الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذَّنَب الطويل
(1)
وراءه كذنَب الأتان، وهذَر
(2)
باللسان، وخلا له الميدان الطويل من الفرسان.
فلو لبِس الحمارُ ثيابَ هذا
(3)
…
لقال الناس: يا لك من حمار!
وهذا الضرب إنما يُستفتَون بالشكل لا بالفضل، وبالمناصب لا بالأهلية. قد غرَّهم عكوفُ من لا علم عنده عليهم، ومسارعةُ مَن أجهلُ منهم إليهم. تعِجُّ منهم الحقوق إلى الله عجيجًا، وتضِجُّ منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجًا.
فمَن أقدَم بالجرأة على ما ليس له بأهل من فتيا أو قضاء أو تدريس استحقَّ اسم الذم، ولم يحِلَّ قبولُ فتياه ولا قضائه. هذا حكم دين الإسلام.
وإن رغِمَتْ أنوفٌ من أناس
…
فقل: يا ربِّ لا تُرغِمْ سواها
الفائدة السادسة والعشرون في حكم
كذلكة المفتي:
ولا يخلو من حالين: إما أن يعلم صوابَ جوابِ مَن تقدَّمه بالفتيا، أو لا يعلم. فإن علِم صوابَ جوابه فله أن يُكَذْلِكَ. وهل الأولى له
(4)
الكذلكة، أو الجواب المستقل؟ فيه تفصيل. فلا يخلو المبتدئ إما أن يكون أهلًا أو متسلِّقًا متعاطيًا ما ليس له بأهل. فإن كان الثاني فتركُ
(5)
الكذلكة أولى مطلقًا، إذ في كذلكته
(1)
يعني: طرف عمامته. وفي النسخ المطبوعة: «الذوائب الطويلة» .
(2)
الذال مهملة في غ.
(3)
كذا في النسخ الثلاث. يقصد ثياب هذا الرجل الذي وصفه. وفي النسخ المطبوعة: «ثياب خَزٍّ» ، وهي الرواية، والظاهر أن المصنف تصرَّف فيها. انظر:«الأمثال المولدة» للخوارزمي (ص 338) و «التمثيل والمحاضرة» (ص 345).
(4)
«له» ساقط من ب.
(5)
في النسخ المطبوعة: «فتركه» .
تقريرٌ له على الإفتاء، وهو كالشهادة له بالأهلية.
وكان بعض أهل العلم يضرب على فتوى من كتَب وليس بأهل. فإن لم يتمكَّن من ذلك خوف الفتنة
(1)
، فقد قيل: لا يكتب معه في الورقة، ويردُّ السائل. وهذا نوع تحامل. والصواب أنه يكتب في الورقة الجواب، ولا يأنف من الإخبار بدين الله الذي يجب عليه الإخبار به، لكتابة من ليس بأهل؛ فإن هذا ليس عذرًا عند الله ورسوله وأهل العلم في كتمان الحق. بل هذا نوع رياسة وكبر، والحقُّ لله عز وجل، فكيف يجوز أن يعطِّل حقَّ الله ويكتم دينَه لأجل كتابة من ليس بأهل؟
وقد نصَّ الإمام أحمد على أن الرجل إذا شهد الجنازةَ، فرأى فيها منكرًا لا يقدر على إزالته= أنه لا يرجع. ونصَّ على أنه إذا دُعي إلى وليمة عرسٍ، فرأى فيها منكرًا لا يقدر على إزالته= أنه يرجع. فسألتُ شيخنا عن الفرق، فقال: لأن الحق في الجنازة للميت، فلا يترك حقَّه لما فعله الحيُّ من المنكر. [203/ب] والحقُّ
(2)
في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقَّه من الإجابة
(3)
.
وإن كان المبتدئ بالجواب أهلًا للإفتاء، فلا يخلو إما أن يعلم المُكَذلِكُ صوابَ جوابه، أو لا يعلم. فإن لم يعلم صوابه لم يجُز له أن يُكَذلِك تقليدًا له، إذ لعله أن يكون قد غلط، ولو نُبِّه لرجع، وهو معذور؛ وليس المُكذلك معذورًا، بل مفتٍ بغير علم. ومن أفتى بغير علم فإثمه على
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «منه» .
(2)
ضبط في ز برفع «الحق» ونصبه، وكتب فوقه:«معًا» .
(3)
انظر: «مختصر الفتاوى المصرية» (ص 251).
من أفتاه، وهو أحد المفتين الثلاثة الذين هم
(1)
في النار.
وإن علِم أنه قد أصاب، فلا يخلو إما أن تكون المسألة ظاهرةً لا يخفى وجهُ الصواب فيها بحيث لا يُظَنُّ بالمكذلك أنه قلَّده فيما لا يعلم، أو تكون خفيّةً. فإن كانت ظاهرةً فالأولى الكذلكة، لأنه إعانة على البر والتقوى، وشهادة للمفتي بالصواب، وبراءة من الكبر والحمية. وإن كانت خفيةً بحيث يُظَنُّ بالمكذلك أنه وافقه تقليدًا محضًا، فإن أمكنه إيضاح ما أشكله الأول أو زيادة بيان، أو ذكرُ قيدٍ، أو تنبيهٌ على أمرٍ أغفله= فالجواب المستقلّ أولى. وإن لم يمكنه ذلك فإن شاء كَذْلَكَ، وإن شاء أجاب استقلالًا.
فإن قيل: ما الذي يمنعه من الكذلكة إذا لم يعلم صوابه تقليدًا له، كما قلَّد المبتدئ مَن فوقه؟ فإذا أفتى الأول بالتقليد المحض فما الذي يمنع المكذلك من تقليده؟
قيل: الجواب من وجوه:
أحدها: أن الكلام في المفتي الأول أيضًا. فقد نصَّ الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة على أنه لا يحِلُّ للرجل أن يفتي بغير علم، وحكي في ذلك الإجماع. وقد تقدَّم ذكر ذلك مستوفًى.
الثاني: أن هذا الأول وإن جاز له التقليد للضرورة، فهذا المُكَذْلِك المتكلِّف لا ضرورة له إلى تقليده؛ بل هذا من بناء الضعيف على الضعيف. وذلك لا يسوغ، كما لا تسوغ الشهادة على الشهادة، وكما لا يجوز المسح
(1)
كذا في النسخ الخطية، والصواب:«ثلثاهم» كما في النسخ المطبوعة. وانظر ما سبق في الفائدة الحادية عشرة.
على الخفين على طهارة التيمم، ونظائرُ ذلك
(1)
.
الثالث: أن هذا لو ساغ لصار الناس كلُّهم مفتين، إذ ليس هذا بجواز تقليد المفتي أولى من غيره. وبالله التوفيق.
الفائدة السابعة والعشرون: يجوز للمفتي أن يفتي أباه وابنه وشريكه ومن لا تقبل شهادته له؛ وإن لم يجز أن يشهد له، ولا يقضي له. والفرق بينهما أن الإفتاء يجري مجرى الرواية، فكأنه حكم عامٌّ، بخلاف الشهادة والحكم فإنه يخصُّ المشهودَ له والمحكومَ له. ولهذا يدخل الراوي في حكم الحديث الذي يرويه، ويدخل في حكم الفتوى التي يفتي بها، ولكن لا يجوز له أن يحابي من يفتيه
(2)
فيفتي أباه أو ابنه أو صديقه بشيء، ويفتي غيرهم بضدِّه محاباةً. بل هذا يقدح في عدالته، إلا أن يكون ثَمَّ سببٌ يقتضي التخصيص غير المحاباة. ومثال هذا: أن يكون في المسألة قولان: قول بالمنع وقول بالإباحة، فيفتي ابنه وصديقه بقول الإباحة، والأجنبيَّ بقول المنع.
فإن قيل: فهل
(3)
يجوز له أن يفتي نفسه؟
قيل: نعم، إذا كان له أن يفتي غيره. وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «استفتِ قلبَك
…
وإن أفتاك المفتون»
(4)
. فيجوز له أن يفتي نفسه بما يفتي به غيره، ولا يجوز
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «كثيرة» !
(2)
في النسخ الخطية: «نفسه» ، والمثبت من النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: «هل» .
(4)
رواه بهذا اللفظ أحمد (18001، 18006)، والدارمي (2575)، وأبو يعلى (1586، 1587) من حديث وابصة بن معبد. وفيه الزبير أبو عبد السلام، ضعيف، ولعله هو الذي كذبه الدارقطني، لم يسمع من أيوب بن عبد الله بن مكرز الراوي عن وابصة كما جاء مصرَّحًا عند أحمد (18006)، وعند ابن المنذر في «الأوسط»: «حدثني أصحاب أيوب
…
عن أيوب». انظر: تعليق محققي «المسند» . وله شاهد صحيح رواه أحمد (17742)، والطبراني (22/ 219) من حديث أبي ثعلبة الخشني.
له أن يفتي نفسه بالرخصة، وغيرَه بالمنع. ولا يجوز له إذا كان في المسألة قولان:[204/أ] قول بالجواز وقول بالمنع، أن يختار لنفسه قولَ الجواز، ولغيره قولَ المنع. وسمعت شيخنا يقول: سمعت بعض الأمراء يقول عن بعض المفتين من أهل زمانه: يكون عندهم في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها الجواز، والثاني المنع، والثالث التفصيل، فالجواز لهم، والمنع لغيرهم وعليه العمل.
الفائدة الثامنة والعشرون: لا يجوز للمفتي أن يعمل بما يشاء
(1)
من الأقوال والوجوه، من غير نظر في الترجيح، ولا يعتدّ به، بل يكتفي في العمل بمجرَّد كون ذلك قولًا قاله إمام، أو وجهًا ذهب إليه جماعة، فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال: حيث رأى القول وفقَ إرادته وغرضه عمِلَ به، فإرادتُه وغرضُه هو العِيار
(2)
، وبها الترجيح؛ وهذا حرامٌ باتفاق الأمة
(3)
.
وهذا مثلُ ما حكى القاضي أبو الوليد الباجي
(4)
عن بعض أهل زمانه
(1)
في المطبوع: «شاء» هنا وفيما يأتي.
(2)
في المطبوع: «المعيار» ، وهما بمعنى.
(3)
انظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص 125).
(4)
في كتابه «التبيين لسنن المهتدين» ، ومنه نقل الشاطبي في «الموافقات» (5/ 90). أما المؤلف فهو صادر عن «أدب المفتي والمستفتي» (ص 125).
ممن نصب نفسه للفتوى أنه كان يقول: إن الذي لصديقي عليَّ إذا وقعت له حكومةٌ أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه. قال: وأخبرني من أثق به أنه وقعت له واقعة، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضرُّه، وكان غائبًا فلما حضر سألهم بنفسه، فقالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتَوه بالرواية الأخرى التي توافقه. قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يُعتدُّ بهم في الإجماع أنه لا يجوز.
وقد قال مالك في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم: «مخطئ، ومصيب؛ فعليك بالاجتهاد»
(1)
.
وبالجملة، فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهِّي والتخيُّر وموافقة الغرض، فيطلبَ القولَ الذي يوافق غرضَه وغرضَ من يحابيه، فيعمل به، ويفتي ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضدِّه. وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر. والله المستعان
(2)
.
الفائدة التاسعة والعشرون: المفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام:
أحدها
(3)
: العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة. فهو
(1)
«جامع بيان العلم وفضله» (2/ 906). والمؤلف صادر عن «أدب المفتي» .
(2)
في (ك، ب) بعده زيادة: «وعليه التكلان» .
(3)
في النسخ المطبوعة: «أحدهم» .
المجتهد في أحكام النوازل، يقصد
(1)
فيها موافقةَ الأدلة الشرعية حيث كانت. ولا ينافي اجتهادُه تقليدَه لغيره أحيانًا، فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا وهو مقلِّد من هو أعلم منه في بعض الأحكام. وقد قال الشافعي في موضع من الحج: قلته تقليدًا لعطاء
(2)
. فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء، ويسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرض الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها دينها»
(3)
وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب: لن تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجته
(4)
.
فصل
النوع الثاني: مجتهد مقيَّد في مذهب من ائتمَّ به. فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومآخذه وأصوله، عارف بها، متمكِّن من التخريج عليها وقياس ما لم ينُصَّ من ائتمَّ به عليه على منصوصه، من غير أن يكون مقلِّدًا لإمامه، لا في الحكم ولا في الدليل؛ لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتَّبه وقرَّره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معًا.
وقد ادَّعى هذه المرتبة [204/ب] من الحنابلة القاضي أبو يعلى، والقاضي أبو علي بن أبي موسى في «شرح الإرشاد» الذي له، ومن الشافعية
(1)
تصحف في ك، ب إلى «بقصده» .
(2)
تقدَّم غير مرَّة.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم أيضًا.
خلق كثير
(1)
. وقد اختلفت الحنفية في أبي يوسف ومحمد وزفر بن الهذيل، والشافعية في المزني وابن سريج وابن المنذر ومحمد بن نصر المروزي، والمالكية في أشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب، والحنابلة في ابن حامد
(2)
والقاضي: هل كان هؤلاء مستقلِّين بالاجتهاد، أو متقيِّدين بمذاهب أئمتهم؟ على قولين. ومن تأمَّل أحوال هؤلاء وفتاويهم واختياراتهم علِمَ أنهم لم يكونوا مقلِّدين لأئمتهم في كلِّ ما قالوه، وخلافُهم لهم أظهر من أن يُنكَر، وإن كان منهم المستقِلّ والمستكثر. ورتبة هؤلاء دون رتبة الأئمة في الاستقلال بالاجتهاد.
فصل
النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه، مقرِّر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها؛ لكن لا يتعدَّى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نصَّ إمامه لم يعدِل عنه إلى غيره البتة. وهذا شأن أكثر المصنِّفين في مذاهب أئمتهم، وهو حال أكثر علماء الطوائف. وكثير منهم يظن أنه لا حاجة به إلى معرفة الكتاب والسنة والعربية، لكونه مجتزئًا
(3)
بنصوص إمامه، فهي عنده كنصوص الشارع، قد
(4)
اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة، وقد كفاه الإمام استنباطَ الأحكام ومؤنةَ استخراجها من
(1)
انظر: «صفة الفتوى» لابن حمدان (ص 17).
(2)
في النسخ المطبوعة: «أبي حامد» ، تصحيف.
(3)
ز: «مجتزي» .
(4)
ب: «وقد» .
النصوص. وقد يرى إمامَه ذكر حكمًا بدليله، فيكتفي هو بذلك الدليل من غير بحث عن معارض له.
وهذا شأن كثير من أصحاب الوجوه والطرق، والكتب المطوَّلة والمختصرة. وهؤلاء لا يدَّعون الاجتهاد، ولا يُقِرُّون بالتقليد. وكثير منهم يقول: اجتهدنا في المذاهب، فرأينا أقربها إلى الحقِّ مذهب إمامنا. وكلٌّ منهم يقول ذلك عن إمامه، ويزعم أنه أولى بالاتباع من غيره. ومنهم من يغلو فيوجب اتباعه، ويمنع من اتباع غيره.
فيا لله العجب من اجتهادٍ نهض بهم إلى كون متبوعهم ومقلَّدهم أعلمَ من غيره، وأحقَّ بالاتباع من سواه، وأن مذهبه هو الراجح، والصواب دائرٌ معه؛ وقعد بهم عن الاجتهاد في كلام الله ورسوله، واستنباط الأحكام منه، وترجيح ما يشهد له النص، مع استيلاء كلام الله ورسوله على غاية البيان، وتضمُّنه لجوامع الكلم، وفصلهِ للخطاب، وبراءته من التناقض والاختلاف والاضطراب. فقعدت بهم هممهم واجتهادهم عن الاجتهاد فيه، ونهضت بهم إلى الاجتهاد في كون إمامهم أعلمَ الأمة وأولاها بالصواب، وأقوالِه في غاية القوة وموافقة السنة والكتاب! فالله
(1)
المستعان.
فصل
النوع الرابع: طائفة تفقَّهت في مذاهب من انتسبت إليه، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرَّت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه. فإن ذكروا الكتاب والسنة يومًا ما في مسألة فعلى وجه التبرُّك والفضيلة، لا على وجه
(1)
ك، ب:«والله» .
الاحتجاج والعمل. وإذا رأوا حديثًا صحيحًا مخالفًا لقول من انتسبوا إليه أخذوا بقوله، وتركوا الحديث. وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قد أفتوا بفتيا، [205/أ] ووجدوا لإمامهم فتيا تخالفها أخذوا بفتيا إمامهم وتركوا فتاوى الصحابة قائلين: الإمام أعلم بذلك منَّا، ونحن قد قلَّدناه فلا نتعدَّاه ولا نتخطَّاه، بل هو أعلم بما ذهب إليه منَّا.
ومن عدا هؤلاء فمتكلِّف متخلِّف، قد ربأ
(1)
بنفسه عن رتبة المشتغلين، وقصَّر عن درجة المحصِّلين، فهو مُكَذْلِكٌ مع المكذلكين. وإن ساعد القدر، واستقلَّ بالجواب قال: يجوز بشرطه، ويصح بشرطه، ويجوز ما لم يمنع منه مانع شرعي، ويرجع في ذلك إلى رأي الحاكم؛ ونحو ذلك من الأجوبة التي يُحسنها كلُّ جاهل، ويستحيي منها كلُّ فاضل.
ففتاوى القسم الأول من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم، وفتاوى النوع الثاني من جنس توقيعات نوَّابهم وخلفائهم، وفتاوى النوع الثالث والرابع من جنس توقيعات خلفاء نوابهم. ومن عداهم فمتشبِّع بما لم يُعْطَ، متشبِّه بالعلماء، محاكٍ للفضلاء. وفي كلِّ طائفة من الطوائف متحقِّق بفنِّه
(2)
، ومحاكٍ له متشبِّه به، والله المستعان.
الفائدة الثلاثون: إذا كان الرجل مجتهدًا في مذهب إمام، ولم يكن
(1)
في النسخ المطبوعة: «دنا» ، تصحيف.
(2)
ك: «ففنه» . وفي ب: «نفيه» . وفي النسخ المطبوعة: «بغيه» . ولعل الصواب ما أثبت من ز.
مستقلًّا بالاجتهاد، فهل له أن يفتي بقول
(1)
ذلك الإمام؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد:
أحدهما: الجواز، ويكون متبعه مقلِّدًا للميت، لا له، وإنما له مجرَّد النقل عن الإمام.
والثاني: لا يجوز له أن يفتي، لأن السائل مقلِّد له، لا للميِّت، وهو لم يجتهد له، والسائل يقول
(2)
: أنا أقلِّدك فيما تفتيني به.
والتحقيق: أن هذا فيه تفصيل. فإن قال له السائل: أريد
(3)
حكم الله في هذه المسألة، أو أريد الحقَّ، أو ما يخلِّصني ونحو ذلك= لم يسعه إلا أن يجتهد له في الحق، ولا يسعه أن يفتيه بمجرَّد تقليد غيره، من غير معرفة بأنه حق أو باطل. وإن قال له: أريد أن أعرف في هذه النازلة قول الإمام ومذهبه، ساغ له الإخبار به، ويكون ناقلًا له، ويبقى الدَّرَك
(4)
على السائل. فالدرك في الوجه الأول على المفتي، وفي الثاني على المستفتي.
الفائدة الحادية والثلاثون: هل يجوز للحي تقليد الميت والعمل بفتواه من غير اعتبارها بالدليل الموجِب لصحة العمل بها؟ فيه وجهان لأصحاب الإمام أحمد والشافعي. فمن منعه قال: يجوز تغيُّر اجتهاده لو كان حيًّا، فإنه كان يجدِّد النظر عند نزول هذه النازلة إما وجوبًا وإما استحبابًا، على النزاع
(1)
ب: «بمذهب» .
(2)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «له» .
(3)
في المطبوع: «أنا أريد» .
(4)
أي التبعة.
المشهور، ولعله لو جدَّد النظر لرجع عن قوله الأول.
والثاني: الجواز، وعليه عملُ جميع المقلِّدين في أقطار الأرض. وخيار ما بأيديهم من التقليد تقليد الأموات، ومن منع منهم تقليدَ الميت فإنما هو شيء يقوله بلسانه، وعملُه في فتاويه وأحكامه بخلافه. والأقوال لا تموت بموت قائليها
(1)
، كما لا تموت الأخبار بموت رواتها وناقليها.
الفائدة الثانية والثلاثون: الاجتهاد حالةٌ تقبل التجزِّي
(2)
والانقسام، فيكون الرجل مجتهدًا في نوع من العلم، مقلِّدًا في غيره، أو في باب من أبوابه؛ كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض [205/ب] وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد أو الحج، أو غير ذلك؛ فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوِّغةً له الإفتاء بما لا يعلم في غيره.
وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحُّها الجواز، بل هو الصواب المقطوع به. والثاني: المنع. والثالث: الجواز في الفرائض دون غيرها.
فحجة الجواز: أنه قد عرف الحقَّ بدليله، وقد بذل جهده في معرفة الصواب؛ فحكمه في ذلك النوع
(3)
حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع.
(1)
في النسخ الخطية والمطبوعة: «قائلها» ، ومقتضى قوله:«رواتها وناقليها» ما أثبت.
(2)
مصدر تجزَّى بتسهيل الهمزة، والأصل: التجزُّؤ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
لم ترد كلمة «النوع» في ز.
وحجة المنع: تعلُّق أبواب الشرع وأحكامه بعضِها ببعض، فالجهلُ ببعضها مظنَّة للتقصير في الباب والنوع الذي
(1)
عرفه. ولا يخفى الارتباط بين كتاب النكاح والطلاق والعِدَد
(2)
وكتاب الفرائض، وكذلك الارتباط بين كتاب الجهاد وما يتعلَّق به، وكتاب الحدود والأقضية والأحكام، وكذلك عامة أبواب الفقه.
ومن فرَّق بين الفرائض وغيرها رأى انقطاع أحكام قسمة المواريث ومعرفة الفروض ومستحقِّها عن كتاب البيوع والإجارات والرهون والنضال وغيرها، وعدم تعلُّقاتها
(3)
. وأيضًا فإن عامة أحكام المواريث قطعية، وهي منصوص عليها في كتاب الله
(4)
.
فإن قيل: فما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين، هل له أن يفتي بهما؟
قيل: نعم يجوز في أصحِّ القولين، وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد. وهل هذا إلا من التبليغ عن الله ورسوله
(5)
؟ وجزى الله من أعان الإسلام ولو بشطر كلمة خيرًا، ومنعُ هذا من الإفتاء بما علِمَ خطأ محض. وبالله التوفيق.
الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «قد» .
(2)
في النسخ المطبوعة: «والعِدَّة» .
(3)
ب: «تعلقها بها» .
(4)
في النسخ المطبوعة: «في الكتاب والسنة» .
(5)
في النسخ المطبوعة: «وعن رسوله» .
عاص. ومن أقرَّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضًا.
قال أبو الفرج بن الجوزي
(1)
: ويلزم وليَّ الأمر منعُهم كما فعل بنو أمية. وهؤلاء بمنزلة من يدلُّ الركبَ وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطُبّ الناس؛ بل هو أسوأ حالًا من هؤلاء كلِّهم. وإذا تعيَّن على ولي الأمر منعُ من لم يحسن التطبُّب من مداواة المرضى
(2)
، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟
وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء. فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعِلتَ محتسبًا على الفتوى؟ فقلتُ له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا: «من أُفتيَ بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه»
(3)
.
وفي «الصحيحين»
(4)
من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء. فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساءَ جُهَّالًا؛ فسئلوا، فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا» .
(1)
في «تعظيم الفتيا» فيما يظهر، ولكن في نسختيه اللتين طبع عنهما سقطًا.
(2)
في النسخ الخطية: «المرض» ، والمثبت من المطبوعة.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم في أول الكتاب.
وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج
(1)
وغيره [206/أ]: «من أفتى الناسَ بغير علم لعنته ملائكةُ السماء وملائكةُ الأرض» .
وكان مالك رحمه الله يقول: من سئل عن مسألة فينبغي له من
(2)
قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها
(3)
.
وسئل عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة. فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف. أما سمعتَ قول الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]؟ فالعلم كلُّه ثقيل، وخاصةً ما يسأل عنه يومَ القيامة
(4)
.
وقال: ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهلٌ لذلك. وقال: لا ينبغي لرجل أن يرى نفسَه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه. وما أفتيتُ حتى سألتُ ربيعة ويحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، ولو نهياني انتهيت. قال: وإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل، ولا يجيب أحد منهم
(1)
في «تعظيم الفتيا» (ص 57). وقد رواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1043)، وابن عساكر (20/ 52) من طريق عبد الله بن أحمد بن عمر، قال: حدثني أبي، حدثني عبد الله، حدثنا سيدي علي بن موسى الرِّضا، حدثني موسى بن جعفر، حدثني جعفر بن محمد، حدثني علي بن الحسين عن الحسين، حدثنا علي بن أبي طالب. قال الذهبي في «الميزان» (2/ 390): هذه نسخة موضوعة.
(2)
«من» ساقطة من النسخ المطبوعة.
(3)
«أدب المفتي والمستفتي» (ص 80)، «صفة الفتوى» (ص 8).
(4)
انظر المصدرين السابقين.
عن مسألة حتى يأخذ رأيَ صاحبه، مع ما رُزِقوا من السداد والتوفيق والطهارة؛ فكيف بنا الذين غطَّت الذنوب والخطايا قلوبنا؟ وكان رحمه الله إذا سئل عن مسألة فكأنه واقف بين الجنة والنار
(1)
.
وقال عطاء بن أبي رباح
(2)
: أدركت أقوامًا إن كان أحدُهم لَيُسأل عن الشيء
(3)
فيتكلَّم وإنه لَيُرعَد
(4)
.
وسئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أي البلاد شرٌّ؟ فقال: «لا أدري حتى أسأل جبريل» . فسأله، فقال:«أسواقها»
(5)
.
وقال الإمام أحمد: من عرَّض نفسه للفتيا فقد عرَّضها لأمر عظيم، إلا أنه قد تلجئ الضرورة
(6)
.
(1)
«صفة الفتوى» (ص 8 - 9).
(2)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، وقد ورد في «صفة الفتوى» ــ وهو مصدر النقل هنا ــ:«وقال عطاء» ، فظن المؤلف أنه ابن أبي رباح، وإنما هو ابن السائب كما ترى في تخريج قوله.
(3)
في النسخ المطبوعة: «شيء» .
(4)
رواه الفسوي (2/ 718)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1085) من طريق سفيان عن عطاء بن السائب، وسفيان قديم السماع عن عطاء.
(5)
«صفة الفتوى» (ص 9). وقد رواه ابن حبان (1599)، والحاكم (2/ 7)، والبيهقي (3/ 65) من طريق جرير عن عطاء، وجرير روى عنه بعد الاختلاط. وله شاهد حسن من حديث جبير بن مطعم رواه أحمد (16744)، وأبو يعلى (7403)، والطبراني (1545، 1546)، والحاكم (2/ 7) من حديث جبير بن مطعم. وأصل الحديث في مسلم (671).
(6)
رواه الأثرم. انظر: «صفة الفتوى» (ص 10). وقد رواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 29) بإسناده عن الأثرم عن الإمام أحمد.
وسئل الشعبيُّ عن شيء
(1)
، فقال: لا أدري. فقيل
(2)
: ألا تستحيي من قولك لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]
(3)
.
وقال بعض أهل العلم
(4)
: تعلَّمْ «لا أدري» ، فإنك إن قلتَ:«لا أدري» علَّموك حتى تدري. وإن قلت: «أدري» سألوك حتى لا تدري.
وقال عُقبة
(5)
بن مسلم: صحبتُ ابن عمر أربعة وثلاثين شهرًا، فكان كثيرًا ما يُسأَل، فيقول: لا أدري
(6)
.
وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يُفتي فتيا ولا يقول شيئًا إلا قال: اللهم سلِّمني، وسلِّم مني
(7)
.
(1)
في النسخ المطبوعة: «مسألة» .
(2)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «له» .
(3)
«صفة الفتوى» (ص 9). وقد رواه ابن أبي الدنيا في «الإشراف» (258)، وفيه محمد بن مزاحم، لم يسمع من الشعبي. ورواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1123) وابن الجوزي في «تعظيم الفتيا» (26) من طريق أحمد بن عبيد، عن الهيثم بن عدي، عن مجالد؛ ثلاثتهم ضعفاء.
(4)
نقله في «صفة الفتوى» (ص 9) عن أبي الذَّيَّال. وقد رواه ابن الجوزي في «تعظيم الفتيا» (ص 89).
(5)
في النسخ الخطية: «عتبة» ، تصحيف.
(6)
«صفة الفتوى» (ص 10). وقد رواه ابن المبارك في «الزهد» (52)، والفسوي (1/ 490، 493)، وابن عبد البر في «الجامع» (1585)، وإسناده صحيح.
(7)
«صفة الفتوى» (ص 10). وقد رواه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 511)، وابن سعد (5/ 136)، وأبو نعيم (2/ 164)، وإسناده صحيح.
وسئل الشافعي عن مسألة، فسكت. فقيل: ألا تجيب؟ فقال: حتى أدري: الفضلُ في سكوتي أو في الجواب
(1)
.
وقال ابن أبي ليلى: أدركتُ مائةً وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتّى ترجعَ إلى الأول. وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يُسأل عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه
(2)
.
وقال أبو حَصِين
(3)
الأسدي: إن أحدهم لَيفتي في المسألة، لو وردَتْ على عمر بن الخطاب لجمَع لها أهلَ بدر
(4)
.
وسئل القاسم بن محمد عن شيء، فقال: إني لا أحسنه. فقال له السائل: إني جئت إليك
(5)
لا أعرف غيرك. فقال له القاسم: لا تنظر إلى
(1)
«صفة الفتوى» (ص 10). وانظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص 79).
(2)
«صفة الفتوى» (ص 7). وقد رواه ابن المبارك في «الزهد» (58)، والدارمي (137)، وأبو خيثمة في «العلم» (21) من طريق سفيان، عن عطاء بن السائب. وإسناده صحيح.
(3)
في النسخ الخطية: «الحسين» ، والصواب ما أثبت من مصادر التخريج.
(4)
«صفة الفتوى» (ص 7). رواه ابن بطة في «الحيل» (72)، والبيهقي في «المدخل» (803)، ابن عساكر (38/ 410)، وإسناده صحيح.
(5)
أثبت في المطبوع: «دفعت إليك» . وقال في التعليق: «كذا في (ق) ومصادر التخريج» ، مع أن في «صفة الفتوى» (ص 8) ــ وهو مصدر النقل ــ كما أثبتنا من النسخ الخطية. نعم، في «جامع بيان العلم» ومنه في «أدب المفتي» (ص 78) كما ذكر هو.
طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أُحسِنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها، فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم: والله لأن يُقطَع لساني أحبُّ إليَّ من أن أتكلَّم بما لا علم لي به.
[206/ب] وكتب سلمان إلى أبي الدرداء، وكان بينهما مؤاخاة: بلغني أنك قعدت طبيبًا فاحذر أن تكون متطبِّبًا أو تقتل مسلمًا! فكان ربما جاءه الخصمان، فيحكم بينهما، ثم يقول: ردُّوهما عليَّ، متطبِّب والله، أَعِيدا عليَّ قضيتكما
(1)
.
الفائدة الرابعة والثلاثون: إذا نزلت بالعامِّيِّ نازلة، وهو في مكان لا يجد من يسأله عن حكمها، ففيه طريقان للناس:
إحداهما
(2)
: أنه
(3)
له حكم ما قبل الشرع، على الخلاف في الحظر والإباحة والوقف؛ لأن عدم المرشد في حقِّه بمنزلة عدم المرشد بالنسبة إلى الأمة.
والطريقة الثانية: أنه يخرَّج على الخلاف في مسألة تعارض الأدلة عند المجتهد، هل يعمل بالأخفِّ، أو بالأشدِّ، أو يتخيَّر؟ والصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرَّى الحق بجهده ومعرفة مثله. وقد نصب الله تعالى على الحق أماراتٍ كثيرةً، ولم يسوِّ الله سبحانه بين ما يحبه وبين ما
(1)
رواه مالك (2/ 769)، وأحمد في «الزهد» (839)، وأبو نعيم (1/ 205)، من طرق عن سلمان، وكلها منقطعة.
(2)
ز: «أحدهما» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: «أن» .
يسخطه من كلِّ وجه، بحيث لا يتميَّز هذا من هذا. ولا بد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق، مؤثِرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعضُ الأمارات المرجِّحة، ولو بمنام أو بإلهام. فإن قُدِّر ارتفاعُ ذلك كلِّه، وعُدِمت في حقِّه جميعُ الأمارات، فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة، ويصير بالنسبة إليها كمن لم تبلغه الدعوة، وإن كان مكلَّفًا بالنسبة إلى غيرها؛ فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكُّن من العلم والقدرة. والله أعلم.
الفائدة الخامسة والثلاثون: الفتيا أوسع من الحكم والشهادة، فيجوز فتيا العبد والحر، والمرأة والرجل، والقريب
(1)
والأجنبي، والأمّي والقارئ، والأخرس بكتابته والناطق، والعدو والصديق. وفيه وجه أنه لا تُقبَل فتيا العدو، ولا من لا تُقبَل شهادته له كالشهادة. والوجهان في الفتيا كالوجهين في الحكم، وإن كان الخلاف في الحاكم أشهر.
وأما فتيا الفاسق فإن أفتى غيرَه لم تُقبَل فتواه، وليس للمستفتي أن يستفتيه. وله أن يعمل بفتوى نفسه، ولا يجب عليه أن يستفتي غيره.
وفي جواز استفتاء مستور الحال وجهان، والصواب جواز استفتائه وإفتائه.
قلت: وكذلك الفاسق، إلا أن يكون معلنًا بفسقه داعيًا إلى بدعته، فحكمُ استفتائه حكمُ إمامته وشهادته. وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والقدرة والعجز. فالواجب شيء، والواقع شيء. والفقيه من يطبِّق بين الواقع والواجب، وينفِّذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يُلقي العداوة
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «البعيد» !
بين الواجب والواقع. فلكلِّ زمان حكمٌ، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم. وإذا عمَّ الفسوق وغلب على أهل الأرض، فلو مُنِعت
(1)
إمامةُ الفساق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم وولاياتهم لعُطِّلت الأحكام، وفسد نظام الخلق، وبطلت أكثر الحقوق. ومع هذا فالواجب اعتبار الأصلح فالأصلح، وهذا عند القدرة والاختيار. وأما عند الضرورة والغلبة بالباطل، فليس إلا الاصطبار، والقيام بأضعف مراتب الإنكار.
[207/أ] الفائدة السادسة والثلاثون: لا فرق بين القاضي وغيره في جواز الإفتاء بما تجوز الفتيا
(2)
به، ووجوبها إذا تعيَّنت. ولم يزل أمر السلف والخلف على هذا، فإن منصب الفتيا داخل في ضمن منصب القضاء عند الجمهور، والذين لا يجوِّزون قضاء الجاهل. فالقاضي مفتٍ، ومثبت، ومنفِّذ لما أفتى به.
وذهب بعض الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي إلى أنه يُكره للقاضي أن يفتي في مسائل الأحكام المتعلقة به، دون الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها
(3)
.
واحتجَّ أرباب هذا القول بأن فتياه تصير كالحكم منه على الخصم، ولا يمكن نقضُه وقت المحاكمة. قالوا: ولأنه قد يتغيَّر اجتهاده وقت الحكومة، أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء؛ فإن أصرَّ على فتياه والحكم
(1)
ب: «اتبعت» ، وفي المطبوع:«امتنعت» ، والصواب ما أثبت من ز، وكذا في الطبعات القديمة.
(2)
ب: «يجوز الإفتاء» ، وكذا في المطبوع. وفي الطبعات السابقة كما أثبت من ز، ك.
(3)
انظر: «أدب المفتي» (ص 108) و «صفة الفتوى» (29).
بموجبها حكَم بخلاف ما يعتقد صحته، وإن حكَم بخلافها طرق الخصمُ إلى تهمته والتشنيع عليه بأنه يحكُم بخلاف ما يعتقده ويفتي به.
ولهذا قال شريح: أنا أقضي لكم، ولا أفتي
(1)
. حكاه ابن المنذر
(2)
، واختار كراهية الفتوى في مسائل الأحكام.
وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني
(3)
: لأصحابنا في فتواه في مسائل الأحكام جوابان.
أحدهما: أنه ليس له أن يفتي فيها، لأن لكلام الناس عليه مجالًا، ولأحد الخصمين عليه مقالًا. والثاني: له ذلك، لأنه أهل له.
الفائدة السابعة والثلاثون: فتيا الحاكم ليست حكمًا منه، فلو
(4)
حكم غيرُه بخلاف ما أفتى به لم يكن نقضًا لحكمه. ولا هي كالحكم، ولهذا يجوز أن يفتي الحاضرَ والغائبَ ومن يجوز حكمه له ومن لا يجوز. ولهذا لم يكن في حديث هند
(5)
دليل على الحكم على الغائب، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أفتاها فتوى مجرَّدة، ولم يكن ذلك حكمًا على الغائب، فإنه لم يكن غائبًا عن البلد، وكانت مراسلته وإحضاره ممكنة، ولا طلب البينة على صحة دعواها. وهذا ظاهر بحمد الله.
(1)
رواه عبد الرزاق (16921) والطحاوي في «معاني الآثار» (4/ 96) من طريقين ضعيفين عن عطاء بن السائب.
(2)
في «الإقناع» (2/ 514). وانظر: «أدب المفتي» (ص 107 - 108).
(3)
في بعض تعاليقه. ونقل منها ابن الصلاح في «أدب المفتي» (ص 108).
(4)
في النسخ المطبوعة: «ولو» .
(5)
رواه البخاري (2211) ومسلم (1714) من حديث عائشة رضي الله عنها.