الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمضى أسلحتها التي تعتز بها، وكانت في الغالب أميل إلى التراجع والملاينة أمام هذا الصمود من زوجها، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه في أحرج مواضعها
…
على أن هناك أدباً معينا في هذا الإجراء إجراء الهجر في المضاجع، وهو ألا يكون هجراً ظاهراً في غير مكان خلوة الزوجين، لا يكون هجرا أمام الأطفال، يورث نفوسهم شراً وفساداً، ولا هجراً أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها، فتزداد نشوزاً، فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة ولا إفساد الأطفال، وكلا الهدفين يبدو أنه مقصود من هذا الإجراء (1) .
قلت: وإذا كان المقصود من الهجر في المضجع هو التأديب وإصلاح الحال، فينبغي أن يكون ذلك على قدر ما يفي بالغرض، دون التعدي والتشفي وما يلحق ذلك من البغض والكراهية، فإن هذا ليس من الهجر الجميل النافع، بل ذلك من الهجر المذموم الذي لا يحصل به تقويم ولا مصلحة، إنما يجر إلى مزيد من التنافر والتباعد والاختلاف، وما ينتج عنه من حقد وكراهية وهدم للحياة الزوجية.
المرحلة الثالثة: مرحلة الضرب
قوله تعالى: {َاضْرِبُوهُنَّ}
حين يستنفد الزوج وسائل الأدب الأخرى، من الوعظ والهجر، ثم لا يرى لذلك أثراً من إنابة وصلاح، فإن رأى - حينئذ - ضربها ناجعاً فله ذلك؛ وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. على أن يكون الضرب على قدر ما يحصل به الغرض، دون تجاوز أو تعد، لأن المقصود هو الزجر والتأديب،
(1) في ظلال القرآن 2/654.
لا الإيلام والإيذاء. وذلك هو ضرب الأدب غير المبرح وغير الشائن، بحيث لا يكسر عظماً ولا يتلف عضواً، ولا يورث شيناً أو جرحاً، ويتجنب الوجه، ولا يوالي به في موضع واحد، لئلا يعظم الضرر، ويقتصر فيه على قدر الكفاية (1) .
ومع أن الضرب مباح إلا أن تركه أفضل، فقد أخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجة من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذئاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تضربوا إماء الله"؛ فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن (2) النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم "(3) .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في حجة الوداع:"واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"(4) .
ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن، إلا لداع قوي.
قال الفخر الرازي: وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه، والذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في
(1) انظر: تفسير القرطبي 5/172، وتفسير ابن كثير 2/295، وتفسير الفخر الرازي 10/93.
(2)
ذئرت المرأة على بعلها، وهي ذائر: نشزت واجترأت وتغير خلقها. اللسان، مادة: ذأر.
(3)
أبو داود، برقم:(2146) ، والنسائي، برقم:(9167) ، وابن ماجة، برقم:(1975) .
(4)
صحيح مسلم، برقم:(1218) .
المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق
…
قال بعضهم: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب، فإن ظاهر اللفظ وإن دل على الجمع، إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب، قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: يعظها بلسانه، فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين.
وقال آخرون: هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز، أما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل (1) .
وقال أبو حيان في تفسيره: قال الرازي ما ملخصه: يبدأ بلين القول في الوعظ، فإن لم يفد فبخشنه، ثم بترك مضاجعتها، ثم بالإعراض عنها كلية، ثم بالضرب الخفيف، كاللطمة واللكزة ونحوها، مما يشعر بالاحتقار وإسقاط الحرمة، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه، مما يحصل به الألم والإنكاء، ولا يحصل عنه هشم ولا إراقة دم
…
وأي شيء من هذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره، لقولِه:{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} (2) .
والقرآن عندما أباح ضرب المرأة إنما جعله علاجاً يحتاج إليه عند الضرورة، فالمرأة إذا أساءت عشرة زوجها، وتمادت في صلفها ونشز غرورها، لا تكف ولا ترعوي عن عصيانها واستعلائها، فماذا يصنع الزوج في مثل هذه الحالة؟، أيهجرها ويستمر في هجرها، دون أن يرى لذلك أثراً؟، أم يطلقها؟، أم
(1) تفسير الفخر الرازي 10/93-94.
(2)
البحر المحيط 3/628.
يتركها تصنع ما تشاء؟.
لقد أرشد القرآن الكريم إلى اتخاذ الطرق الحكيمة في معالجة هذا النشوز والعصيان، فأمر بالصبر والأناة، ثم بالوعظ والإرشاد، ثم بالهجر في المضاجع، فإذا لم تنفع كل هذه الوسائل، ورأى الزوج أن في ضربها كسراً لشأفة كبريائها واستعلائها، وخفضاً لصلفها ونشوزها، فيباح له - حينئذ - أن يضربها ضرباً غير مبرح، حيث اضطرته إلى ذلك، وللضرورة أحكامها. فضربها للتأديب والإصلاح أقل ضرراً من إيقاع الطلاق عليها إذا هي تمادت في عصيانها، ولم ترجع للطاعة وأداء الحق؛ إذ الطلاق هدم لكيان الأسرة وتمزيق لشملها. ثم إن الضرب ليس إهانة للمرأة - كما قد يظن البعض - وإنما هو طريق من طرق التقويم والتأديب والإصلاح، ينفع في بعض الحالات مع بعض النفوس التي لا ينفع معها الجميل، ولا يقيمها إلا التأديب (1) .
وفي تفسير المنار: يستكبر بعض مقلدة الإفرنج في آدابهم منا مشروعية ضرب المرأة الناشز، ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه، فتجعله وهو رئيس البيت مرؤوساً، بل محتقراً، وتصر على نشوزها حتى لا تلين لوعظه ونصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، ولا أدري بم يعالجون هؤلاء النواشز، وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به، لعلهم يتخيلون امرأة ضعيفة نحيفة، مهذبة أديبة، يبغي عليها رجل فظ غليظ، فيطعم سوطه من لحمها الغريض، ويسقيه من دمها العبيط، ويزعم أن الله تعالى أباح له مثل هذا
…
وحاش لله أن يأذن بمثل هذا الظلم أو يرضى به
…
(2) .
(1) انظر: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام، للشيخ محمد بن علي الصابوني 1/474-475؛ بشيء من الزيادة والتصرف.
(2)
انظر: تفسير المنار 5/74.
والحاصل: أن الضرب علاج مر، قد يضطر إليه الزوج حين تصر المرأة على نشوزها، ولا تلين لوعظه ونصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، فيباح له - حينئذ- أن يضربها ضرباً غير مبرح، يخفض من صلفها، ويردها عن نشوزها، فشرع تلك الوسائل والتوجيهات لمعالجة أعراض النشوز قبل استفحالها، وأحاطها بالتحذيرات من سوء استعمالها، وحدد صفتها، والنية المصاحبة لها، والغاية من ورائها.
ومن المعلوم أن تلك الوسائل التأديبية لا مكان لها حال الوفاق بين الزوجين، فهي لا تكون إلا وهناك انحراف ما، يستدعي المعالجة، فحين لا تجدي الموعظة ولا يجدي الهجر في المضجع، فلا بد أن يكون هذا الإنحراف من نوع آخر، قد تجدي فيه وسيلة أخرى، وسيلة الضرب غير مبرح، لعل وعسى.
وربما استنكر البعض ضرب المرأة الناشز، وعده ظلماً وجوراً واعتداءً بكل حال، وقد جار في حكمه هذا وما أنصف، نعم ((ولن يضرب خياركم)) ، وقد يستغني عن ذلك الخيّر الكريم، لكن بالمقابل قد يضطر إليه من ابتلي بمن لا ترجع عن صلفها ونشوزها إلا به، وللضرورة حكمها وقدرها. ثم إن الذي شرع ذلك وأباحه عند الحاجة إليه هو الخالق سبحانه، وهو أعلم بخلقه وما يناسب أحوالهم، وما يصلح به شأنهم، فجعل لكل حال حكم يناسبها في شرعه.
وأي فساد يقع في الأرض إذا أبيح للرجل التقي الفاضل أن يخفض من صلف إحداهن ويردها عن نشز غرورها بلطمة أو لكزة خفيفة، أو ضربة يسيرة بسوط أو عصا، تؤدب وتصلح، ولا تؤذي أو تجرح؛ وذلك عندما تفسد الطباع وتسوء الأخلاق، ولم ير الرجل بداً منه، ولا ترجع المرأة عن نشوزها إلا به. أما عند ما تستجيب المرأة للنصح، أو تزدجر بالهجر، فلا مكان للضرب ولا سبيل إليه، فهو ضرورة زالت بزوال سببها، إذ نحن مأمورون بالرفق بالنساء
واجتناب ظلمهن، وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان (1) .
أخرج أبو داود في سننه من حديث حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟، قال:" أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت "(2) .
أما إذا ما استمرت المرأة في نشوزها وتعاليها على زوجها، فلم تستجب لنصحه وطلبه، ولم تقم بما عليها من حقه، فإن ذلك يسقط حقها في النفقة وغيرها، حتى ترجع عن نشوزها.
وهذا من الأحكام المترتبة على النشوز من قبل المرأة.
جاء في تفسير القرطبي: قال ابن خويزمنداد: والنشوز يسقط النفقة وجميع الحقوق الزوجية، ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب غير المبرح، والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها، فإذا رجعت عادت حقوقها، وكذلك كل ما اقتضى الأدب فجائز للزوج تأديبها.
وقال ابن المنذر: اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعاً بالغين، إلا الناشز منهن الممتنعة.
وقال أبو عمر: من نشزت عنه امرأته بعد دخوله، سقطت عنه نفقتها، إلا أن تكون حاملاً (3) .
قوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}
(1) انظر: تفسير المنار 5/74-76، وفي ظلال القرآن 2/654-655.
(2)
سنن أبي داود، برقم:(2142) .
(3)
تفسير القرطبي 5/174، وانظر: المغني لابن قدامة 11/409-410.
أي فإن رجعن وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم، وحصل المقصود بواحدة من تلك الخصال التأديبية {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي فلا سبيل لكم عليهن بعد ذلك بالتعنت والإيذاء بالهجران والضرب ونحوه.
فعند تحقق الغاية تقف الوسيلة، فالمضي في تلك الإجراءات بعد الرجوع عن النشوز إلى الطاعة المعروفة بغي وتحكم، فمتى استقام لكم الظاهر فلا تبحثوا عما في السرائر ولا تكلفوهن ما ليس بأيديهن، من محبتكم وميول قلوبهن إليكم، كما ينبغي تناسي الأمور السالفة وعدم ذكرها، فإن ذلك أحرى لدوام الوفاق والائتلاف، والبعد عن أسباب الفرقة والاختلاف.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}
أي له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات، علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر.
الكبير الذي لا أكبر منه، ولا أجل ولا أعظم، كبير الذات والصفات (1) .
وفي ختم الآية بهذين الاسمين العظيمين تمام المناسبة، فإنه لما كان في تأديبهن بما أمر الله تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة، ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر، لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى، وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن، فلا تستعلوا عليهن، ولا تتكبروا عليهن، فإن ذلك ليس مشروعاً لكم، وفي هذا وعظ عظيم للأزواج وإنذار لهم بأن قدرة الله عليكم فوق قدرتكم عليهن (2) ، فإنهن وإن ضعفن عن دفع ظلمكم، وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه علي قاهر، كبير قادر،
(1) تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي 1/319-320.
(2)
انظر: البحر المحيط لأبي حيان 3/628.
ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن، فلا تغتروا بكونكم أعلى يداً منهن، وأكبر درجة، فالله أعلى وأكبر، فاتقوه، واحذروا عقوبته وانتقامه.