المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جهاد المماليك البحرية ضد الصليبيين: - المماليك البحرية وقضائهم على الصليبيين في الشام

[شفيق جاسر أحمد محمود]

الفصل: ‌جهاد المماليك البحرية ضد الصليبيين:

‌جهاد المماليك البحرية ضد الصليبيين:

لم يبق من الأراضي الإسلامية تحت حكم الصليبيين سوى شريط ساحلي يمتد على محاذاة البحر الأبيض المتوسط من ناحية الشرق، يضيق أو يتسع باختلاف الظروف والأزمنة، وذلك لأن الصليبيين حتى في عنفوان قوتهم، لم يتمكنوا من التوغل في داخل بلاد الشام، فبقيت حلب وحماه وحمص ودمشق بعيدة عن متناولهم1. وبفقدهم المبكر لإمارة الرها ظلوا محاطين بالمسلمين من الشمال والشرق والجنوب، لا يربطهم بأوربا مصدر قوتهم وإمدادهم سوى البحر، واقتصرت أملاكهم في مطلع عهد الدولة المملوكية البحرية على إمارتي طرابلس2 وأنطاكيا3، ومدينة عكا4 التي أضحت مقرا لمملكة بيت المقدس بعد أن استرد المسلمون القدس.

لهذا فبعد أن باءت بالفشل حملة لويس التاسع ملك فرنسا على مصر المسماة بالحملة السابعة، خرج هذا الملك مذموما مدحورا خاسرا، فاشلا في تحقيق أحلامه في استرداد بيت المقدس عن طريق مصر، وغادر دمياط متوجها نحو قبرص، بعد أن فك المماليك أسره، مقابل فدية كبيرة وشروط مذلة.

ولم يلبث أن غادر قبرص متوجها نحو عكا، التي كان حاكمها يوحنا، شقيق ماري، إمبراطورة القسطنطينية، وزوجة الإمبراطور يلدوين الثاني، ومنها أخذ يعمل على تحقيق حلمه الذي لم يفارقه رغم كل النكبات، بل عاش معه حتى مات قي تونس وهو يقود الحملة الصليبية الثامنة عام 669 هـ (270 1م) .

استغل هذا الملك فرصة النزاع الذي شب بين المماليك البحرية الذين استولوا على السلطة في مصر، بعد مقتل تورانشاه بن الملك الصالح أيوب وبن بقايا الأيوبيين في الشام،

1 حتي، فيليب، تاريخ العرب: ص 289.

2 مدينة ساحلية حصينة، يحدها من القبلة جبل لبنان، تطل على بحر الروم من ثلاث جهات، وتقع شمالها قلاع الدعوة الإسماعيلية، وشرقها قلعة منيعة من الحجر، استولى عليها الصليبيون سنة 503هـ (1110) . المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق مصطفى زيادة، جـ1 قسم 3 ص: 747_748. القلقشندي: صبح الأعشى: 4/144.

3 تقع أنطاكية إلى الغرب من حلب، على ساحل البحر المتوسط، لها سور عظيم من الصخر، يمر بظاهرها نهر العاصي، والنهر الأسود مجموعين. (أبو الفداء) إسماعيل بن علي عماد الدين صاحب جمال ت 732 هـ- 1331م تقويم البلدان ص: 257، القلقشندي: صبح الأعشى: 4/ 229.

4 تقع على الساحل الشرقي لبحر الروم، جنوب صور وشمال غرب طبرية، استَولى عليها الصليبيون عام 497 هـ (1104م) واستردها صلاح الدين عام 583 هـ (1157م) ، واستولى عليها الصليبيون مرة أخرى عام 587 هـ (1191م) ثم استردها الأشرف خليل القلقشندي، أبو العباس أحمد، (821 هـ-1418م)، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء: 4/152، 14 جزءا (1913- 1919م) انظر: مادة عكا بدائرة المعارف

ص: 125

الذين رأوا في ذلك ضياعا لجزء هام من أملاك الأسرة الأيوبية، فعارضوا ذلك بشده وعلى رأسهم السلطان يوسف صاحب حلب ودمشق، فصار الملك لويس يساوم كلا الجانبين- الأيوبيين والمماليك- ويعدهما بالمساعدة حتى اتفق أخيرا مع السلطان معز الدين أيبك على أن يطلق المماليك عددا كبيرا من الأسرى الصليبين، وعلى إعادة رؤوس الفرنجة المعلقة حول أسوار القاهرة منذ وقعة غزة، وأن يتنازل المماليك عن النصف الثاني من الفدية المفروضة على لويس التاسع، وتعهدوا بإعادة بيت المقدس إلى الصليبيين، وذلك كله مقابل أن يقف الملك لويس، إلى جانبهم في حِربهم ضد الناصر يوسف صاحب الشام وأتفق على "أن تكون هذه الاتفاقية خمسة عشر عاماَ"1.

هذا ولم تشر المصادر الإسلامية إلى هذه الاتفاقية غير ما أورده العيني عندما قال: "ومال الجيش المصري بالفرنج، ووعدوهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس- إن نصروهم على الشامين- وكانت قد اشتدت الحرب بينهم"2 ورغم شعور الإنسان بالأسى والأسف لهذه المعاهدة، إلا أن من يعرف المماليك يوقن أنهم لم يكونوا معنيون بتنفيذ بعض بنودها، وخصوصا ما يتعلق منها بإعادة القدس إلى الصليبيين، أو تسليمهم ما هو غرب نهر االأردن، وأنهم كانوا يرون فيها خدعة تكتيكية لكسب الصليبين إلى جانبهم أو إبقائهم على الحياد، فباشروا أولا في تنفيذ بعض البنود كدليل على مصداقيتهم، فأخلوا سبيل باقي أسرهما الافرنج، وتنازلوا عن بقية الفدية المتبقية والبالغة حوالي ربع مليون جنيه ذهبي مصري، وأعادوا رؤوس قتلى الفرنج التي كانت معلقة على أسوار القاهرة منذ واقعة غزة3.

وعليه توجه لويس التاسع من جانبه بقواته من قيسارية إلى يافا، وانتظر وصول المماليك للانضمام إليه لمحاربة الناصر يوسف، ولكن الملك الناصر يوسف أرسل جيشا رابط في غزة ليحول دون اجتماع جيوش الصليبيين والمماليك4، مما أفسد عليهم خطتهم، وأخيرا تدخل الخليفة العباسي المستعصم بالله فسارع إلى التوسط بين الأيوبيين والمماليك فجنب بذلك القدس من السقوط مرة أخرى بأيدي الصليبيين5، كما جنب المسلمين سفك دماء

1 انظر: جوزيف نسيم، العدوان الصليبي على بلاد الشام، ص: 177_ 187، دار النهضة، بيروت، 1981م نقلاً عن مصادر أجنبية معترضة.

2 العيني: عقد الجمان: 18 قسم 2 لوحة 344، وكذلك عقد الجمان (مجموعة الحروب الصليبية جـ2 قسم 1ص215)، انظر كذلك: ابن كثير، البداية والنهاية: 13/184.

3 انظر: د. جوزيف نسيم، العدوان الصليبي على بلاد الشام، ص: 182 نقلاً عن جونفيل وهو مؤرخ مغرض

4 المقريزى، السلوك: جـ1 قسم 2 ص 381، ابن خلدون: العبر: 5/ 375.

5 د. أحمد العبادي، قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام، ص221، دار النهضة، بيروت، 1969م.

ص: 126

بعضهم خصوصا وأن الخطر المغولي قد أصبح على الأبواب.

ومع ذلك فإن لويس التاسع لم يفقد الأمل، فاستغل فترة خلاف المسلمين هذه لإصلاح أحوال الصليبيين، وتحصين مدنهم وحصونهم1، فبدأ بتحصين مدينة عكا، باعتبارها عاصمة الصليبيين، ومقر إقامته، ومركز مملكة بيت المقدس، وأتم تحصينها عام 649 هـ (1251م) حتى أصبحت بمنتهى المنعة.

وبعد ذلك توجه لويس إلى قيسارية2 التي كان يحكمها يوحنا اليمان، فأمضى عاما في بناء سورها، وأقام أبراجا عدة، كما حصن مدينة حيفا3 وبعدها سار إلى يافا4 وأقام حولها سورا له ثلاثة أبواب وأربعة وعشرين برجا وخندقين.

كما حصن صيدا5 وجدد بناء ما هدمته قوات الناصر يوسف عندما أغارت عليها أثناء مهاجمة لويس التاسع لدمياط، وأحاطها بالأسوار والأبراج والخنادق6. وذلك في زمن أميرها جوليان دي باليان.

ومن جهة أخرى حاول الملك لويس التاسع جمع كلمة الصليبيين الذين فرقتهم الخلافات والحروب المحلية، سواء كانت أسبابها تجارية كالتي كانت تحدث بين البنادقة والبيازنة والجنوية الذين تعرضوا بالمضايقة للويس التاسع نفسه، لاعتقادهم بأن حملته على مصر أضرت بعلاقتهم معها، أو دينية كالتي وقعت بين الجماعات الرهبانية العسكرية من داوية واسبتارية، أو عرقية بين أجناس السكان المختلفة لأن سكان الإمارات الصليبية كانوا خليطا متنافرا من الأمم والأخلاق والأهداف والميول.

كما حاول توطيد علاقاته مع نصارى الشرق (السريان المسيحيين) 7 خصوصا الأرمن

1 د. جوزيف نسيم، العدوان الصليبي على بلاد الشام، ص:290.

2 مدينة بساحل الشام بينها وبين الرملة 32ميلا، كانت شديدة المناعة، لها قلعة حصينة، وسور وباب حديد. (أبو الفداء، تقويم البلدان ص: 239) .

3 لم يبق منها اليوم سوى آثار قليلة، ومنها بعض المدافن بسفح جبل الكرمل، وحيفا، الموجودة حاليا شيدت في القرن 18، وتقع في شمال حيفا القديمة لكيلو مترين. (الكرمل: حيفا ص 69_ 71) .

4 تقع يافا على مسافة 6 أميال شمال غرب مدينة الرملة، وهي ميناء ترسو فيه السفن الواردة إلى فلسطين والمنطلقة منها. (أبو الفداء: تقويم البلدان ص 239) ، (القلقشندي: صبح الأعشى: 4/100) . قال عنها البشاري المقدسي: "خزانة فلسطين، وفرضة الرملة، عليها حصن منيع بأبواب محددة، وباب البحر كله حديد"(أحسن التقاسيم ص174) .

5 "مدينة بساحل البحر الرومي ذات حصن حصين "(القلقشندي، صبح الأعشى 4/ 111) .

6 جزيف نسيم، العدوان الصليبي على الشام، ص:299.

7 كان الصليبيون يطلقون هذا الاسم على الجماعات الشامية النصرانية، من إغريق، ونساطرة، وأرمن، وموارنة، وغيرهم. (جوزيف نسيم، العدوان الصليبي على الشام ص 312) وانظر:

chanteur، hist. De syrie et du liban 66-67

ص: 127