المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية السياسية - أهمية دراسة السيرة النبوية والعناية بها في حياة المسلمين

[محمد بن محمد العواجي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌تمهيد:

- ‌أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الدينية (المنهج الدعوي)

- ‌الأمر الأول: في المراحل الدعوية

- ‌الأمر الثاني: التركيز على الجانب العقدي

- ‌الأمر الثالث: أنّ السيرة النبوية مصدر مَعِين لمن يريد التبحر في علوم الشريعة

- ‌المبحث الثاني: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاجتماعية

- ‌المطلب الأول: في كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع خصومه من الكفار وصبره على أذاهم

- ‌المطلب الثاني: في كيفية تعليمه صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة وتربيته لهم

- ‌المطلب الثالث: في كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع بعض المشكلات الاجتماعية

- ‌المبحث الثالث: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية السياسية

- ‌المبحث الرابع: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاقتصادية

- ‌المطلب الأول: في حث الإسلام على العمل والكسب الحلال

- ‌المطلب الثاني: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالنواحي الاقتصادية

- ‌المبحث الخامس: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية العسكرية

- ‌المطلب الأول: في الغاية من إنشاء الجيوش العسكرية

- ‌المطلب الثاني: في الضوابط التي وضعها الشارع للجيش الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: الاهتمام بافتناء السلاح

- ‌المطلب الرابع: في التنظيم العملي للجيش الإسلامي

- ‌الخاتمة:

الفصل: ‌المبحث الثالث: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية السياسية

‌المبحث الثالث: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية السياسية

[سياسته صلى الله عليه وسلم في تكوين دولة الإسلام في المدينة]

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل العربية في مواسم الحجّ وفي أسواقهم لحمايته حتى يبلغ دين الله الذي أمر بتبليغه وكان يقول لهم: "هل من رجل يحملني إلى قومه فإنّ قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي"(1) وقوله عليه الصلاة والسلام بسوق ذي المجاز: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا

" (2) . ولم يطلب منهم شيئاً غير الحماية والنصرة حتى ينفذ كلام ربه سبحانه وتعالى.

ولكن العجب أنّ تلك الدعوة اللطيفة لم تلق آذاناً صاغية من جميع تلك القبائل؛ لأنّ الله لم يرد لها الخير حينئذ، حتى هيأ الله لها نفراً من أهل المدينة قدموا مكة، فعرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يبعدوا، ثم تتابعت اللقاءات حتى كانت بيعة العقبة الثانية التي بموجب شروطها هاجر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وجد فيها العزة والقوة والمنعة لكثرة من كان قد أسلم من أهلها من الأوس والخزرج (الأنصار) بالإضافة إلى أعداد المهاجرين، إلا أنه صلى الله عليه وسلم وجد صعوبات في نشر الدعوة، منها القبائل اليهودية الثلاث قريظة والنضير وقينقاع، وكلها تدين باليهودية، ومنها القبائل المجاورة

(1) مسند أحمد (23/370) ، رقم [15195] ، وأبو داود، رقم [346ـ 347] ، وسنده صحيح.

(2)

مسند أحمد (25/404) رقم [16023] ، وسنده صحيح لغيره كما قال المحقق.

ص: 31

للمدينة وكلها تدين بالوثنية إلا أفراداً قلائل جدّاً دخلوا في الإسلام.

فهاتان مشكلتان تعيقان نشر الدعوة، ولا سيما مشكلة القبائل اليهودية التي عرف عنها المكر والخداع وقتل الأنبياء، بالإضافة إلى قوتها الاقتصادية والعسكرية، وتحالفاتها مع بعض القبائل العربية مما قد يسبب في حال مواجهتها عسكريّاً عدم تمكين الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستمرار في نشر دعوته، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن وضع التدابير الكفيلة لحماية الدعوة الإسلامية الناشئة.

وقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل المدينة -مقر الدعوة الإسلامية- آمنة، حتى يتفرغ لقريش أعتى قبائل العرب في زمانها، والتي تعد الحاجز الأقوى في وجه الدعوة الإسلامية، فبدأ صلى الله عليه وسلم بموادعة القبائل المجاورة للمدينة والتي كان معظمها يدين بالشرك وهواها مع قريش، إلا أنه صلى الله عليه وسلم قطع الطريق بينها وبين قريش عن طريق الموادعة التي تمت مع بعض القبائل وبخاصة القبائل الواقعة على الطريق التجاري لقريش المؤدية إلى الشام.

وقد تمت هذه المعاهدات بطرق عدة، لكن لا نجد تفصيلاً لبعض هذه المعاهدات، ولا سيما القديمة منها إلا ما جاء ذكره في سرية حمزة رضي الله عنه التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة الأولى إلى سيف البحر في ثلاثين راكباً ليعترضوا عيراً لقريش، لكن حجز بين الفريقين مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفاً للفريقين (1) .

فهذا يدل على أنّ هذا الحلف قد تمّ في فترة مبكرة، قبل خروج حمزة رضي الله عنه،

(1) انظر: السيرة النبوية لابن إسحاق (ابن هشام)(1/595) ، بدون إسناد، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/6) بدون إسناد أيضاً.

ص: 32

ومما يدل على قدم تلك المعاهدات مجيء وفد جهينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه المدينة يطلبون منه أن يوثق لهم حتى يأمنهم ويأمنوه (1) .

وذكر ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لبني زُرْعة وبني الرَّبْعة من جهينة أنّهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وأنّ لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلاّ في الدين والأهل، ولأهل باديتهم مَن بَرّ منهم واتقى ما لحاضرتهم، والله المستعان (2) .

ولكن لم تحدد الرواية تاريخ هذه الوثيقة هل كانت بعد الهجرة مباشرة أو لا؟!

وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأبواء (3) ، وفيها وادع مخشي بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه على ألا يغزو بني ضمرة ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعاً ولا يعينوا عدوّاً، وكتب بينهم وبينه كتاباً (4) .

ووادع صلى الله عليه وسلم بني مدلج في غزوة ذي العشيرة التي كانت في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً من مهاجره صلى الله عليه وسلم (5) .

وبعض هذه المعاهدات كانت في فترة مبكرة وبعضها كان متأخراً (6) ،

(1) انظر: مسند الإمام أحمد (3/118) ، رقم (1539) وفي سنده ضعف كما قال المحقق.

(2)

الطبقات الكبرى (1/270) بدون إسناد.

(3)

غزوة الأبواء: كانت في شهر صفر على رأس اثني عشر شهراً من مهاجره (، انظر تفاصيلها في ابن إسحاق (ابن هشام)(1/561) ، والطبقات الكبرى (2/8) ، وتاريخ الطبري (2/407) .

(4)

المصادر السابقة.

(5)

انظر تفاصيل هذه الغزوة في: سيرة ابن إسحاق (ابن هشام)(1/598) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/9-10) .

(6)

انظر في ذلك: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/264-290) فهناك كتابات ومعاهدات كثيرة.

ص: 33

لكنها تدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالجانب الأمني لنجاح واستمرار الدعوة الإسلامية، والحق أن كل هذه المعاهدات تهدف إلى أن يأمن تلك القبائل المجاورة للمدينة ليتفرغ صلى الله عليه وسلم لقريش واليهود الذين نقضوا العهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم تدريجيّاً، والمهم أنه صلى الله عليه وسلم استطاع أن يحل مشكلة القبائل المجاورة التي لا شك أنّها كانت له صلى الله عليه وسلم هاجساً له شأنه.

ثم سارع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حل المشكلة الثانية التي تمثل عائقاً كبيراً في قيام الدولة الإسلامية، وهي مشكلة القبائل اليهودية التي كانت تسكن المدينة إبان هجرته صلى الله عليه وسلم وقد كانت تتبوأ مركزاً مرموقاً في المدينة بسبب ما كانوا عليه من كثرة العدد، وسعة الثروة، والمهارة الزراعية والصناعية والتجارية، ثم بسبب ما كان لهم من مكانة دينية وعلمية مستمدة من كونهم أصحاب كتاب سماوي، وكونهم ذوي صلة بالأنبياء والأمم الغابرة (1) .

ولعلم النبي صلى الله عليه وسلم السابق بغدر يهود وخبثهم ومكرهم، سارع صلى الله عليه وسلم إلى إيجاد طريقة وحلّ أمثل تجعل من الطرفين المسلمين واليهود يعيشان في أمن وسلام، هذا الحل تمثل في المعاهدة أو [الوثيقة](2) التي كتبها صلى الله عليه وسلم بين المسلمين من جهة وبين اليهود من جهة أخرى.

(1) انظر: سيرة الرسول (صورة مقتبسة من القرآن الكريم، محمد عزة دروزة (2/122) .

(2)

انظر في صحة هذه الوثيقة من عدمها: السيرة النبوية الصحيحة، لأكرم ضياء العمري (1/272-275) ، وصحيفة المدينة دراسة حديثية، تحقيق، هارون رشيد محمد إسحاق، وهي رسالة ماجستير من جامعة الملك سعود، بإشراف الدكتور: مصطفى الأعظمي، وبيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة- وثيقة المدينة، لضيدان اليامي، وهي رسالة صغيرة لطيفة قيمة على صغر حجمها، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية من ص (306-313) لمهدي رزق الله أحمد.

ص: 34

وقد اشتملت بنود هذه الوثيقة على كثير من الأمور يهمنا هنا الأمور المتعلقة بالناحية الأمنية التي منها:

47ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن برّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .

39ـ وإن يثرب حرام جوفها لأهل الصحيفة.

44ـ وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.

43ـ وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.

42ـ وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإنَّ مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة (2) .

فهذه البنود الخمسة من أهم البنود التي تحدثت عن الأمن والأمان لأهل المدينة جميعاً مسلمهم وكافرهم.

فقد نصت الوثيقة على أنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

ومعنى هذا منع الحروب والقتال بين القبائل والعشائر، وتثبيت السلم في المدينة، وبذلك وضعت حدّاً لأقوى عامل في خلق القلق والاضطراب وما يجره من أمور (3) .

(1) أرقام البنود نقلتها من كتاب: السيرة النبوية الصحيحة، للدكتور أكرم العمري (2/282-285) ، أما ما يتعلق بالتقديم والتأخير في أرقام البنود فبحسب الأهمية.

(2)

المصدر السابق.

(3)

دولة الرسول (في المدينة – دراسة في تكوينها وتنظيمها-د. صالح أحمد العلي ص (114) .

ص: 35

ونص البند رقم (43) على قطع السبيل على قريش أن تستفيد من المدينة أو من أحد سكانها، حيث حظر على من سكن في المدينة أو يؤوي أحداً من مشركي قريش (1) .

ونصت بعض الفقرات في البند ذي الرقم (47) والبند ذي الرقم (42) أن مرد الشجار والتنازع إلى الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

ويفهم من هذا -تصريحاً أو تلميحاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صار بيده زمام الأمور في المدينة، وتولى تصريف شؤونها الداخلية والخارجية.

فما من خلاف يحصل من أي قبيلة أو شجار يقع إلا ويرجع فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .

ومن الجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدَّ اليهود أمة واحدة، بل اعتبر كل قبيلة من قبائلها لا علاقة لها بالأخرى، وفي المقابل جعل المسلمين كلهم مهاجرهم وأنصاريهم أمة واحدة وطرفاً واحداً (3) .

وبذلك استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم معاقبة كل قبيلة على حِدَة في نقضها للعهد أو قيامها بأعمال مخلة بالأمن (4) .

ففي هذا تحقيق لمبدأ العدالة، فحتى لا تؤاخذ قبيلة محافظة على العهد بجريرة قبيلة أخرى نقضت العهد، وهذا ما تم بالفعل، فلم يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لقبيلة بني النضير أو قريظة حال نقض بني قينقاع عهدهم لبقائهما على

(1) النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس ص (139) .

(2)

النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس ص (139) .

(3)

المصدر السابق بتصرف.

(4)

النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس ص (141) بتصرف.

ص: 36

عهدهما، ولم يتعرض لقبيلة بني قريظة حال نقض بني النضير عهدهم لبقائهم على عهدهم.

فطبَّق الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ العدالة من جهة، ومن جهة أخرى يدل هذا العمل على الحنكة السياسية التي كان يتمتع بها النبي صلى الله عليه وسلم.

وبهذا اطمأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الوضع الأمني للمدينة من هجوم القبائل المجاورة لها، ومن فتنة اليهود المتوقعة وإثارتها للفتن والاضطرابات بين أفراد المجتمع المدني، ثم استطاع بعد ذلك وفي فترة وجيزة مواجهة قريش خاصة والتفرغ لها لإنهاكها اقتصاديّاً، فما من قافلة ذاهبة أو قادمة من الشام إلا وتعرض لها بإرسال السرايا أو الخروج إليها بنفسه صلى الله عليه وسلم، ولم يكتف بذلك، بل تعدى خطر المسلمين على تجارة قريش بإرسال السرايا لقوافلها المتجهة إلى الطائف أو القادمة منه مما سبب إزعاجاً كبيراً لقريش، حتى كانت غزوة بدر التي كسرت فيها شوكة قريش لأول مرة وفي أول لقاء بين المسلمين والكفار، وفيها دَوَّى انتصار المسلمين في جميع أرجاء الجزيرة العربية، وقطع دابر القوم الذين كفروا والحمد لله ربِّ العالمين.

ص: 37