الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر ابن الصديق في نشر السنة وإثراء الحياة العلمية في عصره
ولاشك أن ابن الصديق كان له اليد البيضاء على العلماء من بعده سواء بما نقل لهم عن كتب لم ترها العيون من قبل، أو بما خلَّف لهم من تراث محرر شامل جامع، يقول الشيخ التليدى (1):
وأما إذا كتب في جزئية فقهية فلا يترك فاذة ولا شاذة ولا إيرادًا ولا اعتراضًا ولا مذهبًا له تعلق بذلك إلا ويذكره بنصه من أصوله وكتب أهله التى قد لا يسمع بها أكابر المطلعين وأساطين المحققين، وكان لا يقتصر على مذاهب الأئمة المتبوعين بل يأتى بمذاهب الصحابة والتابعين وتابعيهم واجتهاداتهم وفتاويهم وغرائبهم حتى يظن القارئ أنه عاصر جميعهم وأخذ عنهم وارتوى من ينابيع علومهم مشافهة اهـ.
وكان له قلم سيال بما يتحف القارئ ويشفي غليل السائل، فلا تراه إلا مشتغلا بحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إما بإنشاء المستخرجات على الكتب الحديثية، أو بالنقد والكلام عن علل الرجال -وهو علم من أدق العلوم لا يتصدر له إلا الفرسان في علم الحديث- أو إجابة لمن سأله عن صحة حديث مع بيان طرقه والكلام عليه، أو هو يبيِّضُ ما كان كتبه سالفا، حيث لم يكن يعتمد في ذلك على أحد -كما هو الحال مع كثير من العلماء- بل كان يقوم على جميعها بنفسه.
(1) انظر "حياة الشيخ أحمد بن الصديق" لعبد اللَّه التليدي (ص 28).
ومما سهل عليه هذا الأمر كثرة حفظه وسعة اطلاعه مع شدة الاستحضار (1)، حيث لم يكن بحاجة إلى مطالعة المراجع دائما، بل كان كثيرا ما يعتمد على ذاكرته في النقل، مما أعانه كثيرا على الكتابة وهو بمنفاه.
غير أنه رحمه الله كان تعتريه حدة في بعض كتاباته خاصة إذا تعرض للنقد أو للرد على مسألة علمية قد حاد فيها أحد العلماء عن الجادة، فهو ينفعل ويغضب لذلك، وربما صدرت منه بعض الألفاظ الحادة التى إن دلت على شيء فإنما تدل على شدة غيرته على شرع اللَّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وكان مع صغر سنه يقوم مقام الطالب والأستاذ في آن واحد، أو هو الشاب الشيخ كما وصفه بذلك علامة الديار المصرية الشيخ بخيت المطيعي، لأنه شاب في سنه، شيخ في علمه وعقله، وليس أدلَّ على ذلك من أن يقصده علماء عصره للقراءة عليه وهو لم يزل في مرحلة الطلب، فقرأ فتح الباري سردا، وقرأ الكتب الستة مرات، ودرَّس نيل الأوطار والشمائل المحمدية.
ثم تصدر للإملاء، فأحيا بذلك سنة الحفاظ الأوائل وكانت قد اندثرت، فجلس لذلك بمسجد الحسين ومسجد الكخيا بالقاهرة والمسجد
(1) ومما يذكر في هذا المقام أن الشيخ في مرحلة طلبه الأولى كان قد تناول حبَّ "البَلاذُرْ"، وهو من نوع الزبيب يخرج في أرض الأندلس، وهو مشهور بين الحفاظ بأنه يقوي الذاكرة ويعين على الحفظ، لذا حرص كثير من الحفاظ على تناوله، منهم مفخرة المغرب الحافظ ابن رشيد السبتي المتوفى سنة 721 هـ.
الأعظم بطنجة، يقول الشيخ التليدى (1):
وقد كان يدرس صحيح مسلم وجامع الترمذي بالجامع الكبير بطنجة فكان يملي ثمانين حديثا بأسانيدها من حفظه بلا تلعثم ولا توقف، ثم إذا فرغ منها يرجع فيبتدئ بالحديث الأول فيتكلم على تخريجه وذلك بأن يذكر من وافق المصنف على تخريج ذلك الحديث من أصحاب الأمهات والأصول المسندة ثم يذكرها بألفاظها وطرقها ورواتها معزوة إلى مخرجيها، وهو في كل ذلك يصحح ويحسن ويضعف، ثم ينتقل لرجال الحديث فيتكلم على تراجمهم واحدا إثر الآخر فيذكر مواليدهم ونشآتهم ورحلاتهم وشيوخهم وتلامذتهم وأحوالهم وسيرهم ووفياتهم، وكانت تراجم هؤلاء جميعا نصب عينيه كأنه عاصر الجميع اهـ.
وكان رحمه الله لا يتوانى عن الدعوة إلى العمل بكثير من السنن المهجورة في مذهب مالك كالتعوذ والبسملة والجهر بالتأمين ورفع اليدين في الانتقال ووضع اليمين على الشمال والسلام من الصلاة مرتين والأذان بين يدي الخطيب في يوم الجمعة، إلى غير ذلك من السنن الشريفة التي كاد يَحْرمُ العمل بها في بلاد المغرب قاطبة.
وكما كان ذلك حاله في الدعوة إلى نشر السنة، كان كذلك يحب موافقة السنة في كل شئ:
- من ذلك أنه كان يخضب وفرته ولحيته إلى أن توفي.
- ومنها أنه مشى مرة حافيا في الطريق ليوافق بذلك فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر "حياة الشيخ أحمد بن الصديق" لعبد اللَّه التليدي (ص 29) بتصرف.
- ومنها تكبيره سبعًا على الجنازة بالمسجد الأعظم بطنجة.
-ومنها أنه ما كان يدخر ولا يعرف للحرص معنى أصلًا إذ هو ينافي التوكل.
- ومنها تجيشه لمحاربة الاستعمار الفرنسى في نحو ألفين من مريديه إحياء لفريضة الجهاد.
* * *