتراضاتهم الأخرى على القياس، وذكر قولهم: إن ضرب الأمثال لله منهي عنه، فكذلك ضرب الأمثال لدينه، وإن تمثيل غير المنصوص على حكمه بالمنصوص عليه لشبهٍ ما هو ضربُ الأمثال لدينه. ثم قال: «وهذا بخلاف ما ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمثال في كثير من الأحكام

ومن أحسن هذه الأمثال وأبلغها وأعظمها تقريبا للأفهام: ما رواه

»:

- أمثال الحديث (1/ 458 - 480).

ألم تر كيف تلطف المؤلف لإيجاد مكان لهذا الموضوع ضمن أدلة النفاة، مع أنه من أدلة المثبتين؟ وكأنه شعر بأنه لوجمع أمثال القرآن والحديث كليهما في مكان واحد هنا أو هناك لاستثقل القارئ إقحام الموضوعين على هذا الوجه، ففرّق بينهما. ومما يلاحظ أن المؤلف اقتصر على سرد أمثال الحديث هنا، مع أنه قد فسّر بعضها في مؤلفاته الأخرى،

ص: 34

خلافًا لأمثال القرآن التي أفاض في تفسيرها من قبل.

واستمرّ على تفصيل أدلة نفاة القياس، وسرد أقوال الصحابة والتابعين في ذمه، وبيان تناقض أهل القياس واضطرابهم في أقيستهم بالجمع بين المتفرقات والتفريق بين المتماثلات. وفي خلال ذلك ناقش مسائل كثيرة آخرها:

- القصاص في اللطمة والضربة (2/ 118 - 142)

وقد أطال فيها، إلى أن قال: «وهذا غيض من فيض، وقطرة من بحر من تناقض القيّاسين والآرائيين

فانظر إلى هذين البحرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما

».

ثم ذكر قول المتوسطين بين الفريقين (2/ 144 - 506). وهذا القسم لب هذا الباب وخلاصة فكر المؤلف وشيخه في القياس ومعظمه مأخوذ منه، ويشتمل على أهم فصول الكتاب. ذكر في أوله أن الناس في القياس ثلاث فرق: فرقة قالت إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وقال غلاتها: ولا بعُشر معشارها. وأخرى حرّمت القياس البتة، وأنكرت الحكمة والتعليل في الخلق والأمر، وفرقة ثالثة نفت الحكمة والتعليل والأسباب لكنها أقرّت بالقياس. ثم قال: إن كل فرقة من الفرق الثلاث سدُّوا على أنفسهم طريقًا من طرق الحق، فاضطرّوا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحمله. والردُّ علىهم اقتضى الكلام على:

- الاستصحاب (2/ 158 - 178).

ثم ذكر خطأ أصحاب الرأي والقياس من خمسة أوجه، وأنه للرد عليها

ص: 35

سيعقد ثلاثة فصول هي من أهمّ فصول الكتاب، وبها يتبين للعالم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع: الأول في بيان شمول النصوص للأحكام والاكتفاء بها عن الرأي والقياس. والثاني في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس وبطلانها مع وجود النص. والثالث في بيان أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح. ولكن الغريب أنه عقد فصلين فقط: الفصل الأول، والفصل الثالث ــ وجعله الثاني ــ هكذا:

- الفصل الأول في شمول النصوص للأحكام وإغنائها عن القياس (2/ 179 - 233).

- الفصل الثاني في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (2/ 233 - 506).

فأغفل ــ كما ترى ــ الفصل الذي موضوعه سقوط الرأي والاجتهاد والقياس مع وجود النص. وهو خلل ظاهر لا أدري كيف ذهب عليه! ولكن سيأتي هذا البحث مطولا بعد باب التقليد، فهل نقله من هنا فيما بعد، ونسي إصلاح السياق هنا؟

وناقش في الفصل الأول ستّ مسائل «اختلف فيها السلف ومن بعدهم، وقد بينتها النصوص» وكلُّها في الفرائض كالمشرَّكة والعمريتين وغيرهما.

أما الفصل الثاني، فناقش فيه مسائل كثيرة مما أشكل على الفقهاء وظنوها بعيدة من القياس، منها: الوضوء من لحم الإبل، والفطر بالحجامة، والحوالة، والسلم، والإجارة، وحمل العاقلة الدية عن الجاني، وحديث

ص: 36

المصرّاة، وحكم الخلفاء الراشدين في امرأة المفقود، وحكم عليٍّ في الذين وقعوا على امرأة واحدة في الطهر، ثم تنازعوا في الولد، وغيرها (2/ 233 - 339).

ثم سرد طائفة كبيرة من المسائل التي زعم نفاة الحِكَم والتعليل والقياس أن الشريعة فرّقت فيها بين المتماثلين أو جمعت بين المختلفين (2/ 339 - 506)، وهي نحو خمسين مسألة. وأجاب عنها أولا جوابًا مجملا نقل فيه أجوبة الأصوليين كابن الخطيب الرازي، وأبي الحسن الآمدي، والقاضي أبي يعلى، والقاضي عبد الوهاب المالكي. ثم أفرد كلَّ مسألة منها بجواب مفصل.

هذا المبحث وهو في أسرار الشريعة من أنفس مباحث الكتاب. ومن المسائل التي أفاض القول فيها:

- تفريق الشارع في العدة بين الموت والطلاق وعدة الحرة وعدة الأمة (2/ 360 - 376).

وختم هذا البحث بقوله: «وهذه الدقائق ونحوها مما يختصُّ الله سبحانه بفهمه من شاءَ؛ فمن وصل إليها فليحمد الله، ومن لم يصل إليها فليسلِّم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين، وليعلم أن شريعته فوقَ عقول العقلاء، ووَفْقَ فِطَرِ الألبَّاء» .

- فصل في الحدود ومقاديرها وكمال ترتيبها على أسبابها، واقتضاء كلِّ جناية لما رُتِّب عليها دون غيرها (2/ 405 - 432). وعقد هذا الفصل تمهيدًا لبيان حكمة الشارع في قطع يد السارق التي باشر بها الجناية، خلافا للزاني والقاذف.

ص: 37

- أصل الشفعة واختصاص بعض المبيع بها دون بعض (2/ 446 - 472).

- مسألة الربا (2/ 474 - 493).

- التسوية بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والحدود، وجعلها على النصف منه في الدية والشهادة والميراث والعقيقة (2/ 497 - 500).

* تكملة شرح كتاب عمر إلى أبي موسى في القضاء (2/ 506 - 520).

بعد ما أكمل المؤلف شرح كتاب عمر في القضاء، عقد فصلا بعنوان:

- ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وذكر الإجماع على ذلك (3/ 3 - 11).

ويتلوه باب التقليد بعنوان:

* ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب (3/ 12 - 170).

التقليد كالقياس والرأي أحد موضوعات الكتاب الكبرى، وقد عقد المؤلف فيه مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان، وبعد ذكر جملة من أدلة المقلدين أفاض في الرد عليه بواحد وثمانين وجهًا. وختم البحث بقوله (3/ 170): «وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما، ومالهم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظرفي كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدا

». بعد بحث التقليد هذا عقد فصلًا طويلًا عنوانه:

ص: 38

* فصل في تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص، وذكر الإجماع على ذلك (3/ 171 - 428).

بعد ما قرّر أن اجتهاد الرأي والقياس لا يصار إليهما إلا عند الضرورة وأنه لا اجتهاد مع النص، ولا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أورد 73 مثالًا، والأمثلة الثلاثة عشر الأولى منها في النصوص التي ردَّها الجهمية والقدرية والجبرية والخوارج والرافضة. ثم ذكر المسائل الفقهية التي ردّت فيها النصوص الصريحة من السنن. ومن المباحث المهمة في هذا الفصل:

- زيادة السنة على القرآن وحكمها (3/ 218).

- حجية عمل أهل المدينة (3/ 348).

* فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد (3/ 429 - 633).

استهلّ هذا الفصل ببيان أهميته، وقال:«هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجبَ من الحرج والمشقة وتكليفِ ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رُتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها» . ثم ذكر أنه سيفصِّل هذا الإجمال بأمثلة صحيحة. ومنها:

- المثال السابع في حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد (3/ 469).

وهي مسألة مشهورة كانت موضع نزاع، ونصر شيخ الإسلام ابن تيمية

ص: 39

القول بوقوعها طلقة واحدة خلافًا للمذاهب الأربعة. وذكر المؤلف أنها مما تغيرت الفتوى بها في عهد عمر لأن الصحابة رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، ولم يكن باب التحليل الذي لُعِن فاعله مفتوحًا بوجه ما.

- المثال الثامن منها: موجبات الأيمان والأقارير والنذور (3/ 507).

تحت هذا المثال تكلم على مسألة اليمين بالطلاق والعتاق، ومسألة الحلف بالحرام، ومنشأ أيمان البيعة.

- المثال التاسع: في تأجيل بعض المهر وحكم المؤجل (3/ 552) وانجرّ الكلام عليه إلى تقرير أن العبرة في الشريعة بالمقاصد والنيات، وفي خلال الاستدلال عليه تكلم على مسألة السر والعلن في المهر وغيره لاضطراب أقوال المتأخرين فيها، وتكلم على شروط الواقفين. ثم نقل احتجاج القائلين بأن الأحكام تجرى على الظاهر، والعقود لا تفسد بنية العاقدين، إلى أن قال: «فانظر ملتقى البحرين ومعترك الفريقين

». ثم حكم بين الفريقين، وقسم الألفاظ إلى أقسام، وبيَّن متى يحمل الكلام على ظاهره ومتى يحمل على غير ظاهره. وذكر أمثلة عديدة لاعتبار المقاصد. وهكذا شيّد قاعدة:

- القصود معتبرة في العقود (3/ 574).

والردُّ على قول الخصم: لا تفسد العقود بأن يقال: هذه ذريعة، وهذه نية سوء= اقتضى الكلام على مسألة سد الذرائع، لأن من سدَّ الذرائع اعتبر المقاصد وبالعكس.

ص: 40

* فصل في سد الذرائع (4/ 3 - 43).

افتتحه بقوله: إن الوسائل في التحريم والتحليل تابعة للغايات. وحرَّر هذه القاعدة بتقسيم الذرائع المؤدية إلى المفاسد إلى أربعة أقسام: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى مفسدة. وأخرى موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة. وثالثة موضوعة للمباح، ولكنها تفضي إلى المفسدة غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها. ورابعة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها. فالشريعة جاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة، وبإباحة القسم الرابع أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. أما القسمان الثاني والثالث، فهما ممنوعان، وأورد في الاستدلال على المنع 99 وجهًا، واقتصر على هذا العدد لموافقته عدد أسماء الله الحسنى. ولما كان تجويز الحيل مناقضًا لسدِّ الذرائع، فإن الشارع يسدّ الطريق إلى المفاسد، والمحتال يفتح الطريق إليه بحيلة، وقد انتشرت الحيل في المجتمع الإسلامي في زمن المؤلف، وتفاقم الأمر= لم يكتف المؤلف بالفصل السابق الذي كلُّ الوجوه المذكورة تدل على تحريم الحيل، بل عقد فصلًا جديدًا للكلام على بطلانها وتحريمها:

* الحيل (4/ 44 - 575).

وهو فصل طويل جدًّا، يبلغ حجمه مع فصل سدِّ الذرائع ربع الكتاب. ولا غرو، فإن المؤلف ختم كلامه في الفصل السابق بأن سدّ الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين، وفسره بأن التكليف أمر ونهي، والمأموربه إما مقصود أو وسيلة إلى المقصود. والمنهي عنه إما مفسدة وإما وسيلة إلى المفسدة.

ص: 41

وبعدما أفاض القول في ذكر أقوال السلف في إبطال الحيل، والرد على احتجاجات أرباب الحيل، وذكر أمثلة كثيرة من الحيل المحرمة؛ ثم ذكر قاعدة في أقسام الحيل ومراتبها، وقسّمها قسمين: القسم الأول: الحيل التي يُقصد بها إبطالُ حقّ وإثبات باطل، وقسَّمها ثلاثة أقسام. والقسم الثاني: أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل. وقسَّمه أيضًا إلى ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون الطريق محرَّمًا في نفسه، وإن كان المقصود به حقًّا، والثاني أن يكون الطريق مشروعًا وما يفضي إليه مشروع، ونبه على أن كلامه وكلام السلف في ذم الحيل لا يتناول هذا القسم. والقسم الثالث: أن يحتال على التوصل إلى الحق أو على دفع الظلم بطريق مباحة لم توضع أصلا موصلة إلى ذلك، أو وضعت له لكن تكون خفية لا يفطن لها. ومثلها مثل المعاريض في الكلام. ثم أورد 116 مثالًا من هذه الطرق، وآخرها في المخارج من الوقوع في التحليل الملعون فاعلُه والمطلِّقُ المحلَّلُ له. وذكر أنها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما، أو أفتى به الصحابة أو بعضهم أو مخرّج على أقوالهم، أو هو قول الجمهور أو بعض الأئمة الأربعة أو بعض أتباعهم أو غيرهم من العلماء. وهي اثنا عشر مخرجًا. ومن المسائل التي أطال الكلام عليها: الاستثناء في الطلاق.

* فصل في جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوى الصحابية، وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم

(4/ 576 - 638).

مهَّد المؤلف لهذا الفصل بكلمة هي في الحقيقة نفثة مصدور، وكأنه يحكي محنة شيخه ومحنته هو مع فقهاء عصره، إذ قال: «فلا يدري (يعني المفتي أو الحاكم) ما عذره غدًا عند الله إذا سوّى بين أقوال أولئك وفتاويهم

ص: 42

وأقوال هؤلاء وفتاويهم، فكيف إذا رجحها عليها، فكيف إذا عيّن الأخذ بها حكمًا وإفتاء، ومنع الأخذ بقول الصحابة، واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام؟ تالله لقد أخذ بالمثل المشهور: رمتني بدائها وانسلت». بعد هذا التمهيد شرح ترتيب الأخذ بفتاوى الصحابة والتابعين. ثم شرع في الاستدلال على وجوب اتباع الصحابة والرد على شبهات من يعارض ذلك، وذكر 46 وجهًا.

* خاتمة الكتاب في فوائد تتعلق بالفتوى (5/ 3 - 187).

استهلَّها بقوله: «ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى» ، وأورد 70 فائدة حسب تعداده، وهي في الحقيقة تسع وستون، في آداب المفتي والمستفتي وما إليها. ومنها الفائدة السابعة عشرة في شروط الواقفين كيف يفتي فيها، وهي فائدة طويلة لأهمية الموضوع، وقد تطرق إليه غير مرة في هذا الكتاب. ومنها الفائدة الثالثة والعشرون في الخصال الخمس التي ذكرها الإمام أحمد للمفتي، وقد حُبِّب إلى المؤلف الكلام عليها ولا سيما على خصلة السكينة، فأفاض وأجاد. ومنها الفائدة التاسعة والعشرون في أقسام المفتين، والفائدة الثالثة والخامسون في أنه يحرم على المفتي أن يفتي بضد لفظ النص وإن وافق مذهبه، وضرب أمثلة على ذلك، فذكر نحو أربعين مسألة.

* الخاتمة الثانية بفصول من فتاوى الرسول صلى الله عليه وسلم (5/ 188 - 485).

بعد الخاتمة الأولى عقد فصلاً جديدًا افتتحه بقوله: «ونختم الكتاب بذكر فصول يسير قدرها عظيم أمرها، من فتاوى إمام المفتين ورسول رب العالمين، تكون روحًا لهذا الكتاب، ورقمًا على حُلّة هذا التأليف» .

ص: 43

الظاهر أن المؤلف أضاف هذه الخاتمة فيما بعد، وفاته أن يصلح سياق الخاتمة الأولى، أو أن الأولى رآها جزأ من الحلة، وأما هذه فهي رقمٌ عليها كما قال.

هذه الفصول تشتمل على مجموعة من الأحاديث التي ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أمر فأجاب. وقد أوردها المؤلف محذوفة الأسانيد، ولم يذكر في كثير منها اسم الصحابي الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجملة منها لم يخرّجها. وكان ينبغي للمؤلف في هذه الحالة أن يلتزم صحة هذه الأحاديث ليعتمد عليها أهل الإفتاء دون الرجوع إلى أسانيدها.

وقد بدأها رحمه الله بمسائل العقيدة، ورتبها نوعًا من الترتيب، ووضع لبعض الفصول عناوين أيضا. معظم الأحاديث مسرود سردًا، ولكن بعضها فسر غريبه، وتكلم على مضمونه مع ذكر الأقوال في المسألة والترجيح. ومن الأحاديث التي أطال فيها: أحاديث الزنا التي استطرد بعد إيرادها إلى بيان تأثير اللوث في الدماء والحدود والأموال، ثم تكلم على بطلان تقسيم الناس طرق الحكم إلى شريعة وسياسة (5/ 397 - 415)، وأتبعها نبذة من كلام الإمام أحمد في السياسة الشرعية مع أمثلة من اعتبار قرائن الأحوال في فصل مستقل (5/ 415 - 419). ثم قال:«فلنرجع إلى فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر طرف من فتاويه في الأطعمة» .

وفي ختام هذه الفتاوى: «ذكرُ فصول من فتاويه صلى الله عليه وسلم في أبواب متفرقة» . وآخرها مسألة عن الكبائر، جمع فيها طائفة من الكبائر من عدة أحاديث، ثم عقد فصلين لتعداد الكبائر. وأتبعهما بفصل عنوانه:«فصل مستطرد من فتاويه صلى الله عليه وسلم، فارجع إليها» كذا! وآخرها عن العطاس، وهو أن رجلًا عطس،

ص: 44

فقال: ما أقول يا رسول الله؟

الحديث. نقله مع تخريجه: «ذكره أحمد» .

وهكذا ختم الكتاب دون كلمة تدل على انتهائه، كأن باب فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم كان مفتوحًا لإضافات أخرى. وقد يقال: إن حديث العطاس ختم بقول العاطس: «يهديكم الله ويصلح بالكم» . فأحب المؤلف أن يختم كتابه الذي نصب فيه معالم طريق الإفتاء، بهذا الدعاء للمفتين الموقّعين عن رب العالمين.

* * *

ص: 45