الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
ادموند ولسن والترجمة في النقد
عندما تتسع الهوة بين الأدب الجدي وذوق جمهور القراء، يحظى ذلك الجزء من وظيفة الناقد، الذي يقتضيه أن يكون همزة الوصل بين العمل الغامض أو الصعب، وبين القارئ، بأهمية كبيرة. ولعل إدموند ولسن من السابقين عندنا في هذا المضمار، من تأويل محتوى الأدب أو " ترجمته ". وليس بمحض اتفاق، أن يكون ولسن من أوسع نقادنا شهرة، اللهم إلا إذا استثنينا فإن ويك بروكس (الذي راجت كتبه تجارياً)(1) . لقد جعل كبار المترجمين في العهد التيودوري كنوز الآداب الأخرى في متناول القراء، حينما نقلوها إلى اللغة الانجليزية. أما في يومنا هذا فثمة حاجة مشابهة إلى الترجمة، لا من لغة إلى أخرى وإنما في اللغة نفسها. وهذا على أهميته شيء يبعث على الاستغراب.
وقد وصف ولسن عمله بأنه: إمداد القصائد بالسيناريو (السياق) ؛ ومما لا شك فيه أن عدداً كبيراً من هذه (السيناريات) التي قدمها ولسن لا يقدر بثمن. ولا بد من أن يكون هناك نفر من الناس، مدينين لولسن، بأنه أوحى إليهم بأن جويس أو إليوت، يمكن أن يفهما وأنهما جديران بالقراءة في سبيل المتعة (كما أنه من المحتمل أن يكون كثيرون ممن يدينون
(1) راجع شرح ذلك في الفصل الرابع من هذا الكتاب.
له بتلك الملخصات التي تيسر لهم التظاهر بالمعرفة الأدبية دون ما اطلاع) . ولعل لكتابه الأول " قلعة أكسل " Axel " s Castle (1931) في زمننا من التأثير، في فتح حقبة جديدة كاملة في الأدب لجمهور كبير، ما يجعله ياتي في المرتبة الثانية بعد كتاب إليوت " الغابة المقدسة " The Sacred Wood. ويذكر " قلعة أكسل " بتلك الصفحات التي فسر فيها ولسن، تفسيراً دقيقاً ومستفيضاً، رموز قصيدة " اليباب " (1) The Waste Land لإليوت، وبتلك الصفحات الثلاثين المدهشة التي تلخص قصة بروست (2) الضخمة منظراً اثر منظر، وبالسرد المطول لحوادث كتاب " عولس " (3) Ulysses لجويس، وبما شابه ذلك من أعمال. وليس هناك من عنده مقدرة ولسن على إفهام القارئ الشادي لماذا ينادي عندليب إليوت " قق قق قق " أو ما أهمية أم ستيفن ديدالوس في قصة عولس، أو كيف أن الظهيرة في " المقبرة البحرية " Le Cimetère marin لفاليري، تمثل في وقت معاً: طبيعة لا عضوية، والمطلق في ذهن الشاعر كما تمثل عشرين سنة من عمره قضاها بلا عمل، ثم هي الظهيرة المحسوسة نفسها.
(1) كان لهذه القصة أثر كبير في الشعر الحديث. وهي تصور مشكلة الإنسان المعاصر الذي يبدو للشاعر تافهاً مشلول القوة محطم الإرادة، يعيش في عالم يستحق الفناء. وقد استعار الشاعر فكرة القصيدة من موضوع أسطورة أوردتها الآنسة جسي وستون في كتابها " من الشعائر إلى القصص الرومانسية " وقد حللها أحدنا، الدكتور إحسان عباس في كتابه " فن الشعر ".
(2)
هي قصة " البحث عن الزمن الضائع " Ala Recherche du Temps Perdu، وهي سلسلة من القصص تمتاز باتجاهها الميتافييقي، وخاصة فكرة الزمن الذي لا يعود، وبتعطيلاتها النفسية، وبتلك الصور الرائعة التي عرضها الكاتب عرضاً موضوعياً. ومما يزعج القارئ فيها أحياناً، ذلك التوفر على تحليل الشذوذ الجنسي.
(3)
قصة ملحمية للكاتب الارلندي جيمس جويس؛ وقد ظهرت في باريس سنة 1922. وفيها يقدم الكاتب صورة فذة جذابة لتاريخ يوم واحد من حياة ليوبولد بلوم وستيف يدالوس. وقد عرضها الكاتب بطريقة تيار الوعي والمونولوج الداخلي، ولم يراع قواعد الكتابة في الترقيم ولا قواعد فقه اللغة في استعمال الألفاظ. وتعد من اشهر القصص الحديثة، وأبعدها أثراً في التيار القصصي المعاصر. وقد كتبت عليها شروح كثيرة متضاربة.
ويكون شرح ولسن أحياناً تحليلاً رمزياً دقيقاً. وأحياناً تلخيصاً مباشراً لحبكة القصة، حادثة إثر حادثة كأنه تلخيص طلاب الجامعات. ويتضح ذلك في التلخيص الطويل لأوجين أونيغين (1) Yevgeni Onyegin و " دورة اللولب "(2) The Turn of the Screw في الفصلين المعقودين لبوشكين وجيمس في كتابه " الفنانون أو المفكرون كثيراً " The Triple Thinkers (1938) . ويبلغ شرحه أحياناً درجة فائقة من البراعة كما يتجلى في ترجمته لمسرحية " عربة التفاح " The Apple Cart لشو، إلى عبارات موسيقية. وأحياناً يكون مجرد محاولة تتجاوز حدود الإمكان، كمحاولته تركيز الجوهر النظري للتفكير الماركسي في فقرتين من كتابه " إلى محطة فنلندة " To the Finland Station (1940) . ولكن هذا الشرح يظل للقارئ الجاهل نسبياً على الأقل، في كل الأحوال، كثيراً بل ضرورياً في بعض الأحيان.
ويتجلى إبداع ولسن، عندما يكون " ناقداً ممهداً ". وهذا مصطلح عرفه جون ماسي بقوله:" إنه الناقد الذي يدعو الغرباء بسحره وبراعته إلى التعرف على رجل عظيم ". وهنالك عقبة تعترض سبيل الناقد الممهد، وهي أن قيمته تتضاءل بنسبة حظ جمهوره من المعرفة ومن الألفة بالأثر الذي يضطلع ببحثه، حتى إنها تكاد تتلاشى عند القارئ الذي يتمتع بحظ من الثقافة. ويدرك ولسن هذا جيداً، ولذا فقد جنح بكتابته عامداً إلى القارئ الجاهل، وظل دائماً يعتبر نفسه " مبسطاً " في المقام الأول. وكتب في مقالة تحدث فيها عن نفسه بعنوان " خواطر حول وضع فهارس
(1) مسرحية شعرية لبوشكين صور فيها المجتمع الروسي، وأقامها على فكرة وجود الخير في الإنسان بالفطرة، وبين اثر المجتمع في إفساده والعبث بمثله.
(2)
قصة أشباح لهنري جيمس، رواها جيمس من مذاكرات عانس كانت تعمل في شبابها مربية في ضيعة إنجليزية منعزلة. وكانت تؤمن بوجود الأشباح وبتأثيرها على البشر.
لدراستي " Thoughts on Being Bibliographed نشرت في عدد شباط (فبراير) 1944 من " حولية مكتبة جامعة برنستون "، الذي خصص لكتبه، وما كتب عنه ولدراسة آثاره، يقول:
" ومهما يكن من أمر، فإن أمام الصحفي الشاب سبيلين يجب أن يمهدا، الأول: فهم أحدث الأحداث الأدبية في العالم؟ جويس، إليوت، بروست
…
الخ؟ " التي لم تكن في متناول القراء الذي شب ذوقهم على كتاب " الانانيون " (1) Egoists وكتاب " جوهر الإبسنية " (2) The Quintessence of Ibsenism (3) ، وأن ينقل إلى عالم الفكر " البرجوازي " أحدث تطورات الماركسية، مما يتصل بالثورة الروسية. ولم أكن بطبيعة الحال الرجل الوحيد، أو أول من بسط أياً من الموضوعين، ولكنهما كانا الموضعين اللذين شغلا فكري اكثر من غيرهما، وكنت أشعر بأن ما أعمله يمت بعلاقة منطقية إلى أعمال الرجال الكبار الذين أعجبت بهم ".
(وعبارة " الرجال الكبار " تعني هنا شو ومنكن وهنكر، ولعلهم اشهر ثلاثة " مبسطين " في الجيل الذي سبق ولسن) . ويتكلم ولسن أحياناً باستخفاف عن تلخيصاته وشروحه. وعندما استعرض كتاب لوينل ترلنج عن " ماثيو آرنولد " Mathew Arnold في مجلة " الجمهورية الجديدة " The New Republic، علق على تلخيصات ترلنج لقصائد أرنولد ومقالاته بقوله:" إنها تظهر من حين لآخر بليدة إلى حد ما "، ثم أضاف مستدركاً: " وعلى كل حال فإن من تجشم كتابة مثل هذه (التلخيصات) ، يدرك
(1) لم اعثر على كتاب له مثل هذا الاسم في هذه الفترة سوى قصة لمردث نشرها سنة 1879 وهي تدور حول شخصية سير ولوباي بترن الأناني المتعجرف المغرور.
(2)
لاحظ إن ولسن ما يزال يكتب لهذه الفئة نفسها من القراء، على الرغم من أنها اختفت منذ عهد بعيد.
(3)
كتاب لبرنارد سو أصدره سنة 1891، وحلل فيه مسرحيات ابسن تحليلاً مفصلاً وشرح طريقته في بناء الشخصية وتركيب الحبكة، وابرز قيمته باعتباره رائداً للمسرح الأوربي الحديث.
مدى الصعوبة في محالة جعلها سائغة للقراءة ". بيد إنه يعلم جيداً أن تلخيصاته ضرورية كما لو كانت " برنامج أوبرا "، إذ أنه يكتب لجمهور لا يأبه بالثقافة.
ويمتلك ولسن كفايات عديدة تجعل منه مبسطاً بارعاً. فهو يكتب كتابة واضحة ومقروءة، ويستطيع أن يحول أكثر المواد غموضاً إلى جمل إنجليزية بسيطة مفهومة. وهو واسع الاطلاع، أو على الأقل له معرفة وثيقة بعدد من الوضوعات التي ترفد الأدب كالتاريخ والفلسفة وعلم النفس ثم الماركسية والتحليل النفسي بوجه خاص، وهما الموجهان الرئيسيان للفكر الأدبي العاصر. وهو إذا ما قورن بغيره من النقاد الأميركيين، يعتبر ذا تمكن فذ من اللغات، بما في ذلك اللاتينية واليونانية (ونراه أحياناً يثبت في مقالاته مقطوعات من سوفوكليس بلغتها الأصلية، وقد خاطر مرة فأخذ يصحح بعض ما ترجمه ايرفنج بابت عن اليونانية) ، والفرنسية والألمانية والروسية (وقد تعلم الأخيرتين في منتصف عمره لتعيناه في أبحاثه عن الماركسية) .
وهناك صفة أخرى لولسن، ولعلها أقل سحراً من غيرها، تجعل منه (مترجماً) ممتازاً للأدب، وهي استخدامه البارع لأبحاث الآخرين وملاحظاتهم الدقيقة دون أن يشير إلى ذلك أحياناً. ففي المادة التي كتبها عن جويس مثلاً في كتابيه " قلعة أكسل " و " الجرح والقوس " The Wound and the Bow (1941) ، اعتمد على معلومات استمدها من منابع مختلفة كتفسير ستيوارت جلبرت الموثق المعتمد، والسيرة التي كتبها هربرت غورمان ولقاء ماكس ايستمان الذي يثير الشك، ومن مجموعة من المقالات لعدد من الكتاب نشرت في مجلة " فترة الانتقال "(1) Transition بباريس تحت عنوان
(1) هي مجلة صغيرة صدرت في باريس سنة 1927 واستمرت حتى سنة 1938، وكانت غايتها إبراز المحاولات العالمية الجديدة في الإبداع. ومن أشهرها انشر فيها تلك الدراسات الأصيلة عن " يقظة فينيغان " التي اعتبرت فيما بعد وثائق لدراسة هذه القصة. وقد جمعت هذه المقالات في الكتاب الآنف الذكر، وطبعت في لندن سنة 1929.
Our Examination roud his Factification for Incamination of Wok in Progress وكثيراً غيرها. ويعترف ولسن بأنه استمد معرفته للماركسية من عدد من المعاصرين ومنهم " الثقات " كماكس ايستمان وسدني هوك ومارك ستار وماكس نوماد وهربرت رسمية. وقد استقى معلوماته عن الأدب الروسي من كتابي د. س. ميرسكي عن تاريخ هذا الأدب، ومن دراسته لبوشكين، ومن كتابي دي فوغي " القصة الروسية " Le Roman russe ومن كثير من تعليقات فلاديمير نابوكوف الخاصة، التي انفق في ترجمتها سنين عدة. (وربما كان ولسن مديناً لنابوكوف في تحليله للنغمة الموسيقية في إحدى قصائد بوشكين، هذا التحليل الذي ضمنه مقالة كتبها عن بوشكين ونشرها في مجلة " شهرية الأطلسي " Atlantic Monthly، وهو تحليل فذ مسهب لا يمثل طبيعة ولسن ولكن يبدو منه إنه يكشف عن معرفته الوثيقة باللغة الروسية من جهة، ويمثل طبيعة نابوكوف؟ من جهة أخرى؟ تمثيلاً دقيقاً) . وحقيقة الأمر، أن جميع مقالات ولسن تكاد تنم إفادته البارعة من مثل هذه التحليلات، التي يتناولها أحياناً بالإسهاب أو التنقيح، ويحورها أحيانا أخرى إلى مصطلح اكثر شيوعاً وتداولاً فحسب. إلى جانب ذلك يكاد يكون ولسن استقى ما يعنيه في نظريته النقدية من كل ناقد حديث مبدع؟ دون أن يغزو الفضل إلى ذويه غالباً؟ واستغل كثيراً من المصادر المتنوعة لتمده بالمعلومات الدقيقة المتخصصة (1) .
(1) إن نشر التهمة المباشرة بالسرقة النقدية وعدم الأمانة، أمر خطير، يعز إثباته. فقد علت مثلاً، مرات عديدة، من أفراد يتمتعون بمكانه تتيح لهم أن يعلموا، أن ثلاثة أبحاث كاملة على الأقل يقوم عليها معظم مادة " قلعة أكسل "، ظهرت في فرنسة في السنوات العشر التي سبقت نشر ذلك الكتاب. ولكن لم يحاول أحد أن يكتب عن ولسن متتبعاً ما لم يعترف به هذا الناقد من دين لهذه الأبحاث، ولكن لم يحاول أحد أن يكتب عن ولسن متتبعاً ما لم يعترف به هذا الناقد من دين لهذه الأبحاث، إن كان ثمة دين حقاً. وقد كاد ولم تروي، الذي يعني بالنقد المتصل بجويس عناية خاصة - حيث تجلت تلك السرقات واضحة - أن يوجه التهمة إلى نقاد أخر، توجيهاً رقيقاً في أحد أعداد مجلة " البارتزان " Partisan Review (عدد يوليو - اغسطس 1947) ، مشيراً إلى " جماعة أكاديمية جديدة من الباحثين " منهم هاري ليفن ورتشاد م. كين وسواهما، " ممن لا يحفلون بأمانة النقل ".
وإلى جانب علم ولسن وقدرته على الإفادة من علم الآخرين، فانه مؤهل أحسن تأهيل لذلك النوع من الترجمة والتفسير الذي يؤديه بما أوتي من ألمعية فائقة في النقد ومقدرة على إدراك العلاقات ثم استخراج التعميمات منها. والدلائل على مقدرته هذه في كتبه، أكثر من أن تحصى. ولكن إذا كانت القدرة على التنبؤ هي مقياس التحليل فمن الجدير بالملاحظة إن ولسن قد تنبأ بأحداث أدبية عدة، قدر بانها في جوهرها روائية، وأن إليوت سيتجه لا محالة إلى المسرحية الشعرية، باقل نتبؤاته شأناً (1) .
وعلى الرغم من هذه المؤهلات القوية للتفسير، يعاني ولسن من عدد من القيود والعوائق. واكبر هذه (ومما لا شك فيه أنها العامل الأول في نجاحه كمبسط، وفي الوقت نفسه أكبر مما يهدد جديته كناقد) نظرته الأساسية للأدب، إذ يراه ينقسم إلى عنصرين منفصلين تمام الانفصال، هما الشكل والمحتوى. كتب ديلمور شفارتز مقالة بعنوان " كتابة ادموندولسن " في مجلة " اكسنت " Accent (ربيع 1942) فعبر عن هذه الحقيقة (وهي أول شيء يلاحظه قارئ ولسن)، يتشبيه رائع حين قال: " إن الشكل الأدبي عند ولسن هو الورق الذي تلف به الهدية، ومن الضروري صرف بعض الوقت في نزع هذا الورق وحل العقد المستعصية
(1) عند دراسة ولسن لجون شتاينبك في كتابه: " الرجال في الغرفة الخلفية " The Boys in the back Room (1941) ، لاحظ أن شتاينبك يتجه إلى تمثيل الحياة الإنسانية " بمسميات حيوانية " وبذلك تنبأ ولسن تنبؤا فطناً بتطور صار اكثر وضوحاً في آثار شتاينبك اللاحقة. ولعل هذه حالة خاصة من التنبؤ لأن الاتجاه نفسه قوي جداً ي قصص ولسن وفي كتاباته، حتى ليجعل منه حجة موثوقاً في مثل هذه الظاهرة.
في الخيط الذي تربط به الهدية، ولكن الشيء الرئيسي هو الهدية التي تختفي في الداخل، أعني مادة الموضوع ".
والشعر، إذا نظرنا إليه من هذه الزاوية، لا يكون سوى جمل نثرية ضغطت في شكل معقد دون داع للتعقيد، وهذا هو على وجه الدقة ما يعنيه الشعر في نظر ولسن، فانه يكون في أسوأ حالاته عندما يتصدى لعالجته، ويبدو أنه يكرهه بوجه عام. وفي سنة 1929 أعلن ولسن أيها الشعراء " Poest، Farewell (" اترك لكم هذا اللون من الكلام يا من لهم السنة تنطق ") . ومع أنه نظم شعراً بعد ذلك الحين، غير أن ذلك، فيما يبدو، لم يكن سوى عمل عرضي متكلف.
ومنذ ظهور " قلعة أكسل " على الأقل، صرح ولسن بزوال الشعر أو فنائه، وذلك حين كتب يقول: إن الشخصية الشعرية في طريقها إلى التلاشي، وأن الشعر فن " اكثر بدائية واشد همجية من النثر ". وأن الشعر أو الأدب التخيلي، كما يقول قاليري، يقوم على التهاون بدقة اللغة، وسيستبدل، لا محالة، الأستعمال الصحيح للغة وهو الأداء العلمي. ومنذ ذلك الحين ظل يطعن في الشعر في مراجعاته ومقالاته وكتبه، ولا سيما في ذلك الفصل الذي دعاه " هل الشعر فن في طور الاحتضار "؟ في كتابه " الفنانون أو المفكرون كثيراً ".
وليس هناك من فائدة ترتجى في تفنيد حجج ولسن التي تتعلق بتأبينه للشعر، سوى القول فيها بأنها حجج تستند إلى عدد من التعريفات المجحفة التي أعيد بها تحديد مصطلحات " الشعر " و " النثر " و " العلم "، ويبلغ من إجحافه أنها إذا أخذت بالتسليم أصبحت مناقشتها عبثاً لا طائل وراءه وحار الشعر من جرائها إلى مرتبة أشغال الزركشية والتخريم. والحقيقة أن ولسن يزعم أن أحسن النثر الحديث هو الشعر أو ما جرت العادة بتسميته
شعراً، وأن فلوبير " يمثل كيف انتزع النثر عامداً واعياً من الأسلوب الشعري خصائصه التي كان يتميز باستخدامها في التعبير عن الموضوعات الإنسانية الكبرى أعني خصائص الرقة والدقة والإيجاز البليغ ".
ويحلل ولسن الشعر ويتصدى للحكم عليه بطريقة غثة هزيلة، غير أنه يحاول أن يتحاشى هذه المهمة ما وجد إلى ذلك سبيلا. ومما هو جدير بالملاحظة إنه في التمهيد النقدي الذي كتبه على أنشودة مالرميه " قبر إدجار ألان بو " Le Tombeau d " Edgar Poe البالغة حداً كبيراً من الغموض، وهي أنشودة أوردها في مختاراته التي دعاها " هزة التعرف " The Shock of Recognition (1943) ، أعاد نشر تعليق روجر فراي عليها، بدلاً من أن يدرسها بنفسه، ومن المؤكد أن مثل هذا يعتبر تقاعساً لا مثيل له، حين يبدر من ناقد محترف. ويبدو هذا العجز في معالجة الشعر، بوجه خاص، في بحثه الذي نشره عن الكتاب الأميركيين المعاصرين في مجلة " الجمهور الجديدة " سنة 1926. ومع أن أحكامه على النثر، ما تزال صالحة على الرغم من مضي عقدين من الزمن عليها (كان يشعر باهتمام بالغ نحو دوس باسوس، وفتزجرالد، شأننا نحن اليوم، مهملاً العمالقة المعاصرين أمثال لويس وهيرغيشايمر وكابل وكارثر) ، فإن احكامه على الشعر كات غاية في السخف؛ (فهو يرى مثلاً أن آثار ماريان مور، " قل أن تثبت عند الامتحان كقصائد ". وأن ولاس ستيفنز، يمتلك، " موهبة فذة في استعمال الألفاظ استعمالاً تافهاً
…
وأنه فنان مزخرف برع ". أما وليم كارلوس وليمز " فلم استطع أن أومن به أبداً " وهكذا) .
وهنالك عدد آخر من العوامل التي تحد من مقدرة ولسن في التبسيط. فهو لا يستطيع أن ينظم حبكه ملخصاته ومختصراته في مقالاته، تنظيماً متقناً، ولذا فعمله ينضح بالاستطراد المموج وبالحشو. كقوله مثلاً:" في ذلك الجزء من الكتاب موضوع بحثنا " وقوله: " في ذلك الجزء
الذي تصديت لبحثه آنفاً " وقوله: " أولاً، وعلى كل حال، يمكننا أن نقف برهة لنفحص
…
" (وهذه الجمل لثلاث وردت كلها في صفحة واحدة) . وكقوله: " ومهما يكن من أمر، لنعد إلى القصة حيث تركناها " (وهذا شيء مألوف من الملخص) وقوله:" لنمسك بالقصة من بدايتها " وهكذا. وكثيراً ما تصبح تبسيطاته سوقية وتنحدر تفسيراته إلى حضيض الابتذال. ويفقد كتاب " قلعة أكسل "، كما ذكر مالكولم كولي، كثيراً من قيمته لأن ولسن يخلط بين الرمزية كأسلوب أدبي، والرمزية كطريقة في الحياة، ويعتبرها شيئاً واحداً. وقد أدى به ذلك في الخاتمة، إلى عاقبة وخيمة، فتردى في هوة الأسفاف بقوله: إن الكتاب الذين تولى دراسة آثارهم، قد اختاروا بوجه عام طريق أكسل، فتعهدوا أوهامهم الذاتية، عوضاً عن العيش في العالم الواقعي، بينما كان جل ما يستطيع أن يقوله فيهم، هو أن كتاباتهم غامضة، كما يتضح من مثال ييتس على الأقل. (ويتجلى هذا التبسيط المسرف وهذه السفسطة المحيرة ذات الوجهين بصورة خاصة في كتابه " إلى محطة فنلندة " الذي ترى فيه أحياناً شيئاً من طبيعة كتاب " البواتق " أو كتاب " صائدو المكروب " حتى ليوحي لك بأن من الممكن أن تسميه " الرجال الذين صنعوا ماركسيتنا "، وأن يباع من ثمة إلى " الرابطة الأدبية الصغرى (1)" Junior Literary Guild. ولعل النقد الأول الذي يمكن أن يوجه إلى كتاب " قلعة أكسل " مثلاً، أنه على الرغم من أن الغاية منه كانت الهجوم على أدباء مدرسة ما بعد الرمزية باعتبار أنها نهاية أدبية فانية، ثم التخلص منهم في الفصل الأخير في سبيل البلوغ إلى كتابة اجتماعية جديدة ملتزمة، فإن نغمته كانت تنضح بالاستحسان حتى أنها كانت " المرشد " إلى فهم أولئك الأدباء، أي كانت عملية
(1) أحد نوادي القراءة في أميركة. وكان يوزع الكتب البسطة في مختلف الموضوعات على أعضاء، لقاء اشتراك سنوي.
نقد تمهيدي يتقبل الأثر الأدبي وهو يريد يهاجمه. ومما لا شك فيه إنه من البراعة بمكان، أن يكون الناقد مع الأثر الفني وعليه في الوقت نفسه، وهي غاية قل من النقاد من أدركها
…
وعند ولسن إلى جانب هذه الرغبة الجارفة في التبسيط، ضعف أصيل في الذوق، (يتجلى واضحاً في موقفه من بو) فقد كتب هنري جيمس، بتبصر بالغ الحد من الدقة يقول:" أن التحمس لبو، أمارة قاطعة على مرحلة من التأمل البدائي ". ومع ذلك وضع ولسن نفسه منذ زمن بعيد، في طليعة المتحمسين لبو في عصرنا هذا. ودأب على الإشادة الصارخة بذكره، في كتاباته، منذ ظهور قصته " كنت أفكر في ديزي " I Thought of Daisy (1929) . ولما أن راجع كتاب " عالم واشنطون ابرفنج) The Word of Washington Irving، لفان ويك بروكس، جعل من تحمس بروكس لبو إحدى البينات الساطعة على قيمة الكتاب. وهو يرى أن لبو ذهنا من الطراز الأزل " كسهم لامع وضاء "، وأنه ليس من عصبة أ. هنري وس. س. فإن دين، وإنما هو ن الرهط " ذوي العقول الكبيرة الفاحصة المتعددة الجوانب كغوته ". بل أن نقد بو هو اشهر نقد أنتجته الولايات المتحدة، وأن بو نفسه " أمير ".
قد يكون احترام ولسن الشديد لبو شذوذاً يمكن التجاوز عنه، أو لعلنا نتساهل ونعتبره نوعاً من المماثلة الشخصية لو اقتصر على بو وحده، ولكنه يزداد أهمية عندما يصاحبه احترام مماثل لكتاب من أمثال منكن (الذي اعترف بمحاكاته) وأدنا سنت فنسنت ميلي (وهي " من هذه القلة من شعراء الإنكليزية المفلقين الذين ما زالوا على قيد الحياة ". وهي ثالث ثلاثة من الشعراء المعاصرين الذي قد يخلدون باعتبار أنهم. شعراء من الطراز الأول. أما الاثنان الآخران فهما روبنصون وإليوت) وقد أشار ديلمور شفارتز إلى " عطف " ولسن الخاص على مؤلفين من أمثال
ميلي وثورنتون ويلدر وفان ويك بروكس في دوره الأخيرة، وماكس ايستمان وهنري ميلر، فقال أن ذلك مهم، وخاصة إذا قوبل " بعدم اكتراثه أو كرهه " لرجال من امثال جيد وكافكا ومان وريلكه. وكلا القائمتين، يمكن أن يزاد إليها أسماء أخرى. ويدعو شفارتز ذلك، على سبيل المجاملة " افتقاراً إلى السبق النقدي "، ولكنه فيما يبدو، ضحالة متأصلة. أن الرجل الذي يكتب عن قصيدة " قبلاي خان "(1) Kubla Khan فيصفها بأنها قصيدة فارغة تافهة هو بكل بساطة، إنسان يعاني من خلل في الإحسساس.
والنتيجة أن ولسن لا يستطيع أن يتتبع الأشياء إلى نهايتها أو لا يرغب في ذلك، والفقرة التالية من " قلعة أكسل " مثل نموذجي على تهربه وإحجامه:" وطبيعي أن يقودنا هذا البحث، إذا ما استقصيناه، إلى طبيعة اللغة نفسها ومن ثم إلى مجاهل علم النفس البشري، وإلى ما نعنيه حين نتحدث عن أشياء " كالعقل " و " العاطفة " و " الإحساس " و " والخيال "، وهذا يدب أن يترك للفلاسفة "
…
قول غريب حقاً، فإن هذه الأشياء عينها هي التي لا يمكن للناقد في زمننا أن يتركها للفلاسفة، وإنما يجب أن يشغل بها نفسه إلى أقصى حدود طاقته، إذ أنها تعتبر حجر الزاوية في أي بحث جدي للأدب. وأن أحجام ولسن عن الغوص فيها ليس سوى دليل آخر على أن محاولة تفسير الروائع الأدبية و " ترجمتها " وتعميمها، دون الاعتماد على دعامة ما سوى القراءة الدقيقة والانتخاب، لا تؤدي في أحسن حالاتها إلا إلى ومضات من الفراسة، وفي أسوأ حالاتها تؤدي إلى نوع مهلهل من التبسيط، مثل " خلاصة مائة من روائع الكتب " 100 Great Books Digested.
(1) قصيدة لكولردج، يقول إنه نظمها أثناء نومه، أو أثناء وقوعه تحت تأثير الأفيون، عقب قراءته لرقصة عن قبلاي خان والقصر الذي أمر بتشييده.
2 -
ليس كتاب " الجرح والقوس "، بأجود كتب ولسن، ولا أكثرها دلالة عليه، ولكنه افضلها حين يدرس من حيث المنهج، نه يمثل نهاية عملية " الترجمة " عنده. وهو زيادة على ذلك، اكثر كتبه التزاماً بنظرية أدبية. (بينما يقوم " قلعة أكسل " على أساس القياسات الخاطئة بين أكسل ورومبو، " والفنانون أو المفكرون كثيراً " حول مفهوم فلوبير لوظيفة الفنان الإلهية، و " إلى محطة فنلندة " حول طبيعة التاريخ و " الرجال في الغرفة الخلفية " حول جغرافية كاليفورنية) وفي " الجرح والوقس " تبلغ جميع اتجاهات ولسن حد الأثمار. فمن بين المقالات السبع التي يضمها الكتاب، تدور أربع حول كتاب قصصين هم؟ ديكنز وكبلنج وادث وارتون وهمنجوي؟ وواحدة حول كاتب مذكرات، وهو كازانوفا. وتعالج اثنتان نوعاً معيناً من الأعمال الفنية، وهما " يقظة فينيغان " Finnegan " s Wake لجيمس جويس، ومأساة " فيلوكتيتس " Philoctetes لسوفوكليس. وهكذا نجد تدرجاً محدد المعالم عند ولسن في نظرته إلى الشعر ابتداءً من " قلعة أكسل " الذي شغل فيه الحديث عن الشعر والشعراء نصفه على الأقل، ثم يتضاءل حظ الشعر في كتاب " الفنانون أو المفكرون كثيراً " فإذا هو بالنسبة للمحتوى كله أقل من الثلث، وينتهي الأمر في كتاب " الجرح والقوس " إلى إزراء بالشعر يطرحه إطلاقاً. وفضلاً عن ذلك فإن الفصلين الأولين الطويلين عن ديكنز وكبلنج اللذين يستغرقان ثلثي الكتاب، ربما كانا افضل مجال ممكن، برجل تخصص في التلخيص وفي إيجاز حبكات القصص.
وهدف ولسن الأول في هذين الفصلين، إذا ضربنا صفحاً عن تلخيص عقد القصص، هو البرهان على أن ديكنز وكبلنج كاتبان جديان ومعذبان.
فديكنز " هو اعظم كاتب إنجليزي في زمنه، ولا يشق له غبار ". وكبلنج " هو أحد المبدعين الأصليين القلائل في عصره ". وأسلوب ولسن في بلوغ هذا الهدف غاية في البراعة: فقد كتب في الفصل الذي عقده لديكنز، بحثاً تمهيدياً عن أهمية ديكنز الأدبية (" أنه أستاذ دستويفسكي " الخ..) ثم عرض لطرف من حياة ديكنز مع التأكيد على ما مر به من تجارب مؤلمة، من فقر عائلته وشغله في معمل الدهان الأسود. ثم أعقب ذلك بدراسة تفصيلية لقصصه مع الإشارة الدائمة إلى سيرة حياته. وأخيراً أنهى الفصل بتلخيص وشرح لقصته " لغز إدون درود " The Mystery of Edwin Drood، تلك القصة التي اختارها لتمثيل شخصية ديكنز المزدوجة التي تعكسها في القصة شخصيتا " سكروج " ممثلتين في جون جاسبر. وهكذا يظهر الشرح أن آثار ديكنز تبدو غامضة (أي " عميقة ") ، وموحية بحقائق نفسية أساسية (أي " بعيدة الغور ") ، ويبين عن أهمية ككاتب كبير، دون أن يتعارض ذلك مع سهولة قراءة آثاره. وقد وفق في اختياره قصة " ادون درود؟ وهي قصة لم تكتمل وتبدو غامضة إلى حد ما -، مثلاً رائعاً على هذه الوظيفة المعقدة. ولكن مما لا شك فيه أنه لو بذلت جهود أشق من هذه، بعض الشيء، لأمكن الخروج بنتائج مماثلة من كتب ديكنز، أو من أي كتب أخرى.
ومما هوة جدير بالملاحظة، أن ولسن ما يزال يعنى بعلم النفس وعلم الأجتماع، إلى حد يؤدي به إلى استعمال بعض النظرات الغريبة. مثل قوله: إن سكروج هو " ضحية عهد ملتاث تنتابه السوداوية ". وأن الفكرة النهائية التي تستخلص من كتاب " صديقنا المشترك " Oue Mutual Friend (" لنتكلم باللغة الماركسية ") هي أن " ممثلي الطبقات المهنية العليا القديمة الذين نبذتهم طبقتهم، يمكن أن يتحدوا مع طبقة البروليتارية ضد الطبقة
الوسطى التجارية "؟ ولكن يبدو أن طريقته تتدرج باطراد، نحو الترجمة المباشرة. (وبهذه المناسبة، ربما كان ثناء ولسن المدهش؟ بعض الشيء؟ على النقد المباشر الذي كتبه ت. أ. جاكسون الماركسي عن ديكنز، غير صادر عن احترامه لوجهة نظره السياسية، بقدر ما هو وليد مجاملة من كاتب تلخيصات لزميل له، إذ أن 143 صفحة من كتاب جاكسون، على صغر حجمه، خصصت لتلخيص عقد القصص، ومنها أربعون صفحة لخصت فيها قصة " صديقنا المشترك ") .
والبحث الذي كتبه عن كبلنج، شبيه بذاك الذي كتبه عن ديكنز. فهو يحلل فيه كسوف شهرة كبلنج، ويعرض لحياته المبكرة، مع النص الخاص على التجربة المؤلمة التي مر بها في مرحلة الطفولة، حين هجره أبواه، والانهيار الذي مني به إثر ذلك. ثم يتناول كتابيه، " ستوكي وشركاه " Stalky and Co.، و " كيم " Kim، بالدراسة المفصلة. وينفق سائر الفصل في التحدث عن حياة كبلنج في طور النضج، وعن أفكاره وكتاباته، وينوه خاصة بالخيبة التي أصابته عقب تجربته الأميركية، متخذاً تلك التجربة مفتاحاً لتفسير نزعته الاستعمارية المريرة فيما بعد. وهذه الدراسة أوضح في اتجاهها النفسي من تلك التي خص بها ديكنز. وقد كان هم ولسن الأول فيها، الكشف عن العصابات الذي كان كبلنج يشكو منه، أي تذكره وهو المستضعف المدفع لما كان يلقاه من عسف الأقوياء، مما أدى به إلى الاستقواء الشرير والحقد على الضعفاء والمغلبين، ومقت الأجانب والزنوج واليهود، والديموقراطية نفسها. وهنا أيضاً يحاول ولسن أن يعرض موضوعه عرض مؤلف يتمتع بالقدرة الفائقة والأهمية. وإذا كان هذا يسوقه أحياناً إلى مضحكات لا يستشعرها كما يتضح من زعمه أن قصص كبلنج هي منبع الأقاصيص تتسع مسافة الخلف فيما بينها مثلما تتسع بين حكايات رنج لاردنر عن البيسبول وقصة السايكلوبس في
" عولس "(1) فانه من ناحية أخرى قد تؤدي به إلى أوثق ربط بين آثار المؤلف وبين حياته. ذلك أنه في هذا المقام يعتبر الكتب، المفتاح الأول لشخصية الرجل، بدلاً من أن يكون الأمر على عكس ذلك (وذلك ما يضعنا في النهاية وجهاً لوجه أمام قضية تاريخية، لا قضية من قضايا النقد) ، ولكن لا شك في أن الرجل نفسه، يتمتع بأهمية فائقة حين يمثل النهاية القصوى في انحراف أدبي.
وتسير الفصول القصيرة في الكتاب، على المنهج نفسه دون داع للإسراف في التقدير المغرق. فالفصل الذي عقده لكازانوفا، فصل تقييمي قصير، يشبه فصول فرجينيا ولف، وأن كان قد كتب بمهارة أقل. وهو يعيد سرد بعض الأحداث التي وردت في المذاكرات، ويقدم لنا كازانوفا، على أنه روسو جديد، ولكنه يفوقه جاذبية. والفصل الذي عنوانه " إنصاف ادث وارتون "، هو فصل تقييمي قصير آخر وفيه خلاصات لعدد من كتبها، وثناء معتدل عليها، وإشارة إلى أن كتاباتها منبثقة عن الأضطرابات العقلية التي اكتوت بنارها هو وزوجها. أما الفصل الخاص بهنجوي، فهو سلسة من الشروح القصيرة لقصصه وكتبه الواحد تلو الآخر، وهي شروح تجنح إلى الضحالة. وليس فيه عدا ذلك سوى إشارة إلى " الجرح "، ي إلى العداء المتزايد للمرأة في كتاباته، إلى جانب تذييل أفرط فيه في تقدير قصة " لمن تدق الأجراس " To Whom the Bell Tols حيث نزع همنجوي " رداءة الستاليني " نزعاً كاملاً. أما الفصل الذي عنوانه " حلم هـ؟؟. ش. ايرويكر " فهو تلخيص تفسيري لقصة " يقظة فينغان "، وهو يعتبر مفصلاً تفصيلاً كاملاً، بالنسبة للزمن الذي كتب فيه (تواً إثر نشر
(1) اشتهر الكاتب الأميركي لاردنر (1885 - 1933) ، بقصصه التي كتبها عن الألعاب الرياضية وخاصة البيسبول. وتمتاز هذه القصص بالسخرية اللاذعة وبالفكاهة التي تقوم على تمثيل اللهجات المحلية المختلفة. والسايكلوبس جيل من المردة ورد ذكرهم في أساطير الإغريق، وكانوا يسكنون جزيرة صقلية. ولكل منهم عين واحدة في جبهته.
الكاتب) ، ولكنه بطبيعة الحال لا يعتبر كاملاً إذا ما قيس بتلك التفسيرات التي ظهرت منذ ذلك الحين. ويعتمد ولسن فيما كتب على المقالات التي ظهرت في مجلة " فترة الانتقال " Transition (وهو يعترف بأنه يشك في " إمكان فهم الكتاب دون الاعتماد عليها ") . وفي تحليله المسهب، لقطعة معقدة عن عمى سويفت (يبدو أنها حذفت من المسودة الأخيرة للكاتب) اعتمد على شرح روبرت ماك المونز وقال عنه " إنني اعتبره ثقة على كل حال ".
أما الفصل الأخير الذي كتبه ولسن عن مسرحية فيلوكتيتس لسوفوكليس، فقد رمى فيه إلى أن يجعل الكتاب كلاً متكاملاً، وأن يقرر فيه أحداث نظرية أدبية له. لقد كتب ماثيو آرنولد في الثناء على أحد النقاد، عبارة يمكن أن تطبق على ولسن في دراسته لسوفوكليس، قال:" إن نحل نقدنا الإنجليزي لا يحوم بعيداً لجمع عسله، وهذا الناقد جدير بالثناء، لأنه طار إلى أرجاء غريبة في بحثه عن الأزهار ولأنه وقع على زهرة جميلة وجدها هنالك ". ويدرس ولسن مسرحية سوفوكليس، وغيرها من الآثار التي دارت حول أسطورة فيلوكتيتس، ويدرس أثناء ذلك الأسطورة وإمكاناتها في المجال الفني، حيث ترتبط القوة الفائقة أبداً بشيء من العجز. (ومن الجدير بالملاحظة أن ولسن يرى أن سوفوكليس يعرض علينا ذاته في فيلوكتيتس، وزاد على ذلك أن شخصية فيلوكتيتس كثيراً ما استعرت انتباه المصابين بالاضطراب النفسي، ومنهم جيد، وجون جي شابمان، ولام، وربما ولسن نفسه الذي يبدو أنه مفتون بهذه الشخصية، منذ سنوات عدة) .
ويفتقر كتاب " الجرح والقوس " إلى فصل أخير، يعقد للشرح ويكون بمثابة تكلمة له، توضح معنى استعارة (الجرح والقوس) وتلخص ما بدا منها في آثار هؤلاء الكتاب. وبغير هذا الفصل يكون الكتاب إلى
حد ما نوعاً من التدليس، إذ أن ولسن في كثير من الحالات، يلمح إلى " الجرح " تلميحاً فقط، ويترك للقارئ استخراج الحقائق والاستنتاجات إلا أن الإشكال في هذه الطريقة، إن لكل كاتب (وغير كاتب)" جرحاً " من نوع ما، وكتاب جونسن " حياة الشعراء "(1) The lives of the poets مثلا، يمكن أن يسمى بحق " الجرح والقوس "، إذ أن القارئ يستطيع أن يضيف " جرحا " إلى كل من الموضوعات التي يحتويها الكتاب، مستخلصا ذلك من المعلومات التي يقدمها له في بعض الأحيان، ثم يؤول " أقواسهم " أو فنهم وفقا لذلك. هذا بينما مطلوب حقا، هو تبيان كيف ولماذا ينتهي مثل هذا (الجرح) المعين إلى ذلك (الفن) المعين. وقد فعل ولسن هذا العمل البالغ الدقة في الفصلين اللذين كتبهما عن ديكنز وكبلنج، ولكنه ترك للقارئ أن يستنتج في الفصلين اعتمادا على الأدلة التي بثت في الفصل، أو حتى من معلوماته الخاصة، مدلول " ما ورثه كازانوفا من الفساد الخلقي "، أو ما أصاب مسز وارتون من الانهيار العصبي، ومشكلة همنجوي وهي " رجال بلا نساء " وعمى جويس ومنفاه وعذاب سوفوكليس في الحب (وهذا شيء اعتمد فيه ولسن، على الإشارة المشهورة التي وردت في " جمهورية " أفلاطون)(2) .
وسنتناول بالبحث أهمية هذه النظرية وإمكاناتها فيما بعد، ولكن يجب أن نشير هنا إلى أنها ليست عند ولسن، فقد وجد شفارتز
(1) مجموعة من تراجم الشعراء الإنجليز، أعدها جونسن لتكون مقدمات لسلسلة من دواوينهم اضطلع بنشرها أحد الوارقين في لندن. وهي تضم 52 شاعرا، وكل ترجمة منها تشمل حديثا عن حياة الشاعر وشخصيته ومكانته الشعرية.
(2)
وردت هذه الإشارة في الكتاب الأول، ونصها:
" والواقع خلاف ذلك كما أكد لي كثيرون من الشيوخ. أخص بالذكر منهم صفوكليس الشاعر، فإنه لما سئل في حضرتي: ما هو شعورك بلذائذ الغرام يا صفوكليس؟ أقادر أنت على التمتع بها؟ أجاب السائل قائلا: يا صاح، يسرني أني نجوت من تلك اللذات نجاتي من سيد غضوب "(ترجمة حنا خباز: ص 5 - ط المقتطف 1929) .
إنها الموضوع الأساسي في " كنت أفكر في ديزي "، وهو اعتبار النقص في رجال الفن، شيئا لا ينفصل عن فنهم. ومما لا شك فيه أنها تبدو جلية في كتاباته النقدية، منذ أصدر " قلعة أكسل "، حيث بين أن موسيقى جويس اللفظية الرائعة هي التعويض الموازي لكلال بصره، وإن قصة بروست نتيجة لآلامه الجسمية والنفسية (ومع أن " جرح " بروست الرئيسي هو الشذوذ الجنسي، فقد تجاهله ولسن براعة) . أما كتاب " إلى محطة فنلندة " فإنه الأكثر مسخ مضحك للمبدأ الماركسي، وكثيرا ما كانت الماركسية في نظره، نتيجة لما مني به ماركس من أرق وبثور وزكام وروماتزم ووجع في الأضراس وصداع وتضخم في الكبد، وإمساك، دع ذكر الزهري عند لاسال والعنة عند باكونين. (وقد كتب ماركس ذات مرة لانجلز يقول: أرجو أن يجد البرجوازيون، ما داموا في قيد الحياة، سببا يذكرهم بما أنا مصاب به من البثور. وها هو برجوازي واحد على الأقل لم ينس ذلك أبدا) .
3
- وتعتبر كتابات ولسن اتباعية، بينما نجد معظم النقد المعاصر على غير ذلك. ولعل التفسير أو " الترجمة " كانت الوظيفة الرئيسية للنقد منذ القدم، بعد " التقييم ". وقد أقر الإغريق علم التأويل، وأطلقوا عليه اسم Hermeneutics، وكان شرح المتون هو التطبيق العملي له. وقد تمرس انكساغوراس، قبل أرسطو طاليس بأكثر من قرن، بنقد تفسيري، بل رمزي، يشبه نقد ولسن إلى حد كبير، وذلك حين حلل خيال هوميرس وفسر سهام أبولو بأنها رمز لأشعة الشمس ونسيج بنيلوب على أنه خطوات القياس المنطقي. ويسرد لنا سينتسبري (1) قائمة بأسماء الإغريق
(1) ذكر سينتسبري ذلك في كتابه:
A History of Criticism and Literaty Tast in Europe (Vol. 1 p. 11 ff.) .
الأوائل الذين تمرسوا بتفسير هوميرس ومنهم انكسماندر وستسمبرتس وغلوكس أو غلوكون. إن تفسير تلك الشخصيات الإغريقية الخرافية من أمثال هرقل وثيسيوس، على أنها رموز للفضيلة قد حاوله السفسطائيون وطوروه، واستغله الرواقيون المتأخرون إلى أبعد بهد، وكان من الطبيعي، بانتشار المسيحية، أن تطبق هذه الأساليب نفسها على الكتاب المقدس، الذي كان بعد هوميرس والأساطير، الموضوع الرئيسي للتفسير. وقد تمرس فيلون اليهودي بالترجمة الرمزية الأولى للعهد القديم. وبفضل دفاع القديس اوغسطين القوي عن هذه الطريقة، أصبحت الشخوص والقصص في التوراة، تدريجا، رموزا مقبولة لأنواع الفضائل الإنسانية والصراع الخلقي.
وفي القرن السادس ترجم فلغنتيوس " الانيادة " Aeneid على أنها رمز للنفس الإنسانية. وقد ظلت هذه الطريقة، متبعة في تفسير الأدب الديني والدنيوي طوال العصور الوسطى. وقد نسب غريغوريوس الكبير إلى الكتاب المقدس ثلاث طبقات من المعاني: المعنى الحرفي أو التاريخي، والرمزي أو النموذجي، والمجازي أو الأخلاقي. وزاد المتأخرون من علماء اللاهوت طبقة رابعة هي المعنى الباطني أو الصوفي. (وقد ادعى دانتي جميع هذه المعاني للمهزلة الإنسانية) . واستمر مرير التفسير الرمزي، دون أن يضعف، حتى نهاية عصر النهضة تقريبا، إذ نرى أن بترارك مثلا ما يزال يقرأ " الانيادة " على أنها خرافة أخلاقية ذات مغزى، وتاسو يفسر شعره الملحمي الرومانتيكي تفسيرا رمزيا، وسير جون هارنغتون يحاول في المقدمة التي كتبها لترجمته لكتاب اورلاندو فوريوزو (1) أن يقرب طبقات غريغوريوس الثلاث، إلى المفهوم الإنجليزي. وقد تلقى التفسير
(1) ملحمة رومانسية من نظم أريوستو لم يتقيد فيها ناظمها بقواعد الملحمة كما وصفها أرسطو طاليس فموضوعها غير تاريخي وحبكاتها متعددة.
الرمزي الأخلاقي جرحا رغيبا مميتا من بيكون حبن أشار في كتابه " تقدم العلم " The Advancement of Learning، إلى أن المؤلفات تكتب أولا ثم يضاف إليها المعنى عقب ذلك. ثم ألقى به جونسون في غيابة القبر حين بعث الحياة في النظرية الأرسطو طاليسية، التي ترى الفن محاكاة للطبيعة (1) ، ومن ثم تعده؟ نسبيا؟ غاية في ذاته.
وبطبيعة الحال استمر التفسير الرمزي على صور أخرى، وما زال استنباط المعاني المتعددة للنص الواحد ماثلا إلى يومنا هذا في نقد الكتاب المقدس وفي الدراسات الدانتية، وما إلى ذلك، وكن اعمل الرئيسي للنقد التفسيري اقتصر في أيامنا هذه على شرح ما استغلق من المعاني، وتقريبها إلى الإفهام. وقد زاول كل ناقد، منذ عصر النهضة، مثل هذا العمل إلى حد ما ولكن ليس هناك ناقد واحد وقف عليه جهده وتخلى بسببه عن نواحي أخرى من النشاط. وعندما ترجم دريدن آثار شوسر إلى إنجليزية عصره، محتجا بأن " الهدف الأول للأديب أن يكون مفهوما "، كان يتمرس بنوع من النقد زاوله ولسن فيما بعد، عند درسته لجويس على نحو أقل تشددا. وعندما جاء بلزاك بعد قرن ونصف القرن، ووقف أكثر من نصف دراسته المطولة عن " دير بارم "(2)
(1) ما تزال فكرة المحاكاة التي جعلها أرسطو طاليس جوهر العمل الفني، موضوع خصومة بين النقاد. وقد أساء بعضهم وذهبوا في تأويلها مذاهب شتى لم تخطر لأرسطو طاليس على بال. فأرسطو طاليس لم يقصد بالمحاكاة المعنى الحرفي لها، أي تقليد الطبيعة ونسخها، بل أراد إعادة إخراجها على صورة جديدة تكشف عن تأثر المتفنن بها. ولم يقصد بالطبيعة، الطبيعة الجامدة فحسب كما يظن بعض النقاد اليوم، بل توسع في معناها فجعلها تشمل الواقع الإنساني والنفس الإنسانية إلى جانب مشاهد الطبيعة بمعناها الشائع.
(2)
قصة للكتاب الفرنسي ستندل، كتبها سنة 1830 وترجمها للعربية الأستاذ عبد الحميد الدواخلي في سلسلة " الكاتب المصري ". وقد تحمس لها بلزاك وكتب عنها دراسة طويلة نادى به فيها أستاذا من أساتذة الفن القصصي، وكان بهاذ يتحدى آراء معاصريه أمثال هوغو وديفيني وميريمي الذين كان رأيهم في الكاتب غير حميد.
The Charterhouse of Parma على تلخيص الحبكة تلخيصا مسرفا، كان يقوم بالدور نفسه الذي اضطلع به ولسن عندما درس بروست. وقد كانت الدراسات الشيكسبيرية منذ البداية، تفسيرية إلى حد بعيد، ويعزى بعض ذلك إلى وجود بعض المستغلقة، الناجمة عن اضطراب المتون. وبتطور الثورة الصناعية، وقيام الحركة الرومنتيكية واتساع المسافة تدريجيا بين الفنان وجمهوره وما ترتب على ذلك كله من اضطراب في الأوضاع، وتشبث بالمذهبية، أصبحت الحاجة إلى النقد التفسيري أكثر إلحاحا، وازدهرت حركة هذا النقد بوجه عام.
وفي مطلع القرن التاسع عشر كان الشعراء يصرفون في تفسير نتاجهم ونتاج زملائهم للجمهور، وقتا يعادل ما كانوا يصرفونه في نظم الشعر. وفي الربع الأخير من ذاك القرن، عند ظهور الحركة الرمزية، كانت الأعمال التفسيرية تكتب لصفوة من المتأدبين فكانت هذه الأعمال نفسها في حاجة إلى التوضيح. أما في هذا القرن الذي نعيش فيه، فبعد أن تحولت الكتابة من مهنة إلى تجارة، وانقلبت حركة نشر الكتب من تجارة إلى عمل ضخم واسع النطاق، ازدهر النقد التفسيري والترجمة ازدهارا عظيما في الذروتين العليا والدنيا للسلم الأدبي. أما في القمة فقد تخصص النقاد، بتأثير بوند وإليوت، بأكثر الأدباء غموضا؟ أمثال دانتي ودن وبليك وهوبكنز؟ ولعل ذلك كان من قبيل رد الفعل (وقد يكون ذلك لا شعوريا) ؟ للاتجار بالأدب. وأما في الحضيض فإن هذا الاتجار نفسه هو الذي أوحى بقيام حركة التبسيط الأدبي، على أنها وسيلة من وسائل جلب المال.
4
- وهنك أشكال كثيرة من الترجمة والتفسير في النقد للمعاصر، تختلف باختلاف النقاد. ومن أشهرها؟ وهذه في الأكثر موهبة شخصية لا
أدري إذا كان من الممكن اعتبارها منهجا؟ طريقة وليم إمبسون في قراءة المعاني الغامضة المستغلقة (1) ، التي بلغت حدا كبيرا من الدقة. والمثال النموذجي على هذه الطريقة، تحليله المدهش الذي استغرق اثنتي عشرة صفحة من كتابه " بعض تفاسير للعشر الريفي " Some Versions of Pastoral لبعض ما دعاه ساخرا " 4096 حركة ممكنة من حركات التفكير " في سوناتا شيكسبير الرابعة والتسعين ومطلعها:" أولئك الذين لديهم القدرة على الأذى ولا يفعلون "، وهذه ترجمة من أرفع النماذج وأكثرها تعقيدا، بكل ما فيها من الاحتمالات المنثورة على وجه الصفحة. ومع أنها بكل تأكيد ليست تبسيطا، إذ هي دائما أكثر تعقيدا من الأصل، إلا أنها باعتبارها عرضا " للقراءة " في أرفع صورها، قد وسعت من مجال " الإيصال " الأدبي في زمننا، لا يقل عن سابقه دقة إلا أنه أكثر استقلالا وتفردا، أعني تحليل كنث بيرك الرمزي الذي يعتبر تفسيرا ونثرا كالذي يفعله ولسن، إلا أنه على مستوى أعمق في المعنى. فمثلا يعد ولسن توريات جويس تعقيدا فحسب في المعنى ويترجمها في عبارات مفهومة، أما بيرك فيرى في التورية رمزا عن الأثم وتنكرا للتقوى الكاثوليكية يمتد إلى رفض المواءمة اللغوية، وبذلك يؤكد المعنى الحرفي بمضمون رمزي (2) .
وليس من العجيب أن تكون آثار جويس، موضوعا من الترجمات المعاصرة، إذ لعلها أخصب حقل لمثل هذه المحاولات في أدبنا الحديث (ويأتي كافكا في المقام الثاني، كما يتضح من مجموعة عنوانها " مشكلة كافكا " The Problem of Kafka) وتكاد تكون جميع اكتب ألفت عن جويس وأعماله شروحا في المقام الأول. فهنالك عدد مما يدعى
(1) راجع ما كتبه المؤلف عن هذه الطريقة في الفصل التاسع من هذا الكتاب.
(2)
راجع الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب.
" مفاتيح " لقصة " عولس ". ولكن أكثرها أهمية التعليق المعتمد الذي كتبه ستيوارت جبرت فهو يعتبر دراسة تفسيرية مفصلة رائعة. وقد أدت المقالات التي نشرت في مجلة " فترة الانتقال " وكتاب " مفتاح تخطيطي ليقظة فينيغان " Skeleton Key to Finnegan " s Wake، تأليف جوزف كمبل وهنري مورتون روبنصون، الدور نفسه بالنسبة لكتاب جويس الأخير، قد نشر عدد كبي من المقالات، من بينها مقالتا ولسن، حاول كتابها تفسير " عولس " و " يقظة فينيغان " تفسيرات جزئية. وقد حاول كاتبان ناشئان هما رتشارد ليفن وشارل شاتوك في عدد الشتاء من مجلة " أكسنت " (1944) ، أن يفسروا مجموعة أقاصيص " سكان دبلن " Dubliner " s لجويس، على أساس المشابهة الهوميرية، شأنها في ذلك شأن " عولس ". وقد نستطيع أن نلم بشيء من مشكلات النقد التفسيري في أيامنا، إذا أدركنا أن الترجمة الوافية لأي من كتابي جويس " يقظة فينيغان " و " عولس " لا بد من أن تحتوي على جميع الآراء المنثورة في هذه الكتب والمقالات، علاوة على آراء ونظرت كثيرة أخرى لم تظهر بعد. وعلم النفس والتاريخ الأدبي، وتفاصيل حياة جويس، وقد تستغرق؟ كما ذكر جويس في حديثه إلى إيسمان بلهجة ربما كانت ساخرة؟ حياة الناقد بأجمعها.
ولعل عزرا بوند هو مصدر النقد التفسيري الجدي في زمننا (هذا إذا تجاهلنا تلك الأعمال المهمة من الناحية التاريخية؟ وإن كانت ليست كذلك من الناحية الفنية؟ كدراسات وليم ليون فلبس في الأدب الروسي) ونظريات بوند في النقد، تبدو في غاية التواضع إذا ما قسناها بصاحبها المريض بداء العظمة. فهو يعتقد أن الناقد ليس أكثر من رجل يطلع صديقه على محتويات مكتبته ويدله على الكتب التي قد تروقه قراءتها. وعلى كل حال فالمسألة كما قال بوند عن فينولوزا وعنى نفسه " الغريب مثمر على
الدوام " وكثيرا ما تكون الأشياء التي ينوه بها في حاجة إلى ترجمة من الناحيتين المجازية والحرفية. وقد قدم بوند في كتابه " روح الرومانس " The spirit of Romance (1910) أدب أوروبة اللاتينية، في العصور الوسطى، إلى القارئ العادي في إنجلترة وأميركة لأول مرة. وقد اهتدى في تصميم كتابه هذا بكتاب " الشعراء الإيطاليون الأول " Early Italian Poets لروزيتي، ودرس فيه أدب إيطالية وفرنسة وبروفنس وأسبانية والبرتغال وزوده بشواهد كثيرة من الشعر، مترجمة إلى الإنجليزية، مع شروح ونقدات. ولعل هذا الكتاب هو المثل الكامل للنقد التمهيدي الرشيد، وللتبسيط على مستوى من فهم أصيل وذوق سليم. ومع أن بوند قام بكثير من أعمال الترجمة والتفسير منذ لك الحين، بما في ذلك دراساته وشروحه لارنو دانيال وكفلكنتي وهنري جيمس، لم يبلغ في شيء من هذا مبلغ ما حققه في كتابه الأول من فائدة ملموسة.
وبينما اندفع بوند في مشاكسات مختلفة الأنواع، تابع إليوت طريقة صديقه في النقد التمهيدي (1) . وكان ظهور كتاب " الغابة المقدسة " له (1920) ، حدثا أدبيا عظيما، قدم لأدباء عصر اليزابث وغيرهم من الأثيرين عنده ما قدمه بوند لكفلكنتي ودانيال، ولكنه قدم ذلك بطريقة أكثر نجاحا في نظر الجمهور، حتى كاد جونسون ومارلو أن ينافسا منكن وكابل وكأنهما من أدباء العقد الثاني من هذا القرن. وقد افترض إليوت في قرائه من الفطنة وسلامة الذوق ما افترضه بوند، وأن لم يعتمد على ثقافتهم اعتماد بوند عليها. ومن الواضح أنه في بعض الأحيان، كما حدث في دراسته لدانتي وسنيكا، يفترض أن جمهوره لم يسبق له أن ألم بهذه الموضوعات، ولا شك أنه محق في ذلك. وقد كتب إليوت مقالات أقصر
(1) راجع الفصل الثالث من هذا الكتاب.
بكثير من مقالات بوند وأكثرها يدور حول كتاب بأعيانهم. ولما كان يفتقر إلى مثل قدرة أستاذه في معرفة اللغات، فقد تخصص بدراسة المهجورين من أدباء الإنجليز (خاصة كتاب القرنين السادس عشر والسابع عشر) . وعندما يعرض لأديب أجنبي، فإنه قل أن يعتمد ترجماته الخاصة له، أما فيما عدا ذلك فطريقته تشابه طريقة بوند إلى حد كبير لاعتمادها الرئيسي على كثرة الاستشهاد والمقارنة والشرح والتعليق التقييمي. ومع إن اهتمام إليوت بالنشر لا يشبه في ضآلته اهتمام ولسن بالشعر، إلا أنه يكاد يكون أعظم ناقد تمهيدي جاد في زمننا هذا، وهو يعالج مادة المبسطة، وما يتصل بها من تمهيد وتذييل، باتزان وثقة ولم يسيرا لولسن.
وهنالك نوعان حديثان من النقد " الترجمي " أو التمهيدي، يمكن أن يخرجا من حظيرة " التبسيط "، يجدر بنا أن نذكرهما هنا، وهما نقد كلينث بروكس وفلاديمير نابكوف. فبعد أن أخرج بروكس كتابه الأول " الشعر الحديث والاتباعية " Modern poetry and Tradition (1939) الذي حاول فيه شرح الصعب وتفسيره على الطريقه التقليدية، ولاسيما شعر إليوت وييتص، وبعد أن أصدر سلسلة من الكتب المدرسية، بالاشتراك مع بعض المؤلفين، ومنها " كيف نفهم الشعر " Understanding poetry، و " كيف نفهم القصص " Understanding Fiction، و " كيف نفهم المسرحية " Understanding Drama، تلك الكتب التي سهلت الأمر على طلاب الكليات تسهيلا مسرفا؟ بعد هذا كله غير منهجه في كتابه " الزهرية المحكمة الصنع " The Well Wrought Urn (1947) فحول أن يبرهن فيه، أثناء تحليله لبناء عشر من القصائد، على أن القصائد التي درج الناس على اعتبارها بسيطة سهلة القراءة؟ ومنها قصيدة غراي " مرثاة مكتوبة في فناء كنيسة ريفية " Elegy Written in a Country Churchyard وقصيدة تنيسون " أيتها الدموع، أيتها الدموع المتثاقلة " Tears، Idle Tears
هي في الحقيقة غامضة. تنطوي على شيء من التناقض، بل هي في الأكثر، " ميتافيزيقية ". وهكذا نراه يقدم لنا القصائد المألوفة ويعرضها في ثياب جديدية. و " يترجمها " من البساطة إلى التعقيد. وقد قام فلاديمير نابوكوف بعمل مشابه في دراسته العجيبة " نقولا غوغول " Nikolia Gogol (1944) ، إذ حاول أن يعيد تفسير غوغول، الذي اشتهر عنه أنه كاتب اجتماعي ساخر سهل القراءة، بطريقه جديدة؛ فأكد أنه كاتب معقد جدي لا يحفل بالمجتمع، وأنه غير عقلاني، بل أنه يكاد يكون رائدا للسريالية. وينهج نابكوف في هذه الترجمة العكسية، نهج ولسن الأثير لديه وهو تلخيص الحبكة (ومن المعروف أنه اتصل بولسن، لعدة سنوات، وإن آثاره حازت التقدير عند ولسن) ، مع أنه يبين أنه يقدم للقارئ " الحبكات الحقيقية " التي كتبها غوغوكل، والتي " تختفي وراء الحبكات الظاهرة ". ومما يمكن ملاحظته أن نابكوف أيضاً يستعمل اسلوب الترجمة الحرفية على طريقة بوند، فيقدم ترجمات إنجليزية جديدة للقطع والآثار التي يدرسها، معلنا بصراحة عن إيمانه أن الترجمات القديمة غير صالحة من حيث الأسلوب والنسق؟ ويجب أن نقر هنا بأن ترجماته تبدو أرفع مما سبقها؟ بل أنه أحيانا يترجم ترجمة مفصلة، دور الإيحاء والمعنى في أسماء الأعلام عند غوغول) .
ومن الوضاح أنه لا جدوى من إضاعة الوقت في بحث ذلك النوع من " التبسيط " الذي يقصد به كسب المال على حساب رغبة القراء في التظاهر بالمعرفة الأدبية. ومثل هذه الكتب تسير جميعاً على نسق واحد: سيرة الكتاب، ويفضل أن تكون لكاتب عرف عنه الشذوذ الجنسي، مثل بيرون ووايلد، يراعى فيها بقدر الإمكان إبراز فضائحه، وتضم إليها خلاصة وافية لتمكن القارئ من التظاهر بأنه قرأ آثار ذاك الكتاب. ويمكن أن تقع على أسماء هذه الكتب، في قوائم الكتب الرائجة جداً.
وهذه الظاهرة، ولله الحمد، تعني الباحثين في علم النفس الاجتماعي اكثر مما تعنينا نحن.
5
- وهنالك نواح أخرى عديدة من كتابات ولسن، تحتاج إلى بحث، إلى جانب عمله كمترجم. إذ يبدو أنه يعتبر ناقدا تاريخيا في المقام الأول. وهو يصف عمله في " قلعة أكسل " بأنه " تاريخ أدبي ". والنقاد التاريخيون الثلاثة الذين يعتدهم ولسن " أسلافا " له، هم فيكو وهردر وتين. وهو حين يزعم أنه خلف لهؤلاء الرجال الثلاثة في النقد الاجتماعي، يتناسى ما في نظريات الاثنين الأولين على الأقل من توريطات مريبة. ولا يستطيع المرء أن يستنتج شيئا مما ذهب إليه ولسن من أن فيكو كان عدوا للعلم وللفكر الحديث ولديمقراطية الثقافة، وأنه كان شديد التعصب حتى أن دي سانتكس، الذي كان يحترم نتاجه احتراما شديدا، يتهمه بأنه في منتهى الرجعية. أو مما قاله عن هردر من أن إلحاحه على الطبيعة القومية للفكر والفن وعلى الحدس اللاعقلاني للعبقرية، و " الجماهيرية " Folkish، كان مصدرا أساسيا من مصادر تشبث النازية بفكرة الدم والعرق. واستعمال ولسن لتعبير " تاريخي " يقوده دائما إلى تجريده عن ملابساته الاجتماعية، حتى إنه مثلا، يتهم إليوت بأنه يستعمل نقدا (اشبنجلريا)(1) مقارنا، وهذا " في جوهره غير تاريخي "، دون أن ينتبه إلى أن الفترات الأدبية التي لا يأبه بها إليوت أو يسقطها من " موروثة "(Tradition) تؤلف نقدا تاريخيا سلبيا، يمتاز بوعي قوي، وإن " اللازمني " قد يعتبر " فترة زمنية " أيضاً.
والطريقة التاريخية عند ولسن تشمل السيرة أيضاً، وتمتد حتى تشمل
(1) يعني أنه يعنى بتصوير الحضارات من جوانب انحلالها، أو رؤيتها وهي منحلة كما فعل اشبنجلر المؤرخ الألماني في دراسته للحضارة الأوروبية في كتابه " انهيار الغرب " The Decline of the West.
المعلومات النفسية والتحليل النفسي، وبهذا يصبح جونسون وسنت بيف وكولردج وفرويد على قدم المساواة في مجال النقد التاريخي. وطريقة ولسن في النقد التاريخي تعتمد دائما العوامل الاجتماعية والنفسية، مع التوكيد على العوامل الاجتماعية في نقده المبكر، ثم الانصراف تدريجيا نحو العوامل النفسية، كلما قطع شوطا في طريق التظور. على أن تحليلات ولسن التي اعتمد فيها على هذه العوامل المختلفة جميعا في الوقت نفسه تبدو أكثر توفيقا، إذ يفيد من ماركس وفرويد، وذلك يتجلى في دراسته لقصة بروست الضخمة، لا على أنه تعبير عن اعتماد بروست الشاذ على أمه، وما نجم عن ذلك من " نزعات انحراف طفولية مجدبة " فحسب، بل على أنها أيضاً تعبير عن " قصة الحضارة الرأسمالية " التي تذكر المرء بمسرحية " البيت المحطم للقلب "(1) .
إن تاريخ اتجاه ولسن نحو الماركسية، سجل غريب حقا. ففي مطلع العقد الرابع من هذا القرن يبدو أنه كان يعتبر نفسه ماركسيا، كما يشهد بذلك كتابه " المشاعر الأميركية الهائجة " The American Jitters، وكتاباته السياسية وبخاصة تلك التي ظهرت حوالي تلك الفترة (1932) . ويظهر أنه بدأ في كتابه " إلى محطة فنلندة " حوالي ذلك التاريخ إطراء للماركسية وعرضا لقدرتها على تحويل النظرية التاريخية إلى تطبيق عملي. وخلال السنوات السبع التب قضاها في تحبير الكتاب، فقد إيمانه بالماركسية، وبدأ التحول في منتصف الطريق (2) ، وانتهى إلى القول بأن الماركسية
(1) إحدى مسرحيات شو، ويعرض فيها إفلاس حضارتنا الحديثة، كما تجلى عقب الحرب الكبرى.
(2)
يمكن أن نشير هنا إلى تحول مشابه حدث عند ولسن في منتصف الطريق، وذلك أثناء تحبيره لكتاب " قلعة أكسل "، فبذلك نفسر لم بدأ هذا الكتاب بالانتفاض من أدباء كان يعتبرهم غير مسؤولين من الناحية الاجتماعية، ثم انتهى بنثر الزهور في طريقهم.
إذا كانت تعني ستالين بالضرورة، وهذا ما يراه، فلا فائدة له منها. وفضلا عن ذلك حاول ولسن أن يتقبل الماركسية في حين أنه تنكر لدعامتين من دعائمها الأساسية، وهما المادية الديالكتيكية، ونظرية القيم في العمل، ويعتبرها نوعا من الهراء الصوفي، أما الديالكتيكية في نظر ولسن، فهي الاستمرار اللاشعوري للثالوث المسيحي، ومثلث فيثاغورس السحري (وربما كانت أيضاً رمزا " لأعضاء الذكر التناسلية ") ، وأما نظرية القيم في العمل فإنها ميتافيزيقية ماركس، وهو متأثر في ذلك بآراء سدني هوك وماكس ايستمان. وبما أن هاتين النظريتين هما بالتتالي الأساس الفلسفي والاقتصادي للماركسية، فمعنى هذا أن ولسن كان يحفر على جذور معتقده، وكان انهيار ذاك المعتقد نتيجة حتمية لذلك.
وترتب على تنكر ولسن التدريجي للماركسية، خيبة أمل الشيوعية الروسية، بل ربما كان ذلك هو الدافع الأساسي لهذا التنكر. وكتبه سجل رائع لهذا التحول. فروسية في كتاب " قلعة أكسل "(1931)" بلد استطاعت فيه مثالية اجتماعية؟ سياسية مركزية، أن تسخر الفنان وتتعهد إلهامه "، وهي أمل الفن أولا ثم المجتمع. ثم ابتدأ شعور القلق على الفنان الروسي يساور ولسن في كتابه " المشاعر الأميركية الهائجة "(1932)، إذ يقول:" ولعل العقيدة السياسية الصارمة التي تتطلب دائما حكايات ملفقة، لتبرز فضائلها، لا تخلو من جانب سقيم ". وفي كتابه " رجلات في بلدين من بلدان الديمقراطية " Travels in Two Democracies (1936) ، يتحدث عن زيارة جاهدة، إلى حد ما، قام بها إلى الاتحاد السوفييتي، ويكيل المدح لستالين وحكومته (فروسية ما تزال " ذروة الفضيلة في العالم ") ، ولكنه يهاجم الأميركيين الذين يدينون بالشيوعية الستالينية هجوما مرا. وفي كتابه التالي " الفنانون أو المفكرون كثيرا "(1938) ، يهاجم ستالين وسجون البوليس السياسي G P U مهاجمة صريحة، هذا إلى أنه
كان ما يزال يعتقد بأن الحكومة السوفييتية " أفضل من حكومة القيصرية ". وفي " إلى محطة فنلندة "(1940) أصبحت الحكومة السوفييتية تجمع " بين مجازر عهد الإرهاب الروبسبيري وفساد حكومة الإدارة ورجعيتها "(1) كما أن " استبداد ستالين "" استأصل الماركسية الروسية من جذورها ". ومنذ ذلك الحين انقلبت كراهيته لستالين والشيوعية والاتحاد السوفييتي إلى نوع من الهوس، وأصبحت التعريضات المرة الجامحة بكل هؤلاء تظهر في أغلب ما يختطه قلمه.
وقد أقام ولسن كتاباته بصفة رئيسية على نظريتين في الفن، هذا إلى جانب الفروض العامة في النقد الاجتماعي والنفسي، وضرورة " الترجمة ". أما النظرية الأولى، وهي أكثرهما أهمية، فقد عبر عنها في استعارة فيلوكتيتس، الجرح والقوس. وفحواها أن الموهبة الفنية، تعويض عن نوع من أنواع العجز البغيض. والرأي الذي يقول بأن الفنان يعبر بطبيعة الحال، عن الأشياء التي تعينه أكثر من غيرها، أو عن آلامه، أو أن الفن وليد الألم، كل ذلك يعتبر من الأفكار المعادة المكرورة في مجال التفكير النقدي. أما التعبير الصريح المباشر عن هذه الفكرة، بالقول إن الفن ليس إلا صورة من صور المرض أو تعويضا عنه، فإن مصدره الرئيسي المعاصر هما الكاتبان مان وجيد، ويدو أن كلا منهما استمد الفكرة من شوبنهاور عن طريق نيتشه. وعندما تعرض جيد لهذه الفكرة، في كتابه عن دستويفسكي، عزاها إلى النظرية التي يقول بها لمبروزو، ومؤداها أن العبقرية نوع من أنواع العصاب. ويبدو أن هذا المفهوم يرتبط أيضاً بنظرية فرويد القائلة بأن الفنان شخصية فجة، لا يتخلى فيها مبدأ اللذة الطفولية عن مكانه لمبدأ التفكير الواقعي الذي يرتبط بسن النضج، كما
(1) إشارة إلى ما حدث في الثورة الفرنسية من إرهاب على يدي روبسبير ومن فساد أثناء حكم حكومة الإدارة.
يرتبط بنظرية أدلر القائلة بأن الفنان ضحية للشعور بالنقص، وما إلى ذلك من نظريات التحليل النفسي. ومما لا شك فيه أن كلا من هذه الآراء ينظري على شيء من الحقيقة، ولكنها ليست الحقيقة كاملة. فالذي عجز أنصار هذه النظرية عن تعليله؟ وعليهم أن يعللوه حتى تغدو هذه النظرية ذات فائدة ملموسة للنقد الأدبي؟ هو: لماذا لم يصبح سوى عدد ضئيل من الشخصيات المريضة والعصابية والإنطوائية والشاعرة بالنقص فنانين؟ وبمعنى آخر، لماذا يتلقى القوس والجرح في بعض الحالات فقط، ولماذا في تلك الحالات بعينها، ولماذا هذا القوس بالذات (1) .
وفضلا عن الناحية التشخيصية في نظرية الجرح والقوس، فإن صياغتها الخاصة في أسطورة فليوكتيتس جديرة بالبحث (2) . وقد نوه كنث بيرك، في إحدى مقالاته التي نشرها قبل صدور كتاب " الجرح والقوس " بفائدة
(1) لعل من أحسن ما كتب حول هذه النظرية، ورد في مقال و. هـ؟؟. اودن " علم النفس أو الفن في ايامنا هذه "، في مجموعة جيوفري جرجسون " الفنون في أيامنا " The Arts Today (1935) . إلا أنه عجز عن الرد على هذه الأسئلة بطريقة مقنعة. وقد بحثت مشكلة الفن والعصاب، ونظرية ولسن الخاصة عن الجرح والقوس بحثا مستفيضا في جدل احتدم بين الدكتور شاؤول روزنتسفايج وليونل ترلنج، في مجلة البارتزان (عدد الخريف من سنة 1944، والشتاء من سنة 1945) ثم ردت إلى مكانها الطبيعي في مجال النقد القائم على التحليل النفسي، في مقال كتبه جورهام ديفز في عدد الصيف من سنة 1945.
(2)
لخص ولسن قصة فيلوكتيتس على الوجه التالي:
سلم أبولو قوسا لا تخطئ لنصف الإله هرقل. وعندما أصيب بالتسمم من رداء ديانيرا أزمع أن يحرق نفسه على جبل ايتا، وكان قد أغرق فيلوكتيتس بإشعال النار فيه، لقاء توريثه سلاحه مكافأة له. وهكذا كان فيلوكتيتس مدججا بسلاح لا يفل، عندما أبحر فيما بعد من اغاممنون ومينالوس لمحاربة طروادة. وكان عليهم أن يهبطوا في طريقهم، على جزيرة خرايسه الصغيرة ويقدموا الضحايا لآلهتها. وكان فيلوكتيتس أول من اقترب من المزار فلدغته أفعى في قدمه. وكان سم الأفعى فتاكا، وقد حالت أناته بينه وبين تقديم الضحية التي تفسدها الأصوات المشؤومة. وبدأت تفوح من اجرح رائحة نتنة حتى إن أصحابه لم يستطيعوا البقاء إلى جانبه. ونقلوه إلى جزيرة لمنوس المجاورة، وهي أكبر حجما من جزيرة خرايسه، وكانت مأهولة بالسكان. ثم أقلعوا نحو طروادة دونه.
ومكث فيلوكتيتس هناك عشر سنوات ولم يندمل الجرح العجيب. وفي تلك الأثناء كان الإغريق في طروادة، في حالة ضيق شديد بعد مقتل اخيل واياس، وبعد أن أذهلهم تصريح عرافهم بأنه لم يعد قادرا على غسداء النصح لهم. فلجأوا إلى اختطاف عراف الطرواديين وحملوه على أن يكشف لهم الحجب عن المستقبل، فأخبرهم بأنهم لن يكسبوا المعركة ما لم يستدعوا نيوبطليموس ابن اخيلن ويضعوا في يده سلاح أبيه، ويحضروا فيلوكتيتس وقوسه. وقد نفذوا ما أشار به عليهم. وشفي فيلوكتيتس في طروادة على يد ابن الطبيب اسكليبيوس وبارز باريس فقتله. وقد غدا فيلوكتيتس ونيوبطليموس بطلي طروادة.
استخدام أسطورتي أورفيوس وبرسيوس رمزا على طبيعة الفن. وبعد أن صدر الكتاب، كتب ديلمور شفارتز مقالا عن ولسن ذهب فيه إلى أن عددا من الأساطير القديمة ومن بينها بيجاسوس واورفيوس وأوديب، يمكن استعماله لتوضيح بعض المناحي في عملية الإبداع، شأنه في ذلك شأن أسطورة فيلوكتيتس، وربما كانت أسطورة أوديب أعظم دلالة منها في هذا المجال. ولعل شفارتز كان قد ألم بفكرة كنث بيرك التي أشرنا إليها سابقا. ولا ريب في أن جميع هذه الأساطير القديمة، بل كل قصة نموذجية، يمكن أن تطور حتى تغدو نظرية صالحة لتفسير طبيعة الفن، صلاح تلك. فكما أن الفنان يجمع بين قواه السحرية وعجزه البغيض، كذلك فإنه يهبط إلى الجحيم ليسترد من عالم النسيان، تلك التي أحبها (1) ، وهو كذلك عاجز عن مواجهة ذلك التنين الأفعواني الرأس، دون أن يتحول إلى حجر، غير أنه في مأمن إذا راقب صورة التنين معكوسة في المرآة (2) ، وهكذا. وليست هذه الأساطير وغرها متساوية في النفع فقط، فإن قصة فيلوكتيتس، كما ذكر شفارتز وغرانفل هكس (3) ،
(1) إشارة إلى أسطورة اورفيوس الذي هبط إلى الجحيم ليسترد حبيبته يوروديكي.
(2)
إشارة إلى أسطورة برسيوس الذي قتل ميدوسا التي حول أثينا شعرها إلى أفاعي. وكان يحمل درع أثينا الذي يلمع كالمرآة، وكان ينظر إليه ليرى وجه ميدوسا فيه خشية أن يتحول إلى حجر إذا حدق في وجهها.
(3)
وذلك في مقالة له بعنوان " عناد ادموند ولسن "، ظهرت في " مجلة إنطاكية " Antioch Review عدد الشتاء لسنة 1946 - 1947. وأنا مدين لها بعدد من الحقائق والأفكار. وأعتقد أن مقالة هكس هي خير دراسة نشرت عن ولسن. ولا يعيبها سوى المبالغة في تقدير إمكاناته، فهو يعتبر " أفضل ناقد في البلاد " و " ذكاء نقديا من الطراز الأول " وما إلى ذلك. ولقد غشى على بصيرته عمى عجيب، جعله يرى تجارة ولسن العنيدة نوعا من " الاستقامة ".
لا تصلح تماما لأداء وظيفتها، لأن فيلوكتيتس كان يحمل القوس قبل أن يصاب بالجرح، وبذا كان الجرح عرضيا، لا يمت بصلة إلى قوة القوس، ولأنها لا تكشف لنا عن فائدة القوس في نكأ الجرح.
إن أي نظرية تعكس، إلى حد ما، مشكلات مبدعها وظروفه الخاصة. (حتى إن نهاية أية قذيفة؟ ولنتخذ بدلا من صورة القوس مجازا من الآلة؟ تنطلق من بندقية الفنان، تحمل معها جميع عيوب أنبوبة البندقية، وهذه العيوب بدورها إمارة على استعمال سابق) ولذا يستحسن أن تطبق دائما على مبدعها، حيث يجب أن تؤدي وظيفتها بدقة. وإنها لخدمة جليلة أن نسلط نظرية الجرح والقوس على ولسن نفسه، فنتبين طبيعة " جرحه "، ونربطها بقواه المنتجة. إلا أن مثل هذا التحليل الشخصي المفصل، يتعدى نطاق هذا البحث. ومهما يكن من أمر فقد يصح أن نسجل بعض الملاحظ اللازمة في مثل هذه الدراسة. وتنبع هذه الملاحظ جميعها دون استثناء، من كتابته الإبداعية، أو غير النقدية، التي تبدو دائما وكأنها حديث عن حياته، بل أنها تكون في بعض الأحيان حديثا مزعجا عن نفسه. ولعل ذلك راجع إلى عدم قدرته على المزج اللازم للإبداع الفني. وعندما ننخل مجلدات ولسن العشرة، التي لا تتصل بالنقد؟ وهي قصة، ومجموعة أقاصيص وثلاثة كتب وصفية، وديوان شعر، ومجموعة مسرحيات وثلاثة مجلدات يختلط فيها الشعر والنثر والمسرحية؟ تبدو لنا حقا كأنها أضواء كاشفة. وإذا تناولناها بالترتيب فقد نستخرج منها ما يومئ إلى " جرحه " دون أن نحتاج إلى تحليلها بطريقة أدبية.
والكتاب الأول هو " إكليل دافن الموتى " The undertaker " s Garland (1922) ، وهو مجموعة من النثر والشعر، حول موضوع " الموت " " رقصة الموت " لجون بيل بيشوب وادموند ولسن الابن مع رسوم مقلدة لرسوم بيردسلي وضعها بوريس ارتزيباشف. وقد وضح ما أسهم
به كل من الكاتبين في الكتاب في تعليقة تمهيدية، ولعل البون بين كتابات المرحوم جون بيل بيشوب وكتابات ولسن البارعة، الأدبية المنبع، الجافة هو أهم مظهر في الكتاب. (وإذا بحثنا عن الدافع الذي قد يكون حمل ولسن على نشره شعره إلى جانب شعر شاعر طبيعي موهوب، فلا نلاحظ أن ولسن قضى ثلاثة عقود، محاولا أن ينقض النكتة اللطيفة التي شنع عليه بها زملاؤه في الصف، في جامعة برنستون، إذ انتخبوه " أسوأ شاعر ") .
وكتاب ولسن الثاني، الذي ألفه منفردا، هو " الخصوم المتنافرون " Discordant Encounters (1926) وهو يحتوي على أربع محاورات ومسرحيتين. والمسرحيتان في الأكثر، من نوع " الفنتازيات الحلمية "، وليست لهما أهمية خاصة. ولكن المحاورات؟ " الخصوم المتنافرون "؟ رائعة. وفي كل منها يفصم ولسن شخصيته إلى شخصين متخاصمين، وهذه الشخصيات هي: بول روزنفيلد وماثيو جوزيفسون، وفان ويك بروكس وسكوت فتزجرالد، وأستاذ في الخمسين من عمره وصحفي في الخامسة والعشرين (قد يكون الأول أستاذه في برنستون، كرستيان غوس، والثاني هو نفسه) ووليم بيب ومارين اغوانا. ويناقش من وراء هذه الأقنعة أربعا من المشكلات الأساسية التي يجابهها، كفنان وناقد بين الثقافة الاتباعية و " المودرنزم " بين التكامل الذاتي والاتجار الفني، بين الأخلاقيات ومواضعات البيئة، بين العلم والغريزة. وقد استغل طبيعة المحاورة، فخلف كلا من هذه المشكلات دون أن يقطع فيها برأي.
وقد ظهرت قصة " كنت أفكر في ديزي " سنة 1929. وهي مكتوبة بضمير المتكلم، بل غنها تبدو ترجمة ذاتية، وتتركز حول البطلين المتخاصمين اللذين تدور حولهما قصص ولسن ومسرحياته على الأكثر، وهما شخصية
الكاتب الحدث المغرور الذي ينتمي إلى أسرة كريمة، والفتاة التي تميل إلى السيطرة، وتأخذ بحظ من التحرر، وتنتمي إلى وسط اجتماعي وضيع تدل عليه كيفية نطقها للكلمات. ويحتوي أيضاً على مونولوج طويل يدور حول سوفوكليس وفيلوكتيتس وعلى العلاقة بين الفن والعجز (وهي خلاصة نظرية الجرح والقوس) . وينتهي بصورة محمومة من التخيل الجنسي الدائر حول عضو التذكير، ويستطرد في الصفحة الأخيرة إلى حديث يدور حول احمر الشفاه والفم والمسدس والأفعى.
ويتميز كتابه " وداعا أيها الشعراء "(1929) الذي يضم مجموعة من لشعر وبعض النثر كتبها بعد تخرجه من الجامعة، بما فيه من قلق جنسي، بثه في شعره (كقوله: أيها الجمهور باعد ما بين فخذيك، بجأش رابط) ، وهو ما وصفه راندل جرل في حديثه عن شاعر آخر، بقوله:" حدائق حقيقية تحتوي على ضفادع حقيقية ". وفيه محاكاة مضحكة لادوين ارلنجتون روبنصون، في قصيدة تقارن مقارنة عجيبة بين هنري جيمس والرئيس ولسن، ثم قصائد ولسن التي ضمنها وادعه الرثائي للعشر.
أما الكتابان التاليان فقد كانا وصفا اجتماعيا: وهما " المشاعر الأميركية الهائجة "(1932) و " رحلات في بلدين من بلدان الديمقراطية "(1936) . وهما مفيدان من حيث الكشف عن طبيعة " جرح " ولسن. إذ يكشفان بوضوح عن اهتمامه " بالأحوال الاجتماعية " مع عدم اكتراث بالناس، من حيث هم أفراد، مما قد يبلغ أحيانا حد الكره. ويستعمل ولسن فيه التعبيرات العنصرية، مثل " زنجي "، و " عاهرة زنجية " و " أغنية مسودة "، إلى جانب اللهجة اليهودية المضحكة. وهو يرمز إلى الناس دائما بصور الخنافس والفراش وقناديل البحر والضفادع. ويبدو أنه يفتقر أشد الافتقار إلى الفكاهة، وإلى الدفء الإنساني. والقسم الذي يدور حول اختباراته الشخصية في كتاب " رحلات في بلدين من بلدان
الديمقراطية "؟ هذه الاختبارات التي تتميز عن وصفه الموضوعي؟ يبدو وكأنه نوع من الهذيان، وذلك منذ اللحظة الأولى التي تحسس فيها قذارة الروس، عندما وطئت قدماه ظهر السفينة الروسية، ورأى الخادمات الروسيات وهن يدرن على المسافرين باحذية متهرئة عالية الكعوب، والسجائر تتدلى من أفواههن (1) . وعندما كان يحاول الاستحمام، سقط على أنبوب ساخن " وحرق مرفقه حرقا مؤلما ". هذا علاوة على تلك السلسلة من المضايقات التي انهالت عليه من الجماهير الروسية، ومن عدم تقيدهم بالمواعيد، ومن قذارتهم وإهمالهم، ووعودهم التي لا تتحقق، وفزعه الشديد من المرض الذي انتابه في أودسة، واهتياجه الشديد من القذارة والروائح الكريهة والبق والافتقار إلى الوسائل الصحية وحرية الانفراد وما إلى ذلك. وأشد أقوال ولسن دلالة على ترفعه البغيض وكرهه لمعاشرة الناس، وردت في تلك المقطوعة من الكتاب التي دعاها " البيت الحجري القديم "، قال:
" وهكذا يبدو أنني أقيم هنا، في بيت قديم متداع قبيح الشكل. يعد أن أخفقت إخفاقا أشد من إخفاق أقاربي خلال تلك الفترة التي امتازت بنشاط الحركة التجارية في أميركة، في أن أستخلص الترف والجاه اللذين كان من الممكن أن أتمتع بهما دون ريب. وهكذا انتهى بي الأمر، إلى أن أعيش؟ بين حثالة هذا المجتمع بدلا من أن أعيش بين نخبته؟ بين الأطفال القذرين المنحرفي الصحة من أبناء جيراني اللذين ينبحون ليل نهار خارج بيتي. وفي نهاية الأمر؟ أستطيع أن أقول وقد تبدت
(1) من الممتع هنا أن نلاحظ هذه الصورة نفسها، وقد حولت إلى بريطانية في كتابه " أوروبة دون دليل " Europe Without Baedeker، إذ يقول:" كانت المناضد العارية في غرفة الطعام تبدو وكأنها لم تنظف أبدا، إذ كانت ملطخة ببقع من الحساء والمرق والبيض والمربى والشاي. ويقوم بتقديم الطعام والخدمة، أندال قذرون يلبسون التبابين، ويفقدون الآكل شهيته، حتى إنهم يذهبون بالبقية الباقية من طعم تلك الكمية الضئيلة من الطعام ".
لي الحقيقة ناصعة؟ إن ما كان يصدعني ويسبب وجومي هو أنني خلفت ذلك العالم المبكر ورائي، ومع ذلك لم أستطع أن أشعر بالراحة في ذلك الذي كان يدعى حتى الأمس بالعالم الجديد ".
أما مسرحياته الثلاث التي نشرت تحت اسم " هذه الحجرة وزجاجة الجن والشطائر " This room and this gin and These Sandwiches (1937) فهي صور ثلاث من موضوع " الثورة الفنية والأخلاقية التي اتخذت نيويورك مركزا لها بعد الحرب ". وتدور جميعها حول شخصية البطل الأدبي المغرور، بل البليد، والفتاة الشكسة ذات اللهجة السوقية التي تنتمي إلى طبقة وضيعة. وكلها تنتهي بتحقيق الأماني. أما كتاب " مذكرات الليل " Notebook of Night (1942) فهو مجموعة من الشعر والنثر، تنقسم إلى ثلاثة أقسم: قصائد غنائية قصيرة، بعضها جدي والآخر ساخر، وتدور حول الموضوع الجديد الشاغي، وهو ستالية، إلى جانب الموضوع القديم وهو الجنس. وقصائد طويلة من بينها تلك القصيدة المعروفة التي ينتقد فيها مكليش، نقدا يقوم على المحاكاة الساخرة. ثم مجموعة من النثر، تتضمن معارضات ساخرة وذكريات عن طفولته. وبعض هذه المعراضات والاهاجي عنيف، ولكنه موفق تمام التوفيق، والبعض الآخر رديء لا يدل على ذوق سليم. (وبالمناسبة نذكر أن إحدى قصائد الحب في الكتاب وعنوانها " هيا إلى البيت في المدينة: قدحان من الوسكي " ومنها هذا البيت: " الظل الصغير الماكر بين الفخذين الضيقين "؟ موجهة، فيما يبدو، إلى " أنا " التي ذكرت في " مقاطعة هيكت "
هذا الكتاب من النجاح ما لم يلاقه كتاب " أصحابها.. " The Company She Keeps لماري مكارثي) . ويضم لكتاب ست قصص كتبت بضمير المتكلم وجميعها تدور حول الحياة في تلك المقطاعة الوهمية. وتستغرق القصة الطويلة وهي " الأميرة ذات الشعر الذهبي " نصف الكتاب، وهي التي اعتبرت أمثر القصص إساءة إلى أخلاق الجمهور. (وهي تتناول، كما قال الإدعاء في لهجة مرحة، عشرين دورا مستقلا من عمليات الجماع، تشترك فيها أربع نساء، مع الوصف الدقيق المفصل، إلى جانب " مجموعة (منوعة) من أعمال الدعارة "، و " التحليات المقرفة ") . وقد أجمع المراجعون والنقاد على أنها ترجمة ذاتية؟ فقال رالف بيتس " إنني مقتنع بأن كل كلمة فيها صادقة ". وأشار غرانفل هكس إلى " كشفها عن ممارساته الجنسية "، وأعلن قائلا: " إن الدلائل الداخلية تشير إلى أنها ترجمة ذاتية، وأن هنالك إشارات إلى " أنا " في كتابات ولسن السابقة التي ظهرت في منتصف العقد الرابع ". أما المحاولات التي قامت لتدحض مطابقتها لحياة ولسن، فكانت تافهة، ومنها قولهم إن القاص ناقد من نقاد الفن، وميدانه هو القاعدة الاجتماعية للتصوير، وأنه ذهب إلى بيل لا إلى برنستون، وقولهم: " هو طويل نحيف "، لا قصير سمين، وما إلى ذلك.
وقد كتبت قصة " الأميرة ذات الشعر الذهبي " بأمانة مدمرة مؤلمة محرجة (جديرة بالإعجاب إلى حد ما) . وهي ما وهبه ولسن؟ فيما يبدو؟ بديلا عن الموهبة الأدبية. ولهذا السبب، وتمشيا مع خطتنا في هذا الكتاب، تستحق هذه القصة من المعالجة أكثر مما يستحقه غيرها من أعمال ولسن. والقصة نوع من السخرية الاجتماعية، ولعلها نوع من الرمز الذي يصور بلغة جنسية، في المقام الأول، علاقة القاص المضطربة بأنا، الفتاة العاملة، وبايموجين الجمسلة، المقعدة (ونعرف فيما بعد
أنها كذلك من أثر الهستيريا) المتزوجة التي تنتمي إلى طبقة ذاتها، في وقت معا. ويمضي القاص في عرض الجانب الآلي من العلاقات الجنسية في فترة المراهقة، بمنتهى الصراحة، متدرجا إلى سن النضج، ويبدو ذلك في قوله:" وأخيرا أقنعتها "، أنها الآن راغبة "، " ومضينا إلى ابعد من ذلك بكثير "، " ولكنني لم أتجاوز ذلك الحد "، وما إلى ذلك. وهو يرى الناس دوما على صورة الكلاب والهررة والقرود، بل حتى على صور شقائق الماء (فأنا هي " الوحش أو الطير الذي اقتنص من الحقول ") ، أو على صورة الأطعمة، والطعام متسلط على القصة (فهو يتحدث عرضا عن حفلة عشاء بقوله: " إنني أتذكر ألوان الطعا التي قدمت أكثر من تذكيري للأحاديث التي تبودلت ") . ويكشف القاص عن عنجهيته دون خشية: فيبين بصراحة أن اهتمامه بالعمال بدأ في الانهيار الاقتصادي (1929) . ويبحث بهدوء عن وجه بالمجازفة في " علاقة المرء بأناس من طبقة دون طبقته "، ويصرح عن مخاوفه من أنه قد يستشعر العار من علاقته بأنا (" لن أجرؤ على الظهور بصحبتها في مقاطعة هيكت ") .. الخ. وإن ما يكشفه لنا من دخيلته في حالة اللاوعي لأكثر أهمية. فهو شبيه ببابت (1) (فعندما يأخذ سبيله إلى النجاح يقول " لقد ابتعت قبعة سوداء ") ؛ وهو متعجرف منخوب (" كنت حريصا على تجنب المغامرات "، " مع أنني بطبيعة الحال كنت قد اتخذت الاحتياطات اللازمة ") ودون جوان صغير (" وتأثيري القوي الذي يدل على خبرة "، " وطبقت فنونا متنوعة وألونا من اللطف ") . وسوقي مسرف في عاطفيته (" لساني في فمها الصغير الناعم ") وبذيء مسرف في بذاءته (" الأعضاء السفلى العشوشبة الندية "، " والفرن البشري ذو الحرارة والعصير ")
(1) بطل قصة لسنكلير لويس بهذا الاسم (1922) . أصبح فيما بعد رمزا لرجل الأعمال الذي يتمسك بالتقاليد الاجتماعية والخلقية لطبقته.
أو حتى ما يدعى " بالخسيس "(فهو يرفض مباضعة ايموجين وهي مرتدية مشدها " لقد كنت أخشى أن يكون متعسرا، أو ليس من الرجولة في شيء ") . ويكشف القاص، إلى جاني كل هذا عن نوع غريب من الشبق، نحو المرأة التي ترتدي ملابسها (" فالشهوة في مناسبات سريعة كهذه، تزداد برؤية الملابس والجوربين والحذاء "، " بانتعاش مفاجئ للرغبة الجنسية، عندما ارتدت ملابسها وهمت بالانصراف ") حتى ليكون ذلك شبيها بسادية داعر هم ممن يتحدث عنهم كرافت ابن (1) ولكن الشيء الأكثر دلالة في القصة، ليس هو الوصف الجنسي الصريح أبدا، وإنما التورية اللاشعورية. فقد تحقق من أن " أنا " ليست مشاعا في الصفحة نفسها التي يذكر فيها حبه المتزايد للشيوعية.
وتؤيد الأقاصيص الأخرى وكذلك الكتاب كله بوجه عام، بعض هذه النظرات، كما تؤكد وتوضح بعض الإشارات المبكرة في كتابات ولسن. فهو في قصته " الرجل الذي اصطاد السلاحف الكدامة " The Man Who Shot Snapping Turtles يسخر من عالم التجارة وفيها أيضاً استعارات حيوانية للشخصيات الإنسانية. ويحاول في " إلين تيرهون " Ellen Terhune أن يخرج قصة أشباح على طريقة هنري جيمس، ليوضح بها نظرية الجرح والقوس. وفي " لمحات من ولبر فليك " Glimpses of Wilbur Flick تختلط السخرية من غني تافه يتلاعب بالأسباب والعلل مع رمز غريب للفن على أنه " كخاتم لبيك "، وفيها أيضاً يصف الكائنات البشرية بأوصاف حيوانية. أما قصة " الملهولانديون وروحهم اللعينة " The Milhillands and Their Damend Soul، فهي سخرية لاذعة من دور النشر الضخمة، وهي مليئة بمعارضات ولسن القاتلة وسخرياته المرة، دون أن تتسم بشيء من الفكاهة الحقيقية.
(1) البارون ريشارت فون كرافت ابن (1840 - 1902) عالم بالأمراض العصبية وطبيب نفساني.
أما قصة " السيد بلاكبرن وزوجه في البيت " Mr. And Mes. Blackburn at Home فهي أضغاث أحلام ذات صلة بدراسة الجن والعفاريت، وتختلط فيها الصور السياسية، بالصور الجنسية، وفيها أيضاً سخريته المرة التي لا تلطفها روح الفكاهة (باستثناء ذلك السطر الذي يعتبر نسيج وحده في كتابات ولسن، وهو قوله: " لم أقل شيئا، لأن القبلة قالت كل شيء ") .
أما كتاب ولسن الأخير، " أوروبة دون دليل "(1947) ، فهو مجموعة مقالات وصفية عن أوروبة بعد الحرب، ظهر نحو من نصفها في مجلة " النيويوركر " New Yorker وإذا نحينا جانبا كراهيته الشديدة لكل ما هو بريطاني، هذه الكراهية التي تعادل كراهيته لروسية، نجد أن الظاهرة الهامة في الكتاب هي اعتماده الصريح على أسلوب " المبسط ". أي على أن ولسن يستطيع أن يثير الاهتمام بأي شيء وذلك بالكشف عنه (كما فعل في المقالات المبكرة التي نشرها في شهرية الأطلسي Atlantic عن الأدب الروسي، والتي استرعت اهتمام العالم حين كشفت عن أن اللغة الروسية تحتوي على جميع أنواع الألفاظ والأصوات الممتعة) . والكتاب يقدم شواهد جديدة على موضوعات مألوفة، دون أن يأتي بطريف. وفيه ما في غيره من عدم الاكتراث بالكائنات البشرية، فجميع الناس الذين قابلهم في بلاد اليونان، أقرب إلى النماذج والأفكار السياسية المجردة، منهم إلى الأفراد الإنسانيين. وكان في ميلان يتجنب الجماهير، أما في لندن، فإنه لا يلاحظ الأفراد، بل يلاحظ " العلامات الدهنية التي تتركها رؤوسهم في حجرات الفنادق ". ويشتد به جنون العظمة، فلا يعكس صورة بعض المظاهر المنفرة التي علق بها سنتيانا (1) ، ولا يدافع عنها
(1) لعل المؤلف يشير هنا إلى ما كتبه عن الإنجليز في كتابه " مناجيات في إنجلترة " Soliloquies in England، الذي وصف حيه حياته وأحاسيسه في أعوام الحرب العظمى الأولى حين كان يعيش في إنجلترة.
فحسب، ولكنه في أحد المواضع يرى أن المفكرين الإنجليز أثاروا غضبه بمدحهم لكتاباته القديمة فقط، ويقرن نفسه إلى شيكسبير. وهناك أيضاً يتجلى شغله الشاغل بالأمور الجنسية. فهو يلاحظ الفتيات " المشرقات الوجوه " و " الفاتنات " بمظاهرهن " المغرية "" المثيرة " حيثما ذهب، (حتى التماثيل في كريت لها أثداء شهية) ويعلق على جاذبية عدم التناسب والتنافر في الشكل، ويبدي اهتماما بالغا بالمومسات، ويصف لقاءاته لهن في إسهاب، ويكتب أبحاثا مقارنه عن أحوال معيشتهن، ويتحدث عن دولة من الدعارة ترأسها " فتاة بهية الطلعة حقا، حيتني بالفرنسية " في لندن، وفتاة غريبة من أصل بولوني؟ ألماني " رائعة الجمال " في نابلي. وكذلك تشغله شؤون الطعام، فهو يقارن بنهم بين وجبات الطعام والخدمة في مختلف أنحاء أوروبة التي دمرتها الحرب. ولا يرى في دلهي أكثر من " كبائب لحم ضأن في سفود "، والتجربة التي يذكرها جيدا في كريت، لم تكن أكثر من " مأدبة هومرية ". ولعل أهم ما في الكتاب، وصفه للخدعة التي كان يقوم بها ليسلي الطفال، وهي تحويله منديل جيبه إلى فأر وثاب. " وقد كنت أحقق بها أعظم النجاح ". وقد جربها مع الأطفال في أثينة " ولكنها لم تكن ناجحة تماما، فالولد على ما يبدو كان أكثر اهتماما بالاستماع إلى المناقشات السياسية ".
ونستطيع أن نجمع عددا آخر من الملاحظ المتنوعة التي تساعدنا على دراسة " جرح ولسن ". منها بعض التجارب التي مر بها في برنستون ومدرسة هل، التي ما يزال يكتب عنها في ذكريات لا يجف لها معين. (لاحظ مالكوم كولي في مقالته التي كتبها عن كتاب " إلى محطة فنلندة " إن ولسن يصف لينين بأنه يتمتع بالوقار الأكيد الذي يتمتع به " ناظر مدرسة محترم ") . ولا يزال زملاؤه القدامى في الجامعة يطلون برؤوسهم في كل كتاباته. ويلازمه أيضاً اهتمام شديد بالسحر المسرحي وبالشعوذة
(التي يبدو أنها تمثل دائما، كما يقول ولسن، بعض الرمزية القسرية، كطقوس الموت والدفن عند هوديني)، وكثير مما يشبه ذلك. وتمدنا مقالة غرانفل هكس ببعض المعلومات القيمة: كقصة المرة الوحيدة التي التقى فيها هكس بولسن، عندما كانت جميع آرائه في كافة الأصدقاء " مرة مهجنة دون استثناء ". وكان يبدو على مائدة العشاء رزينا متغطرسا، على نحو لا تستدعيه آداب المائدة. ثم " عجزه الأساسي عن التعاون مع أية مجموعة من البشر، وخاصة تلك الصيغة التي طبعها ولسن على بطاقات ليستعملها في المناسبات، وأنا أنقلها هنا عن دراسة هكس المشار إليها:
ادموند ولسن يأسف لأنه لا يستطيع:
أن يقرأ مخطوطات الكتب
أو يسهم في تأليف الكتب أو الكتابة للمجلات
أو يشرف على التحرير
أو يقف حكما في المسابقات الأدبية
ولا يمكنه أن يقوم بالأعمال التالية دون أجر:
أن يعطي درسا
أو يلقي محاضرات
أو يخطب في المحافل
أو يقف خطيبا عقب حفلات العشاء
أو يتحدث في الإذاعة
ولا يمكنه على أي حال من الأحوال:
أن يهدي نسخا من كتبه للمكتبات العامة
أو يوقع على الكتب للغرباء
أو يقدم معلومات شخصية عن نفسه
أو يهدي صورا له
أو يسمح باستعمال اسمه في أعلى الرسائل
لو يستقبل أناسا مغمورين لا شغل لهم معه.
ويبدو أن جميع هذه المادة تتركز في سلسلة من المتناقضات الأساسية والورطات، وما دمنا لا نستطيع أن نصلقها بشخصية ولسن دون مزيد من الاعترافات الذاتية؟ فلا بد لنا من القول فيما يبدو هي الصفة المميزة لأبطال قصصه، وخاصة ذلك البطل الذي يستعمل ضمير المتكلم. فهذا البطل القصصي، إنسان بارد الإحساس، ينفر من أي اتصال بالناس، ولكنه يهتاج بدافع جنسي متوثب، وهو يفتقر إلى ملكة الإبداع ولكنه مضطر إلى إنتاج أعمال أدبية، وهو رهن الروح التجارية في الأدب، ولا يعجبه إلا الإخلاص والاستقامة. وهو ديمقراطي واشتراكي مع أنه مغال في عصبيته العنصرية، وغطرسته واحتقاره للناس. وليس له حظ من روح الفكاهة، ويلجأ إلى المعارضة الساخرة والهجاء. يحس بالتعقيد ويغالي في تبسيط كل شيء، سواء كان في الأدب أو في العلاقات البشرية، بعبارات تنضح بالحيرة والتردد. يمقت جميع القيود، ومع ذلك لا يستطيع أن يقطع " حبل السرة " الذي يربطه بالمدرسة. يهوى التملق ومع ذلك ينفر من المعجبين. له عقل شاك، وخلق محافظ يتوق إلى أن يكون " فلوبير "، فإذا به يصبح " إما بوفاري "(1) فإذا كان شيء من هذا ينطبق على ولسن نفسه، وإذا كانت نظرية " الجرح والقوس " تربط بين غور الجرح وقوة القوس، حق لنا أن نعجب لماذا لم يكن ولسن أعظم فنان في عصرنا هذا.
(1) أنا أعلم أن فلوبير قال: " إن مدام بوفاري هي أنا " ولكنه كان يعني بذلك شيئا آخر.
(وأما بوفاري هي بطل قصة فلوبير العظيمة " مدام بوفاري "، وهي مثال الغباء والضعة والسوقية في نظر النقاد) .
ومن إسهامات ولسن النظرية في حقل النقد، وإن كانت إسهاما ثانويا، نظرية هزة التعرف التي بنى عليها مجموعته المنتخبة سنة 1943، وعرفها بحكمة مقتبسة من ملفل، هي:" إن العبقريات في جميع أرجاء العالم، تقف متشابكة الأيدي متضافرة، وهزة واحدة من التعرف نسري في الدنيا بأسرها ". وعلى الرغم من السخافة التي ينطوي عليها هذا القول بمعناه الحرفي فإن ولسن آمن به حتى أنه جمع 1290 صفحة من الأحكام الأدبية التي أطلقت على الأدباء الأميركيين. وهذه الأحكام لم يكتبها النقاد، وإنما أدباء أخر. ومن الواضح أن عددا من الأدباء العظام، اعترفوا بعبقرية معاصريهم وأسلافهم " بهزة تعرف " مشجعة دافئة "، ومنهم بعض هؤلاء الذين ضمنهم ولسن مجموعته. وتاريخ الأدب مليء بالشواهد التي تثبت ذلك. وباستطاعة أي إنسان أن يعد قائمة طويلة بأسمائهم، مثال ذلك: بلزاك ورأيه في بيل، وبيل ورأيه في سكوت وبيرون، وسيموندز ورأيه في وتمان، وتولستوي فيما قاله عن تشيخوف، وتشيخوف عن غوركي (إن حدب هذين الكاتبين الروسيين العظيمين على الناشئين، واستجابتهما السريعة لهم، جديرة بالذكر) ، ورأي بوالو (دون غيره) في موليير، ورأي كيتبس في شيكسبير، ورأي آرنولد في كيتس (مع شيء من التحفظ) ورأي راسين في لافونتين، ورأي دريدن في ملتن، وما إلى ذلك.
على أنه من المتيسر أن نعد قائمة أخرى لهزات عدم التعرف تبلغ في طولها عشرة أضعاف تلك. فبيرون كان يمقت شعر كيتس، وامرسون كان يحتقر يو، وقد تهجم رونسار على ربليه، وكان وتمان يثير شعور الكراهية في نفس لوول ولونجفلو وهلمز ولانيير ووتيير (ألقى وتيير ديوان " أوراق العشب " في النار) ، كما كان سوينبرن يكرهه وآخرون سواهم. وكان لامرتين يحتقر لافونتين ولم يكن سوفوكليس يرى شيئا ذا قيمة في آثار
اسخيلوس ويوربيدس، ولم يكن وردزورث يستطيع أن يقرأ شعر كيتس، وكان كورني يفضل بورسو على راسين، وكان امرسون يحب هورثون ولكنه يأسف على افتقاره إلى الموهبة، وكان وتمان يكره ملفل. وفي محيط مستشاري دور النشر، رفض جيد قصة بروست المعروفة، ورفض مردث قصة " طريق الجميع " The Way of All Flesh لبتلر، وكان رأي ملتن في شيكسبير غير حميد، وكذلك كان رأي جونسون في ملتن. وكان وردزورث يكاد لا يفهم صديقه كولردج، وكان جورج مور يكره هاردي وكان سنت بيف يغض من شأن بيل وبودلير وبلزاك وفلوبير، وهكذا إلى ما لانهاية.
إن أسوأ ما في نظرية " هزة التعرف "، هو أن الأدباء الذين أساء إليهم معاصروهم، كوتمان، لا يميلون إلى أن يكونوا خيرا من ذلك في حكمهم على غيرهم من الأدباء. وإن عددا من الكتاب، ومنهم وردزورث وهردي وجيمس وملفل نفسه (على الرغم من استشهاد ولسن بقولته تلك) آلمهم عدم التعرف إلى مواهبهم حتى إن بعضهم لزم الصمت فترة من الزمن، أو ظل كذلك طوال حياته المنتجة، أو طلق فنا أدبيا كان هو الفن الذي خلق له. ومن الممتع أن نلاحظ، حين نطبق هذه النظرية على ولسن نفسه أنه عجز عن تذوق عدد كبير من مشاهير الأدباء في عصره (ومنهم بعض من ذكرنا آنفا) ، كما عجز عن تذوق عمله الأدبي نفسه (1) . ومن الواضح أن مثل هذه النظرية لا تمت إلى حقيقة
(1) علي هنا أن أشير إلى أن كتب ولسن النقدية ما تزال تتمتع بشهرة مبالغ فيها وغير طبيعية. فقد أثنى عليه واعترف به في هذه البلاد (أميركة) كتاب أعظم منه بكثير: ومنهم ف. و. ماثيسون، ر. ب. بلاكمور. أما في بريطانية فإنه يعتبر الناقد الأميركي الأول. ويبدو أن " قلعة اكسل " يعتبر المثل الأعلى للنقد النفسي والاجتماعي. وقد مدحه واعترف بنتاجه جيل كامل من الشعراء من سبندر وماكنيس وداي لويس إلى فرنسيس سكارف وفيليب توينبي. وكذلك بعض النقاد من أمثال ف. ر. ليفز (بل أن اليوت نوه به) . ومن الواضح أن هذا يرجع إلى أن جميع كتبه النقدية قد طبعت في إنجلترة، مما جعله الناقد الأميركي الوحيد الذي حاز هذا الشرف. ولكن هذه الظاهرة نفسها تحتاج تفسيرا. ومهما تكن الأسباب فإننا نأمل أن يتغير هذا الوضع الذي جعل من ولسن الناقد الأميركي الحي الوحيد الذي يعرف الكتاب الأنجليز آثاره، بينما لا يعرفون آثار كنث بيرك وبلاكمور في الأكثر.
الأمر بصلة. وإنها مجدية، في المقام الأول، في مجال التأسي الذاتي والدفاع عن النفس. وكأنما جانباها كطرتي الدينار وفي أحدهما الفوز لي وفي الثاني الخسارة لغيري. فإذا كان الكاتب الذي يؤمن بها مخفقا في أدبه، شعر بأن هناك نفرا من ذوي المواهب يقدرونه. وإذا كان موفقا شعر بأن يد العبقرية مهدت له سبيل السمو إلى مرتبة الخلود.
أما وضع ولسن الحاضرة، وقد نيف على الخمسين (ولد سنة 1895)(1) فإنه يثير الحيرة. فعمله في مجلة النيويوركر New Yorker كمعلق دائم على الكتب، يجافي الصورة التقليدية للناقد الجدي الذي يبذل أقصى من عنده من المقدرة، في التعليق على الكتب مرة أو مرتين في الأسبوع. بما في ذلك من اضطرار إلى إضاعة الوقت في سقط المتاع، ومعاناة الكتابة الضحلة، في نطاق محدود، ثم الاقتراب من الكتب الكبيرة والموضوعات الشائكة بتخصص تضيق دائرته يوما بعد يوم. ومجمل القول أن زاويته في تلك المجلة، خيبت أمل هؤلاء القراء الذين كانوا يتوقعون أن يجدوا فيها نقدا جديا (تلك المجلة التي تخصصت في النقد الخفيف) ، فألفوا ولسن سطحيا. ولم يوفق ولسن إلى اجتذاب تلك الفئة من القراء التي تبحث عن زاوية خفيفة سهلة القراءة؟ كتلك التي يحررها كفلتون فدمان؟ من زاويته في التعليق على بعض الكتب الخفيفة ككتاب " الرداء " the Robe للويد دوغلاس، و " الفيروزة " The Turquiose لآنيا سيتون، في حين أنه تجاهل عددا من الكتب الجيدة، التي ظهرت في ذلك الحين:
(1) نشر هذا الكتاب لأول مرة سنة 1948. وقد نيف ولسن الآن على الستين، وأصدر كتبا أخرى في مواضيع جديدة.
وقد كانت آراؤه النقدية في غالبيتها تقليدية، مع بعض الانحراف أحيانا، كثنائه الشاذ على ايزابيل بولتون، وانتقاصه من قدر كافكا. وقد تبدى من خلال هذا القتام، بعض القطع الجيدة، أو قطع تحتوي على بعض الأشياء الجيدة، كذلك الهجوم القوي المفحم (وإن كان خاليا من الفكاهة على القصة البوليسية، ودراسته للعلاقة بين فن وايلد ومرض الزهري، ومراجعاته الجيدة المسهبة لبعض كتب مالرو وسيلون (يمتاز ولسن بمقدرة فائقة على التغلغل إلى عقول الراديكاليين الذين انقشعت الأوهام عن عيونهم، وعلى التعمق في كتبهم، وذلك واضح فيما كتبه عن كويستلر وغيره) . ودراستع للعمل الرمزي الذي ينطوي عليه السحر المسرحي والشعوذة. وتحليله الاجتماعي الرائع لكتاب " آداب السلوك " Etiquette لاميلي بوست الذي استعان فيه باصطلاحات فن المسرح.
ويبدو أن ولسن يقف في نقطة تحول في حياته. ففي مقالته التي ذكرناها آنفا والتي نشرت في " حولية مكتبة جامعة برنستون " اعترف ولسن؟ الذي كان في التاسعة والأربعين من عمره؟ بأنه بلغ منتصف العمر " والشعور يتملكني بأنني لم أبدأ في الكتابة بعد ". ولم يخف عن الناس أن النقد حرره من الوهم، وأنه لا يرى في مراجعاته في " النيويوركر "، وسلسلة مقالاته عن الأدب الروسي التي نشرها في " شهرية الأطلسي " سنة 1943 أكثر من أعمال صحفية. وإن كتابه عن آثار الحرب، وقصة " مقاطعة هيكت " يمثلان عودته الطويلة إلى الكتابة الإبداعية، من حيث أنها مهنة له. وأكبر من هذا الاحتقار لسمعته كناقد، احتقاره الجديد لفن النقد نفسه، وقبوله المذهل للتنازل عن وظيفة النقد. ولا مندوحة من قراءة عبارته الواردة في مجلة " النيويوركر " في مقالة عن كاترين آن بورتر، قال:" إنني بهذا أشوه أقاصيص الآنسة بورتر، إذ أحاول العثور قواعد تنطبق عليهان بينما كان علي أن أنصحكم بقراءتها فقط ".
وقد يكون ولسن هنا ضحية لأسلوبه المهني الذي لازمه أخيرا. وقد وصف نفسه في تلك المقالة التي نشرها في " حولية مكتبة جامعة برنستوب " بأنه " صحفي " ووصف طريقة الصحفي في العمل، وصفا جديرا بالاقتباس، قال:
" لقد كانت خطتي عادة؟ ولا بأس هنا من أن أهوي من عل؟ أن أجمع بعض الكتب لأراجعها، أو بعض القطع الإخبارية لتوضح بعض الموضوعات التي كانت تثير اهتمامي آنذاك. وبعد ذلك أجمع المقالات المبعثرة لأستعين بها في كتابة دراسات عامة عن هذه الموضوعات، وأخيرا أصدر كتابا يحتوي على عدد من هذه المقالات، بعد مراجعتها وتنسيقها ".
ويحمل هذا القول معه رنين الصواب، وهو دون ريب، يفسر أمرا يجعل القارئ الجدي لكتب ولسن يحس بشيء من العسر، ذلك أنه في الحقيقة لم يكتب كتابا نقديا (أو أي كتاب متكامل، باستثناء " كنت أفكر في ديزي "، و " إلى محطة فنلندة ") ، بل ألف بين مجموعات من مقالاته ودراساته في المجلات، وأضفى عليها شيئا من الوحدة بعنوان مبدأ ينتظمها. وإذا بدت هذه الطريقة جذابة من حيث مصلحة الكاتب فإنها قد قيدت خطى ولسن، ودفعت بنقده إلى سبل تجارية لا تتطلب أكثر من كتابة مقالات قصيرة ليست ذات عمق هائل وتركته في العقد السادس من عمره وكأنه لم يحقق من النجاح أكثر مما حققه كاتب أصدر كتابا واحدا، يمتاز بالوحدة والشمول. ولعل الشعور بالحاجة المفاجئة إلى ترك أثر تذكره الأجيال التالية، هو أحد الأسباب التي قشعت غشاوة الوهم عن عيني ولسن فيما يتعلق بالنقد، وفي الوقت الحاضر.
وهنالك ناحية أخرى من كتابة ولسن الإبداعية، تستحق البحث، وفي معرض الحديث عن كتابته النقدية؟ ألا وهي موهبته الحقيقية في كتابته المعارضات الساخرة. وهذه الناحية هي الصفحة الأخرى من عنايته بالترجمة
والتفسير في النقد، وقد تكون تعويضا عنها. كما لو كان الاهتمام الزائد بالمادة وحدها يتطلب منه أن يجد مكانا للاهتمام بالأسلوب وحده. وقد وفق ولسن إلى كتابة معرضات ناجحة منذ نظم قصيدته التي عارض بها اسلوب ادوين آرلنجتون روبنصون (1923) ، حتى بلغ ذروته في قصيدة " عجة أ. مكليس " The Omelet of A. Macleish (1938) ، ثم بعض القطع الجيدة في " مقاطعة هيكت ". وأقصى جهد طامح بذله، هو معارضة اسلوب جويس في كتابه " يقظة فينيغان "، وهو عمل جدير بالتقدير على الرغم من أنه لم يوفق فيه تمام التوفيق سواء في صورته القديمة، أو في صورته المنقحة التي صدرت باسم " المقعدون الثلاثة ". فإنها تفتقر إلى دقة جويس (فالأسماء الثلاثة: كارل فإن دورن، وهربرت غورمان، وغورهام ب. منسون، لا تمت إلى الأصل بصلة، ويبدو أنه اختارها للمشابهة الصوتية فقط) ، كما تفتقر إلى براعة جويس في تحريف الكلام ليصبح حمال أوجه المعاني.
إن لهذه المعارضات الساخرة، أهمية عظيمة، وذلك عندما ننظر إليها على ضوء عبارة ولسن التي وردت في " الفنانون أو المفكرون كثيرا "، إذ قال:" إن الرغبة في هجاء الرومانتيكية، كما هو الأمر عند فلوبير، تعني ميلا قويا نحوها ". وإذا عممنا هذه العبارة، قلنا: إن الرغبة في هجاء أي شيء، تعني الميل القوي نحوه. وبما أن الموضوعات الثلاثة التي تشغل بال ولسن، وتستدعي معارضته وسخريته، هي غرور هوليوود وروحها التجارية، والعبودية الفكرية المزرية في " الستالينية "، والاسلوب الشعري، فإن كل من يتقبل نظرية ولسن، يستطيع أن ينتهي إلى نتائج طريفة. (إن الميل القوي نحو الشعر عند ولسن، فضلا عن رثائه له، ملحظ يمكن أن تنجلي حيرة النقاد الذين عجزوا عن أن يعللوا لم خصص ولسن
هذه المساحة الكبيرة من كتابه " هزة التعرف " لبعض الأعمال التافهة؟ مثل " خرافة من أجل النقاد " A Fable for Critics لجيمس رسل لوول، و " ملاهي نادي الصدى " Diversions of the Echi Club. لبيارد تيلور، و " خرافة نقدية " لايثي لوول (246 صفحة أو نحو ربع الكتاب) ؟ إذا علموا أن الهجاء أو الكاتب الساخر قد يستشعر شيئا من الولاء لزملائه من مزاولي فن الهجاء والسخرية.
وأخيرا، لا يكون البحث عن ولسن وافيا إذا لم يتعرض لحالته النفسية الحزينة في الوقت الحاضر. لقد غدت لهجة ولسن رثائية حين يتحدث عن الشعر، منذ أن كتب " قلعة اكسل ". وكذلك عندما يتحدث عن الماركسية، على الأقل منذ كتب تلك المقالة القصيرة الحزينة التي دعاها " الماركسية والأدب "، والتي نشرها في كتاب " الفنانون أو المفكرون كثيرا ". وقد اتخذت كتاباته كلها هذه اللهجة منذ عهد قريب. وقد أخذ يكتب ذكريات طفولته وشبابه (وفيها بعض مشاهد " مقاطعة هيكت ") ، بلهجة مفعمة بالحنين إلى أمجاد بائدة. ومقالته التي كتبها في ذكرى ت. ك. وبل، وهو أحد زملائه في برنستون، وقد مات سنة 1939، مليئة بمثل هذه العبارة:" لقد رأينا عددا من الأصدقاء الموهوبين يعجزون عن تحقيق بعض ما كنا نعقده عليهم من آمال ". أما مقالته التي نشرها في " حولية مكتبة جامعة برنستون "، فأكثرها رثاء لأصدقائه في برنستون الذين ماتوا أو أخفقوا في حياتهم (1) ، ولزملائه من الأدباء الذين ماتوا
(1) مات سكوت فتزجرالد وجيمس جويس في شهرين متتاليين، الأول في ديسمبر 1940 والثاني في يناير 1941، وكان ولسن في ذلك الحين المحرر الأدبي لمجلة " الجمهورية الجديدة " New Republic. ومن الطريف أن نلاحظ أن فتزجرالد الذي كان زميلا لولسن في برنستون، والذي دعاه في رسائله " ضميري الفكري " حظي بعد وفاته بسلسلة من المقالات الرثائية، نشرت في أكثر من عددين من المجلة. بينما لم يحظ جويس بأكثر من افتتاحية لا تزيد على ثلاث فقرات. (جعل ولسن رسائله إلى فتزجرالد جزءا من كتاب The Creak - up) .
أو أخفقوا، وللكتابة نفسها التي رأى أنها قد بلغت مرحلة جديدة من العقم. ومراجعاته في " النيويوركر " تطوي الحاضر دائما وتحن إلى الماضي، وخاصة العقد الثالث من هذا القرن، حين ازدهرت مجلتا " فترة الانتقال " و " هذا الركن " This Quarter، وحين كان سكوت فتزجرالد وجون بشوب ما يزالان على قيد الحياة، وعندما كانت حركاتنا الأدبية " لم تستنفذ نفسها بعد "، وحين كان ادموند ولسن كاتبا ناشئا حديث التخرج من الجامعة، ينتظره مستقبل زاهر. والحقيقة أن ولسن ابن نفسه بطريقة مؤثرة حتى أصبح من المجازفة أن يعمد إنسان آخر إلى تأنيبه من جديد. وهو يشعر أنه جزء من شيء ضاع على الأدب ولعله كذلك. وحتى الأطفال يبدو أنهم قد ملوا رؤية منديل الجيب وهو يتحول إلى فأر.