المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جهاد السلطان الناصر قلاوون ضد الصليبيين: - المماليك البحرية وقضائهم على الصليبيين في الشام

[شفيق جاسر أحمد محمود]

الفصل: ‌جهاد السلطان الناصر قلاوون ضد الصليبيين:

ولكنه عندما علم بخروج الحملة الصليبية الثامنة من فرنسا خشي أن تكون جهتها مصر، فسارع إليها للاستعداد لمواجهة هذا الخطر1، وعندما تيقن من توجه تلك الحملة إلى تونس عاد عام 670 هـ (1271م) لمواصلة هجومه على طرابلس فطلب أميرها بوهيمند السادس الصلح، ووصلت الأخبار بوصول الأمير إدوارد2 الأول إلى عكا، فظن أنها مقدمة لحملة صليبية كبرى، فاستجاب بيبرس لطلب بوهيمند وعقد معه صلحا مدته عشر سنوات3، وتبعتها مملكة بيت المقدس فعقدت صلحا مماثلا، مما مكن بيبرس من التفرغ لقتال المغول والإسماعيلية، فوجه همه نحو الإسماعيلية، "الحشاشين" الذين كانوا يعادون المسلمين ويتآمرون مع الصليبين ضدهم، ويغتالون كبار المجاهدين من قادتهم كما تعاونوا مع المغول، ودفعوا لهم الأتاوات4، فعزل مقدمهم نجم الدين الشعراني، وهدم حصونهم وقضي عليهم، بعد أن سلموها له وأشهرها الكهف والقدموس والمنطقة، وعوضهم عنها بإقطاعات5.

1 السيد عبد العزيز سالم: طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي، ص:269.

2 أصبح ملك إنجلترا فيما بعد، كان معه حوالي 1000 محارب، جاء البلاد بناء على اتفاق مع أبغاخان المغولي على غزو مصر والشام، ولكن انشغال ابغا بمحاربة مغول التركستان حال دون ذلك، فعاد إدوارد بعد أن طعنه أحدهم بسكين، وبعد أن عقد هدنة مع بيرس مدتها عشر سنوات (سعيد عاشور: الحروب الصليبية: ص 1159) .

3 أثناء المفاوضات اندس بيبرس بين أعضاء وفده إلى بوهيميند كخادم ليتمكن من الاطلاع على حصون طرابلس. (المقريزي: السلوك: 1/ 594) .

4 السيد عبد العزيز سان: طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي، ص:269.

5 ابن كثير البداية والنهاية 13/ 264.

ص: 133

‌جهاد السلطان الناصر قلاوون ضد الصليبيين:

لم يكد السلطان قلاوون يعتلي عرش مصر، حتى تمرد عليه نائب الشام، الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، فأعلن نفسه ملكا باسم الملك الكامل، واستولى على عدة حصون من حصون الشام، منها قلعة صهيون، ثم اتصل بأعداء المسلمين من مغول وصليبيين6 محاولا الاستعانة بهم ضد قلاوون، مما جعل أهل الشام ينفرون منه، وينفضون من حوله، ويتخلون عن نصرته، واستغل المغول هذه الفرصة، فاحتلوا بعض حصون الشام 769 هـ (1280م) ، واستولوا بقيادة أبغا على مدينة حلب، التي أحرقوا مساجدها ومدارسها وقتلوا معظم أهلها7، ولم يُضع الصليبيون هذه الفرصة، فقاموا بمحاولة لاسترداد حصن الأكراد، ولكنهم فشلوا8. وعندما علم قلاوون بهذا التحالف وهذه

6 أبو الفداء: المحتضر، حوادث سنة 679.

7 أبو المحاسن: النجوم الزاهرة: 7/ 299.

king: the knights hospitalers in the holy land. (London 1931) p282. 8

ص: 133

الجرائم خرج من مصر متوجها إلى الشام للقضاء على هذا الخطر، ولكنه لم يكد يغادر أرض مصر، حتى تعرض لمؤامرة داخلية جاءت من قبل بعض المماليك الذين يدعون بالمماليك الظاهرية1. حيث تآمروا عليه بالاتفاق سرا مع الصليبيين. فواجه الموقف بسرعة وقبض عليهم فأعدم بعضهم وسجن البعض الآخر وأعاد النظام إلى صفوف جيشه2.

فر المغول عندما علموا بوصول جيش الناصر قلاوون إلى غزة في طريقه لمحاربتهم، فأخلوا مدينة حلب والحصون التي كانوا قد احتلوها وأسرعوا عائدين نحو العراق3 ولم يصمد الأمير سنقر بدوره أمام جيش قلاوون وفر هاربا إِلى المغول محاولا مرة أخرى حضهم على غزو مصر4.

عندئذ رأى السلطان قلاوون أن أخطر هؤلاء الأطراف الثلاثة المتآمرين هم المغول، عقد صلحا مع الصليبيين من داوية واسبتاريه ومع بوهيمنند السابع أمير طرابلس، مدته عشر سنوات، وذلك عام 680 هـ (1281م) . وعفا عن الأمير سنقر الأشقر وعينه حاكما على أقليم أنطاكية5، واتفق مع الصليبيين في عكا بأن يكونوا على الحياد. وبهذا تفرغ لمقارعة المغول الذين عادوا التوجه نحو الشام بقيادة أبغا، يؤازرهم حليفهم ليو الثالث ملك أرمينيا الصغرى، فالتقى بهم قلاوون عام 680 هـ (1281م) في حمص وهزمهم بعد أن (هلك منهم خلق كثير)6.

وهنا قرر الناصر أن ينتقم من الصليبين مستغلا، نصره على المغول وغير عابئ بصلحه معهم عام 680 هـ الذي كانت مدته عشر سنوات ولما يمض عليه سوى أربع سنوات فهاجم عام 684 هـ (1285م) حصن المرقب7، ففتح ذلك الحصن الهام الذي كان فتحه خسارة كبرى للصليبيين لأنه أن أهم حصونهم8 ثم أتبع ذلك بالاستيلاء على

1 نسبه إلى الظاهر بيبرس.

2 مفصل بن أبي الفضائل، النهج السديد: 2/322. وذكر ابن إياس 930هـ (1523م) ، أبو البركات محمد بن أحمد، بدائع الزهور في وقائع الدهور، ثلاثة أجزاء، بولاق، 1312هـ، أن هذه الحادثة من قبل المماليك الظاهرية كانت سببا لإقدام الناصر قلاوون على إنشاء المماليك البرجية.

3 أبو المحاسن: النجوم: 7/299.

4 المقريزي: السلوك: 1/676.

5 النويري: نهاية الأرب: جـ29 ورقة 270.

6 رشيد الدين الهمداني (1318هـ)، جامع التواريخ: 2/83.

7 المُرَقَّب بالفتح ثم السكون وقاف وباء بلد وقلعة حصينة تشرف على ساحل بحر الشام. زكريا بن محمد بن محمود القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، ص 24، دار صادر، بيروت.

8 المقريزي: السلوك: 1/628.

ص: 134

اللاذقية عام 686 هـ (1287م) التي كانت آخر أملاك إمارة أنطاكية المتبقية بين الصليبين. بعد ذلك جاء دور طرابلس، وكانت حصينة، وقد مات أميرها بوهيمند السابع دون وريث، فدب النزاع بث الطامعين في إمارتها، حتى استعان بعضهم بالسلطان قلاوون1، فاستغل هذه الفرصة وهاجمها في جيش لجب يضم أربعين ألفا من الفرسان وأكثر من مائة ألف من الرجال، وفتحها سنة 686 هـ (1289م)2. ثم استولى على بيروت وجبله وبهذا لم يبق بيد الصليبيين سوَى صور3 وصيدا وعتليت وعكا التي كانت مركز مملكة بيت المقدس بعد سقوط القدس.

ورأى قلاوون أن يؤجل إلى حين الاستيلاء على بقية البلاد من أيدي الصليبيين، فوافق على تجديد الهدنة معهم لمدة عشر سنوات4 وتوجه إلى دمشق ولكن جموعا صليبية متحمسة وصلت من إيطاليا 689 هـ (1290م) ونزلت في عكا، وأخذت في الاعتداء على المسلمين المتواجدين خارجها، مما أغضب السلطان قلاوون ودفعه لأن يقسم على الانتقام منهم، وأخذ في الاستعداد لهذا الغرض، ولكنه توفي فجأة وهو في الطريق لتحقيقه5 عام 689 هـ (1290م) .

وقد وصف ابن العمري قلاوون رحمه الله بقوله: "كان رجلا مهيبا شجاعا، فتح الفتوحات الجليلة، مثل المرقب وطرابلس، التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على التعرض لها لحصانتها، وكسر جيش التتار في حمص، وكانوا في ثمانين ألفا"6.

وقد خلف الأشرف خليل بن قلاوون أباه في السلطنة، لأن أخاه الملك الصالح على بن قلاوون الذي أقامه أبوه ملحَا في حياته قد مات في سنة 687 هـ (1288م) بعد أن بقي ثماني سنوات سلطانا في حياة أبيه.

ولم يكن الأشرف خليل محبوبا من الأمراء: لأنه كان قاسيا وغير متمسك بحسن الخلق7، حتى اتهم بدس السم لأخيه علي، وقد استلم الحكم فور وفاة أبيه، وقضى على

1 أبو المحاسن: النجوم: 7/320_ 321.

2 المقريزي: السلوك: 1/646_ 647.

3 مدينة ساحلية حصينة على بحر الروم (البحر المتوسط) على مرتفع من الأرض. أبو الفداء، تقويم البلدان ص243.

4 سعيد عاشور: الحركة الصليبية: 2/1177.

5 المقريزي: السلوك: 1/754. Lane_ Poole: op. cit. p. 281_ 282

6 علي إبراهيم: ص: 61.

7المقريزي: السلوك: 1/792_ 793.

ص: 135

الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة الذي تآمر عليه، ثم استعد للخروج إلى الشام، ورغم محاولة الصليبيين ثنيه عن ذلك بأن أرسلوا إليه (يسألونه العفو) فإنه (لم يقبل منهم ما اعتذروا به)1.

توجه نحو عكا، واجتمعت إليه جيوش مصر والشام سنة 690 هـ (1291م) فقام بمحاصرتها مدة أربعة وأربعين يوما، ورماها بالمنجنيق، حتى فتحها في جمادى الأول من عام 690 هـ (1291م) ، رغم المقاومة العنيدة التي أبدتها حاميتها، وإمدادات قبرص لها2 - حيت أن الصليبين كانوا يعلمون أنها آخر أمل لهم في البقاء في الشام- وقد فر بعض سكانها إلى عرض البحر المتوسط وتكدسوا في السفن التي غرق بعضها لكثرة من كانوا على ظهرها3.

وبعد ذلك قام الأشرف خليل بالاستيلاء بسهولة على بقية ما تبقى بأيدي الصليبين مثل صور وحيفا اللتين قاومتا مقاومة كبيرة، ثم اضطرتا للتسليم فنجتا بذلك من التخريب4، ثم استولى الأشرف خليل على عتليت وصيدا وانطرسوس5، وبهذا تم القضاء نهائيا على الوجود الصليبي في الشام، وإن كان الصليبيون في جزيرة إرواد6 المقابلة للساحل الشرقي قد ظلوا يغيرون على السواحل بين الفينة والأخرى ويقطعون الطرق، مما أزعج نائب السلطنة المملوكية على الشام، وجعله يطلب معونة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فجهز أسطولا ووجهه نحو هذه الجزيرة بعد أن ضم إليه جيش طرابلس ففتحها وملكها وقتل من أهلها خمسمائة7 وذلك عام 702 هـ (1302م) .

وهكذا بالقضاء على الصليبين في عام 690 هـ (1291م) وبزوال الخطر المغولي عن الشام ومصر، أصبح لدولة المماليك شأن عظيم في السياسة الدولية خصوصاً في عهد سلطانها الناصر محمد ابن قلاوون في سلطنته الثالثة.

أدرك الصليبيون في أوربا فشل محاولاتهم المتلاحقة للعدوان على بلاد الإسلام في الشام ومصر، ورأوا زوال آخر إماراتهم بعد قرنين من تأسيسها، رغم ما بذل في سبيل إقامتها

1 المقريزي: السلوك: 1/ 762.

lane_ Poole: op. cit. p. 2892.

3 أبو المحاسن. النجوم: 8/ 6- 7.

4 المقريزي: السلوك: 1/ 765.

5 سعيد عاشور: الحركة الصليبية: 2/ 1183، 1184.

6 جزيرة على ساحل بلاد الشام، فتحها المسلمون سنة 54هـ (انظر: لفظ إرواد في معجم البلدان) .

7 أبو الفداء: المختصر: 3/43.

ص: 136

من جهود مادية ومعنوية، ومن سفك في سبيلها من دماء، كما لمسوا فتور الحماس الصليبي، بعد فشل حملتي لويس التاسع السابعة والثامنة على مصر وتونس، لذلك اضطروا إلى تقبيل اليد التي حاولوا قطعها فلجأوا إلى الدبلوماسية والمراسلات والسفراء والهدايا، علهم يحققون عن طريقها ما فشلوا في تحقيقه بالتعصب والسيف.

انهال سفراء الدول الأوربية على بلاط الملك الناصر محمد بن قلاوون في القاهرة، محملين بالهدايا والرسائل التي تلح في طلب الصداقة والموادعة، وتوثيق عرى الصداقة، في حين كان غرضها الأساسي هو استدرار عطف الناصر على النصارى في دولته، سواء من كان منهم من الأقباط في مصر أو من أهل الشام، فأرسل البابا يوحنا الثاني والعشرين في عام 727 هـ (1326م) رسالة إلى الناصر طالبا منه أن يعامل نصارى الشرق معاملة عادلة، مقابل معاملة مماثلة للمسلمين، فرد عليه الناصر مجيبا طلبه1.

وفي نفس السنة أرسل شارل الرابع ملك فرنسا رسالة مماثلة لنفس الغرض فرد عليه الناصر أيضا مجيبا طلبه2، كما أرسل إليه إمبراطور بيزنطة سفراء محملين بالهدايا راجيا إياه معاملة النصارى الملكانيين لديه بالرعاية والعدل3، فقبل الناصر طلبه، وعقد معه حلفا لصد الأتراك العثمانيين4.

وبلغت العلاقات بين الناصر ويعقوب ملك ارغونة شأوا كبيرا بسبب المراسلات بينهما ما بين سنتي 03 7- 728هـ (1303_1327م) ، التي كان هدفها إيجاد علاقة صداقة بينهما، والحصول على ميزات تجارية لأرغونة في مصر، وتسهيل الحج للأراضي المقدسة، وإطلاق سراح النصارى المسجونين في مصر، وضمان حسن معاملة الأقباط والنصارى عامة في الشرق5.

وقد رأى الناصر محمد- الذي كان ملكا مستنيرا محنكا، يميل إلى المسالمة- رأى ذلك فرصة لتوثيق العلاقات بين دولته والآخرين في الشرق والغرب6، يحقق بها مصالح مشتركة وخاصة حماية المسلمين في أسبانيا التي كانت خاضعة لحاكم أرغونة، بالإضافة إلى المصالح التجارية والعسكرية في الوقوف أمام الخطر التركي العثماني.

1 atiya: Egypt and Aragon. Pp. 54_ 55.

2 lbid

3 atiya: the crusades in the later middle ages. (London، 1938) . P. 3 372

4 lane_ Poole: Egypt in the middle ages. P. 801

5 انظر: إبراهيم حسن: 185.

6 علي إبراهيم: 184_ 185.

ص: 137

ولا أدل عام أهمية دولة المماليك الإسلامية في هذا العصر من أن يصبح سلاطينها محط أنظار السفراء والرسل من مغول ويمنيين وأرمن ونوبيين، حتى وصفهم المقريزي بقوله1:"وفيه (25 محرم 5 72 هـ) اجتمع بمصر من رسل الملوك ما لم يجتمع منهم في الدولة التركية، وهم رسل اليمن ورسل صاحب اسطنبول! ورسل الأشكري2 ورسل متملك سيس، ورسل أبي سعيد (ملك التتار) ، ورسل ماردين ورسا ابن قرمان ورسل متملك النوبة وكلهم يبذلون الطاعة".

إلا أن هذه المكانة قد ضعفت بموت السلطان الناصر محمد فسبحان مغير الأحوال3

1 المقريزي: السلوك: 2/163_ 164و 159.

2 هو نفسه صاحب اسطنبول إمبراطور الدولة البيزنطية.

3 أبو المحاسن: المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، 3 أجزاء، مخطوطة بدار الكتب المصرية، رقم 1113: 3/ 252.

ص: 138