الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: في كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع بعض المشكلات الاجتماعية
إنّ التلاحم والترابط الاجتماعي في ظل العقيدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، يولِّد شعوراً كبيراً في نفس المسلم، تجعله يعيش في حياة سعيدة طوال حياته؛ لأنّه فَقِه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1) .
ولا شكّ أن الروابط التي تجمع الناس تختلف من مجتمع لآخر، فهناك روابط مشتركة بين أمة وأخرى بسبب المصالح الدنيوية، فإذا فقدت تلك المصالح انتهت تلك الروابط، وقد تجتمع الروابط بسبب آصرة القربى النَّسبي أو العِرْقي، ولكن رابطة العقيدة تبقى بين المسلمين حتى الموت.
ولذلك حصر الله الأخوة والموالاة في المؤمنين فقط، فقال سبحانه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة} [الحجرات:10] .
وقطعها بين المؤمنين والكافرين حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم (2) قال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23] .
وسنرى بعد قليل فهم الصحابة رضوان الله عليهم للإسلام، وذلك عندما
(1) البخاري، رقم الحديث (13) ، ومسلم رقم الحديث (45) .
(2)
السيرة النبوية الصحيحة، لأكرم العمري (1/251) بتصرف.
قام النبي صلى الله عليه وسلم بِحَلّ بعض المشكلات الاجتماعية التي واجهته في المدينة والتي تمثلت بتشريعه لنظام المؤاخاة.
1-
فقد واجهت النبي صلى الله عليه وسلم مشكلة كبيرة بعد هجرته إلى المدينة تتمثل في عدم وجود مأوى مناسب للمهاجرين بالإضافة إلى عدم تمكنهم، وقدرتهم على شراء بيوت يسكنونها لأن المهاجرين رضوان الله عليهم كانوا قد تركوا ثرواتهم في مكة ولم يتمكنوا من أخذها معهم بسبب مضايقة قريش لهم، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أَنْ شرع نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار اثنين اثنين. وكان من ضمن بنود المؤاخاة أن يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه (1) ، بالإضافة إلى المواساة في كل أوجه الخير والمحبة.
وقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة في حبهم وتفانيهم في مواساة إخوانهم المهاجرين، من ذلك قصة سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه، عندما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف وهو من المهاجرين، وكان سعد بن الربيع من أكثر الأنصار مالاً، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((لما قدم علينا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد ابن الربيع وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلَّت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك
…
)) (2)، وفي رواية أنه قال: ((بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقك؟ فدلوه على السوق
…
)) (3) .
(1) البخاري، رقم (3781) .
(2)
البخاري، رقم (3781) .
(3)
البخاري، رقم (3780) .
وكان الهدف من هذه المؤاخاة إذهاب الوحشة والغربة التي أصابت المهاجرين بمفارقتهم للأهل والعشيرة، فلمّا عَزَّ الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة، وعرفوا أسباب اكتساب الرزق، أبطل الله التوارث، وبقيت الأخوة في الله، وذلك بنزول قوله تعالى:{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75] .
وبهذا النظام الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع وبفضل الله أن يجعل من المهاجرين والأنصار لحمة واحدة، وقد أثرت هذه المواقف العجيبة من الأنصار في نفوس المهاجرين فوقفوا مبهورين من تضحيات إخوانهم الأنصار في سبيل إسعاد إخوانهم المهاجرين، فما ملكوا أنفسهم حتى قالوا:((يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: "لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" (1) .
وهكذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم وبفضل الله حل مشكلة من أكبر المشكلات الاجتماعية التي واجهته في المدينة بعد الهجرة.
والحق أنّ موقف سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف لا يصدقه العقل، ولو لم يرد في صحيح كتب السنة لما صدقه كثير من الناس، وذلك لما فيه من تضحيات تفوق الخيال، هل يُعقل أن الإسلام والأخوة الإيمانية تجعل الشخص يبذل ماله وأهله لأخيه المسلم دون مقابل؟ نعم، يُعقل وموقف سعد خير شاهد، والله إننا لمشتاقون إلى لقائهم والنظر إليهم.
غداً نلقى الأحبة
…
محمّداً وصحبه
(1) مسند أحمد (20/360-361) ، رقم 013075) ، وسنده صحيح على شرط الشيخين كما قال المحقق.