الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
ايفور ونترز والتقويم في النقد
لم يندرس تقويم الآثار الفنية في عصرنا، ويرجع الفضل في بقاء هذه الظاهرة إلى الأعمال الجبارة التي حققها ايفوز ونترز الشاعر وأستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة ليلاند ستانفورد Leland Stanford ومؤلف أربعة مجلدات بارزة في النقد الأدبي وهي:
البدائية والانحطاط Primitivism and Decadence (1937) .
لعنة مول Maul " s Curs (1938) .
تشريح الهراء The Anatomy of Nonsense (1943) .
ادوين أرلنجتون روبنصون Edwin Arligton Robinson (1946)(1)
وهو رجل جاد، مفيد؟ من بعض النواحي؟ أيضاً، ومن المؤسف أن يصبح بين جيل من الكتاب أصغر منه سنا، شخصية هزلية، فلا يعرف إلا بأنه الرجل الذي يعتقد أن اليزابيث داريوش هي أكبر شعرائنا الأحياء وأن إدث وارتون أديبة خير من هنري جيمس (2) . حقا لقد صدر
(1) نشرت الكتب الثلاثة الأولى معدلة بعض التعديل في مجلد واحد سنة 1947، ومعها مقالة بعنوان دفاع عن العقل In Defence of Reason وهي عن قصيدة " الجسر " The Bridge لهارت كربن H. Cran.
(2)
إن نظرة المؤلف إلى ونترز - كما يصور هذا الفصل - لا تختلف كثيرا عن نظرة الجيل الذي يرى ونترز ضحكة يسخر منه، فقد صور شطحاته الكثيرة وشطط آرائه النقدية من مثل تقديمه اليزابيث داريوش واديث وارتون، وغير ذلك وأظهر أن جانب الفائدة في تطبيقاته النقدية قليل.
هذان القولان بل ما هو أكثر تطرفا منهما عن ونترز ولكنه الممثل الأوحد القوي لفن نقدي آخذ بالزوال؟ وهو طريقة جونسون في النقد؟ ومن ثم فهو يستحق دراسة دقيقة.
فهو ناقد متحمس لطريقة التقويم في النقد ويراها سر وجود التحيلي النقدي وغايته الرفيعة. ولقد عد الخطوات التي تنتهي إلى تقويم في إسهاب، ومنها جميعا يتألف النقد الأدبي، في رأيه. يقول: يتألف النقد:
(1)
من مقررات المعرفة المستمدة من التاريخ والسير مما قد يكون ضروريا ضروريا لكي يساعد على فهم عقل الأديب وطريقته.
(2)
من تحليل نظرياته الأدبية لأننا بحاجة إلى أن نفهم ونزن ما يعمله.
(3)
من نقد عقلي لمحتوى القصيدة القابل لأن يصاغ نثرا محلولا أو بعبارة أخرى، الدافع الموجود في القصيدة.
(4)
من نقد عقلي للمشاعر التي يكمن الدافع وراءها أي تفصيلات الأسلوب كما تبدو في اللغة والتراكيب.
(5)
من الحكم النهائي وهو حكم فريد يمكن الكشف عن طبيعته العامة ولكن لا يمكن نقلها بدقة لأنها تشمل تلقينا من الشاعر حكمه القاطع الفريد على مادته ثم حكمه على ذلك الحكم. ويجب أن نتنبه إلى ان غاية الخطوات الأربع الأولى هي تحديد المجال الذي سيتحقق فيه الحاكم القاطع الفريد، وتضييقه قدر المستطاع (1) .
(1) لا بد من أن نذكر أن ونترز نفسه قلما يؤدي هذه الخطوات مكتفيا في أكثر الأحوال بإعلان الحكم - أو التقويم - عارضا حيثياته سطحيا دون تقديم شهادة تسندها، وفي اصطلاحات لا معنى لها من ناحية سمانتية ولذلك لا تتيح المناقشة، ولكن هذا العجز في تطبيق القاعدة يجب ألا ينتقص من سداد هذه البنود التي أقرها.
ولنضع أي عبارة " أي عمل فني " في موضع قوله " قصيدة "؛ فمن ثم نلحظ أنه بقدر ما يكون الفن نفسه تقويما للتجربة؟ عند ونترز؟ يكون النقد حكما مزدوجا معقدا تعقيدا شديدا، فهو ثانوي في تقويم التقويم الذي أجراه الشاعر على تجربته 0أي موضوع القصيدة) وهو أساسي في تقويم تجربة الناقد (أي القصيدة نفسها) .
ويضع ونترز لهذه المهمة الدقيقة الصبعة مبادئ مقنعة حين ينص على أن الاقد يجب أن يبدي " تواضعا وحذرا معقولين " في التقويم؛ وحتى عندئذ " فمن العدالة أن نضيف بأن قلة من الناس هي التي تملك الموهبة والثقافة اللتين تتيحان لنا أخذ الأحكام مطمئنين، ولا يستثنى من ذلك الدارسون المحترفون في هذه الأمور ". ومهما يكن من أمر " فإن لكل ناقد أدبي الحق في كثير من الأخطاء في الحكم ". وسواء أكان ونترز يبدي؟ في الواقع؟ أو لا يبدي " توضعا وحذرا معقولين "، وسواء عليه أستنفذ حصته من الأخطاء؟ كما يتهم هو نفسه بو - أم لم يستنفدها، فهذه مسائل أخرى.
إن تقديرات ونترز المتعسفة باعثة على الدهشة في حال عدد من الأدباء يعجبونه إلى درجة العبادة. وأحد هؤلاء الكاتبة اديث وارتون فقد كتب يقول: إن السيدة وارتون في خير حالاتها لهي؟ تقريبا؟ المثل الأكمل للتأثير في مجال القصة، وهي مرتبة لا تبلغها جين أوستن وملفل وهوثورن وهنري جيمس وفيلدنج إلا بعد التغاضي عما لديهم من " محدودية الآفاق وقصور المعالجة ". ويعتقد إذ يعقد مقارنته المشهورة بينها وبين هنري جيمس أنها تستطيع أن تمنح أحكامها الخلقية دقة يعجز عنها جيمس نفسه وأن أسلوبها النثري في قصتيها " عصر البراءة " و " وادي الحكم "؟ على الأقل؟ أرفع من نثر جيمس على التحقيق؛ ولا ريب في أن قصتها " عصر البراءة " بما أوتيته من رفعة في النثر وبأنها " تصحح نقصا " في
مفهوم جيمس عن القصة، لتعد " أجمل زهرة فريدة في فن مدرسة جيمس ". وهذا لا يعني الحط من قدر قصتها الأخرى " وادي الحكم " فإنه قد يقال فيها " إنها خير من أي قصة لجيمس؟ منفردة؟ ".
ولعل أعلى ثناء في قاموس ونترز إنما ادخره لشعر روبرت بردجز، فشعره؟ في رأي ونترز؟ أرفع من شعر اليوت وهارت كرين وولين كارلوس وليمز وماريان مور ومن أي شعر آخر معاصر، بل لا يمكن أن يقارن به عزرا بوند، وهو أرفع وأكثر أصالة من شعر جرارد مانلي هوبكنز من كل وجه. فضلا عن أن بردجز " أكثر تمدنا " و " أعقل " من سائر معاصريه، فهو لا يقارن بهم وإنما يقارن بمن يساوونه؛ فقد كتب عددا من القصائد يطيق أشد امتحان للمقارنة بأي مقطوعة من مقطوعات شيكسبير، وهو " أكمل وآصل من كتب شعرا غير مقفى منذ عهد ملتن "، وقد كتب مقطوعتين في مناسبتين " لو نسبتا إلى ملتن لما عابتاه "؛ وكتب قصيدة غنائية ليست تنقص مثقال ذرة عن قصيدة دريدن التي كتبها في قصيدة الصغير آن كلجرو Ode on the Death of Mistress Anne Killigrew. ويقول ونترز: " يبدو لي؟ دون أدنى ريب؟ أن مسرحيتي بردجز عن نيرون هما أعظم مأساة كتبت منذ صدرت مسرحية آل شنشي (1) The Cench وإذا استثنينا آلام شمشمون (2) Samson Agonistes وهي قطعة مريعة ثائرة؟ وليست مسرحية وإن كانت تحمل روح المأساة؟ فمن المحتمل أن تكون هاتان المسرحيتان أرفع من أية مأساة إنجليزية فيما عدا مآسي شيكسبير. ثم صنف ونترز شعر بردجز خدمة للكسالى من القراء على النحو التالي:
غنائيات قصيرة من الدرجة الأولى (10 قصائد) .
(1) آل شنشي: مسرحية تراجيدية من تأليف شللي، تتعلق بالمفجعات المتصلة بهذه العائلة الرومانية وبخاصة بياتريس شنشي ووالدها.
(2)
قصيدة طويلة لملتن، تصور آلام شمشون بعد أن أصيب بالعمى.
غنائيات قصيرة من الدرجة الثانية (12 قصيدة) .
غنائيات طويلة ذات إيقاع بطيء، من الدرجة الأولى (3 قصائد) .
غنائيات طويلة من الدرجة الثانية (قصيدة واحدة) .
يضاف إلى هذه القائمة أفوغرامان (1)(Epigrams) جميلان وقصيدتان تعليميتان ذواتا طول لا باس به " والأولى منهما في الدرجة الأولى تقريبا " ثم المقطوعتان اللتان تقدمت الإشارة إليهما مع القصيدة الغنائية.
ويعتقد ونترز " أن أقرب منافس لهذا الشاعر منذ عهد شللي، هو ت. ستيرج مور T. s. Moore "؛ فقد كتب مور شعرا " لم يلحق شأوه فيه إلا اثنان أو ثلاثة من الأحياء، وقدرا من الشعر لم ينظم مثله شاعر حي " فهو أعظم بكثير من وليم بتلر يتس W. B. Yeats دون أن تكون له موهبة ييتس في سكب المواجد الذاتية؛ وقد راجع وصحح قصيدتين من أشد قصائد هوبكنز اضطرابا (2) ؛ وهو إلى ذلك كله " فكر متألق جدا " فقد كتب؟ على الأقل؟ قصيدة يعد كل بيت فيها على حدة طرفة يتيمة، وهو أقدر من أي أديب آخر معاصر على أن يعرفنا بما يواجهنا من صعوبات أدبية.
وثالث ثلاثة يعجبون ونترز هي السيدة اليزابيث داريوش " أرق شاعرة إنجليزية منذ ت. ستيرج مور " وبما أنها ابنة روبرت بردجز فموقفها
(1) الافوغرام: قطعة قصيرة منظومة، يضمنها ناظمها فكرة وكثيرا ما تكون ساخرة وقد تكون غزلا أو تخليدا للبيت، وقد كان شعراء الرومان يكثرون من نظم الافوغرام. وأصل الكلمة يدل على أن الافوغرام هو " النقش المنظوم " الذي يكتب على شواهد القبور.
(2)
يشير ونترز إلى مقال بعنوان " الأسلوب والجمال في الأدب " نشر بمجلة Criterion يوليه (تموز) 1930، وفيه تناول مور فاتحة قصيدة هوبكنز " الصدى الرصاصي والصدى الذهبي " فأعاد كتابتها واحتفظ بسلاسة التعبير وأسقط الحشو؛ (وقد أورد المؤلف في الحاشية نص الفاتحة قبل التغيير وبعده، ولكن شعر هوبكنز يستعصي على الترجمة، لاعتماده على إيقاع خاص وترديد وإسهاب وحشو) .
قد يحمل على الظن بأن صفة " العظمة " التي أسبغها عليها ونترز يمكن انتقالها بالوراثة (ومما يستحق التسجيل هنا أني لم أسمع بها حتى لقيت اسمها في أول كتاب لونترز ولم أر اسمها يذكر في أي مكان آخر إلا حين يشار إلى آراء ونترز في النقد) . وقد كتب ونترز يقول " إنها واحدة من الشعراء القلائل الأحياء الذين يوصفون بالعظمة " وعندما قال في وصف إحدى قصائدها " إن التعبيرات لا يمكن أن تكون على حال أجمل مما هي في هذه القصيدة "، ألحق بذلك مقطوعة لها بعنوان " صورة جمادات "(1) Still - Life ليقوي رأيه. ولكن مهما بلغ الرأي من تسامح نحو هذه المقطوعة فإنه لن يصفها إلا بأنها مقطوعة من النثر المقفى لطيفة بليدة فقيرة الخيال (2) .
وفي سنة 1946 أضاف ونترز؟ دون سابق إنذار قوي؟ معبودا رابعا إلى " الثالوث " السابق حين كتب عن اودين آرلنجتون روبنصون بطلب من القائمين على سلسلة " صانعو الاتجاهات الجديدة في الأدب الحديث ". وقد قال عن روبنصون إنه " شاعر عظيم رزين " قد لنا في " اليهودي المتجول " The Wandeing Jew قصيدة من أعظم القصائد لا في عصرنا وحده بل في لغتنا أيضاً. " وربما كانت من أعظم ما يقع عليه نظر الإنسان "، وعشر قصائد قصيرة أخرى لا يدانيها " إلا شعر أربعة أو خمسة من الشعراء الإنجليز والأميركيين في المائة والخمسين سنة الماضية " وقصيدة بعنوان " لانسلوت " Lancelot وهي واحدة من القصائد القليلة القصصية المؤثرة المكتوبة باللغة الإنجليزية في خلال
(1) هذا الاصطلاح Still - Life يعني بعض الأشياء الصغيرة التي قد تدخل في نطاق التصوير لا يتمتع بصفة الحياة مثل الزهريات والكتب، أو صورة تضم هذه الأشياء أو بعضها.
(2)
من أسوأ مظاهر التثلب العنيف في آراء ونترز أنه يولد تصلبا معاكسا مشابها في العنف وربما لم تبلغ السيدة داريوش حد الرداءة الذي بلغته لو أننا لم نتعرف إليها من خلال ما كتبه ونترز.
مائتي عام " وبعض قصائد متوسطة الطول اثنتان منها " تقفان في صف واحد مع أعظم القصائد الإنجليزية التي من نوعهما "، واثنتان " عظيمتان " فحسب، واثنتان أخريان " ناجحتان " وعدد غير هذه " يستحق التذكر ". وعلى العموم فإن روبنصون " في مناسبات معينة شاعر من أبرز الشعراء في لغتنا "؛ وأحسن شعره يقف في صف مع أعظم ما أنتجه وردزورث وتنيسون وبراونج وهاردي وبردجز. وبين هؤلاء جميعا " يبدو أن روبنصون يجد صحابه الأدنين، في بعض اللحظات، مثلما يجد منافسيه الأقربين حيث يقف ملتن ودريدن، وهو في وقفته هذه، لا يقف أبدا في الدرجة الدنيا ".
وإذا لم ينفع هذا التأكيد المغالي في بعث صيت جديد لشاعر مغمور أو متخلف فإن ونترز على استعداد ليدعي أن صيته كان مؤثلا ذائعا من قبل، كما قال عن ادليد كرابسي " إنها ليست فحسب شاعرة خالدة " بل " كانت من أشهر الشعراء في عصرنا "(1) .
وأعلى درجة من الإطراء بلغها ونترز مسجلة في الملحق الخامس من كتابه " تشريح الهراء " حيث دون أسماء سبعة عشر شاعرا أميركيا ممن نالوا احترامه من أبناء جيله والجيل التالي له، وعد لهم أروع ثماني وأربعين قصيدة (طتب أمام اثنتين منها " ربما ") . وقد حذف من القائمة اسمه واسم زوجته جانيت لويس (وصرح في إحدى الحواشي أنه يحاول عامدا أن يتجنب الحديث عما كتبته وإن كان يعتقد أنها من أحسن شعراء جيلها كما أنها من أحسن القصصيين) . ومع ذلك فإن نصف الأسماء التي كتبها إنما هي أسماء أصدقائه ومريديه وتلامذته، وقد أسقط من بينها أسماء جميع الشعراء الذين اتفق على تقدمهم في عصرنا؟ تقريبا؟ ويبدو اختياره للقصائد رديئا أو مبينا على الهوى: وهذه الجريدة في مجموعها تعد من
(1) هذا مثل من أبرز الأمثلة على إغراق ونترز وركوبه رأسه في الحكم فإن كرابسي (1878 - 1914) ليس لها من الشعر إلا ديوان صغير نظمته في أواخر عمرها وطبع بعد وفاتها.
أغرب الوثائق في الكتابات النقدية المعاصرة (1) .
ويستعمل ونترز مثل هذا التعسف في الحكم على الشعراء الذين يمقتهم وفي رأس القائمة منهم اليوت وييتس وعزرا بوند. أما اليوت فهو مؤلف " محض شعر مستمد من غيره " وهو يعمل كل ما يعمله بوند " بمهارة أقل " وهو " أدنى مرتبة من وليم كارلوس وليمز وآخرين ". ويختم ونترز حكمه على قصيدته " الخاوون " The Hollow Men بهذه العبارة المتسامحة: " وقلما تجد في الأدب الحديث محاولة مشجية كهذه، تستمر بالقصيدة بيتا إثر بيت في عناد لا يلين ". وأما بوند فإنه " همجي حل عقاله في متحف "، وأما ييتس فشاعر " يجيش بعاطفية محزنة ملودرامية ". ويقول عنه في موضع آخر، دون أن يحاول لزوم رأي واحد فيه: إنه شاعر ذو مشاعر قد بردت حتى إنها لتبعث الخدر؛ وهؤلاء الثلاثة؟ بطبيعة الحال؟ أدنى كثيرا في مرتبتهم من بردجز وستيرج مور وغيرهما من الذين يؤثرهم ونترز.
وعلى هذا الهوى والتعسف، لم تسلم آراء ونترز من التقلب. وفي كتابه " تشريح الهراء " الذي نشر عام 1943 يصف الشاعر ولاس ستيفنز بأنه صورة للموهبة الشعرية العظيمة حين تكون منحلة منحطة وأنه لم يكتب شيئا من الدرجة الأولى منذ أن نشر ديوانه " الأرغن الصغير " Harmonium سنة 1942. أما في كتابه " البدائية والانحطاط " الذي نشر عام 1937 أي بعد أن ظل ستيفنز أربعة عشر عاما في الدرك الأسفل؟ كما يقول ونترز فإنه قال فيه " لعله أعظم شعراء جيله ". وفي سنة 1939 كتب
(1) إن هذا النوع من الإطراء الذي يمكن أن نسميه " صفق لي أصفق لك " يحدث أثره طردا وعكسا فالناشر الان سوالو A. Swallow يصف ونترز بأنه " أعظم ناقد في نهضة النقد الحديثة " ويسميه لنكولن فتزل L. Fitzell أحد أثرائه السبعة عشر " الشاعر والناقد الرهيف الذي يحب " الغرب " وبعض أهله وإن لم يكن من أبنائه "(أما كلمة " الغرب " فتعني الغرب الأميركي) .
ونترز مراجعة يقول فيها: " سيشهد عام 2000 كلا من ستيفنز ووليمز وقد تأثلت مكانتهما وعدا أحسن شاعرين " في جيلهما. ومن الممتع أن نقارن بين آراء ونترز الأدبية التي نشرها في مجلة " القافلة الأميركية الجديدة " New American Caravan عام 1929 في مقال عنوانه " امتداد الروح الإنسانية وتكاملها في الشعر وبخاصة في الشعر الفرنسي والأميركي منذ بو وبودلير "، وبين آرائه المتأخرة التي نشرها خلال هذه الفترة (بعد 1929) : في سنة 1929 كان ألان تيت " يفتقر إلى مهارة " أرشيبولد مكليش وكانت قصص اليزابيث مادوكس روبرتس أعلى من قصص هنري جيمس وكان فصل من كتاب: " في الخلق الأميركي " In the American Grain للدكتور وليمز أعلى من أي نثر في عصرنا وأرفع من أكثر الشعر. أما الثالوث الذي كان يعجب ونترز بين الأميركيين الأحياء فيضم وليمز وكرين وتيت (على افتقاره إلى المهارة) وأما لورنس فهو الشاعر العظيم الوحيد بإنجلترة منذ عهد هاردي. وفي سنة 1943 أصبح تيت " بلا شك " من أكفأ ذوي المواهب في عصرنا، وأخذ مكليش " يذوي مع الأيام "، أما وليمز وكرين فوقعا ضحية " لدعوة وتمان الخاطئة " التي تنادي بالتعبير القومي ووحدة الوجود وما أشبه، ثم سقط ذكر لورنس وحل محله بردجز ومور والسيدة داريوش. وأما قصص الآنسة روبرتس فلا ذكر لها أيضاً لأن ونترز قتلها منذ سنة 1933 بتهمة " الصنعة ".
ويميل ونترز إلى إيراد حيثياته بأقصى تفصيل، منتزعا قصيدة واحدة أو بضعة أبيات منها من أجل الحكم والتقويم. فقد يتهم ولاس ستيفر " بالإنحطاط اللذي " مثلا ولكن قصيدته " صباح الأحد " Sunday Morning " ربما كانت أعظم قصيدة أميركية في القرن العشرين، وهي على التحقيق من أعظم القصائد التأملية في الإنجليزية ". وقصيدتا تيت
" الخيال والظل " Shadow and Shade و " الصليب " The Cross " من أعظم القصائد الغنائية في عصرنا ". وقصيدة هريك Herrick " تجمعي يا براعم الورود "" متفوقة بوضوح " على قصيدة مارفل " إلى خليلته الخفرة ". والأبيات التسعة من قصيدة Gerontion لأليوت وأولها " أنا الذي كنت قريبا إلى قلبك أقصيت عنه " هي الوحيدة في شعر اليوت التي يمكن أن توصف بأنها شعر عظيم. وليس لروبنصون جفرز R. Jeffers أبيات سائرة يحسن اقتباسها خلا ثلاثة، وهي أبيات يعلوها الصدأ. وهناك قصيدة لبردجز يصفها بأنها استجمعت كل قوتها في الفقرة المتوسطة (كذا) وأخرى لوليمز فيها ثمانية أبيات جيدة تحمل عبء القصيدة جميعا، ولروبنصن قصيدة فيها ست دورات Stanzas أضعف من سبعة أخرى، وقصيدة أخرى تحولت إلى " مأساة كاملة " ببيتين جميلين فيها.
وللنقد التقويمي المقارن عند ونترز ما له عند اليوت من طاقة على اختراق حواجز الزمان وقطع المسافات الشاسعة بين النماذج المتباينة بحثا عن التشابه في سبيل المقارنة. ومن الأمثلة النموذجية على ذلك قول ونترز " إن تفضيلي لبوب وبليك أمر لا يتزعزع "(1) . وقفة ونترز هي وقفة العقل الذي يومض لامحا الشعر الإنجليزي كله مفتشا عن مقارنة وهو قادر تمام القدرة على أن يفسر بيرون في عبارة واحدة بمقارنته ببعض خصائص بن جونسون وكامبيون وغوج وتربرفيل ولورنس وبو، كما هو قادر في عبارة أخرى على أن يوضح الفرق بين هارت كرين ووليم كارلوس وليمز مستعملا مصطلح البلاغة البتراركية بنت القرن السادس عشر والشعر المتافيزيقي ابن القرن السابع عشر ومقطعات شيكسبير ودن وشعر فلك غرفيل وفوكس وغوج وغاسقوينه وتربرفيل ودانيل ودريتون.
(1) إنما عده مثلا نموذجيا لهذا الجمع الغريب بين شاعرين متباعدين في الطريقة وهما بوب وبليك.
وفي حمأة هذه المقارنات والفتاوى والتقديرات والمقامات المصطنعة يتشبث ونترز بمبدأ لا يحيد عنه هو " المبدأ الخلقي "؛ كتب يقول: " إن الفن أخلاقي ولا بد من أن يكون النقد مثله ضوروة " أما ماذا يعني بقوله " أخلاقي " على وجه الدقة فأمر بعيد التعقيد والتناقض، وسنعرض له بالشرح المسهب من بعد، ولكن يكفي أن نورد هنا قطعة حسنة الدلالة، وردت في كتابه " تشريح الهراء " لتوضح؟ على الأقل؟ بعض المعنى لكيفية ما يعده هو تقويما أخلاقيا في الفن؛ يقول:
" أرى أن العملية الفنية عملية تقويم أخلاقي للتجربة الإنسانية بواسطة تقنية تجعل من الممكن إجراء تقويم أدق من سواه. فالشاعر يجرب أن يفهم تجربته بمصطلحات عقلية ليعبر عن فهمه ويعبر؟ في الوقت نفسه؟ بطريق المشاعر التي نسبغها على الألفاظ، عن نوع الشعور ومقداره، أعني الشعور الذي يجب أن يثيره ذلك الفهم إثارة صحيحة. وتختلف النتيجة الفنية عن أي تجربة فجة فيما تتمتع به من إرهاف في الحكم: وهذا الفرق كبير المقدار في الفن الجيد، ولكنه فرق في المقدار لا في النوع ".
ومن هذا الرأي عن الطبيعة الأخلاقية للفن والنقد يفهم ضمنا أن الناقد مفروض عليه أن " يصحح " الرأي التقليدي ما دام يعتقد أنه خطأ. ولا ريب في أن هذا العبء الخلقي المضني هو المسئول عن تطرف كثير من تقويمات ونترز، فإن محاولته في كتابه " لعنة مول " أن يضع جونز فري في مرتبة أعلى من إمرسون في كل شيء (1) ؟ وهي
(1) الرأي التقليدي أن امرسون على جونز فري فحاول ونترز أن " يصحح " هذا الرأي، يتقديم الثاني على الأول وربما أعجبه أن فري (1813 - 1880) كان ينحو في شعره وتآليفه منحى دينيا صوفيا. وفري هذا ساعده امرسون على الظهور ثم اتهم في قواه العقلية وأدخل المارستان المخصص للمجانين.
دولة باءت بالإخفاق عندما طبع اثنتين وعشرين قصيدة وألحقها بالكتاب؟ ليست إلا جزءاً صغيراً من تلك الخطة الواسعة التي حددها ونترز في مقدمة كتابه بتواضع لم يعهد منه، فقد كتب يقول:" إن منتهى أملي أن أقيم قاعدة نقدية أعيد على أساسها النظر في تاريخ الأدب الأميركي جملة، وهو مشروع يتطلب سنوات كثيرة من الجهد ". وفي موضع آخر أشار ونترز إلى أن تشرشل وغاسقوينه وجونسون " أساتذة عظماء أغفلهم التاريخ ". وظل عدة سنوات يقود حملة ليؤكد لكل من غاسقوينه وبرنابه غوج وتربرفيل مكانتهم " الصحيحة " في الأدب، وكل هذا قد يشير إلى أنه بعد انتهائه من الأدب الأميركي كان يرنو إلى إعادة النظر أيضاً في الأدب الإنجليزي أو في أدب العالم.
وعلى قدر هذا المشروع الضخم الذي بدأت تظهر معالمه والذي يرمي إلى تصحيح الرأي السائد، فصلت كل كتابات ونترز في النقد. فقد بين أن " البدائية والانحطاط " دراسة للقيم الأخلاقية في الأشكال الأدبي، وأنه يتحدث فيه عن الأدباء ليوضح الأشكال فحسب. أما " لعنة مول " فإنه صلة للكتاب السابق، إذ أنه دراسة للقيمة الخلقة عند الأدباء أنفسهم؛ وأما " تشريح الهراء " فهو أنه دراسة للقيمة الخلقية عند الأدباء أنفسهم؛ وأما " تشريح الهراء " فهو دراسة لأربع نزعات يعتقد ونترز " أنها أبعد النزعات أثراً في الإنتاج الأدبي في عصرنا، وأصحابها أبعد العقول أثراً كذلك "(لا حاجة إلى القول بأن هذا الحكم يكسب كلاً من جون كرو رانسوم وولاس ستيفنز؟ على الأقل؟ إن لم نقل اليوت وهنري آدمز، شهرة مهزوزة) . وثمة مراجعة صدرت بمجلة جبال روكي Rocky Mountain Review (عدد الخريف 1944) كتبها ألان سوالو وهو أحد المعجبين بونترز وزاد فيها إلى هذه القائمة ما يعتبره عملاً رابعاً ضخماً، وهو مقالة طويلة لونترز بعنوان " الغنائية الإنجليزية في القرن السادس عشر " نشرت بمجلة " شعر " العدد الخاص بفبراير ومارس 1939، ويقول سوالو: إنه يقدم هذه المقالة
لأنها أحسن ما كتبه ونترز في جانب البناء لا الهدم، " فهي دراسة لتاريخ ما يعده أحكم موروث تليد في الطريقة والفكر ". ومنذ ذلك الحين زاد ونترز مقالة تشبهها في البناء؟ فيما يبدو؟ وهي دراسة للشاعر روبنصون.
وما من شك في أن ونترز دءوب صبور بعيد النظر، يدل على ذلك؟ حسبما يقول؟ أنه صرف سبعة عشر عاماً يعمل في المقالات الخمس الطويلة التي يتكون منها كتابه " البدائية والانحطاط "، مثابراً على مراجعتها، مضيفاً إليها أكثر ما يكتبه في المجلات، متحدثاً عنها إلى كل من يلقاه، وأحياناً مغيراً نظرته نحو الشعر الحديث، ماضياً في طريقه دون كلل. وعلى ظهر الورقة التي خط على وجهها عنوان كتابه " لعنة مول "، كتب أنه بسبيل إصدار مجلدين في النقد الأدبي؟ هما في دور الأعداد؟ الأول: دراسات عن المؤرخين والنقاد الأميركيين، والثاني: مجمل مختصر لتاريخ بلاغة القصيدة القصيرة في الإنجليزية. ولعل " تشريح الهراء " نغبة من الكتاب الأول، أما ماذا تم بالباقي منه وبالكتاب الثاني كله؟ في السنوات التي تلت عام 1937؟ فشيء لا يعرفه إلا ونترز نفسه. ومما يلفت الانتباه أن " تشريح الهراء " نفسه نشر بعد خمس سنوات على يد الناشر الأول نفسه دون أن يحمل إعلاناً عن كتب تحت الطبع. فإذا كان ونترز قد تخلى عن مشروعيه هذين، فما ذلك إلا لأن أجزاء من " سلاحه الأدبي " بحاجة ماسة إلى شحذ وتثقيف في هذه الآونة.
2
- ولعل كتاب " لعنة مول " أحسن كتب ونترز للدراسة التفصيلية عن تطبيق الطريقة التقويمية، لأنه الكتاب الوحيد الذي يعنى؟ من بين كتبه؟ بالأدباء، بينا الأول منها يعنى بالأشكال والثالث بالأفكار والرابع بشاعر واحد. ولعلها أيضاً أشد كتبه حيوية وأكثرها قيمة وإن لم يكن أوفرها لماحية. أما كلمة " لعنة " التي أضيفت إلى عنوانه فهي مستمدة من
نبوءة وردت في قصة لهوثورن عنوانها " البيت ذو القباب السبع " The House of the Seven Gabels؛ وتروى القصة أن الكولونيل بنشيون Pyncheon ظلم أحد الناس فتنبأ له المظلوم (1) بأن " الله سيعطيه دماً بشربه ". ويعتقد ونترز أن الأدباء العظماء في القرن الماضي ابتداءً من كوبر حتى جيمس كانوا يقاسون هذه اللعنة المجازية وبعبارة أدق: بما أنهم جذوا ما بينهم وبين الموروث الأدبي الصحيح من أسباب فإنهم استقبلوا أثر الرومانتيكية الأوروبية بشغف، وبذلك كانوا يشربون دماً
…
هو دمهم. وقيام وحدة الكتاب على هذه الفكرة شيء مصطنع إلى حد ما لأن كل كاتب فهو؟ من ناحية؟ يشرب من دمه حتى أشد المتعلقين بالكلاسيكية؛ ومن ناحية أخرى، فإن كتابنا العظماء في القرن التاسع عشر وهم الذين أنتجوا أدباً عظيماً أصيلاً يمتد من " الحرف القرمزي " The Scarlet Latter وينتظم موبي ديك Moby؟ Dick وينتهي إلى " السفراء "(2) The Ambassador لا يمكن أن يكونوا ملعونين أبداً إلا إن كان ونترز يريد منهم أن يقدموا أعظم مما قدموه أو يثبت أن ذلك كان في مقدورهم.
(وأقول استطراداً إن هذه هي العثرة التي تحطمت عندها آراء فإن ويك بروكس الأولى، كما تحطم عندها كثير من النقد المتصل بالاجتماع لدى نقاد آخرين، أعني أنه لابد لك؟ قبل أن تظهر أن جيمس أو توين
(1) المظلوم هو مول - الساحر - نفسه إذ سلبه بنشيون الجد ثروته.
(2)
تستحق هذه القصة توضيحاً موجزاً. أما الحرف القرمزي " فإنها قصة رومانسية من تأليف هوثورن وتتلخص في أن أستاذاً إنجليزياً كبير السن يرسل زوجه الشابة مستر لكي تنشئ لهما ليتاً في بوسطن، وحين يلحق بها بعد سنتين يجدها وفي حضنها طفلها غير الشرعي واسمه بيرل. وترفض أن تخبره عن صاحبها فيحكم عليها بتعليق شارة الزنا (حرف " ز " بلون قرمزي) ثم يخفي الزج هويته ويتسمى باسم مستعار متنكراً في زي طبيب بحثاً عن عشيق زوجه. أما هي فتأخذ في العطف على البؤساء حتى تنال عطف جيرانها واحترامهم بالتدريج، ويكتشف الزوج المتنكر أن والد الطفل قسيس شاب جميل عليه سيما الصلاح وهو مثقل بخطيئته يصرخ في السر طالباً الغفران، وكبرياؤه تمنعه من البوح بإثمه. ثم يلتاث الزوج لما لاقاه من عناء في البحث، فتطلب المرأة إلى صاحبها أن يفر معها إلى أوروبة فيرفض ويعترف على الملأ بما فعله ثم يموت بين يديها وقد حطمه شعوره بالخطيئة، أما هي فتعيش لابنها ولعمل الخير.
وقصة " موبي ديك " لملفل، قصة رمزية ميدانها البحر، وموبي ديك فيها هو اسم الحوت وقبطانها آهاب شغوف يصيد الحيتان وهو يرمز للإرادة التي تقاوم القدر وتتحدى العواصف والبروق، وفي النهاية يظهر موبي ديك، ويغرق السفينة.
وأما " السفراء " فإنها من تأليف هنري جيمس وهي تصور ناشراً أميركياً ذكياً أرسلته خطيبته الأرملة ليحضر ابنها تشاد من باريس وحين يصل إلى هذه المدينة يعرف أن تشاد يفضل البقاء في العالم القديم لأن له خليلة هنالك، ثم يتخلى الناشر عن مهمته ويتعلق بإحدى المغتربات فترسل الأرملة " سفراء " لإقناع ابنها بالعودة ولكنهم يخفقون في مهمتهم ولا يستطيعون أن يفهموا لم تغيرت طباع تشاد، أما الناشر فإن ضميره يستيقظ وينهي علاقته بصاحبته الجديدة ويعود إلى وطنه.
أو هوثورن أو ملفل كانوا جميعاً ضحايا لبيئة معادية لهم؟ لابد لك من أن تثبت أنهم كانوا قادرين على إنتاج خيرٍ مما أنتجوا أن تتطلب كتاباً خيراً من موبي ديك أو هكلبري فن (1) Huckleberry Finn. حقاً إنهم لو عاشوا في بيئة اجتماعية متعاطفة معهم لأنشأوا أدباً مختلفاً عما أنتجوه وربما كانت الكتب التي يكتبها جيمس بخاصة موجهة إلى جمهور أكبر ولكن هذا كله من شأن النقد البيئي وحده.)
اعتبر كتاب ونترز؟ إذن؟ سلسلة من المقالات النقدية فحسب، عن أدباء أميركيين عاشوا في القرن التاسع عشر، أو اعتبر كما وصفه هو بعنوان إضافي " سبع دراسات في تاريخ المعاداة للنورانية بأميركية " وهذه المقالات السبع تتحدث عن هوثورن وكوبر وملفل وبو وامرسون وجونز فري واملي ديكنسون وهنري جيمس. وطريقة ونترز في كل فصل؟ على وجه التقريب؟ أن يتحدث عن عقلية الأديب ويحلل أمثلة من نتاجه قارناً كل ذلك بتقويم تفصيلي واقتباسات غزيرة وأخيراً ملخصاً قيم كتبه وأفكاره.
(1) قصة من تأليف مارك توين تجري الأحداث فيها على لسان هك Huck ويحكي فيها حكاية مغامراته، كيف حاول الوصي أن ينتزع ثروته وكيف غامر باجتياز النهر ورافق أحد العبيد وبعض الأفاقين وعمل بهلواناً
…
الخ.
أما هوثورن فهو في الأصل صورة للإخفاق، رجل أخرج للناس قصة " الحرف القرمزي " وهي من أعلى الصور في النثر الإنجليزي، ثم انغمس في رومانتيكية جوفاء. وأما كوبر فهو رجل كان ينطوي على مثال اجتماعي عظيم ثم نخره صدأ العاطفة الرومانتيكية، وليس له أمل في البقاء إلا عن طريق قطع تنتزع من إنتاجه الكلي. ويتميز ملفل؟ بين هؤلاء؟ بأنه " أعظم رجل في عصره وقومه " واجه ثمار لعنة مول متقمصاً شخصية آهاب (1) فتفهمها وتغلب عليها. أما بو فإنه رجل ممتاز بثباته في النقد وفي الخلق الفني ولكنه ذو تفاهة متفردة فيهما معاً. ويقف إمرسون متخلفاً كثيراً عن جونز فري (الذي كان ذا ذكاء خلقي) وهو مصدر كثير من الاضطراب في أدبنا (2) . وأما إملي ديكنسون فإنها " عبقرية شعريه من الطراز الأول " و " واحدة من أعظم الشعراء الغنائيين في عصرنا ". ومع ذلك فإنها مغلوبة بقلة الذوق والجفاء. وأما هنري جيمس فرمز إخفاق مريع، وكانت غاياته ومقدرته العارضة رحيبة واسعة فخلقت منه ظاهرة تستثير اهتماماً لا يبلغ شأوه. وتبدو هذه الأحكام؟ لي على الأقل؟ (وقد قدمت ملخصة دون جور مع العلم بأن الأحكام الحاسمة في مقالات ونترز المسهبة الغامضة لا يمكن استخلاصها في جملة) صحيحة دقيقة جميلة في حالي ملفل وبو، جائزة في حق أمرسون وجيمس، متسامحة في حق كوبر، موضع أخذٍ ورد في حال هوثورن والآنسة ديكنسون.
وفي " لعنة مول " أشياء جيدة تعد نقداً قيماً، مثال ذلك تلك " العملية الجراحية " التي أجريت لبو، فإنها تأخرت كثيراً عن موعدها وكان
(1) هو اسم البطل في قصة " موبي ديك ": راجع التعليق في هامش الصفحة السابقة.
(2)
عندما أصدر ونترز كتاب " أدوين آرلنجتون روبنصون "(1946) أصبح امرسون هو العدو الأكبر وأضحى كل ما هو رديء عند روبنصون يعزى إلى تأثير امرسون.
من حقها أن نكتب الانهزام المريع على الناقدين الذين يتخذون من بو معبوداً لهم، وبينهم أدموند ولسن وفان ويك بروكس. لقد أظهر ونترز فيها جهل بو الناقد ودعواه العلم وكشف عن العاطفية المبتذلة في فكره، وسجل الصدمة المعقولة التي يلقاها من يطالع الطبيعة الآلية الفاسدة لآرائه في الشعر والتي تحيل الشعر إلى " التفاهة والبهلوانية " وتشمل جماليات الذين يعادون النورانية؛ وفضخ تفاهة نظرياته في الأوزان وجساوة أذنه وعد مواطن شططه الغريب في تقويم الأدباء، وأخيراً هدم أركان قصائده وأقاصيصه بالنص على صغار أسلوبه بخاصة. وهذه العملية في مجموعها " جزارة " لازمة، وليس يقلل منها وزناً أنها وليدة أسباب ظالمة، وأن كل صفحة عند ونترز لتوحي بأنه يعترض على بو لأن بو يقاوم كل فن ونقد يخضع للتقويم الأخلاقي (بل إذا عرف القارئ أن بين ونترز وبو شبهاً قريباً من حيث أن كلاً منهما يقدر تقديرات جامحة مغربة، وأن نظرياتهما في الأوزان متشابهة في التفاهة، وإذا تذكر هذا القارئ المثل القائل: " رمتني بدائها وانسلت " فليس هذا كله مما يفسد عملاً نقدياً ركيناً) .
وإذا استراح ونترز قليلاً من مسؤوليات التقويم الأخلاقي وجدنا فيه دارساً مدهشاً رحيب الخيال سديد الأحكام. وفي كتابه دراسات نقدية عديدة ذات أثر أخاذ، وبخاصة ذلك التحليل المسهب للرمزية الباطنية في منظر من مناظر " الحرف القرمزي " حيث تقف خستر وابنها بيرل منتظرين في بمنى الحاكم بلنجهام Bellingham ويريان نفسيهما في المرآة مشوهين. وكثيراً ما يورد تحليلات في الأوزان قوية، ومن الأمثلة الجيدة على ذلك تحليلة في كتاب " لعنة مول " ثلاث قصائد لاملي ديكنسون، هذا على الرغم من أن نظرياته في الأوزان موطن شك، وبخاصة نظريته في القاعدة الوزنية للشعر الحر (وسنعرض لها فيما بعد) ، وكتابه أيضاً مفيد
لما فيه من تحليل حاد لمظاهر متنوعة من التاريخ الحضاري الأميركي وأحسن مثال لذلك حديثه عن " التناقض الظاهري البيورتاني " وهو: الإيمان بالجبرية في الفكرة، والعمل على أساس حرية الإرادة. ويبدو أن ونترز مدين بالتفصيلات في هذه الفكرة لهنري بمفورد باركس ويعترف ونترز بأنه مدين لباركس ديناً كبيراً في كثير من مظاهر الفكر الأميركي، غير أن تطبيقه لتلك الفكرة على ذلك الاتجاه الرمزي عند كتاب ولاية نيوانجلند، من كتن ماذر حتى هنري آدمس، ليعد عملاً أصيلاً.
وكما أن دراسته لبو أكثر ما في كتابه إقناعاً فإن مجاوزته الحد في تقدير فنيمور كوبر أقلها إقناعاً، ذلك لأن ونترز يحاول أن يجعل من كوبر أديباً واقعياً، فيدافع عن الصحة المصطنعة في تلك الأعمال الباهرة التي تضمنتها قصصه " حكايات الجورب الجلدي "(1) Leatherstocking Tales بينا الأصوب إن شئنا الجد في تحليل كوبر ودراسته أن نعتبره كاتباً رمزياً (ذلك هو ما ارتآه د. هـ؟. لورنس وجون ماسي) . ويقتبس ونترز منظراً يكاد يكون كاملاً من قصة " صائد الغزلان " The Deerslayer فقرة إثر فقرة، من نثر كوبر المتثاقل المترجرج المتعسر، شافعاً ذلك كله بمثل قوله " لعله عمل لا يقل عظمة في طوله عما يجده الإنسان في سائر القصص الأميركي، ما عدا ملفل ". أو قوله " وفجأة ينتحل النثر صفة العمومية والعظمة لكي يهيئ المرء لتلقي الصفة المتافيزيقية للأثر الذي يتلوه بعد قليل ". أما أعلى إطراء فيضيفه ونترز على قصة لكوبر عنوانها " ساحرة
(1) كتب كوبر (1789 - 1851) سلسلة من خمس قصص تصور حياة " الحد الأميركي " The Frontier وتسمى باسم البطل لأنه كان يلبس جوربين طويلين من جلد الغزال ومنها الرواد The Pionrrrs والسهوب The Prairie وصائد الغزلان، وتحكي هذه القصص مغامرات البطل - ابن الغاب الذي يكره القيود ويحب الغابات ويفهم طبيعتها وهو كريم لأعدائه وأصدقائه على السواء أما قصة ساحرة الماء فتصور الحياة الأميركية على ظهر السفن واسم القصة مأخوذ من اسم السفينة.
الماء " The Water؟ Witch حين قدمها باعتدال قائلاً: " لهي بالتأكيد من ألمع القطع إن لم تكن من أعمقها في النثر الأميركي ". ويبدو أننا لا نبعد عن الحقيقة حين نرى السر الحقيقي لهذا الإطراء متصلاً بالأفكار السياسية والارستقراطية اللاديمقراطية التي كان كوبر يعتنقها، وبأختها " الرفعة البلاغية ". ويخصص ونترز أول جزء من مقالته للثناء على " الخلقية العامة " عند كوبر مسهباً مدافعاً عنها، ويختم تقديره بما يجب أن يعتبر أشد الصيحات المحزنة الداعية للتكتل انتصاراً للرجعية حين يقول " إنه ينطوي على مثل اجتماعي أعلى كان في زمانه قد أدركه التعفن والفساد، حتى إن وقوفه دونه كلفه سمعته، ولعل ذلك المثل الأعلى لم يعش بعده مدى عشرين عاماً ".
ولعل أحفل تقويمات ونترز بالإساءة، في كتابه، مروره دون مبالاة على الشخصيات الكبيرة؛ فهو يرى في ثورو وألكوت شخصين قليلي الأذى غريبي الأطوار من مدرسة امرسون، ملمحاً إلى " السجية الرعوية عند ثورو " و " البلاهة الهادئة في ألكوت ". ويعتقد أن هنري جيمس كان ملتاثاً مثله شخصيات قصصه، إن كان لكلمة " لوثة " التي يكثر من استعمالها من معنى. وعلى أية حال، فكل فصل في كتاب " لعنة مول " يحوي نصيباً مقدوراً من الآراء التقويمية السطحية التي يقذف بها ونترز حول الأعمال الأدبية أو حول بعض أجزائها بل على أسطر منها أحياناً، وكلها آراء ذاتية، وقليل منها مؤيد بالبرهان. ولنتناول بضعة أمثلة كيفما اتفق: يستبعد كل ما كتبه هوثورن ما عدا " الحرف القرمزي " لأنه في زعمه " يدل على إخفاق " أو هو " تافه القيمة "، ويختار الفصل السابع من " صائد الغزلان " لأنه " خير قطعة مفردة في النثر كتبها كوبر "، ويختار الفصل الأول والأخير من قصة " السهوب " The Prairie لأنهما " يتلوانه في حسن " النثر. ويعد " بنيتوتشيرينو " Benito Cereno
" والجزائر المسحورة " Encantadas و " بلي بد "(1) Billy Bud حير ما كتبه ملفل باستثناء موبي ديك. ويعد خير الأبيات التي يستحسنها من شعر بو، لأن " مسجها لا بأس به " ومجموعها أقل بقليل من مائة بيت، موزعة في خمس قصائد. ويطبع القصائد الثلاث من شعر إملي ديكنسون وهي التي تجمع بين " أعظم قدرة وأجمل أداء ". ويشير إلى أن هناك رجلاً يسمى فردريك جودارد تكرمان (2) F. G. Tuckerman، " مشبه لهوثورن في رومانسيته المتأخرة إلا أنه يكتب أحسن من هوثورن "، ون قصائد جونز فري " وهو كاتب مؤثر " ممتازة " في حدودها " مثل قصائد ترايرن Traberne وهربرت أوبليك.
ويستحق ونترز ثناءً على الطريقة التي درس بها هرمان ملفل، إذ هو الوحيد من بين النقاد المعاصرين، باستثناء ف. أ. ماثيسون الذي أعطاه؟ أخيراً؟ ما يستحقه من حيث هو أعظم كاتب أميركي، وواحد من أرفع القصصين في العالم. إن ونترز ضعيف أو محدود جداً؟ على الاقل؟ في تفسير المعاني العميقة في موبي ديك غير أن تحليلاته الرمزية المسهبة لبعض القطع بالغة القيمة، فمثلاً يبدو أنه غير واعٍ لصور الشذوذ الجنسي التي تجري خلال ما يكتبه ملفل وبخاصة تلك التي تجمعت
(1) الأولى قصة تاجر إسباني اسمه بنيتوتشيرينو يحكي كيف أبحر من بونس أيرس ومعه خمسون بحاراً وخمسمائة زنجي ثم هبت عليه عاصفة عند كيب هورن فغرق كثير من بحارته وأهلك المرضى أكثر من بقي منهم ومن الزنوج، يحكيها لقبطان أميركي اسمه ديلانو، وتنتهي القصة بتمرد الزنوج واستيلاء ديلانو عليهم ودخول التاجر الإسباني أحد الأديرة.
والثانية قطع وصفية، أما الثالثة فإنها تصور بلي يد الأنموذج للبحار الجميل ولجماله وبراءته كرهه ضابط ذميم يدعى كلاغارت دون أن يدرك بلي لسذاجته سر ذلك المقت ويفتعل كلاغارت قصة تمرد ينسب تدبيرها إلى بلي ويتهمه بذلك عند القبطان فيثور بلي ويضرب خصمه ضربة قاضية وعندئذ يضطر القبطان إلى أن يحكم عليه بالموت شنقاً مع عطفه عليه، لبراءته من التهمة الأولى.
(2)
تكرمان (1713 - 1871) ولد في بوسطن ورحل إلى نيويورك وكتب في النقد والمقالة والتراجم كما أشأ قصصاً رومانسية عن الأسفار والرحلات.
في قصته الأثيرة " بلي بد "(وهذا قصور غريب حقاً حين نعلم أن ونترز من النقاد القلائل الذين لم يخجلوا من التعليق على الشذوذ الجنسي فيما كتبوه بل إنه لحظ في قصيدة من قصائد روبنسون موضوعاً يحتمل أن تكون له صلة بالشذوذ الجنسي) . ومع هذا فإن دراسة ونترز للمفل قطعة فذة وكفاها أنه ضمنها اقتباسة كاملة تدل على جودة اختيار. بل ربما كان ونترز في هذه الدراسة، مثله عندما درس بو، يعطي الأديب ما يستحقه من تقدير صائب لأسباب خاطئة وربما كان سر اهتمامه بما يثني عليه من كتب ملفل أنه وجد فيها " الأخلاقية " التي يبحث عنها في الأدب. وهب ذلك صحيحاً، فإنه شيء لا ينقص من قدر تلك الدراسة.
وهناك نقاط إضافة عن " لعنة مول " تستحق أن تذكر: أولاً: مسألة " معاداة النورانية "، سر العنوان الإضافي للكتاب، وهي تهمة يكثر من تكرارها، إكثاره من ذكر " الرومانتيكية "، وبين المصطلحين وشيحة نسب. ويعني ونترز بمعاداة النورانية نوعاً من الانفعال الكاذب يزيد فيه قدر الشعور الناتج عن مقدار الدافع المحرك له، وهذا هو ما كان يعنيه الاغريق بكلمة " هستيريا " ويرونها مرضاً نسوياً مركزه الرحم. وعلى أساس هذا المفهوم يرى ونترز الأدباء السبعة المذكورين مصابين بمعاداة النورانية؟ على وجه ما؟ بل يرى أن هذا المرض هو أكبر الظواهر فيما يسميه " الفترة الرومانتيكية " الممتدة من 1750 حت اليوم. ولا حاجة إلى القول بأن هذا المصطلح " معاداة النورانية " في كتاب " لعنة مول " كالغربال لا يمسك ماءً، شأنه في ذلك شأن المصطلح الآخر " شرب الدم "؛ ولا شك في أن موقف رجل يتهم قرنين من تاريخ الأدب برمته مستثنياً بردجز وستيرج مور لأنهما، فيما يرى، ولدا خطأ في ذلك العصر؟ إن مثل هذا الموقف، في أحسن أحواله، قلق هش خرع لا يطمأن إليه. ثانياً: لابد من أن ننبه إلى أن معالجة هنري جيمس في الكتاب
- إذا صرفنا النظر عن التقويم المتناقض المشوه الذي يورده ونترز، إذ يراه حيناً رمز إخفاق مريع ويراه حيناً آخر أعظم قاص في الإنجليزية بعد ملفل؟ لهي من أشد الكتابات النقدية قصوراً في عصرنا.
3
- لم يصبح التقويم الجمالي المنظم للأعمال الفنية غاية رئيسية للنقد، في تاريخ الأدب، إلا بعد عصر النهضة، وظل منذ عهدئذ حتى القرن الحاضر هو المنهج السائد. أما النقاد الإغريق والرومان، فكانوا يهتمون ف الدرجة الأولى بالبويطيقا، وبتحليل الطبيعة الاجتماعية للفن والتأثير الفني. وأما نقاد القرون الوسطى فقد وقفوا همهم على التفسير الأخلاقي والباطني، وارتكز نقد عصر النهضة وبخاصة في انجلترة على إيجاد التبرير الخلقي للأدب الخيالي. ولما حل العصر اليعقوبي بانجلترة (1) أخذ النقد ينتحل التعلق بالتقويم وجرى عليه طوال ثلاثة قرون مثلما كانت الحال في أوروبة يعد النهضة وفي أميركية حوالي عهد الثورة بعد فترة من الأحجام الطبيعي.
وفي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بانجلترة، ازدهر النقد التقويمي، وبلغ فيه أمثال توماس رايمر وجون دنس وصمويل جونسون ذروة التقريرات التعسفية التي يتضاءل أمامها ونترز. أما رايمر الذي وصفه ماكولي وفي وصفه شيء من العدل " بأنه أردأ ناقد عاش على ظهر الأرض " فإنه قد تأدى إلينا في صورة كان يعيد الأثر. فقد أثر في القراء حين استبعد شوسر قائلاً " إن لغتنا عندئذٍ لم تكن قادرة على إبراز شخصية بطولية " وتأثروا هم حين أعاد كتابة مسرحيات بيمونت وفتشر حسب فكرته عن الصحة الكلاسيكية وحين مزق مسرحية " عطيل " نصفين لأنها
(1) العصر اليعقوبي هو الفترة التي يشغلها حكم جيمس الأول 1603 - 1625.
نسيج من الهراء أو لأنها " مسرحية مضحكة دموية دونما تمليح أو نكهة " كتبها رجل كان يظن أن امرأة فينيسية عريقة الأصل تستطيع أن تحب زنجياً. ويقول رايمو أيضاً في شكسبير " إنه يبدو في المأساة في غير بيئته، فأفكاره معوجة وهو يهذي ويهيم على وجه دون تماسك؛ ودون أي قبس من عقل أو أي ضابط يزعه ويحد من جنونه ". أما شعره فإن " صهيل الحصان " ونباح " الزغاري " يحملان معنى أكبر مما يحمل ".
وكان جون دنس يرى أحكام رايمر على شكسبير رغماً عن بعض اختلاف بينهما " أحكاماً معقولة عادلة في أكثر جزئياتها ". وقد حسن في مسرحية " نساء وندسور المرحات "(1) The Merry Wives of Windsor وجعل عنوانها " الشهم المضحك " The Comical Gallant. وعلى هذا كله فإنه كان ناقداً أميل إلى الناحية الخلقية، مؤمناً بأن الغاية الكبرى من الشعر هي إصلاح العقل البشري الآثم. غير أن تقويماته المتزمتة وبخاصة ما يتعلق منها باسكندر بوب " عدوه اللدود " أو مراجعته الممتازة لرواية " كاتو " Cato لاديسون كانت مثل أحكام رايمر تعسفية تحكمية، ومرسلاته العامة في الأدب أعلق بالجزئيات. وأما الأحكام القوية التي كان يصدرها جونسون عن الأدباء في أحاديثه لبوزول أو فيما قيده في كتابه " سير الشعراء " فإنها أشهر من أن يعاد فيها القول هنا، غير أن بعض تقريراته التي لم تنل شهرة واسعة، يستحق التنويه. ففي مقالة نشرها في " الجواب " Rambler عن سبنسر نزع إهاب " أسلوبه الفاسد " وصفع الدورة السبنسرية " الصعبة المنفرة المتعبة " بل إنه في مقدمة كتبها عن شكسبير؟ تقديراً وتبجيلاً؟ لم يتورع عن عد نقائضه من مثل " إنه قلما يوفق كثيراً في المناظر الهزلية " و " إن خطبه؟ على وجه عام؟ باردة أو ضعيفة " وزاد
(1) إحدى روايات شكسبير، وأهم شخصية فيها فولستاف.
قائلاً: إنه إذا اعتبرنا حال حياة شكسبير وهمجية عصره، فعلى القراء " أن يسامحوه على جهله ".
وأكبر ناقد تقويمي متعسف شهده القرن التاسع عشر خلفاً لرايمر ودنس وجونسون هو ولتر سفج لاندور W. S. Landor فقد كان في مقدوره أن يصفع فرجيل نفسه لأنه استعمل تعبيراً لاتينياً غير دقيق وأن يصرح بأن ليس لبوليتيان (انجيليو بوليتزيانو) إلا قصيدة واحدة تستحق التقدير، وأن يهاجم كولردج هجوماً شريراً، ويستبعد الأدب الفرنسي بحذافيره وبخاصة المأساة الفرنسية وفولتير، ويضحي بكل من بوب وبيرون. وفي حمله؟ صراحةً؟ عبء التقويم التعسفي إلى نهايته المنطقية، كما حمله ونترز ضمناً؟ قرر لاندور أن أسوأ ما خطه ممثلاً في " أحاديثه الخيالية " العشرة " Immaginary Conversation " لا يمكن أن يسمو إليه أرفع خصومه موهبةً، في عشر سنوات من الكد، وأن الإصبعين اللتين تحملان قلمه لهما أقوى من داري البرلمان.
ومن الواضح أن إيفور ونترز يجيء في سلسلة هؤلاء الرجال مباشرة، وأنه مثل لاندور، رجعة إلى ما قبل عصره بقرن كامل حين كان " القول الفصل " مظهراً سائداً في النقد والأدب. وهو مثل هؤلاء جميعاً، يبني تقويماته على الكلاسيكية والإيمان بالموروث. ومثل معظمهم في أنه يصدع بتقويماته خدمة لقضية رجعية سياسية. وقد قال ببعض هذه المقارنة بينه وبينهم نقاد آخرون، فقارنه كلينث بروكس برايمر في كينيون رفيو Kenyon Review عدد الربيع سنة 1940 لتشابههما في " جوانب القوة والضعف " ووازن كثير من المراحعين بينه وبين جونسون، ربما لأن ونترز سبقهم إلى القول بأن جونسون هو الناقد الإنجليزي الذي يستحق أن يوصف ب؟ " العظيم "، ولكن لم يلحظ أحد وجه الشبه المفزع بينه
وبين دنس، لأن دنس عندما يهاجم الشعراء الذين يحسبهم أردياء لا لأنهم فحسب فنانون خاطئون بل لأنهم أشرار يعادون الأخلاق، أو حين يقول " إذا كان المرء واثقاً من نفسه فعليه أن يتكلم في ثقة متواضعة "
…
أقول: إن دنس في هذا كله ليس إلا تجسداً مبكراً لونترز. وإذن فإن معجم ونترز النقدي وأمثلته معاصرة، غير أن قلبه وفكره يعيشان؟ فيما يبدو؟ في لندن سنة 1700.
وهناك أرومة نقدية أخرى ينتسب إليها نقد ونترز، وهو قد جلا النقاب عنها بقوله في كتاب " البدائية والانحطاط ":" إن هذه الفكرة عن الشعر في مجملها العام ليست أصلية، ولكنها إعادة للأفكار التي كانت سائدة في النقد الإنجليزي منذ أيام سدني، وظهرت في أكثر كتب الدفاع عن الشعر منذ سدني أيضاً وبخاصة فيما كتبه آرنولد ونيومان ". وهو يعني؟ بالطبع؟ سلسلة النقد الأدبي المبني على الأخلاق، ذلك انقد الذي بدأ منذ أقدم كتاب يونان، وهو موروث يطابق أحياناً مبدأ التقويم التعسفي، ويسلك أحياناً سبيلاً مجافياً له؛ ومن الواضح أن ونترز يرى موضعه في هذه السلسلة أيضاً. ولقد يحرج النفس أن نشهده يقارب بين غنف طريقته الجافية وبين لطف سدني ونيومان ظاناً أنهما من معدن واحد. بل لعل التشابه بينه وبين آرنولد أدق وأقرب. ومع أن ونترز قد ينكر ذلك التشابه مستاءً، فإن مبدأه الأساسي أعني إيمانه بأن الفن " هو تخلل الفهم الخلقي الثابت للتجربة الإنسانية " ليس؟ فيما يبدو؟ إلا إعادة لمبدأ آرنولد:" الفن هو نقد الحياة " عن طريق تطبيق المبادئ الأخلاقية.
ولا ريب في أن هناك أنواعاً أخرى من النقد الأخلاقي في الأدب، يغفل ونترز ذكرها بمرونة؟ هناك ماكولي ونظرته الأخلاقية النفعة التي تختنق الأنفس، وتمثل مبدأ حزب الأحرار. وهناك تولستوي ومقته
المتعصب لكل فن يدق على فهم القن الروسي ابن القرن التاسع عشر، وهناك الحياء الخائر المصطنع عند وليم دين هولز الذي يقترح ألا تحتوي القصص ما يخجل القصاص من ذكره أما الفتاة، وكثيرون كهؤلاء رداءةً. ومن الجور أن نضع خلقية ونترز المترفعة في صف مع هؤلاء، ومع ذلك فكلهم داخلون في سلسلة النقد الأخلاقي مثلما أن أردأ شطحات رايمر معدود في نطاق النقد التقويمي، فإذا جمع شخص مثل ونترز ودنس بين الموروثين في نقده فقد ينجيه من التردي في الصلف المستكبر أو الحماقة المستعلية أن يكون هو نفسه مصيباً حقاً. ولا حاجة إلى القول بأن ونترز منقوص الحظ من ذلك.
4
- في عصرنا نماذج أخرى من التقويم النقدي تشبه في تعسفها أحكام ونترز وأكثرها أقل من أحكامه نصاً على الأخلاق؟ بعض الشيء؟ فهناك في المستوى الصحفي (أو كان كذلك لأنه قد تخلى فيما يبدو عن النقد الأدبي إلى الأبد) رجل اسمه هـ؟. ل. منكن H. L. Mencken العدو الجبار لعصبة " البلهوازيين "(1) وتبدو تقويماته المتعسفة دائماً وليدة جهل ساذج، ومع ذلك فإنها تسخر من تقويمات ونترز على نحو غريب فقد وصف منكن كلاً من بو ومارك توين بأنهما " الشخصيات العالميان اللذان أسهمنا بهما في دنيا الأدب، دون ريب " أعلن أن ليزيت ودورث ربز " قد كتبت أرصن الشعر، وأن شعرها أبلغ وأجمل؟ على التحقيق؟ من شعر كل الشعراء المحدثين مجتمعين "، وزعم أن هنري جيمس هو " هوراس ولبول "(2) الأميركي، ووسم أحد اثنين أو ثلاثة من المفكرين
(1) Booboisie وهي كلمة مصنوعة من boob وتعني أبله أو أحمق ومن المقطع الثاني على مثال برجوازي وقد صنعنا على مثالها " البلهوازيين " من بله جمع أبله مع الإضافة الأخيرة.
(2)
أي هو عند الأميركيين مشبه لهوراس ولبول (1717 - 1797) الأديب الإنجليزي المشهور عند الإنجليز.
الأميركيين الخلاقين، ممن لا يشك في عبقريتهم، وذلك هو ثورشتين فبلن (1) بأنه " نافورة أفٍ وتف ". وإذا عارضنا تقويمات منكن بتقويمات ونترز وجدنا أن القاعدة في تقويمات منكن هي عجزه عن أن يفهم الأدب الجاد وأنه عدو خصيم لكل شكل من أشكال الخلق، ولكن من المدهش تقارب ما قاله عن بو وتوين مما قاله ونترز عن كوبر، ومشابهة تقديره لليزيت ريز تقدير ونترز لاليزابث داريوش.
أما المنبع الكبير الآخر للتقويم المتعسف في نقدنا فهو عزرا بوند الذي كان صديقاً لمنكن؟ مدة طويلة -، فقبل مرحلة الفاشية والبارانويا (مرض العظمة) بوقت طويل (2) ، كان بوند يصدر أحكاماً تبدو أمامها أسطع أحكام ونترز باهتة شاحبة. فقد وصف " الفردوس المفقود " Paradise Lost بأنها ملودراما مصطنعة كتبها رجل " غليظ العقل "" حماري "" مثير للاشمئزاز "" بهيمي "، واستبعد أدب القرن التاسع عشر برمته، وأعلن أنه يفضل صورة الآنسة الكسندر الشابة التي رسمها ويسلر على كل " الرسوم اليهودية " التي أنتجها بليك، وألقى بتاسو وأريوستو وسبنسر في " كومة النفايات "، ونبذ دريدة لأنه " فدم عبام " وانتاجه لأنه " جدب صراح " وأعلن أن تاريخ هيرودوتس " أدب " وتاريخ ثوسيديد " صحافة " وهاجم رجلاً يسميه أحياناً أرسطوطاليس وأحياناً أخرى " أرى سطوطاليس " لما كان يصطنعه من " تحويط وسند وترميم ".
ومن المحتمل؟ في أقل تقدير؟ أن بوند نفسه لم يكن يؤمن بهذه
(1) فبلن (1857 - 1929) نال الدكتوراه من جامعة بيل ودرس في جامعة شيكاغو؛ أول كتبه " نظرية الطبقة المتعطلة " هاجم فيه القيم التجارية عند طبقة ذوي الأموال، وكان شديد الهجوم على النظام المالي القائم بأميركة في زمنه.
(2)
هي المرحلة التي انتهى إليها بوند، وتشمل إيمانه بالفاشية، ومهاجمة السياسة الأميركية في الحرب العالمية الثانية، ثم القبض عليه والقاؤه في مستشفى للأمراض العقلية.
الأحكام. فقد قال مرة مشيراً إلى حكم أصدره فضل به كاتولس من بعض نواحيه على سافو: " لا أدري إن كان هذا صحيحاً أو غير صحيح، فعلى المرء أن يتناول الأمور بعقل متفتح ". وقد سجل كذلك دراسة جميلة مسهبة وعبقريته وشفعها بقوله " إن المرء ليقرأ هنري جيمس لمجرد ما فيه من وحشة وظلام ".
ومن أشد المظاهر غرابة في تقويمات بوند أنه يكاد دائما يجمع بين أديب مجيد وآخر رديء، أو بين أثر لهذا وأثر لذاك ويسوي بينهما. فقد تحدث عن " تار " Tarr لوندهام لويس جنبا إلى جنب مع كتاب " صورة الفنان في شبابه " لجويس بنفس العبارات، وقرن بين " مينا لوي وماريان مور " وأشار إلى أن جوزف جولد ووليم كارلوس وليمز شاعران معاصران بارعان. (وأقول استطرادا: إن ولدو فرانك وهو ناقد أندرسون ومانويل كمروف؛ وبين د. هـ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟. لورنس وج؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟. د. برسفورد؛ وبين " الموهبتين الكوميديتين "؟ دورثي رتشاردسون وجيمس جويس) . ولعل هذا القرن بين أديب عظيم وآخر متخلف؟ من كل أحمق بليد مستكتب بأجر؟ بآصرة واحدة من الملق،.. لعله أن يكشف عن نقص في الذوق أكبر وأخطر من الاقتصار على مدح الحمقى والبلداء المأجورين.
وفي النقد التقويمي؟ في عصرنا؟ نوع آخر رئيسي يمكن أن نسميه " تصحيح الرأي "، ومن أشد أمثلته تخلفا في الذوق، على مستوى منكن، كتاب لآرنست بويد عنوانه " تجديفات أدبية " Literary Blasphemies وهو محاولة لإعادة النظر في التقديرات الموروثة حول عدد من الأدباء، من شيكسبير حتى هاردي، بمثل هذا الأسلوب في وصف ملتن " ذلك المغرب (1)
(1) المغرب صفة الخيل؛ وهو الفرس الذي تبيض اشفار عينيه مع زرقهما وهو صفة قريبة في مدلولها من albino ويعنى ذا بشرة بيضاء وشعر أبيض وعينين صغيرتين.
المصاب بداء العظمة الذي كان عماه دون ريب أثرا للزهري الموروث " في وصف جيمس " رجل متهوس بحب الإنجليز، وصولي في المجتمع، صرف كل وقته يخترع مصطلحات تقوم مقام كلمة الآلة الكاتبة ". أما في المستوى العلمي فكل أستاذ في الأدب ألف كتابا قد جرب أن يقترح فيه؟ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؟ أسماء الأدباء الذين يقدمهم أو يؤخرهم. وهذا نشاط عقيم لأن الناقد قلما ينجح، أما الأستاذ فلن ينجح، في تغيير الذوق الأدبي. وإذا استثنينا الضغينة المتعسفة التي يبدو أن مصحح الآراء يحملها دائما نحو كل ذي مجد مؤثل (ونشاط ونترز لسوء الحظ نموذجي في هذه الناحية) قلنا إن هذا اتجاه لا ضرر يخشى منه فهو ضرب أستاذي لطيف من اعتداد بالنفس، لا يحقق غاية.
5
- ولعل أهم مسألة يجدر اعتبارها في تقويمات ونترز هي؟ بالدقة؟ ما الذي يعنيه بقوله " أخلاقي ". فقد عرفها أو استعملها لتؤدي عديدا مختلفا من الأشياء بعضه لا يلائم البعض الآخر، وبعضه لا معنى له أبداً. وقد سوى بينها وبين " الجهاد للوصول إلى مثال في الشكل الشعري " وجعلها تعني كلاسيكياً في مقابل ما هو رومانتيكي، وتعني " تقليدياً " في مقابل " تجريبي " أو تعني " شعوراً معتدلاً تحفزه دوافع صحيحة "، الأقل؟ محل " إنساني ". وفي بعض الأحيان تبدو مصطلحاً أديباً فنياً قريب الشبه مما يسميه آرنولد " الأسلوب الفخم " أو " الجد الرفيع "، وأحياناً تعني " تعليمياً " وأحياناً لا تعدو معنى " رجعي " ويبدو أنها في بعض الحالات ليست أكثر من نعت يدل على أن ونترز أعجب بالعمل الفني وظنه جيداً. ولا يربط بين هذه الاستعمالات جميعاً خيط واحد
إلا أن " أخلاقي " كانت في الأصل شيئاً واضحاً عند ونترز، لعله ذاتي أو لعله نظام فني مساوٍ لما يسميه الإنسانيون المحدثون " الوازع الداخلي " ثم اتسعت في الدلالة حتى أصبحت تشمل نتائج هذا الوازع، ومن ثم تشمل كل عمل أو نزعة يمكن أن يفترض وجود هذا الوازع وراءها، أي تشمل كل عمل يحبه ونترز وكل نزعة يحترمها (1) .
وثمة طريقة أخرى تطلعنا على ما يعينه ونترز بقوله " أخلاقي "، وتلك هي أن نلحظ ما يعده " غير أخلاقي "؟ وهذا يضم؟ أولاً؟ كل المترادفات المضادة لاصطلاح " أخلاقي " كانعدام الشكل، والرومانتيكية والتجريبية وكل شعور مبدد أو هستيري أو " محفوز بدوفاع غير صحيحة "، والاتفعالية الكاذبة وما أشبه. وفي المقام الأول يمقت ونترز شيئين يمقت ونترز شيئين هما: البدائية والانحطاط. فالشعراء البدائيون؟ كما يعرفهم؟ هم الذين يستغلون كل الوسائل الضرورية لبناء قصيدة قوية ولكن مجال مادتهم محدود، أما المنحطون فهم الذين يظهرون إحساساً مرهفاً باللغة، وقد يكون لديهم آفاق واسعة، ولكن عملهم ناقص شكلاً أو هم الذين أضعفتهم جريرة الشعور بعض الضعف لا كله. ويفسر ونترز هذا بقوله: الشاعر البدائي شاعر كبير في مجال صغير والشاعر المنحط شاعر كبير تنقصه إحدى القدرات الهامة. ومثال الأول وليم كارلوس وليمز، ومثال الثاني ولاس ستفنز.
وهذه التفرقة صحيحة متينة، ومع أن استعماله للاصطلاحات كاستعماله لمصطلح " معاداة النورانية " يكاد يكون محض تحكم لأنه لا صلة له
(1) في آخر إنتاج لونترز يبدو أن " أخلاقي " أصبحت هي مسألة النزعات التي يعبر عنها الشكل المنثور لمضمون القصيدة. فهو يقول عن " اختيار روبنصون لمادته " و " موضوعاته " و " مباحث " إنها تتضمن هذه " الأخلاقية " وأن قصيدة مثل " ذروة التلة " Hillerest تعد " أخلاقية " مضادة " للرومانتيكية " لا لشيء إلا لأنها " تنبئنا أن الحياة تجربة شاقة لا تتحمل إلا بالألم ولا تفهم إلا بعسر ". وبعبارة أخرى إن القصيدة الرواقية التي تدور حول " تحمل الألم وتتخذ منه موقفاً لا هروبياً " تعد قصيدة " أخلاقية ".
بالأصل الاشتقاقي للكلمات أو الاستعمالات المألوفة، فليس من سبب يمنعه من أن يسمي " بدائياً " و " منحطاً " ما يسميه كاتب آخر " صغيراً " أو " ناقصاً " وما يسمه ثالث " كذا " و " كيت ". على أن ونترز يحدث اضطراباً حين يستعمل كلمة " منحط " بمعنى أميل إلى الاتباعية كأن يقول في سدني وسبنسر " إنهما منحطان " لأنهما يهمان " باصطناع مناهج لا معنى لها نسبياً ". أو حين يهاجم هنري آدمز بأنه " صورة للبيورتانية المنحطة " وسوينبرن بأنه " صورة لانحطاط الموروث الأدبي ". وأخيراً كان العدو الألذ لأخلاقية ونترز شيء يسميه " مبدأ اللذة " وهذا ما دعا كلينث بروكس ليسمه بالرواقية؛ وهو يرى هذا المبدأ متمثلاً في أصرح حالاته عند ستيفنز (وأقول استطراداً إن أساس هذه الدعوى واهٍ ركيك لأنه ينظر إلى قصيدة " صباح الأحد " من خلال محتواها النثري فقط، وكذلك زاد ميله إلى هذا الاتجاه في تقدير الشعر مع أنه يستنكر هذه الطريقة صراحة في موضوع آخر) . وينتهي مبدأ اللذة؟ فيما يقوله؟ إلى " السآمة " مثلما أن انحطاط آدمز انتهى به إلى " الفوضى "؛ ويرى ونترز أن كل أدب لابد من أن يتردى في إحدى هاتين الهوتين إذا لم يكن مؤسساً على " الأخلاق ".
والنص على الأخلاق هو لب النقد عند ونترز وربما كان مديناً به إلى الإنسانيين المحدثين وبخاصة ايرفنج بابت (ومنه أيضاً استمد طريقة الأحكام التعسفية المتهورة) . وقد اعترف ونترز بأنه معجب ببابت وأنه " تعلم منه الكثير " كما اعترف بدين محدد لعدد من أفكار بابت وتحليلاته، ويبدو أنه لم يفد كثيراً من سائر الإنسانيين المحدثين، وصرح بأنه لا يعد نفسه واحداً من جماعتهم بل إنه في مقال له نشره في مجموعة عنوانها " نقد النزعة الإنسانية " أعدها كلنستون هارتلي غراتان (1) ، هاجم النزعة الإنسانية
(1) صدرت هذه المجموعة سنة (1930) بعنوان The Critique of Humanism أما غراتان الذي أعدها فهو ناقد أدبي ومؤرخ.
الجديدة بمرارة ورمى كثيراً دعائها بتهمة " الانطباعية المنتحلة " و " الآلية الأخلاقية " بله الكتابة الرديئة والعنف والعنف المتهور (وهذه تهمة ممتعة) وسوء الأدب و " الإفلاس الروحي ". على أن مقاومة ونترز للرومانتيكية، لأنها تريد " إطلاق " العواطف لا " كبحها " هو نفس المبدأ الذي تدور عليه النزعة الإنسانية، ولا ريب في أن ونترز أقرب إلى هذا المذهب من أي مذهب آخر.
دعنا نتوجه بعد عرضنا لأخلاقية ونترز إلى توضيح نظرياته في الأوزان، فهي حرية بذلك: يبدي ونترز وبخاصة في " البدائية والانحطاط " اهتماماً كبيراً بالتفعيلات الشعرية، وكثير من تحليلاته للبحور ذو قيمة أصيلة مثل تحليله لثلاثٍ من قصائد إملي ديكنسون، تقدمت الإشارة إليها. ومع ذلك فإن هناك خطأين كبيرين يفسدان نظريته في الوزن وبعض تطبيقاته العملية وأولهما: ما يمكن أن يسمى " أغلوطة الإيقاع الحكائي " وهي الفكرة التي تقول إن البحر والاختلاف الوزني وحدهما يوحيان بالمعنى أو بالحال (لا أنهما يقويان المعنى فحسب) وكثيراً ما تصدى لهذه النظرية نقاد بارعون (بينهم رتشاردز) فأبطلوها بلباقة، وذلك بوضع كلمات أو مقاطع لا معنى لها في سياق الإيقاع نفسه، فإذا الإيقاع في شكله الجديد لا يحدث شيئاص من الإيحاء المزعوم. ومما يدهش له المرء أن يظل ونترز مؤمناً بهذه الفكرة، على ذلك كله. أما خطأه الثاني فهو النظرية التي ترى أن الشعر الحر منتظم يمكن تقطيعه إلى تفاعل فتكون التفعلية الأولى طويلة تحتوي نبرة ثقيلة يتلوها ما شئت من نبرات خفيفة ومقاطع غير منبورة. وقد خصص ونترز لهذه النظرية جانباً رحباً من كتابه " البدائية والانحطاط " وخلق تعليلات واسعة مسهبة متسامحاً في قبول نماذج كثيرة من المستثنيات والأبيات الشاذة حتى كاد يستوعب كل شيء خارج عن تفعيلاته بحيث لا يتبقى ما يشذ أو يستثنى. ويقف في وجه ونترز ذلك السؤال الحتمي
الذي يحطم كل جهوده، وهو: لمَ لمْ يكن في المستطاع " تفعيل " أي عبارة نثرية. بما في ذلك عبارة ونترز نفسه، بهذه الطريقة نفسها؟ ولا جواب له على ذلك إلا قوله: إن الترتيب المقطعي في النثر عفوي عارض بينما الترتيب المقطعي في الشعر الحر تعمدي؟ فيما نفترض -، وإننا " نحس " بنوع من الإيقاع النغمي في الشعر الحر ولا نحسه في النثر.
إن علم العروض ما زال شكلاً من أشكال " خفة اليد الحوائية "(1) لأن أكثره لا ينفك في عقل " المفعل " لا على صفحة القرطاس (حتى إن هوبكنز؟ مثلاً؟ يستطيع أن يقطع أي شيء في إيقاع منحدر وذلك ببدء كل تفعيلة بمقطع قوي منبور؟ وكان في مقدوره أن يقطع كل شيء بإيقاع صاعد، بمثل تلك السهولة، لو أنه بدأ بالتفعيلة بالمقطع الثاني لا بالأول) . ولعل تقطيع ونترز للشعر الحر؟ على هذا الاعتبار؟ ليس أشد شذوذاً من أكثر ضروب التقطيع التعسفي. على أنه حين يكتب شعراً حراً على طريقته في الوزن فإنه يصبح أسيراً لنظريته كالساحر الذي أدى دوره على المسرح وما يزال منديله يصر على أن يتشكل في صورة العلم الأميركي (2) .
وكل تقدير عام لا يفوز ونترز لابد من أن يحسب حساباً لنواحي عجزه وقصوره؛ ومن أوضح هذه النواحي ضيق المعرفة عنده. نعم إنه مصطلح،
(1) لا تظن أن هذا الحكم يسري على العروض العربي، لأنه لا يعتمد على النبر وعدمه بل على طول المقطع وقصره.
(2)
ليس في نطاق هذه المقالة أن نتفحص شعر ونترز ولكن مما يتفق وسياق ما نحن فيه أن أقول: " إن ما قرأته من شعره يبدو ملائماً لمبادئه النقدية أي إنه تقليدي في شكله، أخلاقي كلاسيكي بطيء ومن نوع قديم بعض الشيء، وأكثره وليد مناسبة أو تعليمي في طبيعته وكله مكبل غير منطلق. أما هل هو لطيف هادئ الحركة أو هو أكاديمي بليد حتى الموت فشيء يعتمد الحكم فيه على ذوق القارئ الذاتي ".
ولكن اطلاعه؟ فيما يبدو؟ يدور في فلك ضيق لا يتعدى القصة الإنجليزية والأميركية والشعر الحديث في الأدب الإنجليزي والأميركي والفرنسي. ويظهر أنه لم يتعرف إلى أي أدب من آداب القارة الأوروبية عدا الفرنسي وإذا استثنيت دانتي فلست أذكر ورود ذكر لأديب خيالي آخر في كل آثاره النقدية، ممن ترك آثاراً في غير اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ومراجعه الفرنسية محدودة أيضاً. ولنختر بضعة أسماء اتفاقاً: لم يذكر ونترز أبداً دوستويفسكي أو بوشكين أو بوكاشيو أو بترارك أو غوته أو هايني أو سرفانتس أو لوب دي فيجا أو حتى ستندال أو فيون. وليس معنى هذا أننا نريد إليه أن يتحدث عن الأدباء الأجانب بعد إذ بدا أنه ملتزم بعدم الإشارة إلى شخص لا يستطيع أن يقرأ آثاره في لغته الأصلية، وإنما نريد أن نشير إلى خطأ فادح في الطريقة التي ينهجها ونترز دائماً وأبداً وهي أن يقال: هؤلاء أعظم القصصيين وهؤلاء أعظم الشعراء ثم لا يكون هؤلاء وهؤلاء إلا من الإنجليز أو من الأميركيين.
بل هناك ثغرات غريبة في معرفة ونترز حتى فيما يقع في دائرة اختصاصه. فقد كتب فصلاً طويلاً مسهباً عن هوثورن من غير أن يبدو ما يدل على أنه يعرف شيئاً عن وجود مذكرات يومية لهوثورن، إخبارية متطرفة في واقعيتها، دع جانباً أنه لم يقرأها. وهو يسوق مقررات قابلة كثيراً للأخذ والرد عن تاريخ الأدب الإنجليزي، دون أن يشير إلى برهان أو وثيقة فيها. والأمر كما بينه رانسوم وكما اتهمه به هوراس غريغوري هو أنه فيما يبدو لا يعرف الفرق بين الشعر الذي ينتمي إلى عصر إليزابث والشعر الذي ينتمي إلى عصر آل تيودور.
وإلى جانب هذا القصور في معرفة ونترز نراه يعاني من استكباره عن أن يستعمل عقله. مثلاً لا ينكر أحد أن في الفكر النقدي عند اليوت متناقضات واقعية كثيرة، ولكن كثرتها لم تمنع ونترز من أن يخترع له
متناقضات جديدة؛ فقد استكشف ذات مرة أن هناك عبارتين متناقضتين عند اليوت (سطحياً) ؛ وأبى أن يحكم بالصواب لأحدهما لأنه أبى قراءتها على أي صعيد إلا الصعيد الحرفي. وهو أيضاً يتبجح بجهالته، فقد أقتبس مقطوعة للشاعر ادوين آرلنجتون روبنصون عنوانها " عابر سبيل " En Passant وقال " إنه لا يستطيع أن يحل معمياتها " وذهب يتشدق مرة أخرى أسفاً، إذ فاته سر عنوان قصيدة ستيفنز " الكوميدي في صورة الحرف ك " قائلاً:" يؤسفني أن أقول إنه استعصى على كل من علمي وذكائي ". ولكن هذا العنوان نفسه لم يستعص على علم بلاكمور وذكائه فقد نشر تفسيراً باهراً مقنعاً لعنوان تلك القصيدة في مجلة " الكلب والنفير "(1) Hound and Horn سنة 1932، ونشره مرة أخرى في الصفحة من The Double Agent سنة 1935، وقد كان المرجو من ونترز، حيث يأبى أن يفكر، أن يتنازل؟ على الأقل فيقتبس أفكار الآخرين وخاصة حين تكونتلك الأفكار في متناول يده خلال عشر سنوات (2) .
وكان من ثمرات هذا الجهل والتصلب الفكري العارضين، عدد من الآراء ليست فوق الغاية في التعسف أو الشذوذ بقدر ما هي مضحكة،
(1) سميت هذه المجلة بهذا الاسم من قولة لعزرا بوند في " الوعل الأعصم " جاء فيها " إننا لنسعى إلى الشهرة العصماء " وندعو كلاب العالم لتجتمع على صوت النفير، وقد كان ونترز رئيساً لتحريرها في الغرب. كما أن بلا كسور كان ذات يوم رئيساً لتحريرها، ومن ثم لا يعذر ونترز في استمراره على جهله بمعنى ذلك العنوان، لهذه الصلة الوثيقة الطويلة بينه وبين المجلة وما ينتشر فيها.
(2)
استفتح ت. فايس T. Weiss في تحليله الفذ لنواحي العجز في نقد ونترز في مقال له بعنوان " هراء ونترز " نشرخ في Quart. Review of Lit ربيع 1944 وصيف 1944 - استنتج استنتاجاً أكثر تطرفاً مما وصلت إليه وهو أن مشكلة ونترز تنبع من ثلاثة أنواع من العجز: " عجزه عن القراءة، وعجزه عن الكتابة وعجزه عن فهم الشعر " وأنا مدين لدراسة فايس هذه ببعض الخواطر والالتماعات، وأنا موافق عموماً على كل ما جاء في مقالته ولست متأكداً من أن فايس مخطئ في هذا الاستنتاج أيضاً.
فقد وصف شكسبير بأنه كتب مكبث وعطيل ليضع على القرطاس تقديراً أخلاقياً للخطيئة وأعلن أن كتاب هنري آدمز " تاريخ الولايات المتحدة ": " أعظم مؤلف تاريخي في اللغة الإنجليزية باستثناء تاريخ غبون " لا ليمدح آدمز، وهو محتقر عنده، بل ليصفع سائر مؤلفات آدمز. (واستطرد إلى القول بأن آدمز نفسه كتب يقول إنه يفضل اثنتي عشرة صفحة من قصة ايستر (1) Esther على كل كتاب في التاريخ " بما في ذلك الخرائط والفهارس " وهي حقيقة لا يذكرها ونترز ولعله لا يعرفها) وقال يعرف ماثيو آرنولد " إنه أحد الشعراء العظماء في القرن التاسع عشر " و " إنه من أسوأ الشعراء في الإنجليزية " فجمع بين هاتين الحقيقيتين في جملة واحدة. وهو يرى أن كارليل لا يؤبه به، فلم يشر إليه إلا مرة واحدة في الهامش بقوله " لعل القارئ يحس مثلما أحس؟ أنه كلما قل الكلام في كارليل كان ذلك أحسن، وهذه عندي حقيقة مسلمة ". ثم أكد ذلك بحذف اسم كارنيل من فهرست الأعلام في كتابه. وأخيراً وجد أن " النغمة " متشابهة عند كل من بيتس وروبنصون جفوز، وتتبع نظريات ت. س. اليوت في الشعر فوجد أصولها عند إدجار ألان بو.
ويبدو أيضاً أن الأفكار السياسية والاجتماعية أثراً في آرائه النقدية؛ كتب عنه ألان سوالو في " مجلة جبال روكي " يقول: " إن موقف ونترز هو موقف المسيحي ". غير أنه عرف نفسه بقوله: " أنا أحد الضالين ولست مسيحياً " هذا على أنه يعتنق المذهب الذي ترعاه الكنيسة الكاثوليكية والأنجلوكاثوليكية. وهو يؤثر السمة التي اختارها أيرفنج بابت أي " رجعي "
(1) نشرت قصة ايستر سنة 1884 باسم مستعار أما البطلة فيها فقد رست على مثال زوج آدمز، وتدور حوادثها حول فتاة رسامة تعرفت إلى قسيس فلم يعجبها لاستغراقه في أمور الدين ثم عهد إليها بتزيين القديس جون تحت إشراف فنان كبير فاتخذت نموذجها صديقتها كاترين فوقع الفنان في حب كاثرين، ووقعت هي في حب القسيس الذي كرهته أولاً، ثم إنها تزوجته فلم ينسجما بعد الزواج فكرهت عشرته لوم تنجح المحاولات التي بذلت للتوفيق بينهما.
حين يستعمل هذه اللفظة لأبلغ الإطراء. وربما أنكر ونترز أنه يقيم أحكامه الأدبية على أساس من التحيز السياسي، ولكن كيف نفسر هجومه المرير على كتاب بارنغتون " التيارات الرئيسية في الفكر الأميركي " وهجومه على كتاب برنارد سمث " المؤثرات في النقد الأميركي " في الملحقين الثاني والثالث من كتاب " تشريح الهراء " إن لم يكن الحافز في ذلك دوافعه السياسية؟ وهذان مثلان فحسب ولكن من طلب مزيداً وجده.
وهو مثل بابت، إمامه وناصحه (كتب بابت مرة يقول: إن بعض الأذواق لا تقوم إلا بالعصا) ليس ألطف المجادلين ولا أحسنهم تأدباً وهو يدخر بعض شتائمه الجارحة لهنري آدمز الذي يحتل لديه؟ تقريباً؟ مقاماً يحتله روسو عند بابت، أو الشيطان عند المسيحي الذي يأخذ التوراة حرفياً. فقد قال يصف آدمز:" إنه صورة للتفكك العقلي " ونبزه بأسماء لا يستعملها إلا رجل الأخلاق، مثل " لذي "" فوضوي "" مريض عصبياً "" طفولي "" وقح "، وتدنى مسفاً فاتهمه بأن انتحار امرأته كان نتيجة طبيعية لموقفه. والانتحار عنده نصيحة أثيرة يمحضها خصومه، وليس هذا ما يجب أن يتحلى به رجل أخلاقي فقد اقترح " الانتحار " مرتين؟ على الأقل؟ كتابةً، مرةً لروبنصون جفرز، ومرة ليوجين جولاس. وإذا حمي في الجدل اندفع نحو التجريح المقذع ونزع إلى مثل هذه التعليقات: " إن معرفتي يعقليات الأدباء المعاصرين معرفة واسعة
…
ولشد ما آسف إذ أجد كثيراً من اللامعين فيهم لأياً ما يفهمون المسائل البسيطة "، أو مثل " وإذ عجز (أي خصمه) عن أن يلحظ نقدي لهذه الأبيات تشبث متصلباً بنوعٍ من الجدل الأدبي المعاصر لا يليق بكاتب ناشئ مثلي أن يحتج عليه ".
والحق أن ونترز شرير لا ينجو المرء من براثنه إذا تورط معه كتابةً، وبين الحين والحين تقاتل مع عدد كبير من النقاد والمراجعين المعاصرين
ويبدو لأنه يقرأ كل قصاصة مطبوعة يذكر فيها اسمه ويجيب على المراجعة بمراجعة مضادة، وعلى المقالة بمقالة مثلها، وعلى الفصل من كتاب بفصل مماثل. وهو لا ينسى هجوماً أبداً مع أنه قد ينتظر سنوات حتى يرد، غير أنه أحياناً ينسى تفصيلات ما يكتبه أصلا. ومن المفيد أن نستعيد هنا الخصومة بينه وبين ثيودور سبنسر: راجع ونترز في مجلة " الكلب والنفير " أبريل (نيسان) 1933 شعر ستيرج مور وزعم أن مور شاعر أعظم من بيتس. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه اقتبس سبنسر ملحوظة ونترز هذه وحطمها بأن طبع الرباعية الأولى من قصيدة لمور عنوانها " أبوليوس يتأمل "(1) Apuleius Meditates وكان ونترز قد رفعها إلى السماء تمجيداً؛ ونشر إلى جانبها أربعة أبيات من قصيدة لييتس عنوانها " ليدا والإوزة "(2) Leda and the Swan. بعدئذٍ تسلم ونترز دفة الجدل فاتهم سبنسر في " تشريح الهراء " 1943 بأنه أساء الاقتباس منه وأنه حرف أقواله الأولى تحريفاً كاملاً (أي قارئ يشك في هذا عليه أن يختبر حقيقة ما قاله ونترز في ييتس ومور ويعرضها على ما قاله من ملاحظ بعد عشر سنوات) . وإذا لم تنجع هذه الأساليب تنزل ونترز إلى مجرد التحقير فقد أجاب على مراجعة كتبها وليم تروي
(1) عاش أبوليوس في القرن الثاني بعد الميلاد، وتثقف في الإسكندرية واستوطن قرطاجة وتنقل في المدن الأفريقية يعلم الفلسفة والف رسالة في فلسفة أفلاطون، ولكنه شهر بقصة " الحمار الذهبي " في أحد عشر كتاباً. وتدور القصة حول إنسان (هو المؤلف نفسه) تحول إلى حمار ومر بمراحل كثيرة من حياة اللصوص ثم عطفت عليه ايزيس فردته إلى حاله الأول ويبدو أن القصة رمز لانحدار الروح الإنسانية إلى عالم حيواني ثم استنقاذها بعد عقبات جمة.
(2)
ليدا زوجة تندارس ملك سبارطة، رآها جوبتر - وهي حامل - فاستهام بها، وقرر أن يخدعها فاقنع فينوس أن تتخذ شكل صقر وأن يتحول هو في صورة إوزة، وتنطلق الإوزة خوفاً من الطير الجارح وتختبئ في أحضان ليدا، وحين تبسط كنفها على الإوزة الفزعة، يتمكن منها جوبتر، وبعد تسعة أشهر وضعت ليدا بيضتين نفقت الأولى عن طفلين ادعيا النسبة إلى جوبتر، ونفقت الثانية عن اثنين آخرين انتسبا إلى تندارس.
ولم يكن هذا قاسياً أو ذاتياً، بقوله:" هذه محض حماقة أمية " وصب عليه الاتهامات الآتية " اختبار متهاون، تفكير سطحي، تحذلق متنطع، غمز غير غائي ". وكتب عنه ت. فايس مراجعة (يجب أن نقر بأنها كانت قاسية ذاتية) فأجاب عنها في العدد الثاني من المجلد الثالث من مجلة Quartely Review of Literature، وقد صعد به جوابه إلى ذروة الهستيريا وهو يصرخ " جهل " " تحقير دنيء " " لا يستطيع أن يفهم جملة واحدة " " تحريف وتشويه " " خيانة متعمدة " ثم ينهي ذلك كله بلطف قائلاً:" أما فايس فإنه غبي أحمق كذاب ". وهناك عبارة من ردود ونترز تستحق الاقتباس لما فيها من كشف وإيحاء وهذه هي:
" إن الأسباب التي تدعوني للرد عليه ثلاثة: أولها اعتقادي أن ما كتبته في كتابي هام، ولا أحب أن أرى إنتاجي محطاً للعبث والفوضى وثانيها أني اكسب معاشي من أني دارس، وسمعتي في مهنتي تتأذى من هذا الأمر، وثمة عدد قليل من أهل مهنتي؟ للأسف؟ وغالباً ما يكون من ذوي النفوذ، يؤمنون بالحرف المكتوب، وإنما أحكي هذا عن تجربة لا عن تخيل. وآخرها أن هناك كثيراً من هذا النوع من المراجعات رائجاً في هذه الأيام، ولابد من وسمه بحقيقته ليعرف أمره ".
في هذا الفزع الجلي المريع دلالة يمكن أن تفسر شخصية ونترز ونقده. وهذا النوع من القلق كامن؟ فيما يبدو؟ وراء مشروعاته الفخمة المزعومة التي لا يحقق منها شيئاً، وأحكامه الجارفة التي يرسلها دون أدنى شاهد، ويغيرها من سنة إلى أخرى، كامن أيضاً وراء أمور كثيرة منها: حاجته إلى أن يحدث تأثيراً بكل وسيلة، وتقسيمه الأدباء طبقات على حسب الاستحقاق تقسيماً تحكمياً، وحاجته الماسة إلى متملقين المأجورين، وتأثره العميق بأي نقد، وإلحاحه على هذه الدعائم الخارجية مثل " أخلاقي "
" منطقي "" عقلي "" نظام "" ضبط "" رجعية "، وشعوره بأن شعره لم يتذوق، وغضبته ومرارته وانعكاس ذاته على شعراء مغمورين لا يقبل عليهم أحد مثل جونز واليزابث داريوشس، وتفاخره بالجهالة، وتكلفه عامة وسوء أدبه وهراشه البذيء. وهذا النوع من القلق يزيد فيما قد يسمى " الشخصية الباروقية "(1) وهي تقع ككل " باروق " عموماً في نهاية الشوط حين تستنفذ كل الإمكانيات الفعالة وينجم عنها انحسار الاطمئنان، والشعور بالإخفاق فلا يبقى من وسيلة لمواجهة ذلك إلا زيادة المحسنات الفخمة الجسيمة. وكثير من المتعسفين في التقويم قبل ونترز، من رايمر ودنس حتى منكن وبوند باورقيون قلقون على هذا النحو تماماً مثلما هي حال الإنسانيين المحدثين المتصلين بونترز وبخاصة إيرفنج بابت من بينهم جميعاً.
وإذا فهمنا هذه الشخصية الباروقية، اتضح لنا كثير من آراء ونترز ومبادئه. فمثلاً: مما أسداه للنقد الحديث (وهو شيء ورثه من بابت ثم زاد فيه ونماه) مبدأ " بدعة الشكل المعبر " وتعريفه عنده أنه الاعتقاد بأن خير ما يعبر عن التفكك شكل مفكك مضطرب لا شكل منظم مرتب. وهو يرى ذلك ميزة بارزة للأدب الحديث وبخاصة عند اليوت وبوند وجويس، ويتتبعها إلى مبدأ كولردج المسمى " الشكل العضوي ". ولكن الأمر كما وضحه فايس وغيره وهو أن كلاً من اليوت وبوند وجويس ومن على شاكلتهم من الأدباء المحدثين لا يستعمل شكلاً فوضوياً مفككاً وإنما شكلاً يبدو فوضوياً مفككاً وينشأ عضوياً من طبيعة مادتهم ولكنه
(1) أنا مدين بفكرة " الشخصية الباروقية " وكثير من العناصر التي تتألف منها وبأشياء أخرى في هذا الكتاب لليونارد براون (ويمتاز الباورقي بأنه غير متزن، متأرجح بين الحيوانية والروحانية، تحفزه دوافع عنيفة، فتجذبه الشهوة حيناص كما يجتذبه الشعور بالموت حيناً آخر) .
منظم مرتب مدبر بعناية (ويقول إن لكتاب " يقظة فينيغان " من التنظيم ما تقف أمامه حائرين)، على وجه وإلى مدى لا يتطاول إليه الأدب المعاصر التقليدي بما في ذلك شعر ونترز نفسه. ويبدو أن مشكلة ونترز هنا هي: بما أنه هو نفسه يتطلب شكلاً مفروضاً عليه من الخارج ونظاماً يحمل عنه عبء شكوكه الذاتية وعبء مظاهره الباروقية، فإنه يعجز عن أن يتصور شكلاً مفروضاً من الداخل، ناشئاً طبيعياً وعضوياً من مادة الفنان.
وقد أدى ونترز أشياء ذات قيمة للنقد المعاصر منها بعض التحليلات الجيدة في العروض، وبعض القراءات والدراسات المتينة للبناء الشعري (وبخاصة في كتابه " تشريح الهراء "، وأخص منه ما قاله عن " قصة الجرة " Anecdate of the Jar لستيفنز، و " موت الأولاد الصغار " لتيت، وبيتين من قصيدة براوننج " سيراناده عند البيت الريفي ") ومنها أيضاً الإلحاح المفيد على القيمة الأدبية والخلقية للأشكال الشعرية والعلاقات بين المعتقدات والأشكال (مع أن كثيراً من تلك العلاقات والمميزات التي يذكرها بأعيانها موسوم بالحماقة) وأهم من ذلك كله أنه وحده حفظ الحياة على مهمة نقدية هامة هي " التقويم ". وقد تجيء تقويماته في مصطلح لا معنى له من ناحية سمانتية، وقد تكون متناقضة أو ذاتية محضاً، وغير محددة الدلالة مثل " عظيم "" فائق "" كبير "" يتيمة "" عاقل "" مصدع "" نقائض "" محدودية "" متمدن "" رائق "" الدرجة الأولى "" الدرجة الثانية ". وهو يقدم نتائجه وحدها، وغالباً يتقدم بها دون أي شهادة تقترب من السداد، وعلى نحو لا يمكن مجادلته فيه أو فهم ما يريد أن يقول. ومع ذلك كله فإنه يقوم بالتقويم والمقارنة والمقايسة والتدريج والترتيب والتصنيف، حين يكون أقيم النقد مقصور الهمة على التحليل والتفسير، وحين لا يجد القارئ أمامه إلا مراجع الصحيفة
ليسأله إن كان العمل الأدبي جيداً أو رديئاً (وكثيراً ما يضلل) . ويستطيع النقد أن يقتبس عن ونترز قوته وجرأته في التقويم، حين ينوي أن ينشئ ميزاناً أدق من ميزانه، مستنداً إلى ما هو ألزم للأدب من " العقلية " و " الأخلاقية " على أن يعطى القارئ من التقويم تحليلاً كاملاً ليعينه على اتخاذ أساس يضبط به القيم أو ليساعده على أن يضع تقويماً من عنده مؤيداً بالبرهان. أما المراحل الخمس التي يعدها ونترز مفضية إلى التقويم (انظر ما سبق) فهي أساس جيد لمثل هذا الإجراء، وقلما استفاد ونترز نفسه منها. فإذا اختبرتها بتسليطها عليه، كما حاولت هذه المقالة أن تفعل فإنها؟ أي تلك المراحل؟ تؤتي ثماراً جيدة. وعلى هذا نجد ونترز؟ " بحكم قاطع حاسم "(1) ذي حظ من التعسف والبذاءة، إلى حد يعجب ونترز لأنه تطبيق لطريقته؟ ناقداً بالغ الحد رداءة وإبراماً، لا يخلو من أهمية.
(1) أي يحكم عليه محتذياً طريقة ونترز نفسه في الحكم على الناس، وطريقته " قاطعة حاسمة ذات حظ من التعسف والبذاءة ".