الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
النقد الأدبي الحديث
طبيعته:
إن النقد الأدبي الذي كتب بالإنجليزية في مدى الربع الماضي من هذا القرن، مختلف من حيث النوع عن أي نقد سبقه. وسواء أسميته نقدا " جديدا "؟ كما سماه كثيرون؟ أو " نقدا عمليا " أو " نقدا عاملا " أو " نقدا حديثا " كما يسميه هذا الكتاب، فإن صلته الوحيدة بالنقد العظيم في العصور الماضية لا تعدو الصلة بين الخالف والسالف. فليس القائمون به أشد ألمعية أو أكثر تنبها للأدب من أسلافهم؛ بل إنهم، في الحق، لا يتطاولون في هاتين الناحيتين إلى عمالقة مثل أرسطو طاليس، وكولردج، ولكنهم يسيرون بالأدب سيرة مخالفة؟ أصلا؟ كذلك. وعلى هذا يمكن أن نقول في تعريف النقد الحديث تعريفا غير مصقول أو بالغ الدقة:" إنه استعمال منظم للتقنيات غير الأدبية ولضروب المعرفة؟ غير الأدبية أيضاً؟ في سبيل الحصول على بصيرة نافذة في الأدب ". وإذا شئنا توضيح ذلك بصورة من التعدين قلنا إن الأدوات هي تلك الوسائل أو التقنيات، والمعادن
الثمينة هي نفاذ البصيرة، والعمل نفسه هو استخراج المعادن أو التنقيب، أو القشر الظاهري فحسب. أما التقنيات غير الأدبية فمنها عملية التداعي في التحليل النفسي أو التفسيرات السمانتية (1) مثلا. وأما ضروب المعرفة غير الأدبية فتمتد من النماذج الشعائرية عند البدائيين إلى طبيعة المجتمع الرأسمالي، وكل هذا يفضي إلى دراسة دقيقة، ويقظة مستقيضة على النص، يشبهان تحليل الأشياء تحت المجهر.
وسر هذا التعريف السابق منطو في كلمة " منظم "، ذلك لأن أكثر هذه التقنيات والنظم لم يكن مجهولا في النقد القديم ولكنه كان يستعمل بطريقة عفوية عارضة، ولم تكن العلوم الأثر في النقد قد تطورت تطورا كافيا لتستعمل منهجيا، ولا كانت زاخرة بالمعرفة لتسدي له يدا جليلة. وأكثر ضروب المعرفة فائدة للنقد هي العلوم الاجتماعية التي تدرس الفرد عاملا في جماعة (إذ الأدب بعد كل شيء أحد الوظائف الاجتماعية عند الإنسان) . وعلى ذلك فتلك العلوم أكثر فائدة من العلوم الطبيعية أو البيولوجية (لأن الأدب ليس عملا من أعمال النمو الاجتماعي أو الحضاري) .
ومع أن أرسطو طاليس كان يهدف عامدا ليسلط ما نسميه اليوم " العلوم الاجتماعية " على المسرحية والشعر، ليدرسهما تحت ضوء المصطلح الذي كان يعرفه عن العقل الإنساني وطبيعة المجتمع وبقايا البدائية، فإنه لم يكن لديه إلا مواد قليلة وراء ملاحظه التجريبية؟ على نفاذها؟ وإلا موروثا غفلا غير ممحص. أما التي حققها أرسطو طاليس، أعني تلك الإصابة الأساسية في نقده، دونما مستند سوى ملاحظه الخاصة وإحساسه
(1) تدور الدراسات السمانتية حول أحد شيئين: الأول تتبع التطورات والتغيرات التي تصيب معاني الصور والأشكال الكلامية، والثاني دراسة العلاقات بين الإشارات والرموز وبين معانيها أي دراسة " السمات " الدالة لغويا ونفسيا.
المرهف، فإنها انتصار لنفاذ النقدية التي اهتدت؟ بقوة الحدس؟ إلى أشياء كثيرة تم جلاؤها والتطور بها من بعد. حتى إنه في عصر كولردج، أي بعد ألفي سنة، لم يزد ما كان معروفا بدقة عن طبيعة العقل الإنساني والمجتمع، على ما كان يعرفه عنه أرسطو طاليس، بشيء كثير.
وهناك قسط كبير من النقد، معاصر، غير أنه لا يسمى حديثا، وفقا للمعنى الذي حددناه من قبل؛ أي أنه لا يستخدم هذه المادة استخداما نقديا منظما؟ (ومن المدهش أنه كثيرا ما يستخدمها عرضا) ؟ ومع أن لهذا النقد مكانا، وهذا المكان كثيرا ما يكون هاما، فإنه حسب تعريفه نوع آخر من النقد، خارج عن مجال اهتمامنا هنا. وبالإضافة إلى ما للنقد الحديث من مهمة خاصة، أو درجة معينة يؤدي بها أشياء كانت تؤدى من قبل عرضا واتفاقا، فإن هذا النقد ما يزال أيضاً يؤدي عددا من الأمور، لم ينفك النقد يقوم بها في كل زمان. أعني تفسير الأثر الأدبي ووصله بموروث أدبي سابق وتقويمه وما أشبه، فهذه كلها مظاهر خالدة لأي نقد (إلا أن التقويم من بينها، فيما قد نلحظه، قد تضاءل شأنه في النقد الجاد في زماننا) . ولكن حتى حين ينزع الناقد الحديث ليتخصص في أحد هذه العناصر النقدية الموروثة فإنه يضع إلى جانبها عناصر أخرى غير موروثة، أو يجريها معدلة تعديلا عميقا بما أحرزه تطور العقل الحديث من مميزات وخصائص.
لقد ذهب جون كرو رانسوم؟ الذي كان له أثر كبير في ترويج اصطلاح " النقد الجديد " لكتاب ألفه بهذا الاسم مؤكدا الفرق في النوع بينه وبين النقد القديم (على أساس الدراسة المستقصية الحديثة لخصائص المبنى الشعري) ؟ ذهب هذا الناقد إلى أن عصرنا هذا يتميز تميزا غير عادي في النقد، وأن الكتابات النقدية المعاصرة، من حيث عمقها ودقتها، قد فاقت
جميع النقد القديم المكتوب باللغة الإنجليزية. وهذا كلام لا يعتوره الشك، ولكنا لا نستطيع أن نتملق أنفسنا، فتدعي أن تفوقنا إنما هو في سعة باع نقادنا إذا قايسناهم بأسلافهم؛ كلا، بل من الواضح أن هذا التفوق إنما يكمن في الأساليب والمناهج. ففي متناول النقد الحديث ضروب من المعرفة عن السلوك الإنساني، وفي جعبته تقنيات جديدة مثمرة، فإذا أمكن تركيز بعض هذا كله، وأمكن توحيد أعمال عدد من النقاد، كل يعمل على شاكلته، وبعث الانسجام فيما هو لامع مبدد منها، لأنها تجيء أحيانا متأرجحة أو ناقصة؟ إذا أمكن ذلك كله اتسعت في مستقبل النقد دروبه ومناظره وانطلقت في اللغة الإنجليزية دراسات أدبية تحليلية جدية من نوع يميز عصرنا.
ومن بين المناهج والنظم التي تقررت فائدتها للنقد الأدبي، تخطر العلوم الاجتماعية في الذهن أولا، فهي نبع ثر لم تصهرج قنواته بعد. فمن التحليل النفسي استعر النقاد الفروض الأساسية عن عمل اللاشعور وكيف يعبر عن " رغباته " الكامنة بالتداعي، وبعناقيد من الصور، كما استعاروا كيفية عمل الأحلام وما فيها من تعبير ملتو سيال: مثل الخلط الكلامي والخلط المكاني والفصم (1) وهذه هي أيضا الكيفية الأساسية للتشكل الشعري. ومن يونج استعاروا فكرة " النماذج العليا " أو محتوى اللاشعور (2) الجماعي وكثيرا غيرها. أما من أصحاب علم النفس الجماعي
(1) يحدث الخلط الكلامي Condensation في الحلم حيث تختلط فكرتان أو أكثر وينتج من ذلك تعبير ملتو تحاشيا لإيقاظ " الرقيب " أو العقل الظاهر، ومثاله Alco holidays بدلا من Chrustmas holidays، أما الخلط المكاني Displacement فهو أن لا يميز الإنسان في الحلم بين اليمين واليسار أو بين فوق وتحت. وأما الفصم Splitting فهو استقلال بعض عن الوعي وعملها منفصلة مستقلة عنه في بعض الأحوال.
(2)
النماذج العليا Archetypes، سيتعرض المؤلف لها في الفصل الخامس من هذا الكتاب. ويعني بها يونج أن هناك لا شعورا جماعيا تكمن فيه الصور الكبرى والرموز التي تمثل قاعدة هامة في الفنون وكلما تدخلت في كيان الفن زادت الاستجابة له والتأثر به.
(الجشطالتيين) فأخذوا فكرة " الكليات "(1) ومن علماء النفس التجريبيين استمدوا المقدمات التجريبية الأساسية عن سلوك الحيوان والطفل. ومن النفسيين الأكلينكيين استقوا معلوماتهم عن التعبيرات المرضية للعقل الإنساني. ومن النفسيين الاجتماعيين استفادوا الكشوف عن سلوك الإنسان في الجماعات والمجتمعات الكبرى. وأفادوا ما هو أكثر من ذلك، مما سماه يانش " الصور الايدية "(2) eidetic images، وما أشبه هذا من مقدمات هي مواد ذاتية بحت، إلى أشد المقدمات الطبيعية والكيميائية موضوعية، مما تقدمه لهم العلوم النفسية العصبية، والنفسية المتصلة بعلم الغدد الصم. واستعار النقد من علوم الاجتماع والصراع الاجتماعي، وصلة هذه بالأدب والظواهر الثقافية الأخرى. أما من المذاهب الانثروبولوجية فقد استمد مقدمات عن المجتمعات البدائية والسلوك الاجتماعي ابتداء من التعميمات الجارفة التي وضعها عن التطور نظريون مثل تيلور إلى مذهب بوز (3) القائم على الاستقصاء الواعي المتزمت في دقته. وكان " الفولكلور "، وهو فرع من الانثروبولوجيا، ذا مدد خصب للنقد من حيث هو مصدر للمعلومات الخاصة بالشعائر الشعبية المورثة والأساطير والمعتقدات التي ترتكز إليها نماذج الفن الشعبي وموضوعاته كما يرتكز إليها الفن الآخذ بنصيبه من الرقي.
(1) الكليات - Configuration تكاد تكون مرادفة لكلمة Gestalt وهو الاتجاه النفسي الجماعي التكاملي.
(2)
الصور الأيدية نوع حي من الصور لا يتخيل فقط وإنما يرى منعكساً في الخارج، وهو شيء متصل بالهلاس والفرق بينهما أن صاحب الصور الايدية (ويسمى Eidetiker) يدري أن هذه الصور ذاتية، وإن كان يراها دقيقة إلى درجة فوتوغرافية.
(3)
توفر تيلور على دراسة الأديان البدائية دراسة نقدية مقارنة، وهو صاحب الفكرة التي تقول إن الإنسان اهتدى إلى الروح من حالات الحلم والإغماء وما أشبه وما أشبه ثم الموت. غير أن الروح بعد الموت تؤثر في حياة الأحياء الباقية وهذا يؤدي إلى الصلوات والضحايا وما إلى ذلك، وأول الأديان عبادة الأسلاف ثم عبادة الطبيعة. وهذا الانتقال ناشئ عن طبيعة عقلية البدائي الذي لا يفرق بين الحي وغير الحي فمنح الطبيعة صفات الأحياء. (وانظر أيضاً الفقرة الثالثة من الفصل الخامس في هذا الكتاب) . أما بوز فهو من العلماء الذين يقولون بقيام الصلة بين البيئة والجغرافية وخصائص العرق، وقد درس التغييرات في أجسام المهاجرين الأميركيين ليثبت أن البيئة تحدث في الجنس تغيراً في وقت قصير. وقد لقيت نتائجه نقداً قوياً من المختصين. ومن كتبه: Race، Language and culture (نيويورك 1948) .
وهناك أيضاً عدد من النظم الحديثة الأخرى؟ عدا العلوم الاجتماعية؟ أثمر كثيراً بالفعل، أو كان كذلك بالقوة؛ خذ مثلاً الدراسة الأدبية، فهي حقل ليس جديداً تماماً، ولكنها استطاعت في هذا القرن أن تحشد كثيراً من المعرفة الدقيقة، ومجموعة من المناهج المنضبطة حتى إنها حين انضاف إليها الخيال الناقد، أنتجت نوعاً من النقد الأكاديمي حديثاً تماماً، بالمعنى الذي تقدم استعماله. هذا وإن الدراسات القديمة في اللغويات وفقه اللغة، بالإضافة إلى الحقل الجديد من الدراسات السمانتية، قد فتحت للنقد آفاقاً واسعة، لم تكن من قبل مستكشفة إلا قليلاً.
أما العلوم الطبيعية والحيوية فقد أمدت النقد بعناصر أساسية، كالطريقة التجريبية نفسها، ونظريات ذات فائدة مجازية عظيمة مثل " التطور "، ومبادئ مثل " النسبية " و " المجال " و " اللامحدودية ". أما الفلسفة، فمع أنها في القديم لم تعن بالأدب إلا تحت ستار علم الجمال، فقد أثبتت اليوم فائدتها للنقد وخاصة في باب المصطلح الأخلاقي والمتافيزيقي وبه يستطيع النقد أن يواجه مسألة العقيدة ومشكلات أخرى ذات قيمة بالغة. وهنالك عدد من النقاد قد سلط مبادئ الدين وتجليات التصوف على الأدب. وإلى جانب هذه الضروب من النظريات والمعارف طور النقد عدداً من المناهج الخاصة به " ومذهبها " فقياساً على المناهج العلمية في بعض الأحيان، مثال ذلك الاستقصاء في الأخبار عن الأشخاص وسيرهم، والكشف عن نواحي الغموض ودراسة
العمل الرمزي والنقل في الآثار الأدبية والاكباب وبذل الجهد الدائب في قراءة النصوص والكشف المستفيض عنها عامة.
هذه التقنيات النقدية الجديدة، وهذه الاتجاهات في البحث، تعتمد في أكثر أحوالها، على فروض أصبحت أساسية في الفكر الإنساني الحديث مميزةً له. ويعود الفضل في هذه الفروض، في المقام الأول، إلى أربعة علماء عظماء من مفكري القرن التاسع عشر وأوائل العشرين وهم: دارون وماركس وفريزر وفرويد (1) . ونستطيع هنا أن نلحظ، عابرين، بعض هذه الفروض التي تعد مفتاحاً لما وراءها، وهي جديدية، نسبياً، في النقد المعاصر. على أن نذكر أنه ليس هناك ناقد حديث واحد يقبل كل هذه الفروض مجتمعة: أما دارون فمنه جاءت الفكرة بأن الإنسان جزء من النظام الطبيعي وأن الحضارة تطورية. وأما ماركس فهو الذي ذهب إلى أن الأدب والذي يعكس، ولو بطريقة معقدة ملتوية أحياناً، العلاقات الاجتماعية والإنتاجية لهذا العصر أو ذاك. وأما فرويد فهو الذي يرى أن الأدب تعبير مقنع، وأنه تحقيق لرغبات مكبوتة؟ قياساً على الأحلام؟ وأن هذه المقنعات تعمل حسب مبادئ معروفة. وتحت هذا كله هنالك فكرته عن أن هناك مستويات ومدارج عقلية تقع وراء الوعي، وأن بين الرقيب والرغبة في التعبير صراعاً مستمراً. وأما فريزر فهو صاحب الأفكار عن السحر والبدائي والأسطورة والشعيرة البدائية وأن هذه كلها
(1) لعل فريزير من بين هؤلاء العلماء هو الذي يحتاج تعريفاً، فهو أحد الذين بذلوا جهداً كبيراً في دراسة الأديان البدائية. وترتكز فكرته إلى أن نمو الدين البدائي إنما تم بمحاولة السيطرة على الطبيعة فأساس الدين البدائي هو عجز السحر عن أن يقوم بهذه السيطرة، ذلك لأن السحر كالعلم، يحاول أن يربط بين العلة والنتيجة أما الدين فمبني على الاعتقاد بقوى من الإنسان توجه حياته وتسيطر عليها وعلى الطبيعة. فلما خاب الإنسان في مجال السحر غير قانون العملية إلى شيء آخر. وقد استعرض فريزر الفولكلور في حياته البدائية في كتابه الضخم: The Golden Bough، (انظر أيضاً الفقرة الثالثة من الفصل الخامس في هذا الكتاب) .
تكمن في أساس أعلى النماذج والمواد الأدبية. وقد يضاف إلى هذه الفروض والأفكار نظرية ديوي في " الاستمرار "، وأن قراءة الأدب وكتابته ليستا إلا صوراً لفعالية إنسانية يمكن أن تقايس بأي فعالية أخرى، وأنها خاضعة للقوانين نفسها ويمكن دراستها على المناهج الموضوعية نفسها. كما تضاف إليه فكرة السلوكيين بأن الأدب ليس إلا رجلاً يكتب ورجلاً يقرأ ولا شيء غير ذلك، ثم فكرة العقليين بأن الأدب قابل للتحليل. ومن الناحية السلبية يتميز النقد الحديث بغياب مبدأين كانا يحتلان مقاماً رئيسياً في الماضي كلما جرى الحديث عن الأدب وهما: أن الأدب نوع من التعليم الأخلاقي، وأنه في أساسه نوع من اللذة أو المتعة.
وبالإفادة من هذه الفروض، يطرح النقد الحديث عدداً من الأسئلة لم تكن، فيمعظم الأحوال، تسأل في الأدب من قبل؛ من ذلك: ما هي أهمية العمل الفني من حيث علاقته بحياة الفنان، بطفولته، بعائلته، بحاجاته العميقة ورغباته؟ وما علاقته بالجماعة، بطبقته، بحياته الاقتصادية، بمجتمعه الكبير؟ ماذا يؤدي هذا العمل لصاحبه وكيف؟ ماذا يؤدي للقارئ وكيف؟ وما العلاقة بين هاتين الوظيفتين؟ ما الصلة بين العمل الفني ولنماذج الكبرى البدائية في الشعائر، بينه وبين المادة الأدبية الموروثة، بيه وبين الأفكار الفلسفية المعاصرة له وغير المعاصرة؟ ما الترتيب الذي اتبع في صوره وعبارته وشلكه العام؟ ما الممكنات المحتجبة في أبرز كلماته وإلى أي مدى يضطلع محتواه بما هو برهاني ذو معنى؟ وأخيراً يبلغ النقد الحديث عتبات الأسئلة القديمة مثل: ما غايات هذا العمل وإلى أي درجة هي سليمة وما مدى تحققها؟ ما معانيه (بالجمع لا بالأفراد) ، وهل هو عمل جيد أو رديء ولماذا؟
ومن الواضح أن كل هذه أسئلة تسأل عن الأدب عامة أو عن عمل
فني واحد بخاصة. على أن النقد الحديث لم يعد، في اكثر الأحوال، يقبل وضعه القديم من حيث كان ملحقاً بالأدب الخالق أو الأدب القائم على الخيال. فإذا عرفنا الفن بأنه خلق لنماذج من التجربة ممتعة ذات معنى، أو قلنا إنه نسج للتجربة الإنسانية في نماذج ممتعة ذات معنى، اتضح أن الكتابة القائمة على الخيال أو الكتابة النقدية كليهما فن حسب هذا التعريف. والفرق بينهما أن الأدب الخالق ينظم تجاربه التي استمدها من الحياة بنفسه، استمدها من " رأس النبع " في أكثر الأحوال، أما النقد فينظم تجاربه المستمدة من الأدب الخالق أي من الحياة بعد أن نقلها الأدب نقلة جديدة. وإذا شئت فقل إن كليهما وع من الشعر، ولكل واحد منهما حظه من الاستقلال بقدر ما بينهما من اتصال. لقد كتب ت. س. إليوت في مقال له عن " مهمة النقد " (1) سنة 1923 يقول:" لا أظن أن متحدثاً واحداً عن النقد استطاع أن يدعي؟ محيلاً مجاوزاً للمعقول؟ بأن النقد فن غاية في نفسه ". ولكن إن لم يجهر أحد بهذه الدعوى؟ محيلاً مجاوزاً للمعقول؟ في سنة 1923 فليس من شك في أن النقد الحديث الذي بدأ في السنة التالية بنشر كتاب رتشاردز " مبادئ النقد الأدبي "، قد ظل يعمل في حدود هذه الدعوى.
ومجمل الأمر ما عبر عنه ر. ب. بلاكمور حين قال: " النقد شيء قائم بذاته ولكنه ليس بحال فناً منفصلاً مستقلاً ". وقد كان النقد الحديث في الواقع العملي كذلك: غاية في نفسه تماماً، ومرتبطاً بالشعر ارتباطاً لا انفصام له. أي أنه كان، كأي نقد آخر، يهدي الفن ويغذيه ويحيا مستقلاً عنه، وهو من ناحية أخرى أمة للفن، طفيلية في أردأ أحوالها، معايشة
(1) هو المقال في كتابه " مقالات مختارة " Selected Essys ص 23 - 34.
له في أحوالها. فالنقد يريد أعمالاً فنية يتخذ منها مادته وموضوعه ويقدم بديلاً عنها خدمات ثانوية بالغة القيمة، كأن يساعد القارئ على فهم العمل الفني وتذوقه، ويساعد الفنان على أن يفهم فنه ويقومه، ويعين على تقدم الفن وتطوره، بتعميم المعايير المطلوبة أو بتحديدها وتجهيزها. وهو في حالات خاصة يوقظ جيلاً من الشراء كما فعل إمرسون أو فإن ويك بروكس في أول عهده وهو قد يعين موضوعات للأدباء يكتبونها مثلما يفعل غوركي وبرنارد دي فوتو، وقد يغير اتجاه الفن أو يحاول ذلك مترسماً خطى تولستوي والأخلاقيين في محاولة التغيير وخطى بوالو والنقاد الرومانتيكيين الإنجليز في تحقيق التغيير نفسه، أو قد يمد الفنان (وأحياناً نفسه) بموضوعات محددة وتقنيات وقواعد عملية مثلما يفعل عدد من نقاد الشعر المعاصرين.
وعلى حد النقد الأدبي من إحدى ناحيتيه تقع المراجعات وعلى الناحية الأخرى منه يقع علم الجمال. أما المراجع فإنه يرى في الكتب متاعاً، وأما الناقد فيرى فيها أدباً أو كما يقال في الاصطلاح الحديث يرى عملاً أو سلوكاً أدبياً، وأما الجمالي فيهمه من الأدب التجريد، وليست له رغبة في كتب معينة. ومثل هذا التمييز بين هؤلاء الثلاثة إنما هو تفرقة في الدور الوظيفي الذي يؤديه كل منهم وليس تفرقة صارمة الحدود؛ فقد يتجاوز كل واحد منهم مجاله إلى غيره، فإذا غفل المواجع عن خصائص المتاع، وهو يتحدث عن كتاب، وأخذ في الحديث عما للكتاب ن مميزات، من حيث هو نتاج أدبي، أصبح لهذه المراجعة، على الأقل، يعد في صف النقاد. والناقد الذي يرسل التعميمات عن الطبيعة المجردة للفن والجميل، يصبح مؤقتاً في عداد الجماليين؛ والجمالي الذي ينقد أعمالاً أدبية محددة، مستعملاً المصطلح الذي يكشف عن خصائصها الفذة، إنما هو ناقد في تلك الحال. ومن أبرز ملامح هذا العصر وجود ذلك الجم الغفير من
الذين طار صيتهم في النقد من مثل هنري سيدل كانبي والأخوين فإن دورن؛ وإذا كشف عنهم لم تجدهم أكثر من مراجعين متنكرين.
وثمة سمة أخرى للنقد الحديث تستحق أن ينوه بها، وهي أن كل ناقد ينزع إلى أن يكون لديه صورة مجازية فارقة، أو عدد من الصور، يرى من خلالها عملية النقد، وهذه الصورة؟ بالتالي تشكل عمله وتنبئ عنه، وتجعله؟ أحياناً محدوداً. فصورة الناقد عنه ر. ب. بلاكمور أنه جراح سحري يجري العملية دون أن يقطع الأنسجة الحية. والناقد عند جورج سينتسبري، سكير. أما عند كونستانس رورك فهو " مسمد " يرش الأرض من أجل حصاد طيب. وهو عند ولدو فرانك " مولد " يظهر للوجود نسمةً جديدة. وهو مائل عند كنث بيرك؟ بعد أن استعمل عدة صور؟ في صورة مدير مسرحي ثري يخرج على المسرح كل عمل تمثيلي يعلق بخياله. وهو عند غزرا بوند رجل صبور يأخذ بيد صديقه ليريه مكتبته
…
إلى غير ذلك من تصورات.
إن ما لحظناه فيما تقدم من أساليب وتقنيات في النقد الحديث ليترشح من خلال هذه الصور المجازية الكبرى، كما يترشح أيضاً من خلال شيء غير ملموس أعني به جهاز الذكاء الشخصي للناقد ومعرفته ومهارته وحساسيته وقدرته على الكتابة. وليس في النقد طريقة؟ مهما تبلغ روعتها؟ بقادرة على أن تكون سداً حائلاً دون الحماقة، وتكاد كل تقنية في النقد الحديث تستعمل بألمعية على يد الألمعيين من النقاد ثم تكون هي نفسها معرضاً للعجز إذا استعملها الأغبياء الجهلة المقصرون البلداء (كما سنعرض في الفصول التالية من هذا الكتاب) . على أنه من الناحية الأخرى قد يحسن النقد أو يبرع فيه امرؤ طيب يتمتع بفضائل الناقد؟ في هذا العصر أو في أي عصر آخر؟ وليس لديه من الأساليب إلا استغلال ذكائه وحساسيته. ومثل هذا ليس ناقداً حديثاً بالمعنى الذي اصطلحناه. ولا يهمنا الحديث عنه
في هذا المجال. وكل ناقد؟ مهما تكن طريقته؟ يحتاج تلك الخصائث التي سميناها الذكاء والمعرفة والمهارة والحساسية والقدرة على الكتابة؟ يحتاج الذكاء ليكيفه بما يلائم العمل الذي يعالجه، والمعرفة من أدبية وغير أدبية ليكون على وعي بما يتطلبه عمله، والمهارة لئلا تتدرج به طريقته أو تنساق به نحو وحدة آلية جوفاء، والحساسية ليظل دائماً متنبهاً للقيم الخاصة في العمل الذي ينتقده من حيث أنه يمثل تجربة جمالية فذة، والمقدرة الأدبية ليحسن التعبير عما يريد أن يقوله. وليس ثمة من محك تختبر به هذه الخصائص الذاتية، حتى إن شيكسبير، ذلك المحك التقليدي، ليس عوناً كبيراً في هذا المضمار. فهنالك رجلان تميزا في النقد المعاصر بالحط من شيكسبير وشتان ما هما: أولهما ولدو فرانك وهو داعية للتقوى محترف وليس له إلا علاقة واهية بالأدب، ولثاني جون كرو رانسوم وهو من أحذق العقليات الناقدة وأشدها مضاءً وحدة في عصرنا. وعند تقدير أعمال الناقدين لا يحسب حساب هذه الخصائص، وعندما نستعرض طريقة نقدية ونخضعها للمقياس الموضوعي ونعزلها عن صاحبها الحي، نستطيع أن نفترض وجود هذه الخصائص أو؟ على الأصح؟ أن نرجو توفرها.
ومن المضامين الرئيسية في النقد الحديث تطوره ليكون علماً، أما في المستقبل الذي يمكن التكهن به والحكم عليه، فالنقد لن يصح علماً؟ سواء أتقبلنا هذه الحقيقة مستسلمين أو شاكرين؟ ولكنا نتوقع منه أن يزداد تدرجاً في الاتجاه العلمي أي نحو تكوين منهجية شكلية ونظام للمعالجة قابلين للنقل والاحتذاء موضوعياً. وكما أن أي تجربة عملية يمكن محاكاتها أو اختبارها ما كتب عنها في أي زمان ومكان وعلى يد أي شخص يستطيع القيام بالممارسة الضرورية، فكذلك هي المعالجة النقدية؟ سيصبح في مقدور أي فرد أن يعيدها ما دامت تتوفر له القدرة والرغبة الضروريتان أما الحساسية الخاصة فشيء يتفرد به الناقد ويموت بموته، وأما وسائله فإن
نقلها موضوعياً سيصبح أمراً ممكناً وسيحتاج من يعيد استعمالها محتذياً؟ ولا بد؟ حساسية ومميزات أخرى تقارب ما كان لدى الناقد الأصيل، على حال لا تنطبق على العلوم الطبيعية منذ بدء الطريقة التجريبية. ففي مجال الطبيعيات يستطيع الأحمق والجلف إذا توفرت لديهما الكفاية الأولية أن يصلا إلى النتائج التي توصل إليها بويل إذا هما أعادا تجارب هذا العالم. ثم إن الناقد في طريقة التحليل النقدي مهما تبلغ هذه درجة التجارب الموضوعية سيظل داخلاً في المجال الذاتي المحض ما دامت هنالك مصطلحات مثل " تقويم " و " تذوق "؟ سيظل الأمر كذلك سواء كان النقد بناءً مؤسساً على التحليل الموضوعي الركين، يقيمه امرؤ عارف عاقل، أو كان نزوة لا محل لها أو هوى يصدر عن رجل أحمق.
أما المضمون الرئيسي الآخر في النقد الحديث فهو تطوره في اتجاه نقد ديموقراطي، أي تحقيقاً لما رجاه إدمند بيرك حين قال:" أن يصبح كل إنسان ناقداً لنفسه ". فقد كتب بيرك في مقاله عن " الرائع والجميل " يقول: " إن المقياس الحقيقي للفنون في طوق كل إنسان وإن ملاحظة ما هو شائع في الطبيعة بل أحياناً ما هو حقير واه لمينح المرء الأنوار الهادية حيث يكون لأعظم الحكمة وأسنى الجهد اللذين يغضان من شأن هذه الملاحظة أثر في تركنا سامدين في الظلام أو في إمتاعنا وتضليلنا بالأضواء الخادعة؟ وهذا أدهى وأمرّ؟ ". ومعنى هذا الكلام؟ بنزاهة؟ أن الملكات الإنسانية وحدها، دون عون خارجي، قد تجعل من أي إنسان ناقداً. وهو رأي مناقض تماماً لما قاله فرانسس بيكون في كتابه " القانون الجديد " Novum Organum من أن اختيار هذه الطريق (المعرفة بالتأمل في الطبيعة) يسوي بين جميع العقول كما تسوي البوصلة أو المسطرة بين الأيدي جميعاً. وفي مكان ما بين هذين الرأيين تقع الإمكانيات التي تجعل من النقد الحديث ديموقراطياً، أي أن توسيع الأساليب سيزيد في عدد الناقدين
القادرين؟ لا احترافاً في أغلب الأحوال وإنما لكل في نطاق قراءته وحياته الخاصة، وهذا الاحتمال يهدد بتناقض قدسية الناقدين المحترفين ولكن تهديده لذوي المصالح المادية أكثر (1) .
أصوله
يمكننا القول بأن النقد الأدبي الحديث يبدأ بأفلاطون وأن أرسطوطاليس مضى فيه ووسعه؛ بل إن هذين الرجلين هما؟ على التحقيق؟ رائده العظيمان، حين سبقا إلى أشياء كثيرة، وفيما سبقا إليه كثير من التطبيق النقدي المعاصر. أما أفلاطون فقد وجه طريقته الفلسفية الديالكتيكية، كما بينها في الكتابين الخامس والسابع من " الجمهورية "، إلى الشعر وإلى الفروض النفسية الاجتماعية القائمة في أصله ومهمته. وإذا كانت نتائجه قد استبعدت الشعر فلسفياً لأنه مجانب للحقيقة الأفلاطونية الصحيحة ولأنه من ناحية اجتماعية نفسية ضار بالمجتمع السليم (2) ، فإن طريقته هي الطريقة الحديثة، إذ سلط عليه كل المعرفة المنظمة التي كانت لديه. أما في حال أرسطوطاليس فإن المدرسة الأرسطوطاليسية الجديدة في النقد بجامعة شكاغو قد بذلت جهداً حديثاً لتقول إن هذا الفيلسوف لم يستعمل المبادئ أو المعرفة الاستنتاجية في الشعر، وإنما فحص القصائد استقرائياً من حيث أن كل
(1) يعني حين يصبح الناقد ديموقراطياً قد يتضاءل شأن الناقد المحترف ويستغني عنه إلى حد كبير، ولكن خطر شيوع النقد واستقراء الملكات النقدية عند نسبة كبيرة من الناس قد يهدد رجال المال الذين لا يعيشون متبسطين إلا حيث يستحكم الجهل وتضعف ملكة النقد.
(2)
لا بد للقارئ من أن يتذكر في هذا المقام أن أفلاطون كان يرسم بالجمهورية مدينة فاضلة وأنه في مثل تلك البيئة لا يرى مكاناً للشعر القائم على المحاكاة (لا كل أنواع الشعر) . ون ناحية اخرى هناك نظريته عن العالم المثالي وأن هذا العالم الدنيوي ليس إلا تقليدياً له، وأن الشاعر حيث يقلد هذا العالم يبتعد عن الحقيقة ثلاث خطوات. أضف إلى هذين العنصرين تقديسه للعقل، والشعر يتجه نحو العواطف ولذلك اتهم أفلاطون - منتصراً للعقل - هذه " العاطفة " أو اتجاه الشعر " لسقي العواطف بدلاً من تجفيفها " أي لإثارتها وتقويتها بدلاً من إخمادها وإضعافها.
قصيدة فيها كيان متفرد في ذاته. وقد قوض أركان هذه النظرية نقاد كثيرون منهم جون كرو رانسوم (في مقال له بعنوان " أسس النقد " نشر بمجلة " سيواني " Sewanee (في خريف 1944) وكنث بيرك (في مقاله " مشكلة الجوهري "؟ وقد طبع ملحقاً بكتابه " مبادئ الدوافع " The Grammar of Motives) . ولم يكتف بيرك فحسب بأن بين أن أرسطوطاليس كان " أفلاطونياً " صرفاً بل بين أن الأرسطوطاليسيين الجدد هم؟ على وجه الدقة؟ أفلاطونيون في أشد أعمالهم نجاحاً، دون أن يحسوا هذه الحقيقة. ولا حاجة بالقارئ إلى أكثر من قراءة البويطيقا ليعرف أن أرسطوطاليس؟ وإن عمل استقرائياً وباشر لنص ولازمه في دراسته كما يريده الأرسطوطاليسيون الجدد أن يفعل؟ أتم في الوقت ذاته كثيراً مما بدأه أفلاطون فعمق في تهمة المحاكاة التي ألصقها أفلاطون بالشعر، ليمنح الشعر ثبوتاً فلسفياً. ثم استبدل فكرة التطهير Catharsis (1) ، وهي فكرة نفسية اجتماعية بفكرة افلاطون القاصرة عن مهمة الشعر، حين زعم أن الشعر ضار لأنه ينبه العواطف. وعلاوة على تحليله الشعر بوساطة من تلك الفروض المسلمة القاطعة من فلسفية واجتماعية ونفسية، فانه سلط على الشعر نواة الانثروبولوجيا؟ أي ألقي عليه أضواء ذلك الموروث من الأصول البدائية للدراما اليونانية، ووفق في ذلك إلى مدى أدهش الباحثين المتأخرين في الأنثروبولوجيا والآثار وفقه اللغة (بالرغم
(1) جرد أرسطوطاليس اتهامات أفلاطون من مغزاها وتحول بها إلى وجهة جديدة، فأقران المحاكاة طبيعة في الإنسان وذهب إلى أنها لا يمكن أن توصف بأنها رديئة في ذاتها لأنها تختلف بنسبة ما يحاكي وبطريقة الحاكية وأن هذه لمحاكاة قد تنتج شعراً تراجيدياً أو كوميديا أو ملحمياً. وميز كل هذه الأنواع، وفضل الشعر على التاريخ ثم واجه التهمة بأن الشعر ينبه العواطف فقال أنه يصرف العواطف إي يجد لها متنفساً ومخرجاً وهذا هو التطهير Catharsis. ذلك أن التراجيديا بإثارتها عاطفتي الشفقة والخوف تهيئ مسرباً للاضطراب العاطفي وتحقق الرضا الجمالي في النفس وتبعث على الراحة والهدوء (لعل هذا هو المقصود من التطهير، وإن كان الدارسون قد اختلفوا كثيراً حول المعنى الذي أراده أرسطوطاليس) .
من هنات لم يستطع أن يتحاشاها كقوله إن أغنية الجوق ليست إلا تزييناً للمأساة) . إذن فإن أرسطوطاليس هو الواضح الأول للملامح والتقنيات الكبرى في هذا النقد الأدبي الذي أصبحنا نسميه " حديثاً ".
ومضى الكلاسيكيون المتأخرون ونقاد القرون الوسطى في واحد أو آخر من هذه السبل الحديثة ابتداءً من ارسطارخس وشراح القرن الثاني قبل المسيح بما كتبوه من نقد اجتماعي وليد. إلى دانتي وبترارك وبوكاشيو في القرن الرابع عشر، بما قدموه من تفسيرات مجازية باطنية للأدب قريبة الشبه بما نسميه اليوم قراءات " رمزية ". وبدأ النقد الحديث المبني على دراسة البيئة بكتاب فيكو " العلم الجديد " New Science (1725) وهو يحوي تفسيراً اجتماعياً ونفسياً لهوميرس، وتطور هذا النقد تطوراً مستقلاً فيما يبدو عن رأي فيكو، فيما كتبه مونتسكيو، وبخاصة في " رواح الشرائع " The Cpirit of Laws (1748) . ثم امتدت هذه الحركة التي بدأت في إيطالية وفرنسة إلى ألمانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وانتقلت بذلك من دائرة التاريخ والقانون إلى الأدب والفن، وأصبحت مظهراً للقومية الألمانية المبرعمة، في كتابات فنكلمان ولسنج هردر؟ بدأها فنكلمان سنة 1764 في كتابه " تاريخ الفن القديم " History of Ancient Art حين درس فيه الفن التشكيلي عند اليونان بدراسة أصوله في السياسة والاجتماع والأدب، وأتمها لسنج في كتابه " لاوكون " Laocoon الذي صدر بعد ذلك بسنتين مركزاً جهداً خاصاً على نسبة الأشكال فقد مضى في تطوير الدراسة البيئية خطوة أبعد حين زاد في نسبية الطريقة، بوضعه الفن الشعبي والقوطي في مقابل الفن الكلاسيكي الذي استعرضه فنكلمان ولسنج، موسعاً في مبادئ فيكو التاريخية الدينامية في كتابه " فلسفة التاريخ " Philosophy of history مؤكداً طريقة المقارنة
التي بدأها مونتسكيو بتطبيقها في كل المجالات التي ارتادها، (جاعلاً من مونتسكيو أباً لما لدينا اليوم من فيلولوجيا مقارنة وأديان وأساطير مقارنة ودراسة أدبية مقارنة) .
وفي القرن التالي ازدهرت هذه البراعم كلها في مؤلفات أول ناقد حديث عظيم؟ على التحقيق؟ وهو كولردج بانجلترة، وكذلك في مدرسة حيوية أخرى نشأت بفرنسة. ويعد كتاب كولردج المسمى " السيرة الأدبية " Biographia Literaria الذي نشر عام 1817 إنجيل النقد الحديث. وينزع النقاد العاصرون إلى اعتباره " أعظم كتاب نقدي باللغة الإنجليزية "؟ كما يقول آرثر سيمونز؟ أو " أحق كتاب نقدي بالاعتبار "؟ كما يقول هربرت ريد. وعلى صفحته الأولى كتب " البيان الرسمي " للنقد الحديث أي تطبيق كولردج للمبادئ السياسية والفلسفية (وهي تضم النفسية أيضاً) والدينية على الشعر والنقد. وجاء هذا الكتاب متقدماً على عصره بقرن كامل، ولم يحل بين كولردج وبين إيجاد (النقد الحديث) ، حينئذ إلا قصور المعرفة التي تيسرت له. فهو باستثناء أرسطوطاليس أعظم أبٍ موجود لهذا النقد. غير أن ما حققه كولردج لم يجد من يتمه للأسف، ولما عادت مبادئ النقد القائم على البيئة إلى الظهور في انجلترة في كتاب ألفه هـ؟؟. ت. بكل بعنوان " تاريخ الحضارة في انجلترة " History of Civilization in England عام 1857 استمدت تلك المبادئ لا من كولردج نفسه بل من أسلافه الألمان وخلفائه الفرنسيين.
وفي الوقت نفسه أدخلت مدام دي ستايل إلى فرنسة المبدأ الألماني القائل بأن الأدب تعبير عن المجتمع في كتابها " الأدب في علاقته بالنظم الاجتماعي " Literature in relation to Social Institution (1800) وإلى تأثير هذا الكتاب تعزى تلك " المولودات " المتنوعة من مثل التاريخ الفكري لجيزو Guizot والتاريخ الشعبي لميشليه والتاريخ الشكي الإلحادي لريتان
والنقد الأدبي المتصل بالسيرة عند سنت بيف والنقد الأدبي المتصل بالاجتماع عند تين. ويمثل سنت بيف النقطة التي انقسم عندها كل الموروث السابق قسمين: فمن ناحية كان سنت بيف يرى النقد علماً اجتماعياً أي يراه " التاريخ الطبيعي للأدب " مع معالجة منهجية يدرس بها المؤلف، أو كما يقول مك كلنتوك في كتابه " النظرية النقدية عند سنت بيف " Sainte؟ Beuve " s Critical Theory:" أن يدرس المؤلف من حيث علاقته بجنسه ووطنه وعصره وأسرته وثقافته وبيئته الأولى وأصحابه الأدنين ونجاحه الأول وأول لحظة بدأ عندها يتحطم، وخصائص جسمه وعقله وبخاصة نواحي ضعفه " وكثير غير ذلك. وهذا هو المنهج الذي يستمر على يد تين وبراندز وبرونتيير. ومن ناحية أخرى يلح سنت بيف في نقده لتين فيما عنوانه " تين وكتابه تاريخ الأدب الإنجليزي " على أن الناقد يجب أن " يستمر على احترام واستنشاق أريج تلك الزهرة الرزينة ذات العطر الناعم، يعني ذلك النوع من الشعر الذي أنتجه بوب وبوالو وفونتان " وهذا هو النهج الذي سار فيه آرنولد وبابت واليوت وهم مدينون له على السواء. ويرى سنت بيف أن الناقد الكامل هو الذي يستطيع الجمع بين هاتين المدرستين، غير أنه يسلم بأن الأمل في التوفيق بينهما عند شخص واحد إنما هو محال أو حلم.
ويقرّ تين نفسه بأن الخيال التاريخي عند لسنج وميشليه كان بعض الأنوار التي اهتدى بها. غير أن من يقرأ كتاب ميشليه " تاريخ فرنسة " ويطلع على بعض تحليلاته الأدبية العارضة، وبعضها استشفاف لطبيعة الطبقات (كالقول بأن مانون ليسكو تعبير عن أعيان طبقة الملاك الصغار قبل نشوب الثورة) سيحكم بأن التشابه بين هذه التحليلات وما كتبه تين كان شيئاً أبعد من مجرد خيال تاريخي (1) كذلك فإن المعايير الثلاثة الكبرى التي وضعها
(1) يريد أن تين في هذا الموقف كان ناقلاً أو محتذياً لا مستلهماً فحسب.
تين للنقد وهي: الجنس والعصر والبيئة، قد سبقه إليها سنت بيف نقلاً عن ثلاثية هجل بدوره من هردر. ومعنى هذا أن تين بلور كثيرا من النزعات السابقة ليجعل منها نقدا علميا، فلا عجب إذا أصبح عمله هدفا لكل الهجمات الموجهة إلى تلك النزاعات. فمثلا كتب عنه Goncurts في شيء كثير من الاعتزاز حين لقياه:" ذلك هو تين الذي تجسد فيه النقد الحديث لحما ودما، نقدا عميقا ذكيا، غاية في ذلك، ولكن الخطأ فيه يفوق التصور ". ولعل فلوبير كان أمضى وأنفذ بصيرة من سنت بيف في الكشف عن ضعف تين قسط كبير من النقد الحديث حين كتب في إحدى رسائله ناقدا تاريخ الأدب الإنجليزي لتين، يقول:
في الفن شيء آخر إلى جانب البيئة التي نما فيها، والموروث الفيزيولوجي عند المفتن؛ فعلى هذه القاعدة تستطيع أن تفسر مظاهر التسلسل والمشاركة ولكنك لا تستطيع تفسير الفردية أي الحقيقة التي تجعل من الفنان هذا الشخص لا ذاك؛ فهذه الطريقة إذن تسقط " الموهبة " من اعتبارها، ولا محالة. ويصبح أروع ما ينتجه الفنان لا معنى له إلا من حيث هو وثيقة تاريخية، وهي هذه الطريقة النقدية القديمة عينها التي انتهجها لاهارب La Harpe ثم بعثت من جديد. فقد كان الناس يعتقدون أن الأدب شيء شخصي وأن الكتب سقطت من السماء مثل الشهب، أما اليوم فهم ينكرون أن يكون للإرادة وللمطلق وجود بالفعل. ويخيل إلي أن الحقيقة تقع بين هذين الطرفين.
وكتب فلوبير (1869) إلى جورج صاند عن موضوع الناقدين يقول: " كان الناقدون في زمن لاهارب نحويين وفي أيام سنت بيف وتين مؤرخين فمتى يصبحون فنانين حقا وصدقا ".
وفي سنة 1912 وما تلاها من أعوام حدث تطورا هام في النقد
الحديث، ففي ذلك العام نشرت جين إلن هاريسون J. E. Harrison المحاضرة في الدراسة القديمة بكلية نيونهام بكيمبردج كتابها " تيمس " Themis وهو دراسة للأصول الاجتماعية في دين الإغريق. ويضم هذا الكتاب الذي أهدي لجبرت مري، بحثاً له عنوانه " جولة حول الأشكال الشعائرية التي احتفظت بها المأساة الإغريقية ". كما يضم فصلاً آخر كتبه ف. م. كورنفورد وهو زميل للآنسة هاريسون بكيمبردج، وعنوانه " فصل في نشأة الألعاب الأولمبية ". ومع أن اكثر الكتاب كان من صنع الآنسة هاريسون فإنه كان يضم نوعاً من " البيان المشترك " لما يسمى مدرسة كيمبردج في الدراسات الكلاسيكية. وهي المدرسة التي حققت ثورة في دراسة الفن والفكرالإغريقيين بتسليط المعارف والنظريات الأنثروبولوجية المقارنة عليهما. وقد استمدت المؤلفة كثيراً من مادتها، علاوة على نشر مقالتي مري وكور نفورد واستغلالهما، من مؤلفات لم تنشر لزميل آخر لها اسمه أ. ب. كوك A. B. cook وآخرين غيره. وبعد ذلك بوقت قصير، وفي ذلك العام نفسه، نشر كورنفورد كتابه " من الدين إلى الفلسفة " From Religion to Philosopohy وهو تتبع أنثروبولوجي للأصول الشعائرية للفكر الإغريقي الفلسفي (1) . وفي عام 1913 نشر مري كتابه " يوربيدس وعصره " Euripides and His Age فدرس فيه بيوربيدس ومسرحياته بالنظر إلى الأصول الشعائرية في المأساة، ونشرت الآنسة هاريسون " الفن القديم والشعائر " Ancient Art and Ritual وفي السنة التالية نشر كورنفورد " أصول الملهاة الأتيكية "(2) The Oriin of the Attic Comedy وحلل فيه الملهاة الإغريقية على الأسس
(1) لقد كان عام 1912 نبعاً ثراً جاد بما هو اكثر من ذلك إذ شهد نشر بحث للكاتب ف. ك. برسكوت بعنوان " الشعر والأحلام " في Journal of Abnormal Psychology وهو أول تطبيق مفصل سليم للتحليل النفسي على الشعر يكتبه أحد الأدباء.
(2)
الأتيكية نسبة إلى مقاطعة أتيكا Attica وهي ببلاد يونان وأهم مدنها أثينة.
نفسها، ونشر كوك أول جزء من " زيوس " Zeus تطبيقاً للمادة الأنثروبولوجية في حقل آخر. وأخيراً، وفي عام 1920، جربت الآنسة جسي وستون J. Weston طريقة مدرسة كيمبردج هذه؟ بتوفيق عظيم؟ على مادة غير يونانية في كتابها " من الشعائر إلى القصص الرومانسية " From Ritual to Romance وهو كشف أنثروبولوجي عن نشأة " القصص الطلسمية "(1) بمصطلح شعائري، وأدت برتا فلبوتس مهمة مماثلة في دراسة الملاحم الشمالية في كتابها " الأغاني الشمالية والدراما السكندنافية القديمة " The Elder Edda and Ancient Scandinavian Drama.
ومع أنه من الممكن عد هذه الكتب من حيث الغايات العملية نقداً أدبياً حديثاً، فإنها لما كانت نتاج علماء يكتبون في حقول متخصصة قد عجزت عن أن تجذب إليها اهتمام رجال الأدب جذباً يكفي لتدشين الحركة الجديدة. وفي أميركة؟ عام 1919؟ سلط كونراد أيكن مبادئ فرويد وغيرها من النظريات النفسية على الشعر في كتابه " شكوك " Scepticisms وكون بوضوح الفرضية الأساسية في النقد الحديث وهي أن الشعر " نتاج طبيعي عضوي ذو همات يمكن جلاؤها وهو قابل للتحليل، دون ريب ". ولكنه كان يشبه جماعة كيمبردج في افتقاره إلى التأثير الأدبي ليوجه النقد إلى اتباع رأيه هذا. وظل من نصيب إ. أن. رتشاردز في كتابه " مبادئ النقد الأدبي "(1924) أن يكون الأوليات الشكلية في النقد الحديث معيداً ما قاله أيكن في صورة جديدة، حين قال: " إن التجارب الجميالة ليست شيئاً جديداً ولا مختلفاً؟ بأي حال؟ عن سائر التجارب الإنسانية، وإنه يمكن دراستها
(1) تسمى هذه The Grail Romances وهي قصص من البطولة والمغامرة يتخللها دائماً عنصر قوة خارقة يشفي المرض ويكون الشفاء إما بطلسم أو كأس أو صحن أو حجر، وقد وجد الباحثون أنه تلتقي في هذه القصص عناصر وثنية ومسيحية. أما تسميتها كذلك فترجح إلى " الكأس " Grail التي استعملها المسيح في العشاء الأخير.
على الطريقة مشابهة. ولم يكن هذا المبدأ جديداً (فليس أيكن على وجه التحديد هو وحده الذي قرره قبل خمس سنوات بل إن جون ديوي أيضاً قد قرر الشيء نفسه؟ أصلاً؟ يوم تحدث عن " الاستمرار " في التجربة منذ أن نشر كتابه " دراسات في النظرية المنطقية " Studies in Logical Theory سنة 1903، وكان أرسطوطاليس نفسه يعمل على أساس ذلك الفرض) ، ولكنه في هذه المرة جاء مستنداً إلى المكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها كل من رتشاردز وأوغدن حسن اشتركا في تأليف " معنى المعنى " The Meaning of Meaning ونشراه قبل نشر " مبادئ النقد " بعام واحد، ومن ثم لقيّ اقتناعاً عاماً وقبولاً، وآتى في ربع قرن ثمار النقد الأدبي الحديث.
حقاً إن المعركة لم تنته بعد، فقد شهد القرن الماضي ناقداً إثر ناقد يصارعون كل فرض أو طريقة في النقد الحديث، بما في ذلك كل شكل من المعرفة قد يمكن تسليطه على الأدب حتى مبدأ " الاستمرار " نفسه. وعند أدنى السلم تتمثل هذه الهجمات في صورة الحنق الساذج الذي انبعث عن جيمس رسل لوول في مراجعة كتبها عن لونجفلو، سخر فيها من النظرة النقدية الحديثة التي ترى " أن شكل إنتاج المؤلف إنما يتحكم فيه شكل جمجمته وبالتالي يؤثر فيه الشكل الخاص للمقاطعة التي يستوطنها ". وتتمثل تلك الهجمات أيضاً في المقدمة التي كتبها لودفج لويزون لكتاب " الفن والفنان " Art and Artitst من تأليف رانك فاستبعد بها النقد الحديث من عهدتين لأنه نقد يخرج مسرحية " هاملت " دون أن لدع لهاملت نفسه دوراً فيها. أما في الناحية الثانية من السلم فإن هذه الهجمات تشمل شكوك تشيخوف المتعلقة حين كتب إلى سوفورين في نوفمبر (تشرين ثاني) عام 1888 مرعياً انتباهه إلى تلك الكمية من " القمامة " التي أنتجها " حمقى " يعملون في حقل النقد العلمي على مبادئ لا تعاب. وتشمل
تلك الهجمات أيضاً ما كتبه أناتول فرانس في نقد برونتيير في كتابه " الحياة الأدبية " La Vie Litteraire حيث يقترح التزام الاتزان والتحفظ اللذين نص عليهما سنت بيف من قبل، فيقول:
إن الطريقة النقدية لا بد؟ نظرياً؟ من أن تشارك العلم ثبوته ما دامت ترتكز إلى العلم نفسه
…
ولكن الأمور في هذا الكون متشابكة تشابكاً لا ينفصم، وحلقات السلسلة؟ في أي موضوع منها اختبرته؟ مختلطة متراكمة حتى إن الشيطان نفسه ليعجز عن أن يفك عقدها، ولو كان منطقياً
…
ولا يستطيع أحد أن يتنبأ اليوم؟ مهما يقل؟ بحلول زمان يصبح للنقد فيه دقة العلم اليقيني. ولقد يمكن للمرء أن يعتقد؟ وهو محق في ذلك بأن ذلك الزمان لن يحل أبداً. ومهما يكن ن شيء فقد كان عظماء الفلاسفة القدماء يتوجون نظمهم الكونية (1) بالكلام في الشعر، وقد أصابوا، لأن من الخير أن نتحدث عن الأشكال والأفكار الجميلة، ولو ظناً، بدلاً من أن نبقى صامتين إلى الأبد. وفي الكون أشياء قليلة تخضع خضوعاً مطلقاً للعلم، وتدعه يعيد تكوينها أو ينبئ عنها، ولكني على يقين من أن القصيدة أو الشاعر لن يكونا في نطاق تلك الأشياء
…
على أن هذه الأشياء حين تقيم بينها وبين العلم سبباً فإنما تصل نفسها بعلم ممتزج بالفن، أعني علماً قائماً على قوة البصيرة، مشحوناً بالقلق، قابلاً للزيادة إلى الأبد. ذلك العلم أو بالأحرى ذلك الفن موجود حقاً: إنه الفلسفة والأخلاق والتاريخ والنقد أو بكلمة واحدة إنه قصة الإنسان الجميلة.
ووجد بعض النقاد أنفسهم نهباً موزعاً في اتجاهين حول هذه المسألة فبينما يهاجم جون مدلتون مري في كتابه " مشكلة الأسلوب "
(1) أبرز مثل على ذلك أرسطوطاليس نفسه، فإن كلامه عن الضشعر أو كتاب " البويطيقا " يجئ في نهاية القائمة حسب الترتيب التقليدي لكتبه.
The Problem of Style ذلك " الحلم الخالب " بأن يتحول النقد " إلى دقة العلم وثبوته " وذلك " الأمل الخادع " بأن تصبح لغته " مصطلحاً ثابتاً لا يتغير " نراه أخيراً في الكتاب نفسه يقترح نقداً علمياً (أو ميكانيكياً) اجتماعياً اقتصادياً، نقداً يقيم صلة متساوية بينه وبين الأصول الاقتصادية والاجتماعية من ناحية والأشكال الفنية والأدبية من ناحية أخرى، بل يقترح إيجاد " التاريخ الاقتصادي للأدب الإنجليزي ". أما ألان تيت الربيب الفذ للمبادئ الحديثة وأحد من يتوفورن على تطبيق أسالبيها فانه في كتابه " العقل في جنون " Reason in Madness يهاجم العلوم الاجتماعية ويصفها بأنها خطر أساسي كما يهاجم النقد الحديث نفسه، ويسميه " الطريقة التاريخية " ويجمع إلى التاريخ أيضاً استعمال النقد للعلوم الطبيعية والحيوية والاجتماعية والسياسية. وكذلك هاجم جون كرو رانسوم؟ بين الحين والحين؟ استعمال العلم في النقد وصرح بأنه يقاوم بشدة العلوم الاجتماعية كالانثروبولوجيا وأعلن أنه لا يشارك ماكس ايستمان " آماله المتحمسة " فيما يمكن أن يحققه علم النفس، بينما كان هو نفسه يستمد بمهارة من هذه المصادر الثلاثة في كتابته النقدية.
وربما كان الدفاع المتحمس الذي يقوم به رجال يتدرج نتاجهم من الضعيف إلى الممقوت أشد خطراً على النقد الحديث من الهجمات التي يوجهها إليه رجال طيبون، ومن التردد المتناقض الذي يبديه بعض من يمارسونه. فهذا لويس ماكنيس مثلاً، يعلن في كتابه " الشعر الحديث " Modern Poetry عن إيمانه المغالي بمبدأ رتشاردز في الاستمرار، أي أن الشعر فعالية عادية وأن الشاعر " يتخصص فيما يحسن ممارسته كل إنسان " ولكنه يعجز عن أن يتابع ذلك الفرض في كتابه بتسليط كل معرفة أياً كانت على الشعر. ومن الصعب أن نجد أحداً أشد تحمساً للنقد العلمي في العصر الحديث من اثنين أولهما ماكس إيستمان حين نشر " بياناً " في
كتابه " العقل الأدبي " The Literary Mind يدعو إلى " دائرة من دوائر العلم ستتخذ من الأدب موضوعاً لدراستها "، وثانيهما ف. ف. كالفرتون في كتابه " أسس جديدة للنقد " The New Ground of Criticism حين دافع بفصاحة عن نقد يلائم بين الفلسفة وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا. ومع ذلك فمن الصعب علينا أيضاً أن نعثر في عصرنا على أسوأ واكثر استفزازاً من هذين الناقدين. ويثير فينا هنري بير ريبة مشابهة، فقد خرج في " الأدباء ونقادهم " Writers and Their Critics بحكم أريب حين قال: " إن النقد الحديث ما يزال يتلمس طريقته ويندفع في تجربة تقنيات متعددة ولكنه لم يجاوز بعد المرحلة البدائية التي كان يتحسس فيها الطريق متعثراً كل من علم الطبيعة قبل بيكون وديكارت، والكيمياء قبل لافوازييه، وعلم الاجتماع قبل أوغست كونت والفزيولوجيا قبل كلود برنارد. ثم إنه في الكتاب نفسه يحتفظ بأمضى هجوم هذه الأساليب نفسها من اجتماعية ونفسية ونصية وغيرها، وعلى أولئك النقاد مثل رتشاردز وإمبسون وبيرك وبلاكمور الذين يمثلون؟ بجلاء؟ محاولة النقد أن يجاوز تلك المرحلة البدائية التي يصفها.
وكان النقد الحديث، في الوقت نفسه، هدفاً لهجمات منظمة يشنها عليه أعداؤه المتكسبون من مراجعين وأعداء للنورانية محترفين. ومما يمثل الأولين خير تمثيل مراجعة تستحق الاقتباس لأنها نموذجية في هذا الصدد، كتبها أورفيل برسكوت وظهرت في التايمس النيويوركية New York Times في مارس (آذار) سنة 1945 وكانت تدور حول كتاب بعنوان " فكتوريا في المرآة " Victoria Through the Looking؟ g؛ass كتبته الآنسة فلورنس بيكر لنون ودرست فيه لويس كارول. كتب برسكوت يقول:
" لقد حققت الآنسة لنون معجزات من البحث، ولكن كتابها على
ما فيه من جهود مخلصة، مخيب للآمال باعث على الملل، ذلك لأن سحر الكتب التي خلفها كارول، يتحدى كل تحليل، فالبحث عن مصادرها في تلمسات فرويدية خلال عقد كارول ومكبوتاته أمر لا جدوى فيه، وهو شبيه بمن يحاول أن يجد تفسيراً لطيران الفراشة أو اختيار البرق لهدف منصوب، إن العبقرية لتحيا في خفاء غامض وتلد كنوزاً خالدة على وجه لا يمكن تفسيره أيضاً.
حقاً إن كارول عاش حياة عزوبة نقية، ولكن كثيرون هم الذين يختارون العزوبة اختياراً ويقنعون بنصيبهم من الدنيا على الرغم من الشكوك الفرويدية التي تثبها الآنسة لنون. والحق أيضاً أن كارول كان يحب صحبة الصغيرات أكثر من حبه مرافقة الأولاد أو الكبار؛ وهذا، على أنه حق، فهو مستغرب منه أيضاً، ولكن التوغل الذي جاست به الآنسة لنون خلال نفسيته وخلال الرموز الجنسية في كتبه لم يبلغ بها إلى شيء
…
غير أن لويس كارول الذي مرت حياته دون أحداث كان يعيش في عزوبته حياة فارغة
…
عاش لويس كارول دون أي نوع من أنواع الصراع الخارجي ولم يصادف إلا أنواعاً قليلة من الصراع الداخلي (أعني تلك الذبذبات الدينية الغامضة) فلم يعرف الحب أو الصداقة المتينة، كان إنساناً طيباً ومسيحياً طيباً وكان يحاول أن يحصل على مرتبه خفضاً ويلح على أن يعقد بينه وبين الناشر عقداً يؤكد فيه أنه هو نفسه يتحمل ما قد يحدث من خسارة؛ إلا أن حياته كانت بليدة عادمة الألوان ".
وتبين هذه المقتبسات أن برسكوت في هجومه على الدراسة النفسية التي قامت بها الآنسة لنون يقدم كل الأسباب التي تجعل الدراسة النفسية أمراً لازماً. وبينا يؤكد أن حياة كارول مرت بلا أحداث، نجده يملأ هذه الحياة بأبرز الأحداث أيضاً. فهو ككثير من المراجعين العاصرين
يهاجم النقد الحديث لا صدوراً عن حقد في نفسه بل عن جهل ساذج ولكن في بعض الأحوال الأخرى يجتمع إلى هذا الجهل شيء من الحقد والضغينة المرة فإذا الصورة؟ في وضوح؟ صورة مراجع سطحي ثائر في وجه جمهور من المتحررين الثائرين، ليحتفظ بكانته وربحه مما يعتقد أنه نقد. وتلك هي حال ج. دونالد آدمز في العمود الأسبوعي من جريدة Sunday Times وفي كتابه " شكل الكتب التي ستظهر " The Shape of Books Come
أما الهجوم الذي يقوم به أعداء النورانية المحترفون فأمره اكثر تعقيداً. وربما كان خير مثل في هذه الناحية موقف مارك فإن دورن الذي يتكافأ موقفه من النقد مع موقف كليته؟ كلية القديس يوحنا؟ من التربية جملة، أعني الوقوف في وجه أي ضرب من ضروب المعرفة الحديثة. وقد كتب فإن دورن في مقدمة كتابه " القارئ لنفسه " The Private Reader أتم هجوم وأبلغه على النقد الحديث، فيما أعلم. إذ يصفه بأنه " صحاري من البراعة وهضبات من العلم " ويتهمه بأنه " يبذل كل ما في وسعه ليمسك الفن الشعري عن الطيران " ويختم كل ذلك مستنتجاً بأنه " على خير أحواله علم خاطئ لا فن ". ثم يجبهه بعدوان صريح للنورانية ويقول " أخطأ آرنولد في النص على الأفكار "
…
" نحن لا نعرف كل هذا عن الشعر ولن نعرف "
…
الشعر " لا يستطاع الخوض فيه "" هو سر غامض "
…
إلى غير ذلك. وتتميز هذه القطعة بنغمة المرثية المريرة فتبدأ بذكر الغربة: " النقد المعاصر؟ ذلك البيت الذي أحس فيه أني غريب " وترتفع إلى إعوال المناحات: " إن عصرنا الأدبي عصر مريض " وتنتهي بانطفاء الشعلة الذاتية " إن غايتي الوحيدة؟ وأنا ناقد؟ أن أصبح واحداً من هؤلاء الغرباء المغمورين الذين يحلم الأدباء بأنهم يكتبون من أجلهم؛ إن الشعر نفسه ليستطيع أن يقنع بالصمت إلى حين ".
وقد كتب رتشاردز التعليق القاطع على هذه الصيحة التي أطلقها فإن دورن باسم " القراءة الصامتة " أي استبعاد كل ما يؤثر في الأدب، ما عدا انتباه القارئ فقال في " التفسير في التعليم " Interpretation in Teaching " وأظن أن العلاج لذلك هو النمو الذي لا بد له من أن يتحقق إذا تكررت فرص التجربة بحيث تكفي لتجبر رسوبات عهد المراهقة المتبقية في عالم الحلم الطفل على أن تنسحب إلى مواضعها الطبيعية. غير أن القراءة الصامتة؟ لسوء الحظ؟ ليست وقاية من هذه التجارب إلا إن كانت نوعاً من الحلم منضبطاً بعض الشيء. وكثيراً ما تصبح هذه القراءة مستودعاً تخيلياً للفاعلية الذهنية التي تختفي نسبياً في حال اليقظة الكاملة.
وإلى جانب هذا النقد الحديث، وعلى غرار هؤلاء المراجعين وأعداء النور المتحفزين تقف مذاهب جدلية تتصارع بعنف. وهي مذاهب أهل الآراء الجمالية والفلسفية التي أنعشت المجلات الأدبية في الماضي من: انطباعيين وتعبير وذوي النزعة الإنسانية الجديدة والطبيعيين والكلاسيكيين والرومانتيكيين والوضعيين واللاوضعيين وغيرهم. ويبدو أنه قد خلفهم في هذا الصراع الأرسطوطاليسيون الجدد والافلاطونيون المحدثون والكولردجيون المحدثون الذين يخوضون معركة في غير معترك. ولكل من هذه المذاهب والمجادلات مهمتهما، ولكن يبدو أنها مهمات قاصرة على الجدل حول عموميات كبرى متجافية عن الخوض في شأن الطريقة الحقة إلا قليلاً. وما هذه المذاهب؟ بوجه أو بآخر؟ إلا مسارب معاصرة مغلقة عمياء لا يهتدي فيها من يهمه التحليل الأدبي على وجه الحقيقة. وبينا تتطاير الحجارة المقذوفة فوق الرءوس يقبع الناقد الحديث الجاد في منجمه ويحفر منقباً، وقد تعلق الأتربة بيديه، ولكنه قد يكشف عن معدن كريم، بين الحين والحين.