المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الرابع فإن ويك بروكس والنقد المعتمد على السيرة من الصعوبة في - النقد الأدبي ومدارسه الحديثة - جـ ١

[ستانلي هايمن]

الفصل: ‌ ‌الفصل الرابع فإن ويك بروكس والنقد المعتمد على السيرة من الصعوبة في

‌الفصل الرابع

فإن ويك بروكس والنقد المعتمد على السيرة

من الصعوبة في حال فإن ويك بروكس، بوجه خاص، أن نجرد طريقة نقدية عملية مما يتصل بالرجل ومؤلفاته. فقد مضى عقد كامل؟ على الأقل؟ منذ أن أخذ من يهتمون بالأدب ينظرون إليه نظرة جدية، وفي خلال تلك الحقبة أحرز نجاحاً واسعاً شاسعاً، (حتى إن كتابه " ازدهار نيوانجلند " The Flowering of New England كان في رأس قوائ الكتب الرائجة لمدة تسعة وخمسين أسبوعاً متوالياً) واصبح شيخاً ضيق العطن مرير النفس أشيب الشاربين. وقد دخل في عداد الناقمين على ما يسميه " أدب الصفوة " يعني أدب جيمس وجويس واليوت وسائر أهل الجد من المحدثين، الذين يمثلون " دافع الموت "، واضعاً في مقابله " الأدب الأصيل " أي أدب ساندبرغ وفروست ولويس ممفورد الذين يمثلون الصحة والحياة. وقد علق مرة في صلف واعتداد بقوله " إن الأدب قد جنح نحو الفروع وعلينا أن نرتد به إلى الجذع ". واستفزه كتاب أرشيبالد مكليش " كفاح الثقافة " Kulturlampf حين صدر في أيام الحرب فاقترح حرق الكتب الألمانية، وأعلن أن الأدباء في البلاد الديموقراطية قد سمموا عقول قرائهم، واستنزفوا إرادة فرنسة حتى عجزت عن

ص: 185

الوقوف أمام هتلر. ثم إذا به يزداد لديه مرض كره الأجانب ويتحول ما كان يحمله من تبرم بالمهاجرين وبخاصة " شباب الجانب الشرقي "(1) ، و " بحاجاتهم الأجنبية " التي تضلل الأميركيين، أهل الوطن، إلى عصبية عرقية في كتبه الأخيرة يمكن أن نسميها " العنصرية الشمالية اليانكية "(2) حتى إنه ليعتقد أن نيوانجلند قد انحدرت " عندما ضغطت العناصر الغريبة فيها على أهل الوطن ". وأصبحت كلمة " جنس " و " جنسي "(3) تتناثر في كتبه الأخيرة بكثرة، كأنها اللوز في اللوزينج. وفي الوقت نفسه زاد انشغاله بالأنساب والاستقصاء عن " أسلاف كل واحد " و " بارستقراطية البنادر " وهم المنتمون إلى فإن ويك (كتب بروكس عن الكوت (4) فقال: كان كثير الاهتمام بنسبه، وإذا بلغ المرء الرابعة والأربعين، فأي بأس في ذلك؟) وتكاد هوامش كتابه المسمى " نيوانجلند؟ اليقظة الأخيرة " New England؟ Indian Summer أن تكون قوائم طويلة من أنساب الأدباء أو التمييز بين أيهم ذهب إلى هارفارد وأيهم تخرج في بيل. وعند هذه المرحلة كان قد آمن بأفكار اشبنجلر، ووقف ولاءه على " هانس زنسر العظيم " والدكتور الكسيس كاريل (5) .

(1) يطلق هذا الاسم على حي من أحياء نيويورك معروف بكثافة السكان وفقرهم ورداءة مساكنهم، وأكثرهم هاجر من شرقي أوروبة وجنوبيها، وهو مباءة للجريمة والمرض والراديكالية.

(2)

Yankee كلمة مجهولة الأصل، كانت تطلق في القرن الثامن عشر على سكان مقاطعة نيوانجلند ثم أصبحت تطلق في الحرب الأهلية على كل سكان الشمال. ثم عمت فشملت الأميركيين في الحرب العظمى.

(3)

تقيد هاتان اكلمتان في هذا السياق المعنى العنصري الشعوبي.

(4)

ألكوت (1799 - 1888) أحد الفلاسفة ورجال التربية الأميركيين، كان محدثاً بارعاً ذا آراء خاصة في التعليم، وفلسفة تتراوح بين المثالية المتطرفة وامادية.

(5)

زنسر (1878 - 1940) باكتربولوجي أميركي؛ أما الكسيس كاريل فإنه طبيب ولد بفرنسة 1873 ودرس فيها ثم هاجر إلى الولايات المتحدة سنة 1905 ونال جائزة نوبل سنة 1912 ومن مؤلفاته المشهورة كتابه " الإنسان - ذلك المجهول " Man، The Unknown.

ص: 186

لقد قام بروكس في سنواته الأربعين وفي كتبه التسعة عشر بتحولات كثيرة، حتى ليعسر علينا أن نلحظ فيها مثالاً ثابتاً. فقد كان جمالياً واجتماعياً وفرويدياً وكاتب بيانات ومتبعاً ليونج وداعياً إلى حرق الكتب مثل تولستوي وأخيراً كان مؤلفاً لشذرات أدبية فكاهية وحكايات عن الأسفار من أجل " نادي كتاب الشهر ". وكان أولاً يأبى إباءً مطلقاً لبيقاً أن يعترف بأميركة وبالثقافة الأميركية فتحول إلى قبولهما والاعتراف بهما اعترافاً مطلقاً دون فحص أو نقد. بل لعله انتحل كل الاتجاهات السياسية والفلسفية المعاصرة وسماها جميعاً " اشتراكية ". ومع ذلك كله فهناك مثال ثابت في كتبه يستمر من أول كتاب إلى آخر كتاب، غير أنه ثبات في الطريقة لا في الرأي، أعني طريقة النقد المعتمد على السيرة.

والقضية الأساسية المسلم بها إنما توجد في دراسة حياته وذاته وشخصيته، وقد كتب بروكس يقول في كتابه " أميركة تشب عن الطوق " America " s Coming؟ of؟ Age:" إن الطريقة الوحيدة المثمرة هي دراسة الشخص نفسه ". وبعد ذلك بربع قرن، عرف في كتابه " آراء أوليفر أولستون " The Opinions of Olivere Allston ما الذي يعنيه بالاتجاه الشخصي في دراسة السيرة وميزه عن الاتجاه العلمي فقال:

أما هذه الحقائق (حقائق التحليل النفسي) فما عادت أنفع من سواها. وتظل كل الحقائق عنه عديمة الجدوى حتى يأتي كاتب السيرة فيستوعبها ويتمثلها تحت ضوء من قدرته الحدسية الاستبصارية بكل ما تتمتع به من تحسس للحقيقة والتناسب. وهذه القدرة أداة ذهنية تختلف عن الذكاء، وواقع الأمر أن الذكاء يشلها عن العمل. فليست العلل هي التي تهمنا في السيرة، وإنما الشخصية نفسها؟ الشخصية

ص: 187

التي تنتمي إلى المجال الأخلاقي الجمالي، وهو مجال منفصل تماماً عن مجال العلية. فإذا حاول أحد أن يتحول بالسيرة إلى علم، فذلك عبث لا طائل تحته، كالأمر في التاريخ أيضاً.

وقد كانت هذه القدرة على استبصار الشخصية والذات، مع اندفاع لا إيغال فيه في استعمال الذكاء؟ ذلك العضو المسيب للشلل؟ هي المظهر الرئيسي في كل إنتاج بروكس؛ وهي وشيجة ثابتة تتخل سلسلة من التغير المستمر المحير، فإذا شئنا أن نتتبع مواطن ورودها، أصبح من الهام أن نرتب كتبه حسب تاريخ صدورها:

1 -

؟ فأول كتبه النقدية هو " خمرة البيورتانيين " Wine of the Puritans وعنوانه الفرعي " دراسة لأميركية المعاصرة "؟ نشر في لندن سنة 1908 حين كان بروكس يعيش في انجلترة (وقبل ذلك أي حين كان طالباً في هارفارد سنة 1905 اشترك هو وجون هول ويلوك بنشر شعرهما في كراسة دون أن يذكرا اسميهما) . وهذا الكتاب " خمرة البيورتانيين " في شكل حوار يدور بين بروكس وشاب اسمه غرايلنغ Graeling في باية Baja بإيطالية. وهو وثيقة لعلها أغنى وثائق القرن العشرين احتفالاً بمبدأ " الفن للفن "، ولا ينقصها إلا صور بيردسلي Beardsley ويهمهم أحد الشبان بقوله وهو يشير بإصبع عاجية واهنة:" هذا وسق آخر من الطليان ذاهب ليحتل مواضعنا في الوطن ". ويؤكد لنا بروكس، وهو يكتب بياناً صغيراً يدعو فيه إلى التغرب عن الوطن: أن التاريخ الأميركي فير قريب إلى القلب، فإن بارنوم (1) هو الأميركي النموذجي فيه، والاشتراكية هي " الحلم الباهر بألوان من اليوتوبيا يستحيل تحققها ". ومع ذلك فإن

(1) بارنوم (1810 - 1891) مدير مسرح، أخفق أولاً في أن يكون صاحب دكان فأسس جريدة أسبوعية ثم أصبح صاحب مسرح وعارض تمثيليات. رحل إلى أوروبة ثم عاد إلى وطنه فأخفق في الوصول إلى مجلس الشيوخ الأميركي فنظم " السرك " وأعلن أنه " أعظم استعراض في العالم ".

ص: 188

الكتاب يحوي، بين كل هذا السخف، نقطتين هامتين: أولاهما، التفرقة بين خمرة البيورتانيين وشذا الخمر، أي بين النص على ما هو حقيقي بأميركة وهو الروح التجارية والنص على ما هو مثالي فيها وهو مثالي فيها وهو ما أصبح يدعى " الفكر المثالي "(1) وذه التفرقة في نواتها تشير إلى التمييز بين " الممتازين " و " العاديين " وهي تفرقة سينحي عليها بروكس كثيراً فيما بعد. أما النقطة الثانية في الكتيب فهي نواة الطريقة النقدية المعتمدة على دراسة السيرة. فهو لا يستطيع أن يضع الثقافة الأميركية في موضعها اللائق بها إلا إذا رآها من خلال " ذوات أهلها "(كلمة " ذات " كانت دائماً مفتاحاً لمصطلحه كله) ؟ مثل بارنوم وبريغهام يونغ (2) وروكفلر؛ ويعترف أنه حاول أن يكتب كتاباً يسميه " أهل الفكاهة الأميركيون "، ثم اضطر إلى التخلي عنه، عندما عجز عن أن " يخلق الذوات " الكامنة خلف الأسماء خلقاً جديداً.

2 -

؟ أما كتيبه الثاني فهو " داء المثالي " The Malady of the Ideal وقد نشر بانجلترة عام 1913، ونشر بأميركية، أول مرة، سنة 1947 ويشمل حديثاً سوادوياً عن موريس دي جيران وآميل وعن كتاب " أوبرمان " Obermann لسينانكور. ويحشد بروكس في الكتيب غنائية رعوية مغالية تدور حول " الإماء الراعيات ذوت النهود المكتنزة "، وأناشيد في وحدة الوجود الكاثوليكية، وهذراً عنصرياً جهيراً عن الروح الفرنسية والروح

(1) بريغهام يونغ Brigham Young (1801 - 1877) مبشر ديني، أقام في حوض بحيرة الملح العظمى، وهناك شجع الزراعة وأقام حكومة ثيوقراطية وأدارها على نحو دكتاتوري وكان أخلاقي الاتجاه ولكن مبادئه تقر تعدد الزوجات حتى يقال أنه تزوج 19 - 27 امرأة.

(2)

Transcendentalism وهي حركة فلسفية أدبية ترعرعت في نيو انجلند وكانت رد فعل لعقلانية القرن الثامن عشر وشكية لوك؛ ذات طابع رومانتيكي مثالي صوفي فردي وكثير من أفكارها يرجع إلى كانت يمثلها من الناحية الأدبية " الغاب " لثورو وبعض كتابات أمرسون ومن تلامذتها الكوت وجونز فري.

ص: 189

التوتونية. وإلى جانب هذا كله يقدم ثلاث دراسات لبقة في سير أناس قد أمرضهم الوجد التواق إلى المطلق، والقطعة التي كتبها عن دي جبران بين هذه الثلاث أقربها إلى الترجمة الحقيقة. أما الاثنتان الأخريان فإنهما تصطبغان بالتحليل النقدي، وبخاصة المقارنة الفذة بين سينانكور وبين آرنولد وجسنج.

3، - 4؟ أما كتاباه الثالث والرابع فهما سيرتان نقديتان قصيرتان، وأحد الكتابين عن " جون أدنجتون سيموندز " J. A. Symonds سنة 1914، والثاني " عالم هـ؟. ج. ويلز " The World of H. G. Wells سنة 1915 والأول منهما دراسة تتسم بالمواربة والروغان فتتجاهل مرض سيموندز العصبي، وتتردد بين التلميح إلى شذوذه الجنسي وبين إنكار وجوده، وتجعل من " النظام الاجتماعي " و " ربات الشعر " قطبين متعارضين وترى سيموندز نهباً مقسماً بين المتطلبات النسبية لكل من " الإنسان " و " الفنان ". ويصرح الكتاب بنظرية من أمتع نظريات بروكس وأقيمها وهي: أن " اختيار الأديب لموضوعاته ليس أمراً عارضاً " وأن الناقد يعالج أدباء بينه وبينهم " وشائج خاصة "، وأن الإنتاج النقدي " فلتات لسانية " و " أنصاف اعترافات ". أما دراسة ويلز فإنها تتخلل خمسة فصول من التحليل النقدي قبل البدء بالترجمة غير أن الفصل المتصل بالسيرة هو لب الكتاب، ومحصله أن والد ويلز كان صاحب دكان، وأن أمه كانت خادماً عند إحدى ربات البيوت، فارتفع ويلز عن طبقته، مثل ديكنز وديفو، بجهوده العقلية، ولذلك كانت كل آرائه وكل كتبه انعكاساً للانتهازية الوصولية التي تمثلها حياته. ويقول بروكس " إن الآراء والنظرات تقررها، إلى حد كبير، شخصيات أصحابها وأحوال حياتهم ". وهذا الكتاب من خير كتبه، ونظرته إلى ويلز على أنه صاحب دكان متميز، تدل على نفاذ بصر مدهش في عالمه الفلسفي السيال المتغير.

5، - 6، 7؟ وتلي ذلك كتبه الآتية:" أميركة تشب عن الطوق "

ص: 190

نشر سنة 1915، " الأدب والقيادة " Letters and Leadership نشر سنة 1918، وجمع كلاهما في مجلد واحد ومعهما مقال عن " الحياة الأدبية بأميركة " The Literary Life in America باسم " ثلاث مقالات عن أميركة " Three Essays On America سنة 1934 وقدم لها جميعاً بمقدمة تعتذر عما في تلك المقالات من " جرأة " و " رعونة ". وهذه المقالات الثلاث كلها بيانات عامة ودعوة إلى العمل، وقد كان لها جميعاً تأثير بالغ في جيل أدبي كامل، مع أنه لم يتضح أبداً ما هو العمل الذي كانت تدعو إليه. وقد صرح في كتاب " أميركة تشب عن الطوق ":" أن المرء لا يستطيع أن يكون ذا ذات، ما دامت غاية المجتمع غاية لا ذاتية، كتكديس المال "، وجرح القسمة الملتوية التي تجعل من مفكرينا طبقتين من الممتازين وأضدادهم، ابتداءً من ادوردز وفرنكلين؛ وعلق الرجاء كله على " ذات تقع في مجال وسط " وعلى تحقيق الذات الاشتراكية؛ ومجد وثمان، وسخر من " اهتمام امرسون؟ اهتماماً ناقصاً؟ بالحياة الإنسانية "، كما سخر من " التفاهة الغربية المشجية الجذابة " التي يتمتع بها أناس مثل برونصون ألكوت، ومن نقائض الغريبة المشجية الجذابة " التي يتمتع بها أناس مثل برونصون ألكوت، ومن نقائض سائر " شعرائنا ". أما كتاب " الآداب والقيادة " فإنه هجوم على الأثر الجائح الذي تطبعه الفلسفة النفعية الرائدة أو البيورتانية على الثقافة الأميركية، وأعلن أن الشعر والفن و " علم " ويلز قد تخلص المجتمع؟ في النهاية؟ من فساده الروحي. وتحدث بمصطلح جانح إلى الحدة عن بعض الشخصيات الناقدة والفنية، ممن أنجبتهم الأيام. وأما " الحياة الأدبية بأميركة " فقد صرح فيه أن الفنان الأميركي منفي ومجرم، ودعا إلى " مدرسة " من الأدباء ذوي " إرادة حرة " و " أنانية أصيلة جياشة العروق " لتعيد لنا غرس أرضنا الروحية ".

8 -

؟ أما " محنة مارك توين " The Ordeal of Mark Twain الذي نشر عام 1920 فإنه أول كتاب عظيم يصدره بروس، وسنعرض له ببعض

ص: 191

التفصيل فيما يلي. غير أن مما يستحق التنويه هنا أنهذا الكتاب يمثل خير توازن حققه في الطريقة المتصلة بالسيرة، وفي إفادته من الكشوف النفسية والاجتماعية لتعميق " قوة الحدس في الذات " دون أن يغرق في أي واحد من هذه الأمور إغراقاً يخرجه عن حومة السيرة إلى حدود العلم أو ما يشبهه. فهذا الكتاب، في إحدى نواحيه، نقد " بيوغرافي " مباشر، ومن ناحية أخرى دراسة اجتماعية عرض فيها توين في ظل بيئة اجتماعية جائرة. وهو أيضاً، من ناحية ثالثة دراسة نفسية يجربها " هاوٍ " لا عالم، وفيها يستمد بروكس أفكاراً من فرويد مثل الكبت والتسامي وانعكاس الذات، وتقنيات التحليل الحلمي، ونظرية وظيفة الفكاهة، ويستمد من أدلر مصطلحات مثل " الاستعلاء المذكر " ويستمد من سائر النفسيين كل ما يستطيع التقاطه.

9 -

؟ وفي سنة 1914 ظهر بالفرنسية كتاب عنوانه " هنري ثورو؟ المتوحش " H. Thoreau؟ Sauvage من تأليف ليون بازالجيت ولم يترجم إلى الإنجليزية ويطبع في أميركة قبل سنة 1924، ولكن بروكس قرأه فيما بين هاتين السنتين، فخلبته؟ فيما يبدو؟ طريقته التي تعتمد استعمال تعبيرات الأديب نفسه لإبراز أفكاره دون إشارة اقتباس، أو أي دلالة على الموطن الذي منه اقتبست. وقد كانت هذه الطريقة محض تشويه حتى حين طبقت على أديب مثل ثورو، يعد كل ما كتبه؟ إلا قليلاً؟ سيرة ذاتية مباشرة. فلما طبقهابروكس في كتابه " حج هنري جيمس " The Pilgrimage of H. James الذي ظهر عام 1925، لم ينتج عنها إلا " مرقعة " تامة. وتمخضت الطريقة عن سلسلة من المونولوجات الداخلية، تتدرج في سلم الإيذاء والإغاظة، ونحيل عقل جيمس الفذ إلى مستوى أشد شخصياته سذاجة، حتى تبلغ ذروتها في فصل عنوانه " مذبح الموتى " حيث تصل مستوى من السوقية يعز تصديقه، مستوى يظهر فيه جيمس عجوزاً سائلة الذنان (1) تشكو وحشتها

(1) الذنان والذنين المخاط الذي يسيل من الأنف.

ص: 192

في انجلترة بلاد سوء الأدب والغاصبين والشطار والمتوحشين ومحدثي النعمة والسوقة واللقطاء والعيارين.

وإذا تغاضينا عما في " حج هنري جيمس " من سخف في الطريقة، لم نملك إلا أن نعده كتاباً هزيلاً، لأن بروكس، وهو ناقد محدود الخيال والحس الجمالي، إلى أقصى حد، قد شاء أن يكتب عن أديب لا يحبه ولا يفهمه. وقد كان يكره بخاصة كتب جيمس الأخيرة أو ما يسميه ف. أ. ماثيسون " المرحلة العظمى ". وكشف عن فهم قليل وتذوق ضئيل لأي واحد منها؛ ولو لم يكن هذا نتيجة حتمية لنقص جمالي، لكان نتيجة حتمية للقضية التي يرتكز عليها الكتاب وهي: أن جيمس قتل موهبته لأنه جذ الأسباب بينه وبين وطنه، وهذا الغرض قد اضطر بروكس إلى أن يتصور إنتاج جيمس متدرجاً وبين وطنه، وهذا الغرض قد اضطر بروكس إلى أن يتصور إنتاج جيمس متدرجاً في الانحدار، مثلما أنه افترض أن توين مضطهد اجتماعياً وأضطره ذلك إلى أن يغالي في تقدير جهد توين، إلى حد بعيد. غير أن الطريقة ما تزال تعتمد السيرة، ولكنها أقل ميلاً إلى اناحية الاجتماعية وأقل احتفالاً بالتحليل النفسي وأقل إظهاراً لنفاذ البصر في الإنتاج الفني؛ والقول الفصل فيها أنها؟ نسبياً؟ بليدة مجردة من كل معنى.

10 -

؟ أما الدراسة الثانية المطولة فهي كتابه " حياة امرسون " The Life of Emerson الذي صدر سنة 1932. وهو أول أثر لم يدع الانتساب إلى الدراسات النقدية بل هو محض سيرة، ولا تحدوه غاية ككتبه عن سيموندز وويلز وتوين وجيمس (وعنوانه شاهد عدل على ذلك. حين سماه " حياة امرسون " ولك يسمه محنته أو حجه أو شيئاً شبيهاً بذلك) . ليس من قبيل المصادفات أن اختارته " النقابة الأدبية "، وأنه كان أول كتاب لبروكس يجد رواجاً شاسعاً واسعاً، وأنه كان الغاية التي انتهى عندها عمله الجاد، وبدأ قبوله الأشياء دون نقد أو تمحيص. وكان وقد وضع خطة

ص: 193

لدراسة ويتمان وملفل بعد دراسته عن جيمس ثم ارجأ ذلك أو تخلى عنه (ورد تصريحه بالعجز عن دراسة ملفل في قولته حين نشر " ملاحظة عن هرمان ملفل " الذي لم يعد طبعه منذ عهدئذٍ: " إننا لا تستطيع أن نتغلغل في خفايا الذات ") فأصبح إمرسون مثلما كان وتمان " الذات التي تقف في مجال وسط " وتجمع بين خصائص فرنكلين وادوردز وبين خصائص توين وجيمس.

11، - 12؟ وفي أثناء ذلك كان بروكس قد نشر عام 1927 مجموعة من قطع صغيرة بعنوان " إمرسون وآخرون " Emerson and Others وتحتوي:(أ)" امرسون؟ ست فصل " وهي في الدرجة الأولى ملاحظ للسيرة التي كتبها سنة 1932 (ب)" ملاحظ عن ملفل "(ج؟) ست مقالات أخرى.

وفي سنة 1932 نشر " تخطيطات في النقد " Sketches in Criticism وهي مجموعة شاملة من مقالاته النقدية، بعضها يرجع في تاريخه إلى ما قبل 1920 وقد استخرجه من مجلتي " الفنون السبعة " Seven Arts و " الحر " وغيرهما. وكثيراً ما تصبح الطريقة المؤسسة على السيرة في هذه المقالات أمثولة ساذجة مطمئنة في موضعها وتكاد تسخر من نفسها مثل قوله: كانت عائلة بارنوم تهزأ منه وهو طفل فلما كبر أخذ يهزأ بالآخرين. أما التطورات الجديدة التي علقت به فهي انتقاله من مصطلح فرويد وأدلر إلى مصطلح يونج المصقول وبخاصة تلك التبسيطات المغرية، وإحلال مصطلح " انطوائي " و " غيري " محل الثنائية الأولى:" الممتازون " و " العاديون ". يزاد على ذلك نغمة جديدة من السخط المتبرم بالأدب الحديث (الذي يمثله هنري جيمس واليوت وغيرهما في مقالات مثل " المثقفون المحدثو النعمة " و " مبدأ التعبير الذاتي "؛ وهو يهاجم ذلك الأدب دون أن يسميه، ولكنه يكني عنه دائماً باسم " التعبيرية " أو أدب " السيكولوجيا " و " التجريب ". وكثير من تلك القطع ينحو منحى السيرة، كتلك القطعة القصيرة التي سماها " من حياة ستيفن كرين " وذكرى

ص: 194

جون بتلر ييتس. وقليل منها يعالج الأحياء لأن بروكس وجد نفسه مثل سنت بيف مواجهاً بهذه المشكلة وهي أن الطريقة المعتمدة على السيرة لا تبدأ عملها إلا إذا استوفت جميع الحقائق؛ أما ما حاوله فيها من نقد قليل فهو بعامة يشبه إرسال مدفع ضخم لينسف بعوضاً مثل هاملتون رأيت مابي ويواقين ميلر.

13، - 14، 15، 16؟ وفي سنة 1936، نشر بروكس أول مجلد من مشروعه الضخم عن التاريخ الأدبي للولايات المتحدة وسماه " ازدهار نيوانجلند ". وعلى ضآلة شأنه إذا قارنته بأمثاله من دراسات مؤرخي الأدب الجديين أمثال تين وبراندز ودي سانكتس وبارنغتون، فإن المجلدات الثلاثة التي تبعته خلال فترات امتدت إلى أربع سنوات لأوفر منه حظاً من الرداءة والضآلة. ذلك لأن " الازدهار " ذو موضوع؟ على الأقل؟ وهو الجو الثقافي في نيوانجلند قبل الحرب الأهلية، أي مسافة الخلف بين أديب وأديب؛ أما كتابه " نيوانجلند؟ اليقظة الأخيرة " فإنه محاولة الخلق جو ثقافي لأدباء نيوانجلند بعد الحرب الأهلية بشيء يشبه الأمر الحتمي " ليكن هذا وليكن ذاك " حتى ولو تم ذلك باختطاف هنري آدمز من وشنطن وكمنجز من قرية جرينتش واعتبارهما من مواطني نيوانجلند. وأما الكتابان الآخران وهما " عالم وشنطون ايرفنج " The World of W. Irving و " عصر ملفل ووتمان " The Time of Melville Whitman فقد تخليا عن هذه الوحدة الإلزامية وليس فيهما رابطة جامعة إلا تاريخان زمنيان، وإلا أن المؤلف اضطلع فيهما بمعالجة كل أديب لم تسبق الإشارة إليه. وهذه الكتب الأربعة جميعاً مراصف من الاقتباسات، وقطع من رسائل قديمة ووثائق، وسجلات من ملاحظ قيدت، وقوائم من كتب ألفت. وليس فيها وجهة نظر ولا مقاييس ولا عمق ولا فكر، وفيها حب دافق لكل واحد دون تمييز. ففي الأول يعد بنكروفت وبرسكوت وموتلي وباركمان معاً مؤرخين تصح المقايسة فيما بينهم؛ وفي الثاني يتساوى هاولز وجيمس في أنهما أديبان بارعان؛ وفي الثالث يعد جفرسون وهملتون وهارون بر

ص: 195

على قدم المساواة في السياسة؛ وفي الرابع يعد والت وتمان وجيمس وتكوم رايلي شاعرين أميركيين.

ولا تزال الطريقة ضرباً من التلفيق، قائمة على مبدأ: اقتبس وانثر ما تقتبسه، وهلم جرا. ونجد بروكس واعياً لقيمة براندز وتين، ويقتبس منهما ما يستحسنه، ويعتبر كتابه اتباعاً لمنهجهما، ولكن عالمه الأدبي الواقعي الذي يقع تحت بصره إنما هو فوضى لا ضابط لها، تحكمها المصادفة والاتفاق. فمثلاً مر لوول عهد من الراديكالية لأن زوجه كانت تتوقد حماسة، وكان هو سهل الاستهواء، ثم انتهى ذلك العهد، لأن زوجه ماتت ولم يعد الإيحاء إليه سهلاً. وأما ملفل فإنه (لما كان ملاحاً)" أدرك في مقدمة السفينة المعنى التراجيدي للحياة "(لكن لِم لم يدركه دانا؟)(1) . وأشد ما يزعج بروكس، بعد أن كان فيما كتبه عن ويلز وتوين أديباً واضحاً تمام الوضوح، هو ما جد على أسلوبه من غموض وما ران عليه من غشاوة، وعجزه عن أن ينفذ من حجب الإبهام، وأن يحدد ما يريد أن يقول. وتدليسه في الكتابة، حتى ليصعب على القارئ أن يعرف أين هو النص المقتبس والمنثور وأين هو كلام بروكس نفسه نصاً. إن إبهاماً مثيراً ليحيط ببعض أقواله، فمن ذا الذي يستطيع أن يعين من هو الداعية إلى إلغاء الرق في بوسطن، الذي تلقى بالبريد أذن أحد الأرقاء إذا قرأ قوله: " وقد يتلقى المرء بالبريد

الخ ". حقاً إن اهتمامه الأكبر منصرف نحو السيرة، ولكنها أصبحت؟ مع الأيام؟ سيرة تعجز عن أن تؤدي إلى نتائج أو تتمخض عن فأر ميت، كأن يقول مثلاً: لقد كان محتوماً على آدمز أن يكون ولوعاً بالفن؛ وإن آثار بو كانت تستمد وجودها من القلق المهيمن على حياته، وإن المبادئ السياسية عند موتلي

(1) المعروفون باسم " دانا " كثيرون، أما المعني هنا فهو رتشارد هنري دانا (الأصغر) 1815 - 1872 الذي نذر أن يكرس كتابته في سبيل البحارة، ومن كتبه " صديق البحار " وفيه يعرف الملاحين حقوقهم وواجباتهم ويعد مرجعاً في مصطلحات البحر وعادات البحارة.

ص: 196

كانت توجه كتابته التاريخية.

17، - 18؟ وفي أثناء ذلك، وقبل صدور كتاب " عالم وشنطون ايرفنج "، ظهر كتابان سنة 1941 أولهما مجلدة لطيفة الحجم عنوانها " في الأدب اليوم " On Literature Today والثاني " آراء أوليفر أولستون ". أما الأول من هذين فهو خطاب موجز ألقاه في كلية هنتر Hunter وهو نص على أن حال " الصحة والإرادة والشجاعة والإيمان بالطبيعة الإنسانية " تلك الخصائص الموجودة عند روبرت فروست ولويس ممفورد هي " الحالة المهيمنة في تاريخ الأدب "، وقد نرى فيهما؟ متسامحين؟ رد فعل مخلص هستيري لما يبدو أنه انهزام الشعوب الديموقراطية في أوائل سنوات الحرب. وأما " آراء أوليفر أولستون " فإنه أعمق وأشد خطراً؛ وهو ترجمة ذاتية محجوبة بثوب رقيق مما يسميه ذكرى " صديقي أوليفر أولستون الذي مات في العام الماضي وهو في أوائل عقده السادس "؛ وهو مسرب ترشحت خلاله كل الأحقاد المريرة التي تجمعت في نفس بروكس بعد أن كتب الأجزاء المعسولة في التاريخ الادبيز ولا ريب في أنه احتذى في هذه الطريقة نفسها كتاباً لراندولف بورن (1) عنوانه " تاريخ أديب راديكالي " History of a Literary Radical، وهو ترجمة ذاتية تهدف إلى التحدث عن " صديقي ميرو ". وقد أدى كتاب " آراء أوليفر أولستون " لمؤلفه عدداً من الأغراض الممتازة، فسمح له أن يكون صريحاً كيف شاء، وأن يستعمل مذكراته ويومياته مباشرة دون أن يعثر في ذيول حرج كثير. وأتاح له أن يغير ما قيده حيث أراد، لأن ما يكتبه هو حياة أولستون لا حياته هو نفسه، وقيض له أن ينثال كيف شاء في التحدث عن نفسه وعن قيمته " موضوعياً "، وأخيراً مكنه من أن يضحي بأولستون،

(1) بورن (1886 - 1918) : نصب نفسه متكلماً بلسان جيله في نقده للنظم الأميركية ونقد الأفكار العاطفية الخائرة في الأدب، وقد جمع بروكس آراءه النقدية والفلسفية ونشرها في كتاب " تاريخ أديب راديكالي ".

ص: 197

وأن يطيح معه بالصبابة الباقية من ضميره الأدبي، مشيعاً هاتين الضحيتين بشعائر ولادة جديدة معقدة. وقد تفنن بروكس في استغلال كل ضروب السخرية من شخص أولستون وتوصل إلى نتائج دهياء دقيقة مثل:" لو أن أولستون قرأ " كتاباً قرأه بروكس، لكان له نحوه شعور مغاير؟ أو: إن إحدى تعليقات أولستون " لتبدو لي مجاوزة حد الاحتمال وذلك أقل ما يقال في وصفها " 0 أو وأفق أولستون على رأي لبروكس وكانت موافقته؟ وهو العارف المطلع؟ توثيقاً يقوي رأي بروكس نفسه، وهكذا. (يبدو أن اسم اوليفر اولستون يرجح كفة الصفات الجاسية الغليظة في بروكس، فلو جزأناه هكذا: أو؟ ليفر؟ أول؟ ستون؟ لكان معناه: " يا كبداً من حجر كلها ") .

إن كتاب " آراء أوليفر أولستون " قد تبرأ من عهدة الكتب الأولى لما فيها من " جهل " و " وقاحة "، ولكنه ذهب يحقق جهلاً ووقاحة، عجزت الكتب الأولى عن مشارفة حدودها. أما القواعد الجديدة التي طبقها بوضوح فهي " الكتاف " الضيق الذي شده تولستوي حول الأدب في كتابه " ما الفن؟ "؟ " إن أدبنا مريض حائد عن مركزه ويعكس دوافع الموت ولابد من " زجره " (كلمة " زجره " تعد مفتاحاً في نقده) (1) . ولم يعد الأدباء يمثلون صوت الشعب " والأدب الحق هو الذي ينقل مشاعر سليمة صحيحة "؛ لقد آن الأوان لكي نعيد الكلاسيكيات الأميركية؛ كان هنري جيمس " بليداً "، كان " ابناً آثماً عاقاً بأمه "، أما رامبو فكان " شقياً صغيراً مريضاً فريسة للعواطف المتصارعة "، وكان جويس " يسوعياً إرلندياً مريضاً " ومؤلفاته " تافهة " " داعرة " " منكرة الريح " " رماد سيجار احترق "، وكان لافورج " غلاماً جامحاً عنيداً "، وكان بروست " طفلاً أفسده التدليل " وهكذا. ويسأل بروكس: " ما الذي جعل بروست حجة

(1) بعد ما يقرب من أربعين عاماً أنتقم ايرفنج بابت من بروكس الذي كان في فصله الأول بهارفارد.

ص: 198

في الحب؟ وقد نجيب على ذلك قائلين: هو الشيء الذي جعل بروكس حجة في الصحة العقلية، أعني فقدان كلا العنصرين: الحب عند بروست والصحة العقلية في حال بروكس، فهذا الثاني كثي التحدث عن هذا الموضوع، فهو يذكر في كتابه ما أصاب أولستون من انحطاط عصبي ومرض نفسي، ويذكر الزمن الذي قضاه في مصح إنجليزي. وكلما ازداد بروكس معرفة بحال الأدب المعاصر تخلى عن النطق بلسان أولستون وأخذ يتكلم بصوت نفسه؟ وهو صوت أجش؟ في هذه المرحلة.

وانتهى بطريقته المعتمدة على السيرة إلى غايتها المنطقية: إن كان النقد هو سبر غور الشخصية، وإن كان الناقد لا يكتب إلا عن أدباء تربطه بهم بعض الوشائج، وإن كان الأدب موجهاً بحياة الأديب فإن بروكس يستطيع أن يحيط بكل ما هو قيم في النقد لو أنه كشف عن جذور أدبه في حياته، واستبصر خلال ذاته. لقد سجل أولستون في مذكراته هذه الملحوظة:" إن المرء الذي يشجع بما لديه من تفاهات يكون دائماً امرءاً ناجحاً " وفي هذا القول عكس أولستون الوضع وكتب نعياً لفان ويك بروكس.

2

- على ما في " محنة مارك توين " من خلل، فهو أحسن كتب بروكس، إن لم يكن الوحيد الذي نجحت فيه الطريقة المعتمدة على السيرة، ومن ثم يستحق أن ندقق فيه النظر. وموضوعه أن مرارة توين " كانت وليدة نوع من العجز الكليل في حياته الخالقة، أو وليدة ذات حرون مخفقة، ولكنه حطم لديه معنى الحياة ". أما العاملان اللذان كبحا تطوره الخالق فأولهما؟ في المجال الفردي؟ سيطرة أمه عليه، وتعلقها العاطفي به، ثم كان أن خلفها في ذلك زوجه وابنته رمزين لأمه؛ وثانيهما؟ في المجال الاجتماعي: العصر المذهب

ص: 199

في أميركة (1) ، عصر التوسع التجاري ومقاييسه الكاذبة التي سنها رجال الأعمال، وبها اضطر الأديب لأن يعين رجل الأعمال المرهق على الراحة والاسترخاء، لئلا يتحطم. وربما كان في هذين العاملين نصيب أساسي من الصدق، غير أن بروكس حين يحاول أن يشد توين إلى سرير موضوعه البروكرستي (2) - حتى يحصل على المواءمة التامة؟ يجد نفسه مضطراً إلى أن يبتر هنا ويمط هناك، وأعني بالبتر أنه يستخف كثيراً بما أداه توين فيطلق عليه اسم مؤلف كتب ذات " مستوى هابط " لا تتجاوب معها إلا " العقول الفطرية الساذجة "، أما المط فهو مغالاته في تصوير مقدرة توين مؤكداً أنه كان في إمكانه أن يصيب حظ فولتير أو سويفت أو سرفانتس (3) . حقاً إن قلة من كتب توين هي التي لا تزال تستحق القراءة أما سائرها فقد أصبح اليوم مملاً صبيانياً، ولكن الحق أيضاً أن تلك القلة، وبخاصة " هكلبري فن " Huckleberry Finn و " الحياة على المسيسبي " Life On the Mississppi لا تزال أدباً من الطراز الأول. فحين يزعم بروكس أن توين؟ تحت ظروف أخرى؟ كان يستطيع أن يكتب " رحلات جلفر " أو " دون كيشوت " فهو مخطئ، وحين يزعم أن ما استطاع أن يكتبه؟ هك فن مثلاً؟ لا

(1) العصر المذهب في أميركة The Gilded Age هو فترة ما بعد الحرب الأهلية حين كان يسيطر على حياة الناس جشع جامح، وقد كتب توين قصة بهذا الاسم صور فيها الفردية في عصر ن القيم المبددة، ومن القصة أخذ الاسم فأطلق على الفترة نفسها؛ وفي قوله " المذهب " بدلاً من " الذهبي " إشارة إلى أن هناك خداعاً وتزويقاً ظاهرياً.

(2)

نسبة إلى بروكرست Procrustes وهو فيما تروي الأساطير لص كان يقطع الطريق على المسافرين ويشد الواحد منهم إلى سرير فإن تجاوزه قص من رجليه، وإن قصر عنه مطه حتى يسويه به.

(3)

بعد أن أكملت هذه المقالة بوقت عثرت على تلك الدراسة الممتازة " أميركانية فإن ويك بروكس " للكاتب ف. و. دوبي F. W. Dupee وقد طبعت في The Paretisan Reader سنة 1946 نقلاً عن Partisan Review سنة 1939. وقد لحظت أن دوبي تقدمني إلى الالماع لهذه النقطة (وهذا نص عبارته: " ولقد كان في مقدور صاحبنا أن يكون تولستوي آخر، لو وجد ظروفاً أحسن) - وإلى عدد آخر من النقاط.

ص: 200

يستحق الاهتمام، فهو أحمق. غير أن البصر المركزي النافذ في الكتاب، أعني إجراءه المقارنة بين طاقة توين في الإحساس وسماجة كثير مما حققه فذاك سليم رصين وإن كان مشوباً بالمبالغة.

وفي الكتاب أشياء كثيرة مشمولة بقوة البصيرة ومن بينها: تعرف بروكس إلى أن رمز بحار المسيسبي هو النموذج الأعلى للحرية والرضى الخالق؟ حتى في الفن؟ عند توين (كما أنه يرضي بروكس لأنه في مجال وسط بين الرجال المثالي والعملي، بين الممتاز والعادي، بين ادوردز وفرنكلين) ومن ذلك أيضاً يقظته على أن استقبال توين الأخير في السرير يعد أنموذجاً رجوعياً مثل غرفة بروست المخططو بالفلين (1) ؛ وتنويهه بأن اهتمام توين بازدواج الشخصية في مثل قصته " التوأمان الغريبان " Those Extraordinary Twins إنما نوع من التذبذب بين الاستنارة والركود، وملحظه أن قصة " العصر المذهب " The Gilded Age حديث عن الأعمال في صور دينية. وفي الكتاب غير قليل من الحماقة والتشويه والإغراق في تبسيط ما يستمده من مارس وفبلن وفرويد ومن أي نظرية تقع في متناول يده، ولو كانت أخلاقية غثة، إلى حد أن يهتف قائلاً: أيها الأدباء ثوروا ما دام هذا النظام قد فعل ذلك بتوين! ولكن الأثر الكلي غاية في الإفادة، والكتاب إسهام طيب في تبيان تأثير النقد المعتمد على السيرة، ضمن حدوده، واتهام لبروكس الذي لم يفد منه في آخر أيامه.

ولعل أكبر ضعف في الكتاب هو انعدام روح الفكاهة عند بروكس انعداماً مؤبداً مطلقاً (اقترح مرة أنه كان على آدمز أن يسمي سيرته " خيانة هنري آدمز " لا أن يسميها " تربية هنري آدمر ") ومما يميز منهجه أنه يحلل، في منتهى التزمت، نكتة من نكات توين أشوى فيها ولم يصب الهدف،

(1) كانت هذه الغرفة في وسط منزله في شاعر هاوسمان، وكانت مهبط وحيه، ولم يكن يغادرها إلا نادراً. ثم اضطر بعد سنوات إلى إخلاء المنزل بسبب بيعه إلى إحدى الشركات التجارية.

ص: 201

فهو يقتبس قولة توين الساخرة حين عهد إليه بتحرير Nuffalo Express " إنني لن أضر بالصحيفة عامداً متعمداً في أي وقت " ويعلق عليها بقوله: " يقيني أنه لم تستسلم أبداً إرادة خالقة، ببراءة، ودون ألم، كما استسلمت في هذه الكلمات ". ويقتبس مقدمة توين على " هك فن ": " إن الذين يحاولون أن يجدوا دافعاً في هذا القصص يقدمون للمحاكمة، والذين يحاولون أن يجدوا فيه عقدة قصصية يقتلون رمياً بالرصاص "، ثم يعلق عليها بقوله:" إنه ليشعر بأنه مطمئن إلى نفسه حتى إنه ليتحد الرقيب إن كان يمكنه أن يتهمه بوجود دافعٍ ما ".

ومن أمتع المظاهر في " محنة مارك توين " الطبعة المنقحة المحررة التي نشرها عام 1933 دون مقدمة أو تعليق. ففي خلال الثلاثة عشر عاماً التي تقع بين تاريخي الطبعتين، كان عرضة للهجوم والتجريح من أجل كتابه، وبخاصة على يد برنارد دي فوتو. وعندما كان كتاب دي فوتو " أميركة أيام مارك توين "؟ الذي لم يكن إلا محاولة لتحطيم كتاب بروكس؟ عندما حروفاً تصف في المطبعة، أعلن بروكس أنه يعيد طبع كتابه مراجعاً منقحاً. إنني لم أقرأ الكتاب كلمة كلمة لأرى مقدار التغيير في الطبعة الثانية ولكن التغييرات التي تبرز من مقارنة عارضة تكاد لا تصدق:

في ص 58: يدرج بروكس تعليقاً معترضاً قبل أن يحكي القصة ليفسر ما وقع فيه توين من تناقض على أساس أن ذاكرة توين كانت تخونه.

في ص 61: يحذف مادة متهانفة النشيج عن توين وكيف حطم قلب أمه.

في ص 63: يسقط جملاً قوية عن أن توين كال العزم مكبوح.

في ص 93: يحذف هذه العبارة " وباختصار مرت جميع نيوانجلند ومرت معها جميع الحياة الروحية للشعب في حال من الأنيميا العصبية وظلت فيها حتى هذا اليوم ".

في ص 95: يغير هذه العبارة " إن مؤامرة واسعة لا واعية حفزت كل

ص: 202

أميركة ضد الحياة الخالقة " ويجعلها " إن نوعاً من مؤامرة لا واعية ".

في ص 96: يعمل بروكس بسرعة وحذق فيحذف هجوماً مقداره نصف صفحة كان قد صبه على أدباء أميركة واتهمهم بأنهم اتكاليون موزعو الرغبات لا قوام لهم؛ ويغير " ولم تكن أميركة سعيدة في الأساس " ويجعلها " أكانت أميركة حقاً أسعد أثناء العصر المذهب أكثر من أي شعب آخر؟ ويسقط " هاتين العبارتين الهامتين:

(أ) كان شعباً كسائر الشعوب ليس لديه ما يعزيه من موسيقى شعبية أو فن شعبي أو شعر شعبي أو قل كان لديه من هذه أشياء شبيهة بالعدم.

(ب) كانت حياة قبلية، حياة قطيع، فترة دون شمس أو نجوم، كانت شفق روح إنسانية، ليس لها ما تغتذي به إلا الماء المتدفق في كامدن والمن المجفف في كونكورد (1) .

وبعد إشارة إلى فرح الأميركيين بالعمل حذف هذه العبارة:

" وذلك قد خلاّهم شيوخاً هرمين، في سن الخامسة والخمسين ".

في ص 98: يحذف " حكماً أخلاقياً " مفاده أن الشيطان قد اصطفى توين ليبعث به إلى الدمار.

في ص 104: يغير " ودائماً يخضع في النهاية " إلى " ودائماً يخضع بطيبة في النهاية ".

في ص 109: يحاول أن يحتفظ بمقررين فيعدلهما بتعبيرات مخففة، مثل:

(1) كونكورد قرية في ولاية ماشوست على بعد عشرين ميلاً إلى الشمال الغربي من بوسطن وقد كانت في منتصف القرن التاسع عشر مركز الحركة الفلسفية المثالية التي تضم امرسون وهوثورن وثورو والكوت. فلعل بروكس يرمز بالمن المجفف إلى ثمرات هذه الفلسفة المثالية.

ص: 203

" وربما اقترحت "

" أتراه كان واعياً بها أو لم يكن ".

في ص 131: يغير " اللعبة الأميركية المعروفة " و " القواعد الأميركية المعروفة " إلى " اللعبة المعروفة " و " القواعد المعروفة ".

في ص 143: يغير " هذا الاستسلام الخلقي

أكذلك نسميه؟

" إلى " هذا التسليم " (واضح أننا لن نسميه) .

في ص 151: يضيف في درج الكلام شهادة جديدة ليقوي قضية مشكوكاص فيها عن خنوع توين المتذلل.

في ص 154: يحذف تشبيهه توين بشمشون النائم " الذي أسلم غدائر شعره لزوجه الساذجة دليلة ".

في ص 161: يحذف حكاية تنبئ كيف أن توين سرق دخينة، غايتها أن تثبت أنه كان طفلاً عنيداً صعب المراس.

في ص 180: يحذف نكتة قالها توين عن روكفلر الأصغر وعن سياسة يوسف بمصر.

في ص 182: يحذف ما يملأ الصفحة والنصف من مادة نقدية حادة تصف توين بأنه أديب عارف بإخفاقه ورجل أعمال في حقل الأدب.

في ص 190: يحذف جملتين ومن الواضح أن عيبهما قلة التعصب الوطني وفيهما يقارن عقل توين مقارنة فاسدة باي عقل " لأديب فرنسي أو إنجليزي ذي مكانة ".

في ص 192: يغير " أود أن أشير إلى " وقد يقال ".

في ص 196: بعد أن كان " الصبر والضمير " هما " جوهر كل فن " أصبحا بعد التنقيح " يتعانقان بحياة الإبداع أيضاً ".

في ص 261: يزيد لرأيه دفاعاً جديداً رأي مخالف يحمله لودفج لويزون.

في ص 278: يحذف نكتة عما ترمى به نيوانجلند من صلف سوقي، كما يحذف تلميحاً يفهم منه أنه يغالي في تقدير مغزى إحدى القصص.

ص: 204

في ص 284: يشفع قوله " أحزان شعب بسيط " بقوله " أشدها تعقيداً " بدلاً من أن يقول " أكثرها نجاحاً ".

في ص 292: " وربما كان هذا الاعتراف أكثر اعتراف مسف مثير للرثاء خطه أديب مشهور " تصبح: " ويقيني أنه اعتراف مؤسف جداً يصدر عن مؤلف مشهور ".

في ص 315: حذف العبارة: " أنتساءل إذن لم كان مارك توين " يمقت " القصص؟ والجواب عن ذلك لأنه استطاع أن ينتج قصة واحد فحسب، وكانت مخفقة ".

وليست هذه الأمثلة إلا نبذاً يسيراً من تغييرات لا تحصى عدداً؛ دع عنك ما تناول فحسب تصحيح خطأ نحوي أو اختصار تكرار أو تفضيل كلمة على أخرى. ومن ذلك كله، تظهر لأعيننا صورة من أقوال مرسلة صارخة، لابد من أن يعدل في نغمتها أديب قد علت به السن، ونمت لديه الحيطة، فهو يتحيل هنا، ويلطف المرسلات الخاطئة هنالك، ويعمل في المتناقضات يداً لبيقة. وهنا تتبدى لنا صورة خنوعٍ جديد، وتشبث بالوطنية، يضطرانه إلى أن يحذف كل ما يهون من شأن أميركة ونيوانجلند وجون ديفدسن روكفلر الابن، وصورة حيطة جديدة مستعدة لأن تتخلى عن جزء كبير من موضوع كتابه إذا شن عليه هجوم، وليست هذه كلها صورة جميلة.

3

- إن الموروث الذي انتهى إلى بروكس، من النقد القائم على السيرة، لموروث أصيل. فتكاد كل ترجمة أدبية أن تكون؟ إلى حد ما؟ نقدية (مع أن الدراسات النقدية نفسها، ربما لم تكن بيوغرافية إلا في القليل النادر) . وأول سيرة أدبية إنجليزية حقة هي " حياة دن وهربرت وغيرهما " لأيزاك والتون، وهي لا تهتم كثيراً بالشعر، لأن " أيزاك الطيب " ليس له ذوق

ص: 205

كبير في الشعر المتافيزيقي. ولكن، بعد قرن من الزمان، أي حين كتب جونسون كتابه، " تراجم الشعراء " Lives of the Poets وجد المحك النظيف الذي يستطيع أن يبين مدى ما تقدمه دراسة الحياة من يدٍ لفهم العمل الفني، وبرز النقد القائم على دراسة السيرة حقاً في مثل الحديث عن العلاقة بين شخصية روشستر الخلقية، وشعره في الفصل المخصص عن " حياة روشستر ". وبعد نصف قرن أصدر سكوت " تراجم القصصين " Lives of the Novelists فمشى بالطريقة خطوة إلى الأمام؛ من ذلك مثلاً استكشافه تردد الشخصيات البرجوازية الظريفة في قصص رتشاردسون وأن ذلك راجع إلى أنه ابن الطبقة الوسطى المتظرفة. وبعد سنوات قليلة تكتمل هذه الطريقة على يدي كارليل (الذي كان يرى التاريخ " جوهر سير عديدة لا تحصى ") وماكولي (مع أن أبدع مقالة كتبها وشرح فيها فرانسس بيكون دون شفقة لم تنجح في الكشف عن العلاقة؟ وهي علاقة واضحة لدينا؟ بين بيكون المحب للتنسيف وبيكون الفيلسوف النفعي) . وفي الوقت نفسه أخذت الطريقة تستعمل فيما يشبه " إثبات القضية بالبرهنة على بطلان نقيضها " وذلك في دراسة دي كونسي لكولردج وهي دراسة ترى الشعر من خلال مرض " جنون السرقة " والزواج التعس والإدمان على المكيفات وغير ذلك من العوامل الفردية التي يعثر عليها دي كونسي أو يخترعها.

أما التطور العظيم الذي أحرزه النقد المعتمد على السيرة فإنه لم يحدث على أية حال في انجلترة بل في فرنسة عندما كان سنت بيف ينشر " أحاديث الاثنين " Causerie du Lundi مبتدئاً بذلك في منتصف القرن الماضي. وقد عرف الطريقة تعريفاً يكاد يكون كاملاً بقوله:

يتكون النقد الحق؟ كما أحده؟ من دراسة كل شخص، أعني كل مؤلف، أعني كل ذي موهبة، حسب أحوال طبيعته لكي نقيم له وصفاً حيوياً حافلاً حتى يمكن أن ينزل؟ فيما بعد

ص: 206

في موضعه الصحيح من سلم الفن.

وهذا التطابق التام بين الأديب وإنتاجه قاد سنت بيف إلى دراسة مسهبة لحيوات أهل الأدب، ابتداءً من المظهر الجسماني إلى أدق التوافه التي تملأ حياتهم اليومية. وقد استطاع أن يحصل من هذا الركام على بصر نافذ بالأديب وإنتاجه، وهو شيء عجز عنه الأدباء الثرثارون الذي اتبعوا طريقته؟ إلا قلة منهم -. وبين الحين والحين وسع في مجال السيرة؟ كما في مقاله عن جبون؟ فجعلها دراسة شاملة للعلاقة بين الأديب وعصره وبيئته، واضعاً بذلك أصول اتجاه جرت فيه الطريقة من بعد على يد تين، أكبر تلامذته. فقد بدأ تين نقده بدراسة السير مثل سنت بيف (ودراسته لبوب على أساس من علله الجسمانية في " تاريخ الأدب الإنجليزي " تدل على أنه لم يتنكر للطريقة إطلاقاً) ولكنه سرعان ما حولها إلى النص على الجنس والعصر والبيئة فأصبح ناقداً للأدب اجتماعياً حتمياً من النوع الذي يمثله النقد الماركسي في أيامنا.

وزيد على هذه الحصيلة عنصر فكري يعتزي إلى ألمانية، فقد صرح غوته أن الفن ينبع من المرض وأنه نوع من الاحتجام. وحول وحول شوبنهاور هذا الرأي إلى النص على آلام الفنان، وأضاف إليه نيتشه تعديلاً يقول إن الفن ليس فحسب نتاج المرض، ولكنه تسجيل له، وأن كل فلسفةٍ اعتراف أو " نوع لا إرادي لا واعٍ من الترجمة الذاتية ". أما ماس نورداو فقد أشاع المبدأ القائل بأن العبقرية نوع من المرض العصبي في كتابه " الانحطاط " Degenerration. وحديثاً أكثر توماس مان من القول بأن الفن ينتج من المرض والاضطراب العصبي، مثلما تنتج اللؤلؤة من الصدفة، إلا أن الفن يكون نتاجاً لهذا المرض ووصفاً وتسامياً به؟ أكثر من هذا القول حتى عرف به؟ وهذا الرأي بالطبع هو نظرية " الجرح والقوس " التي انتحلها ادموند ولسن (1) لنفسه. لكن إن جردنا هذا الرأي من النص على المرض والاضطراب

(1) راجع الفصل الأول من هذا الكتاب.

ص: 207

العصبي وأحلناه إلى حتمية بسيطة تربط ما بين طبيعة الحياة لفردٍ ما وبين إنتاجه الأدبي كان ذلك هو القضية الأولى التي ينبني عليها النقد المعتمد على السيرة في وقتنا الحاضر.

ومن هذا النقد عدد من الأشكال المعاصرة الخاصة أحدها يكاد يختص بهنري جيمس وهو التاريخ الخاص للأثر الفني نفسه: أي ماذا عمل الفنان وماذا سمع وماذا قال وفي أي شيء فكر أثناء خلق الأثر الفني. ولفرجينيا ولف طريقة خاصة طورتها في كتابها " القارئ العادي " بجزئيه الأول والثاني، مقتفيةً بذلك خطوات ليتون ستراشي الذي قصر همه تقريباً على الشخصيات التاريخية. وتعتمد طريقتها إحياء شخصيات أدبية ومدارس وعهود بصور حيوية وقطع أدبية مركزة لبيقية دسمة. ذلك لأنها تستحضر جو الذين تكتب عنهم وطبيعة حياتهم وطيب شذاهم. وليس ذلك تحليلاً ولا هو تماماً سير ولا هو نقد وربما كان نوعاً من " مسرحيات القراءة "(1) ، ومهما يكن أمره فإنه شيء خلاب بالغ القيمة. أما هربرت ريد فإنه قد عكس، في ترجمته لوردزورث، طريقة النقد المعتمد على السيرة، على نحو ساخر، وأخذ يحلل شعر وردزورث " ليفسر به حياته " مثلما أن النقاد الاجتماعيين كتين؟ ضمناً؟ وتوماس كنج وبل في هذا البلد؟ صراحة؟ يدرسون المجتمع متخذين الأدب نبراساً في دراسة التاريخ الأدبي لا العكس. وركز نقاد آخرون معاصرون اهتمامهم على الطريقة البيوغرافية مثل مارك شورر في سيرة " وليام بليك " وف. أ. ماثيسون في كتابيه " سارة أورن جيوت " و " النهضة الأميركية ". وبيتركونيل في " بودلير والرمزيون " وفي " الفضائل الدنيوية "

(1) Closet Drama، مسرحية تكتب للقراءة فحسب، لا للتمثيل. وتكون عادة من النوع الفكري الغامض الذي لا يتيسر للجمهور فهمه عندما يعرض عليه ممثلاً على خشبة المسرح. على أن هذا الاصطلاح نسبي، فالمسرحية التي لا تصلح إلا للقراءة في بلد، قد تكون صالحة للتمثيل في بلد أخر. ومن هذا النوع مسرحيات شللي وبيرون وبراوممج وتنيسون في انجلتره ومسرحيات توفيق الحكيم الفكرية وفريدة بشرفارس.

ص: 208

وفي كتب عديدة كتبت عن بيرون. ولدينا أيضاً عدد من السير الأدبية التي تعد دراسات نقدية قيمة ومنها:

كتب جورج براندز عن غوته وفولتير وشكسبير ونيتشه

دراسات جسنج وتشسترتون عن ديكنز.

كتابا نيوتن آرفن عن هوثورن ووتمان.

كتاب جوزف ود كرتش عن صموئيل جونسون.

كتاب لينويل ترلنج عن ماثيو آرنولد.

كتاب ماكس برود عن فرانتز كافكا.

كتاب ولاس فاولي عن رامبو

فيليب هورتن عن عارت كرين.

أما الدراسات البيوغرافية التي كانت نفسية المنزع في معظمها فسوف نعالجها في موطن آخر.

4

- ويتصل بروكس عدد من المسائل التي لا ترتبط مباشرة بالطريقة البيوغرافية ولكنها تستحق البحث. وأولاها دينه لصديقه الحميم راندولف بورن الناقد الراديكالي الشاب اللامع الذي كانت بوادره تبشر بالخير قبل أن يعتبط سنة 1918 وهو في الثانية والثلاثين. فإن غضبته القوية هي التي أوحت إلى بروكس بكتابيه " أميركة تشب عن الطوق " و " الآداب والقيادة ". فلما اهتصر بورن قبل الأوان تناقصت حماسة بروكس بسرعة وهو الذي اقنع بروكس بحقيقة الصراع الطبقي في أميركة وساعد على تحويله من الجمالية الأوروبية الباهتة إلى الانشغال بالأدب الأميركي (غير أنه ليس مؤولاً عن الإقليمية الضيقة التي انحدرها بروكس في النهاية) ولو طال به العمر لكان ناقداً أميركياً عظيماً ولكان بروكس ناقداً خيراً مما هو.

ص: 209

وقد بلغ من أثر بروكس أن أصبحت له مدرسة، وأكبر تلامذته هم ولد فرانك ولويس ممفورد. وكان له أيضاً تأثير حقيقي في بول روزنفلد وماثيو جوزيفسون، وكان له تأثير موقت في ت. ك. وبل وف. أماثيسون (مع أن الأول انشق عنه وأصبح ناقداً ماركسياً، وانشق الثاني بعد كتابه " سارة أورن جيوت " لكي يستبدل بالدراسات البيوغرافية والاجتماعية المبسطة تحليلاً جمالياً جدياً عميقاً) . أما فرانك فكان أخلاقي النقد يكتب مواعظ ونصائح ينسجها من أوهامه. وأما لويس ممفورد من الناحية الأخرى فقد كان ناقداً خيراً من بروكس من نواحي كثيرة؛ وكتابه المسمى " اليوم الذهبي " The Golden Day أحفل بالمعرفة وأنفذ بصراً وألمع نقداً من مجلدات بروكس عن نيوانجلند؟ وهو يشاركها في الموضوع؟ وفي السنوات الأخيرة أخذ بروكس يتتلمذ له فينتحل أفكاره الصوفية عن العضوانية Organicism ويمجد عبقريته و " سلامته ". وأما ماثيو جوزيفسون فإنه قصر تأليفه؟ باستثناء دراسة شاملة عن الأدب الأميركي في " صورة الفنان أميركياً " Portrait of The Artist As American؟ على شخصيات أدبية فرنسية، وفيها صانه ذوقه الجيد المتأصل من الوقوع في الشطحات البروكسية. وأما بول روزنفلد؟ وعلله أكثر الجماعة استقلالاً؟ فإنه لم يكتب إلا مجلدين من الصور الأدبية أحدهما هو " ميناء نيويورك " Port of New york والثاني " رجال شوهدوا " Men Seen وهما مثل كتب بروكس يرتكزان في الدرجة الأولى على الشخصية ولكنهما أحفل بدقة النظر. غير أنه كأستاذه القديم هيونكر Huneker أكثر رغبة من بروكس في إشهار المغمورين من المحدثين وأكثر إحساساً منه بالقيم الجمالية. وأغرب ما في مدرسة بروكس هذه أنها على تماسكها فكل فرد فيها كان على وعي تام بنواحي العجز وضيق الأفق عند بروكس (قد نزعم أن هنا شيئاً من انعكاس الذوات) . وأحد نقد كتب عن بروكس حتى اليوم موجود في مؤلفات ممفورد

ص: 210

وفرانك وجوزيفسون وروزنفلد، وعند الأخير بخاصة، وكله كتب في فترة التلمذة المخلصة لبروكس.

أما الفكر الرئيسية التي نجح بروكس في أن يطبع بها مدرسته فهي أن أميركة بعد الحرب الأهلية قد أصبحت بيئة ثقافية معوقة أقعدت ضحاياها من الفنانين بطرق متنوعة. ولو أنا قلنا " غيرت " في مكان " أقعدت " ووضعنا " محصولها " موضع " ضحاياها " لكان هذا مبدأ رصيناً قابلاً للتطبيق عن العلاقة الوثيقة بين الفنان ومجتمعه. أما في شكله الذي قاله بروكس فإنه تعميم فظ أدى إلى تشويه محتوم في كل الأحكام الأدبية؛ وهو نصف حقيقة لا حقيقة كاملة. ولم يقتصر تأثيره على مدرسة بروكس بل ارتسم أيضاً على الماركسيين الآليين أمثال غرانفيل هكس وف. ف. كالفرتون من الذين أضافوا إغراقات بروكس إلى غلوهم وتلقوا كالببغاء تبسيطاته الشديدة لأدباء مثل جيمس وتوين. وقد استمر مرير هذا المبدأ ما يقرب من جيل نقدي كامل إلى حد ما، وشمل بارنغتون (في دراسته لجيمس) وعدداً من النقاد السوفيت (كتبوا عن توين) وأثر في أدباء مبدعين كان عليهم أن يكونوا أحسن معرفة ومن بينهم دريزر وأندرسون.

ومن أغرب المظاهر في إنتاج فإن ويك بروكس أن كل دراساته النقدية لا تعدو أن تكون حواشي مسهبة على بياناته ونداءاته. فكل من دراسته عن توين التي نشرت سنة 1920 والأخرى عن جيمس التي نشرت سنة 1925 إنما كانتا تعليقاً على جملة وردت في كتابه " أميركة تشب عن الطوق " سنة 1915 وكل ما فيهما من تشويه مضمن فيها وهذه هي العبارة:

والواقع أن أي فحص للأدب الأميركي سيظهر فيما أظن أن من كان من أدبائنا ذا عبقرية ذاتية حيوية قد شله افتقاره إلى مستند اجتماعي، كما أن الذين كانت لهم عبقريات اجتماعية حيوية كانوا أيضاً عاجزين عن إنماء ذواتهم وتطويرها.

ص: 211

أما جيمس فهو أحد وجهين من هذا " الدولار " كما أن توين هو الوجه الآخر. وتبدأ الفترة الثانية بكتابه " حياة إمرسون " وتستمر خلال كتبه عن نيوانجلند. وكل المقررات فيها كأنما كانت كامنة في سؤال ألقاه في كتابه " الحياة الأدبية في أميركة " سنة 1921. ونص سؤال:

كيف نفسر استحواذ الأدب الأميركي على الاحترام الكامل من الأميركيين يوم كانت أميركة في حقل الأدب كما هي في سائر نواحي الحياة أوضح صلةً بالاستعمار، أما اليوم وهذا الموروث الاستعماري يكاد يعفو أثره من حولنا فإن الأدب قل أن يستحوذ على احترام الأميركيين بل إنهم ليتبعون " أي إله " غريب من انجلتره؟

(واستطرد إلى القول بأن مما يميز دقة بروكس أنه قال " يتبعون كل إله غريب " ولم يقل " يتهالكون (1) على الآلهة الغريبة ") . أما البيان الأخير فهو كتابه " في الأدب اليوم " وقد نشر سنة 1941. وإذا اعتبرنا ما اعتاده بروكس من إرجاء أي شيء فترة لا تقل عن عشر سنوات، فإننا نتوقع على الأقل كتاباً آخر أو كتابين ينبثقان من واحدة أو أخرى من عباراته المشحونة بالتنبؤ والوحي.

ولدى بروكس عدد من نواحي القصور استغله إلى حد ما لفائدته؛ ومن أوضحها لديه أنه مثل ادموند ولسن ناقد لا يحب الشعر أساساً، ولكنه على خلاف ادموند ولسن لم ينسق وراء أي رغبة للكتابة عن الشعر ولم ينشر أي شعر من نظمه مذ فارق عهد الطلب (وذلك شعر ضئيل) . لقد سأل في كتابه عن ويلز في لهجة خطابية:" أكان ويلز يستكيع أن ينظم قصيدة؟ " وقد يوضع هذا السؤال في الصيغة التالية: " أكان بروكس يستطيع

(1) تنظر هذه اللفظة إلى كلمة " هلوك " وتحمل بعض إيحاءاتها هنا.

ص: 212

أن ينظم قصيدة؟ " والجواب على هذا وذاك بالنفي المؤسف. ومن نواحي قصوره المتصلة بما سبق، افتقاره إلى ثقافة عامة كافية عريضة تتيح له أن يعالج الأدب الأوروبي (مع أنه ارجم هم وزوجه ثلاثين كتاباً فرنسياً على الأقل) . ومنذ أن نشر " داء المثالي " سنة 1913 لم يكتب شيئاً عن أي أديب أوروبي خلا مقدمات قصيرة لم تجمع؛ ومنذ أن نشر كتابيه عن سيموندز وويلز في سنتي 1914 و 1915 لم يكتب أي شيء عن أي أديب أو فنان إنجليزي خلا مقدمات وقطع صغيرة عن سوينبرن وجون بتلر ييتس. أما الأول فقد لقيه بلندن، وأما الثاني فقد تعرف إليه في نيويورك. وفي كتابه " آراء أوليفر أولستون " يدافع بروكس عن هذا القصور في صديقه أولاً باقتباسة من سنت بيف (الذي كتب قسطاً صالحاً من الأدباء الأجانب) يقول فيها: " لا يظهر للنقد الأدبي قيمته التامة وأصالته إلا عندما يلزم نفسه بموضوعات يعرف مصدرها وبالحقائق المحيطة بها، وبجميع ظروفها لأنه متصل بها اتصالاً مباشراً مطلع على أصولها البعيدة ". وثانياً باقتباسةٍ من ييتس لم يحسن فهمها وهي:" لا يستطيع المرء أن يطول الكون إلا بيد مغلفة بالقفاز وتلك اليد هي أمته، وهي الشيء الوحيد الذي يعرف المرء عنه شيئاً ما " ويعلق على ذلك بقوله:

ذلك مبدأ أخذ به أولستون في كل إنتاجه ويصح لي أن أقول إنه لم يكتب بخاصة إلا عن موضوعات أجنبية فقد بدأ بموضوعات أميركية، وهل كان في مقدوره أن يوقف رغبته فيها؟

وهناك قصور آخر حوله بروكس إلى شيء يستحق التقدير، ذلك هو اعتماده الكبير على ملاحظه ويومياته وجملٍ يقيدها ونوادر وأقوال مأثورة، فكأنه دائماً يغتذي بما اختزنه من شحم، حتى إنه استعمل مادته عن إمرسون ف كتابه " امرسون: ست فصل " وفي " حياة امرسون " وفي " ازدهار

ص: 213

نيوانجلند " وفيما تلاه من مجلدات وفي مقالات عارضة. وتعود كل الحكايات والنوادر القديمة إلى الظهور مرة إثر مرة، نصاً أحياناً، مغيرة أحياناً، لأن بروكس رمى بالملحوظة ونسي الشخص الذي قال له غريلي: " في مقدورك أن تحدد لي شيئاً ما ". ولعله أكثر المؤلفين الأميركيين تكرراً منذ أن توفي توماس ولف حتى إنه في كتاب " محنة مارك توين " قد أعاد كل نادرة أو اقتباس مرتين على الأقل. وحتى إن سطراً مقتبساً من هربرت كرولي قد تكرر أربع مرات على الصفحة: 143 (تخلص بروكس من بعض المكررات في الطبعة المنقحة) . ولقد تصرف بروكس برصيده هذا حتى حوله إلى فضيلة، ومدح أولستون على عادة استعماله يومياته، مثلما كان ليفعل مشاهير نيوانجلند، أمثال إمرسون وثورو. وكان كتابه " آراء أوليفر أولستون " عاملاً كبيراً في استغلاله لهذا الرصيد الموفر لأنه مكنه من أن يطبع؟ دون تغيير؟ أية قطعة من يومياته لم يستطيع أن يستغلها في موضع آخر. وهكذا حصل على " سجق " سمين من علالةٍ لم يتبق منها إلا الجلد والشعر والقرون والذنب والكرش.

أما نزعة بروكس نحو تيارين فكريين رئيسيين في عصرنا، وهما الماركسية والتحليل النفسي، فكانت كموقف من يأخذ القشر ويطرح اللباب. فقد أفاد من ماركس في كل فرصة وبشكل مبسط سوقي إذا اعتبر وظيفة الفنان خدمة اجتماعية مباشرة؛ مثال ذلك قوله: كان توين مفيداً لرجل الأعمال لأنه ساعد فكره على الراحة والاسترخاء، فكان بذلك عوناً للكفاءة؛ وحث لونجفلو الرائد في طريقه على المضي؛ وهزئ بارنوم من الناس فشحذ بذلك الغرائز التجارية. ومع ذلك فقد كان دائماً يهاجم ماركس متصوراً أن الماركسية حتمية اقتصادية آلية مسمياً نفسه اشتراكياً مثالياً (أشد أقواله السياسية انفعالاً في كتابه أن أولستون قوله " لا تستطيع الشيوعية أن تتغلغل في هذه البلاد لأن الأميركيين أحرار بطبيعتهم. ولدينا أشياء كثيرة نتخلى عنها

ص: 214

عدا السلاسل ". وفي هذا القول شيء من النغمة التي وردت في ماردت به إحدى العجائز على متدين متحمس يدعو لبعث ديني: إن من ولد في بوسطن ليس بحاجة إلى أن يولد مرة أخرى) . أما في التحليل النفسي فإنه بعد أن قضى العم يختلس من اجل السير التي يكتبها نظرات نصف مفهومة من مبادئ فرويد وأدلر ويونج وغيرهم، صرح في كتابه عن أولستون بأن " طريقة التحليل النفسي في كتابة السير ذات قيمة محدودة جداً وأنا اعتقد أنها إذا استعملت مرة فإنها لن تستعمل مرة أخرى ".

ومن الطريف الممتع أن نشهد طريقة بروكس في النقد مطبقة على فإن ويك بروكس نفسه: كيف انحدر من أرومة هولندية كانت تقطن نيوانجلند القديمة ونيويورك منفياً في بلينفلد بولاية نيوجرسي، ثم ماذا كان أثر هارفارد والقصتين والشعر الهزيل الذي كتبه هناك، ثم ما أصابه من إرهاق ف خدمة القائمين على تحضير " المعجم المعتمد " The Standard Dicuionary ومجلة " عمل العالم " World " s Work؛ ثم نفيه إلى انجلتره والقاؤه المحاضرات من أجل الجمعية التعليمية للعمال؛ ثم إصابته بالعصاب وانحطاط القوى ودخوله المصح الذي دخله من قبله صديقه أولستون؛ ثم مصادقته للرجل الكسيح بورن، وموت بورن هذا؛ ثم نجاحه الأول في النقابة الأدبية وما تبع ذلك من نصر شعبي لم يحرزه ناقد أدبي أميركي أبداً وذلك حين كسب كتابه " ازدهار نيوانجلند " من " نادي الطبعات المحدودة " وساماً ذهبياً قدم " للكتاب الذي قد يبلغ مستوى الكتب الكلاسيكية " بالإضافة إلى جائزة بولتزر، واختيار " نادي كتاب الشهر " كتابه " نيوانجلند: اليقظة الأخيرة ". وهذا السرد قد يسمى محنة فإن ويك بروكسن أو ححه أو خيانته. وإلى أن يتحقق هذا فإن من أراد في الوقت نفسه أن يكتب شاهداً على قبر بروكس قد يحسن به أن يتخذ نموذجه ما كتبه بروكس نفسه عن لوول؛ ومن المؤكد أنه حين كتبه كانت صورة نفسه حينئذ ترتسم في ذهنه إذ قال:

ص: 215

وإذا كانت تلك النغمة الجديدة الجريئة التي استعلنت في " خرافة من اجل النقاد "(1) قد أدركها الفناء؟ نغمة الشاب الذي جهر بما في فكره، دون أن يحسب حساباً لما قد يظنه الناس أو يقولونه، نغمة الناقد يصيب ويخطئ، ومعه جنون الصبا، وهو غالباً مصيب غير أنه دائماً واثق من آرائه؟ أقول: إن كانت تلك النغمة قد تلاشت فإن نغمة أخرى قد حلت محلها، وإذا لوول الثاني هذا قد تخلى عن منهج لم كن يلائمه طبيعة واكتساباً؛ لقد تلبد ليصيد فمن قال إنه لم يصد؟ اقبلوه على علاته، لا تذكروه بدعاواه القديمة، لا تحرجوه بالأسئلة، وانسوا الآراء الراديكالية التي كان يؤمن بها في شبابه، ودعوه يبتهج بالملكيين ورجال الكنيسة ومحبتي البيرة الطيبة والغلايين المطيبة ممن لا يأبهون كثيراً بقانون إلغاء العبودية، ولا تضيقوا عليه الخناق بالتلميح إلى تقلباته وانحرافاته الخائرة.

لو غيرت بضع كلمات وتنازلت عن بعض التسامح، لجاء هذا النص صالحاً لبروكس نفسه.

(1)" خرافة من اجل النقاد " قصيدة هجائية ساخرة من نظم لوول نقد فيه الأدباء الأميركيين وحداً واحداً، وقص كيف تجمع الآلهة على الأوليمب، ووعدهم أحد النقاد بأن يحضر لهم زنبقة ثم غاب طويلاً ومر بحقول الأدباء وعاد الآلهة يحم شوكة، فغضب أبولو وتحدث عن العهد السعيد الذي مر على الأدب قبل أن يظهر النقاد.

ص: 216