المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم بر الوالدين الفاسقين والمشركين: - المسلم وحقوق الآخرين

[أبو فيصل البدراني]

فهرس الكتاب

- ‌(الحقوق العامة)

- ‌ حسن الخلق:

- ‌مشروعية حسن الخلق مع الناس جميعهم:

- ‌الفوارق بين المداراة والمداهنة:

- ‌حقوق المسلم العامة:

- ‌ فقه التعامل مع الناس:

- ‌(الحقوق الخاصة)

- ‌حكم بر الوالدين الفاسقين والمشركَين:

- ‌حدود استئذان الوالدين في الجهاد والهجرة والسفر:

- ‌حكم قطع الصلاة لأجل نداء الوالدين:

- ‌حكم طلب أحد الوالدين طلاق زوجة الابن:

- ‌حكم اعتراض الوالدين على زواج ابنهم:

- ‌فقه الاحتساب على كل من له حق على المحتسب كالوالدين والأزواج:

- ‌حكم النفقة على الأقارب الفقراء:

- ‌حكم دفع الزكاة للأقارب:

- ‌خلاصة حكم صلة القريب الفاسق والكافر:

- ‌حكم صلة القريب الكافر إذا كانت صلته تؤدي إلى محبته طبيعياً:

- ‌حكم صلة الرحم الصالحة المؤذية:

- ‌كيفية صلة الأقارب الفسَاق والكفار والمُؤذين منهم

- ‌ كيفية التوفيق بين الاحتساب وصلة الأرحام:

- ‌خلاصة فقه صلة الرحم:

- ‌حقيقة ما يُثار حول الزواج من الأقارب والتحذير منه:

- ‌كيفية معاشرة الزوجة:

- ‌ كيفية معاشرة ومعاملة الزوجة الكتابية:

- ‌حكم العدل بين الزوجات وحدوده:

- ‌فقه معاملة الناشز:

- ‌آداب الجماع:

- ‌حدود الضرب المشروع للمرأة ومحله:

- ‌كيفية مجاورة الكافر والفاسق بالحسنى:

- ‌حكم التفضيل في العطية بين الأولاد:

- ‌كيفية التعامل مع الأولاد الفساق:

- ‌(شبهات وإشكالات)

الفصل: ‌حكم بر الوالدين الفاسقين والمشركين:

وهجرهما ، وترك برهما ونصحهما إذا كانا متلبسين ببعض المعاصي ، وغير ذلك.

أسباب العقوق:

من أسباب العقوق الجهل ، وسوء التربية ، والصحبة السيئة للأولاد ، وعقوق الوالدين لوالديهم غالباً وليس هذا السبب على إطلاقه ، والتفرقة بين الأولاد ، وإيثار الراحة والدعة ، وضيق العطن فلذلك قد تجد بعض الأبناء يأنف من أوامر والديه خصوصاً إذا كان الوالدين أو أحدهما فظاً غليظاً فتجد الولد يضيق بهما ذرعاً ولا يتسع أفقه لهما ، وكذلك قلة الإعانة على البر من الوالدين ، وسوء خلق الزوجة ، وقلة الإحساس بمصاب الوالدين ، وجماع ذلك ضعف الإيمان.

حكم بر الوالدين:

قال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) وبهذا تعلم أخي القارىء أن الله تعالى افترض الإحسان إلى الأبوين وأن لا يُنتهروا وأن يُخفض لهما جناح الذل من الرحمة فيما ليس فيه معصية الله تعالى ، وبر الولدين ومصاحبتهما في الدنيا بالمعروف واجب ما لم يكونا محاربين للدين وأهله ولو كانا كافرين فكيف إذا كانا مسلمين وعندهما بعض التقصير، والوالدان لهما أحكام واستثناءات خاصة ، ومن ذلك أنه يُستثنى من هجر من يستحق الهجر الوالدين لعظم حقهما ما لم تُخش الفتنة في الدين على تفصيل في المسألة ليس هذا موضعه ، والفتنة في الدين هي اتباعهم على دينهم ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس الأب كالأجنبي ، وإذا كان والد المسلم ذميين استعمل معهما ما أمره الله به من برهم إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر، بل نص أهل العلم على أن المسلم يموت أبواه وهما كافران إنه يغسلهما ويتبعهما ويدفنهما لأن ذلك من الصحبة بالمعروف التي أمر الله بها ، والواجب على الولد صلة والده وبره ومباسطته والصبر على ما يصدر منه ، ومع ذلك كله فإنه ينبغي على الوالدين تجاه أبنائهم أن يعينونهم على برهم ولا يكلفوهم من البر فوق طاقتهم ولا يلحون عليهم وقت ضجرهم.

تفسير قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ):

أي إن حرصا الوالدين عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين فإياك وإياهما فلا تطعهما في ذلك فإن مرجعكم إلى الله يوم القيامة فأجزيك بإحسانك إليهما وصبرك على دينك وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا فإن المرء يُحشر يوم القيامة مع من أحب أي حباً دينياً ، ولا يمنعك حرص الوالدين على متابعتهم في دينهم من أن تصحبهما في الدنيا معروفاً (أي مُحسناً إليهم) ، وصاحبهما في الدنيا معروفاً أي صحبة إحسان إليهما بالمعروف وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي فلا تتبعهما.

‌حكم بر الوالدين الفاسقين والمشركَين:

بر الوالدين مما أجمع على وجوبه علماء المسلمين، قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع: واتفقوا أن بر الوالدين فرض. انتهى.

ولم يفرق أحد من العلماء بين الوالد العدل والفاسق والكافر في أصل وجوب البر، بل نص كثير

ص: 18

منهم على عدم الفرق وهذا واضح، لأن الفسق والكفر لا يُسقط الحق الواجب، قال في الفواكه الدواني: ومن الفرائض العينية على كل مكلف بر الوالدين أي الإحسان إليهما ولو كانا فاسقين بغير الشرك، بل وإن كانا مشركين، للآيات الدالة على العموم، والحقوق لا تسقط بالفسق ولا بالمخالفة في الدين

انتهى.

ونقل في الآداب الشرعية عن صاحب المستوعب قوله: وَمِنْ الْوَاجِبِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ وَطَاعَتُهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تعالى. انتهى.

وفي الموسوعة الفقهية: ومن الواجب على المسلم بر الوالدين وإن كانا فاسقين أو كافرين. انتهى.

وبه تعلم أن صلة الوالدين المسلمين واجبة وهذا مما لا يشك فيه، ولا يؤثر في ذلك فسقهما وتعديهما حدود الله، وأما الوالد الكافر فوجوب بره كالوالد المسلم، ولكن مال بعض العلماء إلى خلاف هذا وأن الوالد الكافر دون المسلم في الحق لا سيما في عدم وجوب إذنهما للجهاد في سبيل الله لأنهما متهمان في الدين، قال ابن مفلح في الآداب الكبرى: وَظَاهِرُ مَا سَبَقَ وُجُوبُ طَاعَةِ الْوَالِدِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ السَّابِقِ فِي قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ أَنَّ الْكَافِرَيْنِ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُمَا وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُمَا فِي الْجِهَادِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَيُعَامِلُهُمَا بِمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ اتِّبَاعًا لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها: جَاءَتْنِي أُمِّي مُشْرِكَةً فَسَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ـ قال فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ: وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَةُ الْكَافِرِ كَالْمُسْلِمِ لَا سِيَّمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ وَالطَّاعَاتِ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَكِنْ يُعَامَلُ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا سَبِيلَ لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إلَى مَنْعِهِ مِنْ الْجِهَادِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا وَطَاعَتُهُمَا حِينَئِذٍ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ مَعُونَةٌ لِلْكُفَّارِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهُمَا وَيُطِيعَهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، كَذَا قَالَ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. انتهى.

وفي تعقبه كلام الخطابي ما يشعر بميله إلى ما يفهم من كلام صاحب المستوعب من أن الوالد الكافر ليس في البر كالمسلم.

وفي هذا المقام قال الله تعالى: «وَوَصَّيْنَا الإنسانَ بِوَالديهِ حُسْناً وإنْ جَاهداكَ لِتُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لك به عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إليَّ مَرْجِعُكم فَأُنَبِّئكُم بما كُنْتُم تعْمَلون» .

قيل: نزلت في سعد بن أبي وقّاصٍ ، فقد روي أنّه قال: «كنت بارّاً بأمّي فأسلمت فقالت: لتدعنّ دينك أو لا آكل ولا أشرب شراباً حتّى أموت فتعيّر بي، ويقال: يا قاتل أمّه. وبقيت يوماً ويوماً.

فقلت: يا أمّاه: لو كانت لك مائة نفسٍ، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي. فلمّا رأت ذلك أكلت».

وقال تعالى في موضع آخر (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) قال ابن كثير رحمه الله في بيان معنى المصاحبة في الدنيا معروفاً، وصاحبهما في الدنيا معروفاً أي بالمعروف وهو البر والصلة والعشرة الجميلة

انتهى). ، فالبر بالوالدين والمصاحبة بالمعروف واجب كالقول اللين وعدم التعنيف، وعدم التأفف وعدم الزجر، والإحسان إليهما بالمال والإعانة والخدمة كما قال تعالى:(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وفي الصحيحين عن أسماء رضي الله عنها قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة أفأصل أمي؟

ص: 19

قال: (نعم صلي أمك). وعن أبي هريرة قال: مر رسول صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول وهو في ظل فقال: قد غبر علينا ابن أبي كبشة-يقصد رسول الله عليه من الله مايستحق-، فقال ابنه عبد الله: والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب لئن شئت لأتيتك برأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته ". رواه الطبراني في الأوسط وقال: تفرد به زيد بن بشر الحضرمي، قال أبو السعادات الشيباني في جامع الأصول في أحاديث الرسول عن زيد بن بشر وثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات.

وعلى هذا فالبر بالوالدين فرض عين، ولا يختص بكونهما مسلمين، بل حتى لو كانا كافرين يدعوان ابنهما إلى الشرك فيجب برهما والإحسان إليهما ما لم يأمرا ابنهما بشرك أو ارتكاب معصية ، وفي هذه الحال عليه أن يقول لهما قولاً ليناً لطيفاً دالاً على الرفق بهما والمحبة لهما، ويجتنب غليظ القول الموجب لنفرتهما، ويناديهما بأحب الألفاظ إليهما، وليقل لهما ما ينفعهما في أمر دينهما ودنياهما، ولا يتبرم بهما بالضجر والملل والتأفف، ولا ينهرهما، وليقل لهما قولاً كريماً وليدعوهم إلى الإسلام برفق، ومن العجيب في هذا الباب أن بعض الفقهاء قال إذا طلب أحد الوالدين الكافرين من ولدهما إيصالهما إلى الكنيسة لعجزه عن الوصول إليها، فالواجب على الولد إيصاله إليها، ووجوب البر بهما في هذا الأمر مقيد بحال الطلب ووجود العجز، وإلا لم يجب على من ذهب هذا المذهب نص على هذا فقهاء المالكية.

وقال ابن عاشور (قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحل للمسلم أن يُشايع أحد أبويه عليه

. انتهى). واعلم أني أورد هذه الأقوال لا لترجيحها بل لحكايتها بياناً لأهمية بر الوالدين ، ولتعلم أخي القارىء أن الأقارب الكفار الغير محاربين يُلحقون بالوالدين الكافرين من المصاحبة في الدنيا بالمعروف وخاصة إذا كان يعسر التحرز من هجرهم لسببٍ ما فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الخالة بمنزلة الأم) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. إلا أنه ينبغي أن يُعلم بأن مشروعية التعامل بالإحسان والبر بالوالدين الكافرين وصحبتهما بالمعروف وصلة الرحم الكافرة يكون دون موالاتهم وطاعتهم فيما يريدون من الشرك ومعصية الله تعالى ، فعن أبي عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) متفق عليه واللفظ للبخاري.

من الأمور المعينة على البر:

من الأمور المعينة على البر: الاستعانة بالله ، وصلاح الآباء ، والتواصي بالبر ، وإعانة الأولاد على البر، والتوفيق بين الزوجة والوالدين وذلك بزيادة البر بالوالدين بعد الزواج.

شروط بر الوالدين على وجه الكمال:

شروط البر ثلاثة:

1 -

أن يؤثر الولد رضا والديه على رضا نفسه وزوجته وأولاده والناس أجمعين.

2 -

أن يطيعهما في كل ما يأمرانه به وينهيانه عنه ما لم يأمراه بمعصية.

3 -

أن يقدم لهما كل ما يلحظ أنهما يرغبان فيه من غير أن يطلباه منه عن طيب نفس وسرور مع شعوره بتقصير في حقوقهما ولو بذل لهما دمه وماله.

الفرق بين البر والصلة:

الأقارب لهم الصلة والوالدان لهما البر ، والبر أعلى من الصلة لأن البر كثرة الخير والإحسان لكن

ص: 20

الصلة ألا يقطع ولهذا يقال في تارك البر أنه عاق ويقال فيمن لم يصل إنه قاطع ولا يقال عاق.

المقصود بالوالدين الواجب برهم:

الوالدان هما الأب والأم أما الجد والجدة فلهم بر ، لكنه لا يساوي بر الأم والأب وإنما لهما الصلة.

فقه التعامل مع تعارض أوامر الوالدين:

لا شك أن حق الوالد أعظم ولكن بر الوالدة ألزم ، وعلى هذا فالأم تُقدَم وتُفضَل بالبر والإحسان والعطف وهذا من حيث العموم ، وأما إذا تعارض أمر الوالد والوالدة فيجب أن تداريهما وأن تقضي شغلهما معاً ، وهذا القدر متفق عليه بين أهل العلم أما إذا تعذر ذلك فهنا اختلف أهل العلم فقال فريق منهم يُنظر أيهما أكثر ضرراً إذا خالفته ، فيُقضى ما يكون أكثر ضررا ًعند المخالفة ، وإن تساويا فقدم الوالدة ، وقال الفريق الآخر الأب يُقدَم في الطاعة مطلقاً ، طبعاً في المعروف لأن الأب رب المنزل وقائد السفينة ، وافعل يا عبد الله ما هو أصلح لقلبك.

حدود طاعة الوالدين:

طاعة الوالدين الواجبة مقيدة بالمعروف، وفي غير معصية الله عز وجل، مما فيه نفعهما ولا ضرر فيه على الولد ، أما ما فيه ضرر عليه سواء كان ضرراً دينياً كأن يأمراه بترك واجب أو فعل محرم فإنه لا طاعة لهما في ذلك ، أو كان ضرراً دنيوياً فلا يجب عليه طاعتهما، وعلى هذا فطاعة الوالدين بالمعروف لازمة ولو مع وجود المشقة إلى أن تفحش وتكبر وتقترب من معنى الضرر الذي جاءت الشريعة بإزالته فعندئذ لا تجب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية وإن كانا فاسقين، وهو ظاهر إطلاق أحمد، وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر عليه، فإن شق عليه ولم يضره وجب، وإلا فلا. اهـ.

وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بَعْدَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: هَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنْ يَبْرَأَ فِي جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ فَمَا أَمَرَاهُ ائْتَمَرَ وَمَا نَهَيَاهُ انْتَهَى ، وَهَذَا فِيمَا كَانَ مَنْفَعَةً لَهُمَا وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ ظَاهِرٌ مِثْلُ تَرْكِ السَّفَرِ وَتَرْكِ الْمَبِيتِ عَنْهُمَا نَاحِيَةً. وَاَلَّذِي يَنْتَفِعَانِ بِهِ وَلَا يُسْتَضَرُّ هُوَ بِطَاعَتِهِمَا فِيهِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَضُرُّهُمَا تَرْكُهُ فَهَذَا لَا يُسْتَرَابُ فِي وُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِيهِ ، بَلْ عِنْدَنَا هَذَا يَجِبُ لِلْجَارِ. وَقِسْمٌ يَنْتَفِعَانِ بِهِ وَلَا يَضُرُّهُ أَيْضًا طَاعَتُهُمَا فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ يَضُرُّهُ طَاعَتُهُمَا فِيهِ لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُمَا فِيهِ لَكِنْ إنْ شَقَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَضُرَّهُ وَجَبَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ تَسْقُطُ بِالضَّرَرِ فَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا بَنَيْنَا أَمْرَ التَّمَلُّكِ فَإِنَّا جَوَّزْنَا لَهُ أَخْذَ مَا لَهُ مَا لَمْ يَضُرُّهُ ، فَأَخْذُ مَنَافِعِهِ كَأَخْذِ مَالِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:{أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ} فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْعَبْدِ

انتهى.

وأما المال فيجب عليه أن يبرهما ببذله ولو كثر إذا لم يكن عليه ضرر ولم تتعلق به حاجته.

أما طاعة الوالدين في ترك المستحبات والنوافل لغير حاجتهم لا تلزم مع المدارة لهما ، علماً بأنه لا يجوز للوالدين منع ولدهما من السنن من غير موجب.

قال الشّيخ أبو بكرٍ الطّرطوشيّ في كتاب بر الوالدين: لا طاعة لهما في ترك سنّةٍ راتبةٍ، كحضور الجماعات، وترك ركعتي الفجر والوتر ونحو ذلك، إذا سألاه ترك ذلك على الدّوام، بخلاف ما لو دعواه لأوّل وقت الصّلاة وجبت طاعتهما، وإن فاتته فضيلة أوّل الوقت

انتهى.

وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية " قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي غُلَامٍ يَصُومُ وَأَبَوَاهُ يَنْهَيَانِهِ عَنْ الصَّوْمِ التَّطَوُّعِ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَصُومَ إذَا نَهَيَاهُ ، لَا أُحِبُّ أَنْ يَنْهَاهُ يَعْنِي عَنْ التَّطَوُّعِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ فِي رَجُلٍ يَصُومُ التَّطَوُّعَ فَسَأَلَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ يُفْطِرَ قَالَ: يُرْوَى

ص: 21

عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: يُفْطِرُ وَلَهُ أَجْرُ الْبِرِّ وَأَجْرُ الصَّوْمِ إذَا أَفْطَرَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى: إذَا أَمَرَهُ أَبَوَاهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ قَالَ: يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَفِي الصَّوْمِ كُرِهَ الِابْتِدَاءُ فِيهِ إذَا نَهَاهُ وَاسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَالَ يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي. انْتَهَى كَلَامُهُ. ثم قال: وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ الْمُقْرِي فِي الرَّجُلِ يَأْمُرُهُ وَالِدُهُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ بِهِ قَالَ يُؤَخِّرُهَا قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: فَلَوْ كَانَ تَأْخِيرُهَا لَا يَجُوزُ لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الرَّجُلِ يَنْهَاهُ أَبُوهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ قَالَ لَيْسَ طَاعَتُهُ فِي الْفَرْضِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ فُصُولِ الْقُرُبَاتِ عُقَيْبَ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ فَقَدْ أَمَرَ بِطَاعَةِ أَبِيهِ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ نُدِبَ إلَى طَاعَةِ أَبِيهِ فِي تَرْكِ صَوْمِ النَّفْلِ وَصَلَاةِ النَّفْلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَطَاعَةً ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ هَارُونَ الْمَذْكُورَةَ

انتهى.

وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية في موضع آخر: وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ –يقصد الولد-فِي الْحَضَرِ كَالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُهُ –يقصد الوالد-وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا يَعْتَبِرُهُ وَلَا وَجْهَ لَهُ وَالْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

انتهى.

وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية في موضع آخر: وَذَكَرَ أَبُو الْبَرَكَاتِ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ وَلَدِهِ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ ، وَكَذَا الْمُكْرِي وَالزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ أَحْمَدَ ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا تَأَكَّدَ شَرْعًا لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ وَلَدِهِ فَلَا يُطِيعُهُ فِيهِ ، وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ لَا يُطِيعُهُمَا فِي تَرْكِ نَفْلٍ مُؤَكَّدٍ كَطَلَبِ عِلْمٍ لَا يَضُرُّهُمَا بِهِ .. انتهى.

وأما طاعة الوالدين في المشتبهات فواجبة ما لم يجد حرجاً شديداً فلا تلزمه وعليه بمداراتها والأفضل بلا شك طاعتهما وليفعل المسلم ما هو أصلح لقلبه ، قال النووي في شرحه لمسلم: وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات.

وأما حكم طاعتهما لحاجتهما في ترك فروض الكفاية فلا شك أن طاعتهما الواجبة المتعينة مُقدمة على فرض الكفاية لحديث مسلمٍ فيمن أراد البيعة وَأَحَدُ والديه حيّ، وفيه دلالة على تقديم صحبتهما على صحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وتقديم خدمتهما - الّتي هي واجبة عليه وجوباً عينيّاً - على فروض الكفاية، وذلك لأنّ طاعتهما وبرّهما فرض عينٍ، والجهاد فرض كفايةٍ، وفرض العين أقوى.

قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: وَقَالَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ إنَّ لِلْوَالِدِ مَنْعَ الْوَلَدِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِ ; لِأَنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْ الْغَزْوِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَالتَّطَوُّعُ أَوْلَى وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ (لَا يُجَاهِدُ مَنْ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا يَعْنِي تَطَوُّعًا) إنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَإِنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاحْتَجَّ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ: وَلِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَفَرْضُ الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ سَقَطَ إذْنُهُمَا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا وَجَبَ كَالْحَجِّ وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمَعِ وَالسَّفَرِ لِلْعِلْمِ الْوَاجِبِ لِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْأَبَوَيْنِ فِيهَا كَالصَّلَاةِ

انتهى.

وهنا تنبيه مهم وهو أن أمر الوالدين لولدهما بالمعروف واجب الطاعة للولد ، ولكن إذا كان الأمر المقصود به الإكرام لولدهما فلا يجب على الولد إلا إذا خاف مفسدة من وراء ذلك.

الفرق بين المشقة والأذى والضرر:

بدايةً يجب أن نعلم بأن المشقة مُرادفة للأذى فلا يوجد فرق بينهما يُذكر على حد علمي أما الفرق بين المشقة والضرر فاعلم أخي المسلم أنه لا يكاد يخلو امتثال أمر من نوع مشقة، لأن النفس تميل إلى الراحة والدعة وتنفر مما لا يناسبها، ويظهر هذا بجلاء إذا كان الأمر بما يُخالف هوى المرء،

ص: 22