الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
مود بوركين والنقد النفسي
تتميز مود بودكين في أنها حققت ما لعله أن يكون خير استغلال للتحليل النفسي في مجال النقد الأدبي حتى اليوم. فقد نشرت كتابها " النماذج العليا في الشعر " Archetypal Patterns in Poetry؟ وعنوانه الفرعي " دراسات نفسية للخيال " في اكسفورد سنة 1934، فلم يكد يسترعي اهتمام أحد. نعم، روجع عدد قليل من المجلات، وحاز على شيء من التعليقات المتحمسة في الصحف التي تختص بالفولكلور وعلم النفس، وعاملته الصحف الأدبية بشيء من الاستعلاء، ولم يكن له تأثير ملموس في ما قرأته من نقد إنجليزي (مع أن نايت وداي لويس وأودن قد اعترفوا به، وهاجمه ليفز في مجلة Scrutiny) . أما في هذه البلاد (أميركة) ، فتكاد الآنسة بودكين تكون مجهولة تماماً. فلست أعرف مجلة أميركية واحدة راجعت كتابها أو تحدثت عنه (على أن بعض النقاد ومن بينهم بيرك وورن قد استكشفوا كتابها وأفادوا منه) ولا يندرج اسمها في أي مرجع أميركي وإنجليزي وقع في يدي بما في ذلك معجم " من هو " Who is Who ويبدو أنها لم تنشر شيئاً حتى قيام الحرب في أي مجلة إلا في مجلة " فكر " Mind و " الصحيفة الإنجليزية لعلم النفس " British Journal of Psychology (وفي " الصحيفة
الإنجليزية لعلم النفس الطبي " Brit. Jour. Of Medical Psych، إن كانت هي نفسها أ. م. بودكين التي تقتبس عنها في إحدى الحواشي) ، ثم أسهمت بمقال في مجلة الريح والمطر Wind and the Rain وهي مجلة إنجليزية حديثة ذات منحى ديني أخلاقي.
وثمة عدد من الأسباب يفسر لم ظلت الآنسة بودكين مغمورة، أولها: أنها بست محللة نفسية محترفة، بحيث تمنح كتابها شيئاً من نفوذ العالم المتخصص، ولا هي فيما يبدو ناقدة محترفة كذلك، ولكنها، على ما يظهر، تلميذة تهوى الأدب (وكانت ذات يوم تقرأ لأحد الناشرين) ، اتفق أن كان لها تعرف واسع بكل من علم النفس والأدب الخالق، ولديها إحساس أدبي أصيل، وحس بالتناسب، وذوق بجنبها التطرف المعهود في النقد المتصل بالتحليل النفسي. وقد بدأت رغبتها في الجوانب الأدبية من التحليل النفسي، فيما نمي إليّ، في منتصف العمر، فاستمعت إلى مجموعة من المحاضرات يلقيها الدكتور كارل. ج. يونج في زوريخ، على طلبة غير مختصين، في العقد الثالث من هذا القرن، عن نظرياته النفسية ومشتملاتها. ولذلك اعتمد كتابها في المقام الأول على نظريات يونج وكشوفه، وإن كانت الفكرة التطبيقية في الكتاب من صنع يدها، وربما لم يكن يونج على معرفة بكتابها، أتراه لو عرفه أقر ما فيه أو أنكره؟ ذلك موطن للتساؤل.
وأنا لست أجد الكفاءة في نفسي لأشرح أفكار الدكتور يونج (أو أي عالم نفسي آخر) شرحاً فنياً، ولكن في سبيل تقدير ما أدته الآنسة بودكين لابد من مجمل لتلك الأفكار التي تتصل بالفن. وفي طليعتها من الزاوية الأدبية، فكرة " النماذج العليا "، وقد عرفها يونج تعريفاً شاملاً في مقال له بعنوان " في العلاقة بين التحليل النفسي والفن الشعري " نشره في كتابه " إسهامات في علم النفس التحليلي " Contributions to Analytical Psych. وهي حسب تعريفه صور ابتدائية لا شعورية أو " رواسب نفسية لتجارب
ابتدائية لا شعورية، لا تحصى " شارك فيها الأسلاف في عصور يدائية، وقد ورثت في أنسجة الدماغ، بطريقة ما؛ فهي؟ إذن؟ نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية؛ أما نظرية يونج التي كرست الآنسة بودكين كتابها لاستقصائها بحثاً، فهي أن هذه النماذج العليا تقع في جذور كل شعر (أو كل فن آخر) ذي ميزة عاطفية خاصة.
ويرى يونج أن هذه النماذج العليا موجودة في كل حلقات سلسلة النقل؟ أو التعبير؟ كتصورات في اللاوعي عند الشاعر، وكموضوعات مترددة أو سلاسل من الصور في الشعر؟ وكتصورات في اللاوعي عند القارئ أو عند الجمهور. وهذا مبني على فكرته عن " اللاوعي الجماعي " الذي يختزن الماضي الجنسي وهو الذيولد الأبطال الأسطوريين للبدائيين، ولا يزال يولد أخيلة فردية مشابهة للرجل المتمدن، وهو الذي يجد تعبيره الأكبر في رمزية تتجاوز حدود الزمان غير أنها مألوفة نسبياً، وهي رمزية ما تزال تتكرر أبداً. (لابد من أن يتضح للقارئ مدى اقتراب هذه الفكرة من النظريات الدورية في التاريخ كنظرية فيكو، ومدى اقترابها أيضاً من التعديل الذي أدخله شتكل Stekel على نظرية فرويد في رمزية الحلم الحرة التجريبية لكي يسند الرمزية الثابتة في كتاب له يصور حلم الغجر، وكم تبدو خلابة هذه النظرية، في نظر أديب مثل جويس تأثر بفيكو وكان يفتش عن سيكولوجية يستعملها ليخلق " القاسم المشترك الأعظم " بين الناس جميعاً) .
ويقول يونج إن الفنان والمريض عصبياً يعيدان بتفصيل، الأسطاير المستمدة من التجارب الشعائرية عند الإنسان البدائي، أحياناً عن وعي، وأحياناً من خلال عملية " حلمية ". غير أن الفنان مع هذا ليس امرءاً مريض في أعصابه. بل إن يونج يعلي من شأن الشاعر عرضاً، في مقالته " السيكولوجيا والشعر " التي نشرت في مجلة " فترة الانتقال " حين يقول إنه " إنسان
جماعي، إنه الحامل المشكل للنفس الإنسانية الحيوية لا شعورياً ". ومع هذه الفكرة تتمشى فكرة أخرى؛ وهي أن الفن في الجملة " فعالية مستقلة ذاتياً " Autonomous Complex لا نعرف عن أصلها شيئاً، أي هو تعبير يعيا على براعة العلم تفسيره، وكل ما يستطيعه التحليل النفسي أن يدرس المقدمات، ويصف عملية الخلق وصفاً، دون أن يفسرها. (1)
وهناك مبادئ يونجية أخرى أقل قيمة من هذه في مؤلف الآنسة بودكين وفي النقد الأدبي عامة مثل: مبدأه في اللبيدو وهو ما خالف به فرويد منذ البدء إذ اعتبر اللبيدو " طاقة غريزية نفسية بعامة " أي " دفقة حيوية " كما يقول برغسون لا " طاقة غريزية " فحسب، ومثل نموذجي الشخصية عنده، وهما: الشخصية " الانطوائية " و " الانبساطية " على أنهما يمثلان الاتجاه الداخلي أو الخارجي للبيدو، واصطلاحاته الأخرى مثل Anima ويعني بها الصورة المثالية أو صورة النفس و Persona وهي الشخصية الخارجية المكملة. إذن فليس يهم التحليل الأدبي من مبادئه إلا مبدأ اللاوعي الجماعي، والنماذج العليا، وذلك هو ما أدركته الآنسة بودكين.
ويبدو أن مبادئ يونج في علم النفس التحليلي أكثر جدوى على النقد الأدبي من مبادئ فرويد، من عدة وجوه. وقد تحدثت الآنسة بودكين عن فائدتين لها حسبما رأتهما، فقالت:
إن مصطلح فرويد لا يستطيع أن ينصفه (أي التفاعل بين فكر الفرد والموروث الاجتماعي في القصيدة) ذلك لأن المسلمات التي يعمل على ضوئها، تقضي بأن تفسر أعلى النتائج وأدناها في عملية الحياة، بمصطلح العناصر التي كانت موجودة في البدء. كذلك فإن إلحاح الكتاب الفرويديين
(1) تمشياً مع هذه النظرة لم يكتب يونج إلا قليلاً عن فنانين بأعيانهم عن أعمال فنية. ولا أعرف له من الدراسات الأدبية إلا حديثاً موجزاً عن " فاوست " لجوته في كتابه " سيكولوجية اللاوعي " وتحليل لكتاب " عولس " لجيمس جويس في: Wirklichkeit der Seele.
على العلاقة الحسية بين الأب والابن يغفل وجهه نظر أخرى لا تقل عنها صحة ومتانة أعني أن سحر الأب في نظر الابن وتأثيره البالغ فيه إنما يرجعان إلى ان الأب يمثل الرافد الأول في ذلك التأثير الواسع للهيئة الاجتماعي نفسها ولرصيدها المخزون.
ولعل أهم ميزة لمبادئ يونج على مبادئ فرويد في مجال النقد الأدبي، هي أن فرويد، على خلاف يونج، كان ينزع؟ حيناً ما؟ إلى أن يعتبر الفن تعبيراً مرضياً، أي أنه على وجه الدقة نتاج مرحلة نرجسية من مراحل التطور، أي تحقيق وهمي للرغبات، أي رضى معوض ناشئ عن توقان منهوم، لم يجد شبعه في عالم الحقيقة. وقد كتب عن " الجمال " في " المدنية وما يعلق بها من تبرم "، Civilization and its Discontents يقول:" إن ما يبدو أكيداً في حال الجمال هو أنه مستمد من عوالم الحس الجنسي، فحب الجمال مثل تام كامل على شعور ذي غايات مكبوتة "، وليس من هذا إقراره بأن التحليل النفسي " لا يستطيع أن يقول عن الجمال إلا شيئاً أقل مما يقوله عن غيره من الأشياء ".
ومع ذلك فإن فرويد، لا أي واحد من تلامذته الذين انشقوا عنه، هو الذي قد طبع أثره البالغ على كل أديب وناقد حديث، على وجه التقريب. وإذا استثنينا اصطلاح " مركب النقص " الذي ابتكره أدلر؟ وهو اصطلاح قد عم وطم؟ لم نجد نسبياً لهذا العالم النفسي إلا أثراً أدبياً قليلاً. (ولكن لابد من أن نقر بأنه تكاد كل القصص التي تتعلق " بالأنا " أو دوافع القوة أو التعويض ابتداءً من " جاتسبي العظيم " (1) The Great Gatsby حتى " ما الذي يجعل سامي يجري " What Makes Sammy Run؟ تكاد كلها أن تكون اغترفت؟ لا شعورياً؟ شيئاً من سيكولوجية أدلر الفردية) (2)
(1) جاتسبي العظيم قصة من تأليف ف. سكوت فتزجرالد، نشرت سنة 1925.
(2)
في سنة 1946 ظهرت سيرة عنوانها " وليم إرنست هنلي "، كتبها جيروم هاملتون بكلي J. Hamilton Buckley، وهي متأثرة بأدلر، لأن مؤلفها يرى في شخصية هنلي " احتجاجاً رجولياً " على داء سل العظام الذي أقعده، وقد تكون لذلك طليعة اتجاه أدلري في الأدب.
وليس ليونج؟ خارج زوريخ حيث وقع جويس بعض الشيء تحت تأثيره؟ إلا أتباع قليلون في الاتجاه الأدبي ومنهم بينهم يوجين جولاس، وجماعة " فترة الانتقال " بباريس؟ لفترة قصيرة من الزمن؟ وجماعة من الشعراء والنقاد الاشتراكيين الذين يلتفون حول جيمس اوبنهايم في هذا البلد (1) . أما شتكل ورانك وغيرهم من المنشقين على فرويد فقد كان أثرهم ضئيلاً خارج الحقول التي يعملون فيها.
إن الطبيعة الجماعية التقريرية لسيكولوجية يونج هي أعظم شيء فائدة للنقد الأدبي ولكنها أيضاً تتضمن أعظم الأخطار عليه أعني ما فيها من ميل لإعلاء شأن اللاعقلانية والتصوف و " ذاكرة الجنس " أي تلك الأشياء التي جعلت يونج جذاباً لدى المفكرين النازيين والفاشيين. وقد تجنبت الآنسة بودكين هذه الهوة في أفكار يونج، ولكنها ف مرة واحدة في كتابها؟ على الأقل؟ تدعو إلى المضي في المحاولة لفهم النماذج السيكولوجية الكامنة " بطريق الشعور لا بطريق الفكر " وفي هذا ما قد يلمح؟ ولو في شيء من الغموض؟ إلى إعلاء شأن اللاعقلانية التي حببت يونج إلى الفريق المؤمن بتميز الثرى الدم. أما في أكثر من اعتمادها على الجوانب المتافيزيقية الصوفية عنده. ومن الأمور ذات المغزى أن تصدر كتابها بعبارة من
(1) حاول و. ب. وتكت W. P. Witcutt في كتابه " بليك - دراسة نفسية " الذي نشر بإنجلترة 1946 أن يستعمل سيكولوجية يونج " ليشق طريقاً خلال الأجمة البليكية " في كتبه التنبؤية. ويبدو كتابه لي محمقاص لا فكرة له، وهو لذلك نقيض طريف لكتاب الآنسة بودكين، ويستعمل وتكت أكثر مبادئ يونج صوفية وغيبية ويطبقها على الفوضى المشتجرة عند بليك، ونتيجة ذلك خلية فوضى ازدادت بلبلة، (أو كما يقول المثل " حمأة مدت بماء ") أما جيمس أوبنهايم (1882 - 1932) فقد كان حتى الحرب العظمى الأولى داعية مسالمة Pacifist، ثم حطمت هذه الحرب معنوياته، وقضت على صحيفته " الفنون السبعة " فتتحول إلى التحليل النفسي.
عبارات يونج في أشد أحواله تواضعاً وأقلها إثارة للناس حيث يقول:
" لقد أعانني النقد الفلسفي على أن أرى أن لكل سيكولوجيا؟ بما في ذلك مذهبي أنا نفسي؟ طابعاً اعترافياً ذاتياً
…
وبقبول هذه الحقيقة التي لا محيص عنها أستطيع أن أخدم قضية معرفة الإنسان للإنسان ".
2
- إن كتاب " النماذج العليا في الشعر " من الكتب القلائل التي يتلازم فيها العنوان والموضوع لأنه يتحدث فحسب عن النماذج العليا في الشعر. ويتألف الكتاب من ستة فصول يثير الأول منها مشكلة النماذج العليا، كما تمثلها الروايات التراجيدية، ويتناول كشف إرنست جونز لعقدة أوديب في هاملت. ثم تعالج الفصول الخمسة الأخرى الموضوعات الآتية على التوالي: أنموذج الولادة الجديدة في قصيدة " الملامح القديم "، أنموذج الجنة والنار عند كولردج وملتن ودانتي، نساء يعتبرن نماذج عليا في الشعر، الشيطان والبطل والله نماذج عليا، بعض النماذج العليا في الأدب المعاصر. وينقسم كتابها منهجياً في قسمين: الأول: الكشف المسهب عن الأنموذج الأعلى في العمل الفني الواحد مثل الولادة الجديدة في " الملاح القديم " والثاني مقارنة أنواع من الأنموذج الأعلى في عدد من الأعمال الفنية كالفصل عن النماذج العليا من النساء عند عظماء الشعراء. وكلا المنهجين يستحقان الفحص.
تبدأ الآنسة بودكين في " الملاح القديم " بأن تلحظ العبارات التي تصف هدأة السفينة ثم حركتها العجيبة أخيراً وتجد أن هاتين الظاهرتين؟ أي لهدأة والحركة؟ يقدمان لنا مشكلة الموت والولادة الجديدة، رامزتين رمزاً محدداً، إلى تجربة كولردج الشعرية كيف كانت جهداً ذهنياً ضائعاً تلاه فجأة إلهام خالق. وتعتمد في هذا التفسير على تداعي أفكارها وذكرياتها التي أوحت بها الأبيات ثم عللا ما لديها من آثار كولردج نفسه، مما يشير
إلى تداعي الأفكار عنده وأخيراً على الروابط العامة، التي توضحها اقتباساتها من التوراة، بين هبوب الريح وانتعاش الروح الإنسانية. ثم تمضي الآنسة بودكين لتلقي نظرة على ذروة القصيدة أي حين يتحدث الشاعر عن بركات الأفعاي وما نتج عنها، وتعلق هذا بالأسطورة الأنموذجية التي عند يونج وهي " الرحلة الليلية تحت ماء البحر " كما تصورها قصته " ذي النون "(1) وهي أساس شعيرة الولادة الجديدة وتدور حول فكرة الخطيئة والتكفير. وهنا تشمل طريقتها أيضاً مرة أخرى خواطرها المتداعية وأحلامها، وما كشفه لويس Lowes من مصادر كولردج، وتحليل بدوران لصور مماثلة عند فرهايرن، كما تشمل المأزق الذي وقع فيه هملت، ونماذج أخرى من " الجواب الذي يلاحقه شبح الخطيئة " مثل قابيل واليهودي التائه، والمشكلة العامة التي تتمثل في تشهي الموت والعودة إلى ارحم، كما تنعكس في الأحلام والشعر ونظرية التحليل النفسي. وحين ينتهي بها المطاف يكون عملها غير قاصر على استغلال القصيدة لوضح بها الأنموذج الأعلى، بل هي قد جعلت الأنموذج يلقي أضواءه على القصيدة وأثرها، ويضعها في مصاف الشعر العظيم، ويعلي من درجة المتعة فيها، ويبعثها حيةً فيها إلى درجة كبيرة.
ويعمل نهجها المقارن على نحو مشابه ففي الفصل الذي عقدته للحديث عن الصورة الأنموذجية العليا للمرأة وقفت عند ربة الشعر الأم في " الفردوس المفقود " وربطت بينها وبين الربات؟ الأمهات عند هوميرس، ووجدت في هذه هؤلاء ما ينطبق على الزوجة؟ الأم؟ التي تنوح على تموز وغيره من الآلهة الذبيحة التي ترمز إلى الخصب والنماء. ثم نتناول التوازن الغامض الذي يخلق حواء عند ملتن من شخصية بيرسيفوني رمز الشباب الذي قدرت
(1) قد اكتنفتني مياه إلى النفس، أحاط بي غمر، التف عشب البحر برأسي، نزلت إلى أسافل الجبال، مغاليق الأرض علي إلى الأبد (يونان 2: 5 - 6) .
له نهاية محزنة، ومن شخصية دليلة رمز الخداع. ثم تجد ذلك الغموض عينه يكتنف فيدرا رمز الخادعة المخدوعة عند يوربيدس، وتلحظ كيف يبلغ هذان الأنموذجان مرتبة المثال في شخصية بياترس؟ صورة الأم؟ عند دانتي بكل ما فيهما من عناصر أرضية تتكون منها هيلانة وديدون وكليوبترا وفرنشسكا (والأخيرة منهن بخاصة) . وتنبه إلى أن التنوع في نماذج فرجيل بين يورديك وديدون يحمل في كل حال؟ حملاً غامضاً؟ كلاً من عناصر بياتريس وفرنشسكا، وتنتهي من هذا إلى أن ترى في هذه العناصر مراحل في التطور الروائي لشخصية غرتشن عند غوته، أي فرنشسكا حين تصبح بياتريس. وحين تعالج الآنسة بودكين ما بين هذه الشخصيات النسوية من ارتباطات متداخلة متنقلة، تحلل مظاهرهن الموقوتة بزمان معين وكيف كان ينظر إليهن في العصور التاريخية المختلفة التي شهدها كل شاعر من أولئك، كما تحلل مظهرهن الأنموذجي اللازمني في الخيال الشعري، خلال العصور مجتمعةً.
وحين تعود الآنسة بودكين إلى الأدب المعاصر فتكشف عن أنموذج الولادة الجديدة فيه ممثلاً بتعارض المصطلح الجسماني والروحاني في مثل " الأفعى المريشة " The Plumed Serpent للورنس و " الينبوع " The Fountain لشارلس مورغان، وشخص الشاعر الأنموذجي في صورة أب ممثلاً في " أورلاندو " Orlando لفرجينيا ولف، والنتف الحلمية المتتابعة من شعائر الولادة الجديدة في " اليباب " لاليوت؟ عندما تفعل ذلك تقرر، عن سابق تصميم فيما يبدو، أن هذه النماذج لا تتردد في الشعر العظيم المنتسب إلى الماضي فحسب ولكنها هي القوة المشكلة التي تنتظم أي عمل فني قمين بالاعتبار حتى يومنا هذا.
وتجيب الآنسة بودكين، شاءت أم أبت، على كيفية انتقال هذه النماذج حين تلحظ دوامها واستمرارها. فإن كانت هذه النماذج كما يزعم يونج
(مقتفياً خطى فرويد) تجارب بدائية تنطبع في نسيج الدماغ على نحو ما، فإذن لابد من أن نؤمن بأن بعض الخصائص المكتسبة تورث، وأن نظرية فايسمان (1) العظيمة، عن استمرار البلازما الجرثومية لابد من أن تتحطم (لا تتخلق البلازما الجرثومية أبداً من البلازما الجسمية ومن ثم لا تستطيع أن تحدث ما لها من تغيرات تجريبية) . لقد كان فرويد على استعداد ليتقبل مسؤولية هذه الفكرة وحتى سنة 1939 وفي كتابه " موسى والواحدانية " أكد إيمانه بوراثة الخصائص المكتسبة على الرغم من نظريات علم البيولوجيا المعاصر. وأما إن كانت هذه النماذج العليا، من الناحية الأخرى، تورث، كما يعتقد كثير من النفسيين المعاصرين، في البيئة الثقافية لا في العضوية الحسية، وأنها تستعاد في كل جيل خلال تجارب طفولية مشابهة، فإنها من م قد تتغير جذرياً بين مجتمع وآخر وبين جيل وجيل وطفل وطفل وتنتحل في كل مرة تجارب مغايرة جذرياً. (مثال ذلك أن مالينووسكي لم يجد عقدة أوديب في شكل أمومي بين سكان أرخبيل التروبرياند الأمويين)(2) . وتحاول الآنسة بودكين في موقفها من هذه المشكلة أن تتركها محط أخذ ورد وتلمح إلى تحفظاتها هي نحو موقف يونج في الصفحات الأولى من كتابها، فتقول:
(1) فايسمان (1834 - 1914) عالم بيولوجي أكد في سلسلة من المقالات والبحوث أن هناك فرقاً واضحاً بين الخلايا الجسدية وبين الخلايا الجرثومية، وهذه التفرقة هامة لأن معناها أن الخصائص الجسمانية للفرد لا تورث، إذ أن الخلايا الجرثومية فحسب هي التي تنتقل من جيل إلى جيل وتظل خالدة أما الخلايا الجسدية فإنها تموت، والنسل وليد الخلايا الجرثومية فحسب، فإذا قلنا إن بعض الخصائص المكتسبة تورث تحطمت هذه النظرية السديدة.
(2)
أرخبيل التروبرياند موطن الميلانيزيين، ويقع إلى الشمال الشرقي من غينيا الجديدة وهو مجموعة من الجزائر المرجانية المستوية. وقد استكشف مالينووسكي بين تلك القبائل ما يسميه " حب الأب "، وتوصل من هذا إلى أن عقدة أوديب إنما تنشأ في مجتمع عماده النظام " الأبوي " وإذن فأن عكس هذه العقدة قد يكون موجوداً في مجتمع " أمومي ". وإذا شاء القارئ مزيداً من الاطلاع فليراجع كتابه:Sex and Repression in Savage Socity.
منطوق نظرية يونج يصرح مؤكداً أن هذه النماذج
…
" تورث في أنسجة الدماغ ". ولكن ليس لدينا هنا أي برهان على هذا التقرير. أما يونج نفسه فيعتقد أنه وجد البرهان على الانبعاث التلقائي لهذه النماذج القديمة في الأحلام والأوهام عند أفراد لم يجدوا طريقهم إلى المادة الثقافية التي تنسجم فيها هذه النماذج. غير أنه من العسير تقويم هذا البرهان وبخاصة إذا تذكرنا أن كثيراً من المادة القديمة يتشكل وينبعث بصورة مدهشة في حالات الغيبوبة فإذا رددته إلى أصوله وجدته انطباعات حسية حدثت في حياة هذا الفرد أو ذاك ثم نسيها.
وما إن بلغت في كتابها الصفحة السابعة والخمسين بعد المائتين حتى أنسيت هذه التحفظات، فارتضت لنفسها أن تقول:" لا ريب في أن هناك عاملين: عامل موروث وآخر مكتسب " موجودين في الذات العليا، أما الأول منهما فهو " موروث القبيلة طوال الماضي العرقي ".
ولقد برئت الآنسة بودكين من تطرف النقد المتصل بالتحليل النفسي بما لديها من يقظة دائمة حالت دون مغالاتها في تقدير العوامل السيكولوجية في الشعر، فهي تقول:
ينتقض تذوقنا لجمال الشعر ويفسد، إن نحن غالينا في النص على هذه الأصداء النفسية العضوية حتى نحسبها أوغل في الحقيقة من سائر العناصر التي تمتزج بها في الفكر الناضج، كأنما تلك العناصر الأخرى التي تؤدي دوراً هاماً في الاستجابة الحقيقية للشعر، ليست إلا تبريراً أو قناعاً لتلك العناصر البدائية القليلة التي تعرف إليها المحلل النفساني منذ عهد قريب. فهي ترى أن العناصر السيكولوجية ليس لها إلا دخل جزئي في الأثر الشعري، وفي دفاع لها عن المنهج السيكولوجي، ألحقته بكتابها وجعلت عنوانه " النقد النفسي والتقاليد الروائية "(1) ردت على ما يبديه إ. إ. ستول
(1) انظر هذا الملحق ص: 332 وما بعدها من كتاب " النماذج العليا "(الطبعة الثالثة 1952) .
وغيره من اعتراضات على التحليل النفسي، فذهبت تقرر في اعتدال أننا لا نستطيع أن نلغي؟ ويجب أن لا نلغي؟ " الوعي السيكولوجي الذي جاد علينا به عصرنا " وأننا يجب أن نستغل كل " إمكانيات عقولنا " لتذوق الشعر، وأن الإشراقات السيكولوجية، مثلها مثل أي شيء يتحفنا به ستول أو غيره من النقاد، عناصر قيمة يتركب منها هذا الفهم الغني الخصيب.
ومن أقيم مبادئها في استعمالها المتروي لعلم النفس، كيفية تناولها لما يسميه يونج أغلوطة " لا شيء إلا "، أي الفكرة التي ترى أن القصيدة " ليست إلا " مثلاً يندرج تحت إحدى المقولات (وهو نوع من التفكير يسمى اليوم أحياناً، " التفكير المهادي " نسبة إلى المهاد Thalamus وهو ذلك الجزء من الدماغ الذي يستطيع التمييزات الجافية فحسب) . وتصر الآنسة بودكين على أن الشعر، بدلاً من أن يكون " ليس إلا " طريقتها النفسية، هو هذه الطريقة، " وأيضاً " أشياء أخرى كثيرة جداً تنضاف إليها.
وهي، على خلاف المحللين النفسيين المحترفين الذي يعتمدون قدر طاقتهم على تواريخ القضية والمدونات الاكلينكية، تعتمد على الاستبطان والتحليل للأرجاع النفسية عندها ووصفها بأقصى ما لديها من قدرة. وتقول:" إن تحليلنا إنما هو للتجربة التي تنتقل لأنفسنا ". فهي تصف إحساسات عقلها عندما تقرأ الشعر، وما الصور التي تنبهت لها، وأي مغزى أو أي توتر أحست، وما الخواطر التي تداعت واستثيرت، ومتى وأين انعكست ذاتها، ومع أي شيء تلابست بل وما الأحلام التي حلمت بها. ولم تحاول أن تمنح هذه الاستبطانات مسحة موضوعية أو على الأقل أن توسع في قاعدتها إلا مرة واحدة في حديثها عن " الملاح القديم ". ففي هذا الموطن انتحلت منهج إ. أ. رتشاردز الذي وصفه في كتابه " النقد التطبيقي "؟ وهو منهج المختبر التجريبي نفسه؟ وذلك أنه أعطى القراء قصائد، وسجل رد الفعل المباشر عند كل منهم. وقد أدخلت الآنسة
بودكين تعديلاً على طريقة رتشاردز حين عرفت القراء بالقصيدة وصاحبها، وطلبت إليهم أن لا يفضوا إليها إلا بمدى الاستجابة العاطفية، التي هي ثمرة " التأمل المستغرق أو التأمل الحال ". (هي التداعي الحر عند جالتون) ، ولم تتطلب منهم تقديراً للقصيدة نفسها. ومه أن المادة التي حصلت عليها انتهت إلى سلسلة من الأسئلة اللبيقة الموجهة إلى القارئ فإنها أعلنت في مقدمة كتابها أنها تخلت آسفة عن هذه المحاولة " لأنها وجدت أنه من غير العملي أن تستحوذ من أولئك الذين لهم بالأديب على أي جهد مركز مستطيل تتطلبه منهم ". ومع ذلك فإنها أقرت " أن العمل العميق المتزايد في دراسة التجربة الشعرية عند الأفراد، لابد من أن يحل في النهاية، محل كثير من المناهج الواسعة في البحث ".
وقد استمدت الآنسة بودكين من كل اتجاه نفسي أمكنها الإفادة منه، إلى جانب اعتمادها الرئيسي على مبادئ يونج، وأخذها سيكولوجية جالتون ورتشاردز التجريبية معدلة. ولفرويد عندها يد طولى أيضاً لا حيث ينفق في النظرة هو ويونج فحسب. فهي تثير التساؤل حول قول فرويد " إن النزعات الأوديبية تقع في كل بالأثم أثناء الحلم "، ولكنها تقبل القول بأن " نوعاً من الإخفاق في العلاقة بالأبوين " يثير مثل ذلك الشعور في الحلم، إلى حد أنه يمتزج بعوامل أخرى قد تكون فعالة في الوقت نفسه. وهي تقبل مبدأ فرويد عن الذات العليا وتحاول أن تتوسط بين فرويد ويونج في اعتبار التأثير راجعاً في المقام الأول إلى الأبوين في عهد الطفولة أو إلى القبيلة، محاولة شيئاً من التوفيق بين النظريتين. وكذلك تقبل أيضاً، في شيء من التحفظ أحياناً، هذه المبادئ الفرويدية المتنوعة بمشتملاتها مثل غريزة الموت أو مبدأ ثاناتوس Thanatos (1) والأنا،
(1) يرى فرويد أن في الإنسان دوافع، تضاد دوافع الحياة، تهدف إلى الفناء والموت والهرب ومن جرائها يسعى الإنسان إلى الهرب بأن يعيد دور الحياة العادية. أما مبدأ " ثاناتوس " فهو كل ما له صلة بالموت سواء أكان على شكل خوف منه Thanatophobia أو كان نزعة للقتال أو الانتحار Thanatomania.
والأنا غير العاقلة (id) . ومبد اللذة، وصورة الأب، ومصطلحات تتدرج من الطيران في الأحلام حتى الحية والتفاحة في قصة هبوط آدم، ممثلةً لأنواع من الرموز الجنسية.
وهي بالإضافة إلى ذلك مدينة لعدد من تلامذة فرويد الذين تناولوا الأدب بالتحليل، فتعتمد دراسة إرنست جونز لهاملت، في قسط كبير من بحثها، وبخاصة تلك المخترعات الأساسية في التكوين السيكولوجي للأدب مثل الانفصال والتحلل (1) . وتستعمل دراسة شارلس بودوان لفرايرن على طريقة فرويدية معدلة في كتابه " التحليل النفسي وعلم الجمال " كما تستعمل الانثروبولوجيا الفرويدية عند جيزا روهايم وآخرين. وهي في الوقت نفسه تستمد من فروع نفسية أخرى عدا مدرسة التحليل النفسي فتستعير من السيكولوجية الجشطالتية خلال انثروبولوجيين أمثال جولدنفيزر اصطلاح " كلي متكامل " في وصفها الأنموذج الحضاري، وهي تعرف كتاب كوهلر عن " عقلية القرود "؟ على الأقل؟ معرفة مباشرة، وتستعير منه مبدأ: وجود فترة من التوقف قبل الحسم في مشكلة.
وتستمد الآنسة بودكين إلى جانب هذه السيكولوجيا الانتقائية من الفلاسفة واللاهوتيين والانثروبولوجيين والاجتماعيين ومن عدد من النقاد الأدبيين المحدثين ومنهم وليم امبسون في الغموض وج. ولسون نايت في عطيل، وجون لفنجستون لويس في دراسته الشاملة لكولردج. (مما يبعث
(1) الانفصال Dissociatoin هو فصم أي نوع من الروابط، وقد استعملت هذا الاصطلاح المدرسة السيكوباثولوجية الفرنسية لتدل به على انقطاع الترابط أو التداعي في الذهن، مما يولد النسيان والهلاس السلبي وأمثالهما أي الظواهر تتولد عما يسميه فرويد الكبت.
على السخرية أن الآنسة بودكين وهي أحق الناس بتوسيع ملاحظ لويس، عن مصادر الصور عند كولردج، في المجال الوحيد الذي يمكن توسيعها فيه، أعني مجال التحليل النفسي، تأبى عامدة أن تقوم بذلك. وهي مثلها مثل لويس عارفة تماماً بالرمزية الجنسية الواضحة فيالكهوف والجبال في قصيدة قبلاي خان.
وبعون من هذه المجموعة الانتقائية من النظريات والمبادئ، خلقت الآنسة بودكين نقداً أدبياً ولم تنتحل علماص. وعلى الرغم من هذا الجهاز فإنها مولعة بالعشر، دارسة حساسة، وكتابها " النماذج العليا في الشعر " يتميز بنفاذ البصيرة في المبنى العاطفي لرواية الملك لير وبتفسيره (ولعله أول تفسير مرضٍ في عصرنا) لما لشعر شللي من هيمنة على قرائه، وبتحليله المرهف النفاذ لفنية فرجينيا ولف وبكثير غير ذلك. ولنقل كما يقول كنث بيرك: إنها في الدرجة الأولى لا تهتم بالنماذج من حيث هي، وإنما تهتم بالشعر كما يبدو في النماذج.
3
- إن النقد النفسي للأدب ليعد في بلادنا نحن تطوراً، أكثر من أي منهج نقدي آخر نتحدث عنه في هذا الكتاب، لأن علم النفس، كفرع منظم من المعرفة، قد بدأ في حياة من لا يزالون منا أحياء حتى اليوم. فإن عدينا عن هذا المعنى الدقيق، قلنا إن النقد بعامة كان نفسياً منذ بدايته بمعنى أن كل ناقد قد حاول بوضوح أن يستغل في نقده ما يعرفه أو يؤمن به من عمليات الفكر الإنساني. فلما تعرف فرويد قبل أن ينتهي القرن التاسع عشر بقليل إلى اللاوعي، أحرز علم النفس اتجاهاً يستطيع منه أن يفهم ويستبصر الأمور على نحو لم يكن متيسراً في أصول الأعمال الأدبية ومبانيها. وقليل هم الذين يستحقون الذكر من النقاد النفسيين قبل فرويد، وأعلاهم
أهمية؟ بالطبع؟ أرسطوطاليس، المصدر الأول لعلم النفس والنقد النفسي للأدب. وتتخل سيكولوجيته التجريبية كل مؤلفاته كما أنها المحور الذي يدور عليه " كتاب النفس " وكتاب " الطبيعيات الصغرى " ورسائله القصيرة الطبيعية عن الذاكرة والتذكر وعن الرؤيا والتنبؤ عن طريق الرؤيا. وقد طبق سيكولوجيته على الشعر في " البويطيقا "، رداً على الأغلوطة الشعرية التي وقع فيها أفلاطون في " الجمهورية " إذ قال إن الشعر " يغذي " العواطف وإنه لذلك ضار اجتماعياً، فعارضه أرسطوطاليس بنظريته السيكولوجية الرصينة في التطهير "، أي أن الشعر يستثير عاطفتي الشفقة والخوف على نحو رمزي، يمكن ضبطه، ثم يطهرهما. وما " البويطيقا " إلا نص في سيكولوجية الفن، وما مبادئ (hamartia) أي الخطأ التراجيدي الناشئ عن قصر نظر البطل في موقفه، و (Peripateia أو هزة التغير والانقلاب في مقدرات البطل (1) ، وتفضيل المستحيل المحتمل على الممكن غير المحتمل، وغير هذه من مبادئ، إلا الدعائم الأولى للحقائق النفسية. وقد كان أفلاطون في كتابه " ايون " يرى أن الشاعر مجنون ملهم، أو مريض عصبياً، أما أرسطوطاليس فوجد فيه شيئاً يشبه السيكولوجي الملهم (2) .
(1) لا خلاف بين الدارسين حول اصطلاح Peripateia أما اصطلاح hamartia فله ظلال كثيرة من المعاني: فقد تعني هذه الكلمة خطأ ناجماً عن جهل بالظروف، وقد تشمل كل خطأ ناجم عن التسرع أو الاستخفاف، وقد تدل على خطأ واع لكنه غير مقصود كما يحدث أثناء الهياج والغضب. وقد تدل على نقص خلقي وعندئذ فإنها تشير إلى ضعف بشري غير مشفوع بغايات شريرة، ولعل المعنى الأخير هو المقصود في سياق نص أرسطوطاليس.
(2)
الكلام عن جنون الشاعر يذكر بتلك العبارة الغامضة التي قالها ارسطوطاليس في كتاب الشعر " ومن ثم احتاج الشعر
…
إلى إنسان به طائف من جنون " فقوله طائف من جنون تعبير مخفف آثره بيووتر في ترجمة لكتاب الشعر، أما غيره من المترجمين فقد استعملوا كلمة " جنون " غير ملطفة، وهؤلاء تؤيدهم الترجمة العربية القديمة. وقد اختلف الشراح حول ما يعنيه ارسطوطاليس بهذه الكلمة أهي تعني شخصاً ناقص القوة العقلية أو شخصاً ملهماً. أما في كتاب الخطابة فإنه يقول " إن الشعر شيء يوحيه الله ".
وقد وسع في هذه النظرات السيكولوجية الارسطوطاليسية في الفن ونماها كتاب العهود الكلاسيكية المتأخرة مثل لونجينوس وهوراس ولكن الخطوة العظمى في النقد النفسي إنما حققها كولردج في " السيرة الأدبية ". فقد تناول كولردج سيكولوجية أرسطوطاليس كما عدل فيها توما الاكويني وديكارت وهوبز وهارتلي، دون أن يضيف أحدهم إليها شيئاً هاماً، وسلطها على الشعر. وما حال بين كولردج وتحقيق نقد نفسي مكتمل إلا الذي منع أرسطوطاليس نفسه من نفسه ذلك، أي عدم كفاية ما لديهم من علم نفسي كما وكيفاً. والحق أن كولردج قد حوم حول اللاوعي حين أشار إلى " انطلاقات تأملات لا ضابط لها، وقد تخلى عنها الوعي الصريح كله، لأنها قد أصبحت شيئاً مجرداً شفافاً، حين اجتازت حدود قوانا العقلية وأهدافها "، ولكنه كان قد تقدم عصره كثيراً إلى حد أعجزه عن أن يفيد من كشفه هذا. ومما سبق إليه كولردج في ميدان النقد النفسي الحديث في " السيرة الأدبية "، اقتراحه على القارئ تجارب مشابهة للتي أجراها رتشاردز في أيامنا، وتفرقته على أساس عاطفة القارئ وتأثره، بين الشعر والعلم، وفكرته القيمة الهامة عن الخيال (وقد انفق رتشاردز فيها مجلداً سماه " رأي كولردج في الخيال " ليطورها في المصطلح السيكولوجي الحديث) .
وهناك معاصر لكولردج يستحق أن يذكر في هذا الفصل وإن لم يدن منه أهمية، ذلك هو تشارلس لام، الذي لم يكن صاحب آراء نفسية منظمة، غير أن جنون أخته الباعث على الأسى، واضطراب أحواله العقلية، قد جعلاه مرهف الحس على العلاقة بين علم النفس والفن. وقد كتب في مقاله " سلامة العبقري عقلياً " خير تفرقة لدينا بين الفن والمرض العصبي وفي " السواحر والمخاوف الليلية الأخرى " قد سبق يونج إلى فكرة النماذج العليا، حيث يقول:
إن السعالى والأفاعي المتعددة الرؤوس والوحش الثلاثية الرؤوس
والقصص المرعبة عن الوحوش المجنحة التي تنفث الروائح القاتلة (1) قد تتصور في الذهن الغارق في الخرافة، ولكنها كانت هناك من قبل، ذلك لأنها نسخ منقولة أو نماذج، أما النماذج العليا الأصلية فهي فينا وهي خالدة. وهذه المرعبات سواء أكانت سابقة على خلق الجسم أو وجدت دون أن يخلق، فشأنها واحد لا يتغير ".
(وسنتحدث في الفصل التالي الخاص بالآنسة كارولاين سبيرجن عن والتر وايتر W. . Whiter الذي سبق كلاً من كولردج ولام سبقاً مدهشاً إلى النقد النفسي الحديث) .
4
- بدأ النقد المعتمد على التحليل النفسي، في الأدب، حين نشر فرويد كتابه " تفسير الأحلام " سنة 1900. ولما اسداه فرويد عدد من المظاهر لعل أهمها ما كتبه عن المشكلات غير الأدبية وبخاصة الأحلام، وتوازن القوى العقلية، وأعراض الأمراض العصبية، وفي هذه كلها مبادئ يمكن أن تستغل استغلالاً مثمراً في الأدب. وهذا يشمل " تفسير الأحلام " نفسه بما فيه من آليات الحلم كالخلط الكلامي والخلط المكاني، والتفصيلات الثانوية، والفصم (2) ، وهي على ما يظهر الآليات الأساسية في الخلق الأدبي، كما تشمل مبدأ الحلم الأساسي وهو تحقيق الرغبة التي يمكن تطبيقها على الفن، وكذلك كشوفها القيمة في طبيعة الرمز. أضف إلى ذلك مؤلفات أخرى له مثل " قوة اللمح الساخر وعلاقتها باللاوعي " و " ثلاث مقالات في نظرية الجنس ".
(1) الأرفيلاي Harpylae وحوش مجنحة لكل منها وجه امرأة وجسم عقاب ومخالب حادة وهي ثلاثة في عددها تنفث الروائح المعدية وتفسد كل ما تصيبه.
(2)
اثنان من هذه الاصطلاحات سبق التعريف بهما أما التفصيلات الثانوية Secondary elaboration فهي ما يضيفه القاص من عنده للقصة وبخاصة في تحليل الحلم.
وربما تلا هذه الأهمية تعليقات محددة لفرويد على طبيعة الفن والفنان. ومقالاته الأولى في هذه الناحية تشمل (1) علاقة الشاعر بأحلام اليقظة (2) بحوث في سيكولوجية الحب (3) نظريات حول القاعدتين في وظيفة العقل. بل إن المحاضرة الثالثة والعشرين من كتابه " مقدمة عامة في التحليل النفسي "، وهي ليست من أولى بحوثه وإنما تعود في تاريخها إلى سنة 920، لا تزال تعالج الفنان على أنه طفولي مريض في أعصابه، كما وقدمنا. أما أبحاثه المتأخرة وبخاصة في " محاضرات تقديمية جديدة " و " ما فوق مبدأ اللذة " فإنها تنحو إلى أن تتجاوز النظريات الأولى فترى في الفنان مريضاً في أعصابه، له فنه، الذي يستطيع أن يفهم من خلاله الحقيقة ويغيرها. وقد أنكر فرويد في خطاب ألقاه في الاحتفال بعيده السبعيني أنه صاحب الفضل في الكشف عن العقل الباطن وقال إن الفضل الصحيح يعود للأدباء.
وآخر بابةٍ فيما أسداه فرويد للنقد الأدبي المتصل بالتحليل النفسي هي أحاديثه المحددة عن فنانين بأعيانهم وآثار فنية بأعيانها. وهذه الأحاديث متناثرة في مؤلفاته على شكل تعاليق موجزة، بعضها مشمول بسعة الإدراك كذكره هاملت في " تفسير الأحلام "(1)(وعليه بنى جونز دراسته) وتحليله الملك لير، وحديثه عن التراجيديا اليونانية في " الطوطم والمحرم "(2) ولم يكتب إلا ثلاث دراسات طويلة وهي (1) ليوناردو دا فنشي؟ دارسة نفسية جنسية لذكريات طفولية (2) ومقالة عن " دوستويفسكي وجريمة قتل الأب " و (3) دراسة لقصة ألمانية مغمورة عنوانها غراديفا Gradiva، ومرلفها فلهلم ينسن W. Jensen وبهذه الدراسات الثلاث أقام فرويد منهجين من التحليل، اقتفى ابتاعه فيهما خطواته: الأول الباثوغرافيا أو دراسة المريض عصبياً، أو الشخص المريض نفسياً، مع اتخاذ آثاره
(1) راجع ما قاله عن هاملت في كتابه " تفسير الأحلام ": 264 وما بعدها (ط. هوغارث بلندن) .
(2)
انظر حديثه عن التراجيديا اليونانية في كتاب " الطوطم والمحرم ": 155 (ط. هوغارث بلندن) .
الفنية دليلاً هادياً في هذه الدراسة، والثاني: نقد أدبي متصل حقاً بالتحليل النفسي أو دراسة الأثر الأدبي مع استعمال الآليات التي تستعمل في التحليل النفسي أو الفروض الاكلينكية، مفاتيح لهذه الدراسة.
أما كتابه " ليوناردو دافنشي " فهو في معظمه قصة مرض " باثوغرافيا "(وإن كان فرويد يصر على أن ليوناردو لم يكن مريضاً في أعصابه بأي حال) . وهو محالة تعتمد كثيراً على تحليل فذٍ لذكرى وهمية تخيلها ليوناردو عن نسرٍ، ويريد العالم النفسي أن يبني على أساسها سيرة الفنان وتطوره النفسي، بفهمه مكبوتاته الجنسية والفنية المتأخرة. ويسمي فرويد عمله هذا " محاولة في كتابه سيرة " ويصر على أنها شيء في تشخيصه " الشذوذ الجنسي المثالي أو البدائي عند ليوناردو ". ولا يهتم فرويد بآثاره ليوناردو إلا أن يكشف فيها عن مزيد من الشهادات حول الحياة النفسية للفنان، مقيداً نفسه بالتحفظ الآتي:" عندما يقدر المرء أي استحالة عميقة مرت بها تجربة الفنان قبل أن تتمثل خلقاً فنياً سوياص، يتحتم عليه أن يتواضع في مدى ما يتوقع أن يحققه الدارس، حين يعجز عن أن يكشف عن شيء محدد ". ويهمل فرويد الجوانب الأخرى الآثار الفنية ويبدو أنه يوحي في موطن واحد أنه لا خيرة له في ذلك وأن " طبيعة الإتقان الفني لا يمكن بلوغها عن طريق التحليل النفسي ". ومع ذلك فإن هذا الكتاب في حدود مادته ومنهجه، من أجمل كتب فرويد، وهو إعادة بناء، يكاد يكون معجزاً، لحياة فنان وفكره؟ فنانٍ معقد مات قبل أربعمائة سنة.
وأما كتابه " دستويفسكي وجريمة قتل الأب " فإنه يكاد يقع في منتصف المسافة بين المنهجين، وهو معني في الدرجة الأولى ببلوغ الصرع الهستيري الذي كان يصيب دوستويفسكي، ورغبته الأوديبية في موت أبيه وشذوذه الجنسي الدفين. غير أنه؟ على الرغم من قوله " أمام مشكلة
الفنان الخالق، على التحليل أن يلقي السلاح عجزاً " 0 ما يزال جيد التذوق لقصص دستويفسكي من حيث هي آثار فنية باهرة، مهتماص كثيراً بتقديم كل ما يستطيعه في سبيل مشتملاتها، من حيث علاقتها الرمزية بمرض المؤلف ومن حيث علائقها الشكلية الخالصة.
وأما " الإيهام والحلم في غراديفا لفلهلم ينسن " فإنه تحليل أدبي خالص. ويرفض فرويد أي محاولة للكشف عن عقد ينسن وأمراضه العصبية بهذه الكلمة الموجزة " ليس ثمة مدخل ننفذ منه إلى الحياة النفسية للمؤلف "، ويكتفي بتفسير المبنى السيكولوجي والحلمي في الكتاب محللاً تقنياته الرمزية في الخلط الكلامي والخلط المكاني معمقاً في معناه مقوياً له بعامة. ويستنتج أن ينسن كان على وعي بحقائق التحليل النفسي، لا لأنه درس هذا العلم بل لأنه استكشف ذاته، فما الفنان إلا محلل نفسي من نوع آخر. والحق أن معالجة فرويد للكتاب مرهفة تبجيلية إلى درجة أنها ليست فرويدية تامة في الحقيقة وهو ينسى أو يتناسى عقدة أوديب في البطل (وفي المؤلف افتراضاً) ورمزية جنسية من الطراز الأول تتصل بإمساك الورل. ومن الواضح أن جانباً من الاحترام الذي ناله ذلك الكتاب من فرويد إنما يرجع إلى التطابق الدقيق بينه وبين النظرية النفسية، فهو إلى حد ما " يوثقها " في سنواتها الأولى (" القصاصون أعوان لنا مفيدون وشهادتهم تؤخذ بكل تقدير لأنهم يعرفون أشياء بين السماء والأرض لا تحلم بها حكمتنا الأكاديمية ") ولكن ليس ثمة من كبير ريب في أن غراديفا قصة صغيرة هزيلة سخيفة تستأه أن تكون مغمورة مهملة، وأن فرويد في إعلائه وتحليله لها، قد كتب بقلمه قصة خيراً منها.
والحق أن الباثوغرافيا؟ أو قصة المرض؟ ليس موروثاً استحدثه فرويد، وإنما هي استمرار لموروث ذي حلقات كثيرة كان يتألف في القرن التاسع عشر من تشخيصات طبية غير علمية، يستنتج فيها أحد الأطباء
ليشبع لهفة العالم الأدبي، أن شعر بيرون يدل على أنه كان مصاباً بحصاة المرارة، وأن بوب كان مصاباً بضغط عالٍ في الدم، ثم استمر هذا على يد النفسيين في صورة سلسلة من التشخيصات النفسانية غير العلمية. غير أن هذه النغمة كانت تتردد بين ثير من تلامذة فرويد، أكثر من ترددها عند أستاذهم، بما في ذلك بعض الثوريين منهم، فهي نغمة حديث بريل Brill؟ مثلاً؟ عن حب الشعر، وأنه ليس إلا تعبيراص عن شهوية شفوية أي " مضغاً ورضاعاً للكلمات الجميلة ".
أما العالم النفساني الوحيد الذي قصر جهده على دراسة الفن بدقة فهو أوتو رانك. وقبل أن ينشق عن فرويد، في أوائل العقد الثالث من القرن، كتب عدداً من الدراسات الأدبية القيمة المعتمدة على التحليل النفسي، وهي:" الفنان " سنة 1907، و " أسطورة ميلاد البطل " سنة 1909 ودراسة لقصة " لوهنغرين " سنة 1912 و " دافع الزنا بالمحرمات في الشعر والأسطورة " سنة 1912 ومقالتان إحداهما في سنة 1914 والثانية سنة 1922 وقد نشرنا فيما بعد باسم " دون جوان وصنوه " Don Juan and the Double (1)(وأكثر هذه يمكن الحصول عليه بالإنجليزية) . ولعل أهمها جميعاً " أسطورة ميلاد البطل " فقد التقط رانك تلميحاً من فرويد بأنه يستطيع أن يجرب طريقة جالتون في خلق نموذج أعلى للميلاد الأسطوري (ويظهر أنه يجهل أن مهمة مماثلة قد أداها ألفرد نت على نحو مجزأ مشتت بدراسة حياة البطل كلها) فحقق رانك دراسةً نفسية مؤثرة في ميدان الأساطير المقارنة، هامةً جداً للأدب ولعلها النواة التي نمت من حولها دراسة
(1) موضوع " الصنو " - أو القرين - قد بحثه أتو رانك بتوسع؛ فقرن بين " الصنو " والأخيلة في المرايا والخيال الحافظة، والاعتقاد بالروح، والخوف من الموت. وقد كان " الصنو " في البدء أماناً ضد تحطم الذات أي إنكاراً لقوة الموت، ولعل النفس لم تكن في البدء إلا " صنواً " للجسد أي صورة أخرى منه.
اللورد راجلان القيمة " للبطل " سنة 1935.
ويتضمن كتابه " دافع الزنا بالمحرمات " عدداً من التحليلات الأوديبية المثيرة ومن بينها: تحليل لمسرحية يوليوس قيصر من تأليف شكسبير (وقد بين أن بروتس وكاسيوس وانطونيوس ثلاث شعب من " ابن " قيصر، يمثل الأول منهما ثوريته، والثاني شفقته، والثالث تقواه الطبيعية) . وتحليل لقصيدة بودلير " الماردة ". ثم لما انشق رانك عن فرويد لم يكتب عن الفن شيئاً ذا قيمة إلا قليلاً (1) وما كتابه الكبير في هذا الموضوع وعنوانه " الفن والفنان " الذي نشر بالإنجليزية سنة 1932 إلا أطروحة بليدة، ألمانية الروح في علم الجمال، تستمد كثيراً من أنثروبولوجيا أحميت بعد أن بردت. وتجعل دافع الفن مرتكزاً على الرغبة في تخليد الذات، وتحذر من شدة الوعي وازدياده لأنه يقتل الفن، وتقاوم التفسيرات النفسية في بعض النقاط، حيث تكون تلك التفسيرات مفيدة قيمة، كما أنها تحيل التحليل النفسي في مواطن أخرى، بمغالاتها المتحمسة، إلى شيء مبتذل سوقي وبخاصة في دراسة هاملت على أنها سيرة ذاتية مباشرة لكاتبها.
ولعل من أقيم الدراسات الأدبية النفسانية التامة التي قام بها محللون أو نفاسنيون محترفون، ومن أبعدها أثراً، دراسة إرنست جونز لهاملت في كتابه " مقالات في التحليل النفسي التطبيقي "(2) . فقد حطم جونز كل نظرية عن هاملت، سبق اعتناقها، في مائة صفحة حافلة بالمعرفة، مكتنزة بالمنطق، تدل على تضلع في الدراسات الشكسبيرية، وعلى الاطلاع الواسع. ثم يقيم جونز نظريته هو، ويرسي قواعدها، وخلاصتها أن في المسرحية مبنى أوديبياً هو لا شعوري في هاملت، لا شعوري في شكسبير، لا شعوري
(1) لا أقول إن العلاقة هنا عارضة، كما لا أقول إنها بالضرور منقطعة.
(2)
نشرت هذه الدراسة منفصلة في كتاب (1949) بعنوان " هاملت وأوديب " Hamlet and Oedipus.
في الجمهور، ثم يزيد زيادة حقيقية في مدى استساغة المسرحية حين يظهر فيها ما عجز عنه كل أحد إلاه، وهو مدى المعقولية والحتمية في أحداثها، مع أنه يترك عدداً من الأسئلة دون جواب. ولم يكتب جونز تحليلاً أدبياً آخر مشبهاً لهذا غير أن كتابه من مقالات أخرى، يستغل فيها التحليل النفسي الموحي في ميادين متفاوتة مثل الفن، والفولكور، والتاريخ والسياسة والدين، بل والصحافة أيضاً.
وثمة كتاب مثل مقال جونز عن هاملت في حساسيته نحو القيم الأدبية، وبعده عن مجال الباثوغرافيا، وإن لم يكن مثله مثيراً في حد ذاته، ذلك هو كتاب شارل بودوان " اتحليل النفسي وعلم الجمال " وهو دراسة مطولة للرمزية الشعرية عند فرايرن، كتبها رجل كان هو نفسه شاعراً. والتحليل النفسي عند بودان انتقائي يستمد دون تحيز من فرويد ويونج وأدلر ورانك وريبو. ومع أن كتابه قلما يتجه عنه بكليته نحو الدراسة النفسية، فهو عمل هام من التحليل الرمزي المسهب، مع انطلاقات عارضة هامة، تعد إرهاصات بعدد من التقنيات النقدية الجديدة منها: التفسير المتعدد للمعنى، بمصطلحات متعددة مختلفة، واستقطاب الصور المشحونة بالعاطفة، زوجاً زوجاً، في خطوط متوازية. وشرح ميزة الأصوات والرمزية السماعية. ويؤكد بودوان في بداية الكتاب أن تحليل آثار العبقري يظهر عبقريته لا مرضاص عصبياً ولكنه يعود فيقع في الخطأ؟ في الطرف الثاني؟ ويؤكد عند نهاية الكتاب أن القصيدة: بما أنها " صورة معجبة توضح سيكولوجية التسامي " وبما أنها لذلك " حق "، إذن فهي قصيدة " جميلة ". وبما أن القصائد التي تمض باسم روائع فرايرن هي التي " تشحن بالمعاني الرمزية أكثر من غيرها " إذن لعل القصائد الأخرى التي تكون مشحونة بالمعاني السيكولوجية هي أيضاً روائع.
وعلى الطرف الثاني من تحليل بودوان لفرايرن يقع كتاب عن بودلير
لأحد بني وطنه، أعني المحلل النفسي الفرنسي رينيه لافورج فإن كتابه " هزيمة بودلير " The Defeat of Baudelaire محض باثوغرافيا، عنوانها الفرعي " دراسة نفسية تحليلية للمرض العصبي عند شارل بودلير ". وهو يصرح بغايته فيه على الصفحة الأولى فيقول:
ليس من همي أن أقدر مكانة بودلير في الأدب ولست أرغب في الأخذ بتحليل فنه، إذ ليس بودلير لدي إلا إنساناً، أعني إنساناً مريضاً، ضحيةً للحياة، بين آخرين كثيرين مثله، فهو صورة لحشد جم ممن يسيء الناس فهمهم. وليس لدي إلا سبب واحد للحديث عنه قبل أن أتحدث عن غيره، وما ذلك إلا لأني؟ وشكراً لفنه؟ أجد مدخلاً لدراسته، واراه من خلال ذلك الفن لا يعز على الفهم.
ولم يخف لافورج أنه لا يرى في قصائد بودلير ويومياته مقيداته وفي السيرة التي كتبها بورشيه شيئاً سوى مقيدات اكلينكية فوجد أن بودلير كان مصاباً بعقدة أوديب، وعقدة ماسوشية مع أخيلة الضرب بالسوط، وجلد عميرة، وبشذوذ جنسي كمين، ونقص في عضو التناسل، وربما كان مصاباً بالعنة وبالتهيج عن طريق النظر إلى الأوضاع الجنسية (والأخيرة مبنية على تجربة في الطفولة، حدسية إطلاقاً) . ويرى لافورج، وهو يؤد دائماً أن غاياته من تأليف الكتاب تشمل تحذير رجال التعليم من أن يخوفوا الأطفال، وتحسين معاملة المجرمين. ويرى أن الفنان مريض " متميز " يستطيع أن يخلق فناً، وما الشكل الشعري إلا وسيلة تخفي المرض العصبي عند الشاعر حتى يعز كشفه إلا على الاكلينكيين، وفي هذا القدر من الحديث عن الكتاب كفاية، في معرض الكلام عن النقد الأدبي.
ولا نستطيع هنا أن نقف إلا على مثلين آخرين من بين العدد الوفير من الدراسات الأدبية التي قام بها أطباء يعملون في حقل التحليل
النفسي لنمثل بهما على الطبيق الدارج بأميركة. أولهما ما كتبه لورنس س. كوبي تحت عنوان " أدب الرعب " فقد نشر مقالين بمجلة Saturday Review of Lit 1934 أحدهما عن " المعبد " Sanctuary لفولكنر Faulkner والثاني عن " أرض الله الصغيرة " God " s Little Acre لكولدول Caldwell (1) (ووعد لواحد ثالث عن همنجوي، ولكنه لم يظهر أبداً فيما يبدو) . واثار بضع نقاط جيدة، وبخاصة في المقال الخاص بفولكنر، ومن تلك النقاط: حديثه عن توتر الرعب والقلق في الأدب الأميركي المعاصر، وإصراره على أنه لا يحلل المؤلفين تحليلاً نفسياً، وأن القول بأن " المعبد " ليست إلا سلسلة من أوهام العنة المذكرة، ليس هو مثل أن تقول إن فولكنر كان عنيناً، وإنما كان يتخيل ذلك فحسب. ومنها الرفض الضروري لدعوى فولكنر بأن الكتاب ليس إلا عملاً بليداً لا معنى له. ثم ينهي دراسته بهذه النظرية المغرقة في التبسيط: وهي أن " بوبي " هو الذات فير العاقلة و " بنبو " هو الأنا والرعاع هم الذات العليا، وهذا مثل على المصطلح، وإلى أين يؤدي، إن لم يكبح جماحه، وتكمل القطعة التي كتبها عن كولدول بعض هذه الموضوعات ولكنها أقل احتفالاً بالأثر الأدبي نفسه، منها بالكشف عن طبيعة الفحش المقذع، ومضمونات رد الفعل له في نفس القارئ.
وأقرب إلى طبيعة الأدب من هذين، وإن كان قاصراً على الباثوغرافيا،
(1) فولكتر ولد سنة 1897 وأصبح لفتنانت في الحرب العظمى الأولى ولما عاد إلى موطنه عمل نجاراً ثم اشتغل في الصحافة، واتصل بشرود أندرسون وتأثر أسلوبه وطريقته. أما قصة " المعبد "(1931) فإنها قصة رعب سادي كتبها ليكسب ما لم تكسبه له قصصه الأخرى من مال، وقد كانت تحول في حياته الأدبية.
وكلودول قصاص أميركي ولد سنة 1903 وأكثر قصصه عن فقراء البيض وكذلك هي قصة " أرض الله الصغيرة "(1933) وهي تظهر روح الفكاهية عنده كما تفصح عن نقمته على التفاوت الاجتماعي بين الناس. وقد سماها كذلك لأن بطل قصته وهو رجل متدين كان دائماً يفرز فداناً من أرضه ويجعل ريعه للكنسية.
مقال لشاول روزنتسفايغ عنوانه " شبح هنري جيمس " نشر في " الشخصية والشخصانية " Character and Personality عدد ديسمبر 1943 وأعيد طبعه في مجلة البارتزان خريف 1944. ويستخدم هذا الناقد بعض أقاصيص جيمس ليبني منها جيمس الذي يعاني قلق الخصاء ومركب النقص من ازدواج جنسي طبيعي " وهو احتمال نظري ". وعلى الرغم من هذه التذكرة الاكلنيكية الضيقة، وهذا التملح الحر باستعمال مصطلحات مثل " الكبت والإحباط والتسامي والمغالاة في التعويض " فإن دراسة روزنتسفايغ الحقة للقصص بالغة الحذافة والحس بالقيم الأدبية، وهي مثل يرينا إلى أي مدى يكون هو ومن شاكلته مفيدين لو سلطوا منهجهم على تحليل الأثر الفني وشكله لا على مؤلفه (وكم كان روزنتسفايغ مفيداً لو أنه مثلاً حاول أن يتحدث لنا عن أسلوب جيمس الباروقي المتأخر وعن نواحي الإخفاء والتهرب فيه) .
إن الأدباء المحترفين الذين اعتمدوا فرويد والتحليل النفسي ليكاد يقصر عنهم الحصر. وأول استخدام صحيح للمبادئ النفسية تم سنة 1912 في مقال لفردريك كلارك برسكوت عنوانه " الشعر والأحلام " نشره بمجلة Journal of Abnormal Psychology وأعاد طبعه في كتاب سنة 1919. وقد تناول برسكوت كتاب " تفسير الأحلام " لفرويد، ولم يكن يومئذ قد ترجم إلى الإنجليزية فطبقه تطبيقاً منظماً في تفسير الشعر، فوجد أن الشعر، كالحلم، تحقيق مقنع لرغبات مكبوتة، وألمع إلى أن الآليات التي وجدها فرويد في " العمل الحلمي " قد تكون هي الآليات في " العمل الشعري ". وفي الوقت نفسه حاول أن يؤيد كثيراً من جدليات فرويد الجديدة المزعجة، وأن يوثقها بالاقتباسات من الأدباء على مر العصور. وإذا استثنينا التطبيق الميكانيكي نوعاص ما، واعتقاده أن الشعر " هرب من الواقع "، واحتقاره " لمعميات " كولردج في الوهم والخيال، فإن كتاب
برسكوت بداية هامة، اعتمدت عليها الأعمال التي جاءت من بعد اعتماداً كبيراً. وفي سنة 1922 نشر " العقل الشعري " وهو معالجة أوفى، غير أنها على الرغم من بعض الأمور القيمة، ومنها الإرهاص بمبدأ " الغموض " الذي عالجه امبسون، والنص على تكثر المعنى، فإنها تمثل انحداراً واضحاً، مع المغالاة في الأخذ بالتحليل النفسي الفرويدي، ليجعل ملائماً للصوفية الرومانتيكية وعبادة شللي.
ومن أولى المحاولات التي بذلها رجل غير محترف في استعمال مبادئ التحليل النفسي لنقد آثار أدبية بأعيانها محاولة تمت سنة 1919 في كتاب لكونراد أيكن عنوانه " شكيات: ملاحظ في الشعر المعاصر ". فلم ينتفع ايكن بنظرة فرويد في الفن فحسب بل حاول أن يوفق بينها وبين نظرية كوستيلف التي تعتبر الشعر تفريغاً آلياً للكلمات، وبينها وبين مبدأ بافلوف عن الرجع المنضبط، ونتف أخرى من السيكولوجيا " المشكلة ". ولم ينجم عن هذا الخليط استبصار كثير، ولكن أيكن أخذ من فرويد النزعة الأساسية للنقد المعاصر، سابقاً قولة رتشاردز ذات التأثير الواسع ببضع سنوات أي: إن الشعر نتاج إنساني، يسد كغيره من ضروب النتاج حاجات إنسانية، وله أصول ووظائف يمكن الكشف عنها، وتعريضها للتحليل.
وقد كان روبرت غريفز من أوائل الإنجليز الذين بينوا للناس النقد المتصل بالتحليل النفسي في سلسلة من الكتب تشمل: (1)" في الشعر الإنجليزي " On English Poetry (1922)(2)" معنى الأحلام " The Meaning of Dreams (1924)(3)" اللاعقلانية في الشعر " Poetic Unreason (1925) . وقد حاول غريفز دراسات نفسية مسهبة لقصائد معينة وبخاصة في " معنى الأحلام " حيث حلل قصيدة كيتس " السيدة الجميلة التي لا رحمة لديها " وقصيدة كولردج " قبلاي خان " وقصيدة من نظمه. وربما لأن غريفز استبعد
فرويد ويونج مفضلاً عليهما النظريات النفسية لرفرز، متكئاً على انفصال الروباط في الشخصيات اللاشعورية، والتجارب الصادمة (1) ؛ وربما لأنه حاول أن يربط أحسن الشعر بأحسن أنواع الصراع الذاتي اللاشعوري، وربما؟ وهذا أقرب الاحتمالات؟ لأنه جمع بين الجهل والسلاطة إلى ردجة مدهشة، أقول؟ ربما لكل ذلك كانت نتائجه بشعة ولعلها هي التي خذلت الجهود الإنجليزية بعده عن الضرب في هذا السبيل. (إن التطبيق الوحيد لمبادئ التحليل النفسي على أحد الآثار الفنية؟ التطبيق الذي نجح نجاحاً كاملاً على يد ناقد إنجليزي؟ هو مقال وليم امبسون عن " أليس في بلاد العجائب " وسيكون موضوع حديثنا في الفصل المخصص لامبسون) .
ويمثل هربرت ريد الإنجليزي موقفاً خاصاً محيراً فلم يكتب أحد بمثل حماسته عن أهميته التحليل النفسي، بل أهمية كل العلوم النفسية، في الحقيقة، للأدب والنقد الأدبي. فهو يقول إن على الناقد أن يلتقط من السيكولوجيا وبخاصة التحليل النفسي " ألمع أسلحته "، وإن الناقد قد يسأل في بعض المجالات أسئلة لا يجيب عليها إلا علم النفس، وإن علم النفس قد استطاع أخيراً أن يفسر خفايا علم الجمال مثل مبدأ التطهير، وما أشبه. وقد كتب ريد في مقال له عنوانه " التحليل النفسي والنقد "، نشر في كتابه " العقل والرومانتيكية " Reason and Romanticism (ثم وسعه من بعد وسماه " طبيعة النقد " وضمنه كتابه " مقالات مجموعة في النقد الأدبي ".) ؟ كتب حججاً مستقلة مقنعة، غاية في ذلك، في سبيل النقد المعتمد على التحليل النفسي، ونص على الانتقائية والاعتدال، وبين محدودية التحليل النفسي وأخطاره، كما بين إمكانياته الهائلة. غير أن المحير في كل هذا أن ريد لم يطبق إلا
(1) التجارب الصادمة Traumatic experiences هي الناشئة عن حوادث مرعبة مثل صدام قاطرة أو أي أذى مشابه يصيب الجسم ولكنه أيضاً يصيب القوى العقلية فيخل وظائفها ويحدث فيها اضطراباً. وقد أحدثت الحرب الحرب كثيراً من هذه الحالات " الترومائية ".
قليلاً من نصحائحه للناس. فإذا استثنينا كتابه عن وردزورث، ومقاله الطويل عن شللي، ودراسته للأخوات برونتي، وليس فيها جميعاً دراسة عميقة أو شاملة الإدراك، وإذا استثنينا ترديده الكثير لبعض اصطلاحات فرويد واصطلاحي يونج " انطوائية " و " انبساطية " وجدنا أن ما أنتجه ريد مضى دون أن يمسه التحليل النفسي، فيما يبدو. فهو مثل موسى النبي، رأى أرض الميعاد ولكنه لم يحاول أن يدخلها. وكذلك و. هـ؟. أودن، فإنه حلل قيمة فرويد للفن، في مقاله " علم النفس والفن اليوم "، الذي نشر في مجموعة " الفنون في أيامنا "؟ تحليلاً لامعاً، دون أن يفيد كثيراً من الطريقة النفسية في نقده.
وحال ليونل ترلنغ بأميركة مشبهة لحال هذين الناقدين الإنجليزيين. فقد كتب تقديراً بالغ اجودة لقيمة فرويد في الأدب وعلم الجمال، مبرزاً معرفة واسعة بمؤلفات فرويد، بمجلة Kenyon Review ربيع 1940 (1) ، وأشار إلى أن فرويد في بعض الأحوال يرى العقل الإنساني عضواً صانعاً للشعر، في الحقيقة، وأن التحليل النفسي على هذا هو علم المجازات والكنايات. ثم أخذ يضرب حول هذه الحقيقة نطاقاً من التضييقات ناشئة عن ميل مناقض رآه في فرويد، أي نظرة تحقير للفن، فإذا به ينتهي إلى الوقوف " على الحياد ". وتعكس دراسته لماثيو آرنولد وإ. م. فورستر، هذا التوزع في ذهنه، ومع أن استغلاله للاستبصارات النفسية واسع إلا أنها لتبدو لديه دائماً تجريبية قليلة الحماسة، وأحياناً تولد ميتة.
ومن النقاد الأميركيين الآخرين الذين حاولوا الإفادة من التحليل
(1) أعاد ليونل ترلنج نشر مقاله عن " فرويد والأدب " بمجلة Horizon سبتمبر (أيلول) 1947 ثم صمنه كتابه " الخيال الحر " The Liberal Imagination وفي هذا الكتاب أيضاً مقال آخر بعنوان " الفن والمرض العصبي "، كما أن لهذا الناقد كتيباً بعنوان " فرويد وأزمة الثقافة عندنا " (بوسطن: 1955 الطبعة الثانية) .
النفسي، اثنان هما إدموند ولسن وفان ويك بروكس أما الأول فقد تزايد إقباله على التحليل النفسي حين تخلى عن الماركسية، وما الثاني فقد انتقى نتفاً طيبة المذاق من كل أنواع التحليل النفسي ليلفظها جميعاً في النهاية. وهناك أيضاً وليم تروي الذي كتب قطعة واحدة؟ على الأقل؟ في التحليل النفسي، عن عقدة أوديب عند ستندال. ومن المتأثرين ببروكس اثنان هما فرانك وممفورد أما فرانك فقد غاص يفتش عن أغمض المجالات في التحليل النفسي، ليتبرأ منها جميعاً من بعد؟ لأن المحللين النفسيين " ذوو ضالحةٍ فلسفياً "؟ ويختار بدلاً منها صوفيته الخاصة؟ أعني التقديس، والحياة الخيرة، والروح الرياضية. وأما ممفورد فقد التقط سيرة ملفيل السخيفة الغنائية التي كتبها ريموند ويفر بعنوان " هرمان ملفيل، البحار والمتصوف ". وبنى عليها دراسة أسخف وأشد غنائية بعنوان " هرمان ملفيل " وهي حافلة بمبادئ فرويدية غير مهضومة وبذوف رديء ساذج (من أقواله فيها: " ربما " كانت زوجة ملفيل " شديدة الحياء لا تحسن الاستجابة في الحب ".) وهناك بضع سير أخرى مؤسسة على التحليل النفسي ظهرت في العقد الثالث والرابع من هذا القرن، ويبدو أنها أحسن وأنفذ إدراكاً، مثل سيرتين كتبتهما كاترين أنتوني: إحداهما سيرة مارغريت فللر، والثانية سيرة لويزا ماي ألكوت؛ ومثل دراسة روزاموند لانغردج R. Langbridge لشارلوت برونتي. ومثل سيرة بو التي كتبها جوزف وود كرتش J. W. Krutch، مع أنها جميعاً كان من الممكن أن تنتهي بصورة من صور أغلوطة " ليس إلا " التي أنهى بها كرتش سيرة بو إذ قال " إذن فنحن قد تتبعنا فن بو حتى رددناه إلى حال شاذة في أعصابه ".
وهناك ما هو أردأ من كل ما تقدم في النقد الأميركي المعاصر الذي حاول الإفادة من التحليل النفسي. وأكبر الآثمين هم المتحدثون عن الجنس
" هواية " لا علماً، و " المتوصوصون " في النقد، ونمطهم متمثل في كتاب " التعبير في أميركة " Expression in America تأليف لودفج لويزون (من أمثلة فيه " إن ثورو؟ مثلاً؟ غر لثق، محشو بالمكبوتات إلى حد العنة النفسية، وإلا فهو ضعيف الباه ضعفاً لا يرجى له شفاء؛ وهو يفضح عوار كل أديب أميركي على هذا النحو) . وفوق هذا المثل ببضع درجات فقط دراسات: كدراسة توماس بير لهنري آدمز المسماة " العهد الزاهي "، حيث فسر بير شخصية المدروس تفسيراً جنسياً مباشراً. وكدراسة فإن دورن التي فضح بها دعوى شعر وتمان وأفكاره على أساس من شذوذه الجنسي، وكالتفسيرات الجنسية للأدب كله. على يد إدورد دلبرغ في " أتحيا هذه العظام " Do These Bones Live، باسم المعاداة للتحليل النفسي؛ وكقولة تولستوي: إن أعمق ألم المرء هو دائماً مأساة غرفة النوم.
وقد سلطت على الفن علوم نفسية أخرى إلى جانب التحليل النفسي وأحرزت قسطاً طيباً من النجاح، في عصرنا. وربما كان أبعدها أثراً سيكولوجياً رتشاردز المتكاملة التي تستمد من سيكولوجيا طب الأعصاب، وسيكولوجيا السلوك التحليل النفسي والجشطالت، وملاحظه التجريبية (التي نتحدث عنها فيما يلي في الفصل الخاص برتشاردز) . أما كنث ببرك الذي توسع في الاستمداد من فرويد، وكتب أحذق تحليل أعرفه عن مشتملات التحليل النفسي والتعديلات الضرورية لها إذا شئنا استخدامها في النقد في مقاله " فرويد؟ وتحليل الشعر " الذي نشر في " فلسفة الشكل الأدبي " The Philosophy of Literary Form؟ فإنه أيضاً استمد من كل مدرسة نفسية حديثة ليحقق سيكولوجيا متكاملة يسميها " السيكولوجيا المبنية على علم الظواهر " وهي مؤسسة على الجشطالت في الدرجة الأولى، وتحيد عن " رقة ما هو استبطاني محض " وتجانب " جدب ما هو سلوكي محض " كذلك. (سنتحدث عنها فيما بعد أيضاً) .
أما المدرسة الجشطالتية فإنها فرع نفسي ذو بوادر طيبة للنقد الأدبي؟ فيما يبدو؟ مثلها مثل التحليل النفسي على الأقل. ولكنها حسب ما أعلم لم تطبق على الأدب تطبيق احتراف مباشر إلا قليلاً (1) . ويبدو أن سبب ذلك إنما يرجع إلى النص على العلم التجريبي، وهو ما دعا إليه مؤسسو النظرية الأولون مثل ماكس فرتايمر M. Wertheimer وكرت كوفكا K. Koffka وولفغانغ كوهلر W. Kohler لتفضيلهم الظواهر التي يمكن التثبت منها موضوعياص عن طريق التجارب المنضبطة. وحتى اليوم ظل اهتمام هذه المدرسة واقفاً عند حدود العقل الواعي، وعمليات مثل " الإدراك " و " التعليم "، ترد واضحة في كتاب فرتايمر " التفكير المثمر " Productive Thinking حيث يتناول أمثلة من العمليات المعقولة في النظريات الهندسية، وفي كشف اينشتين للنسبية، لا من مظاهر أقل معقوليةً وأبعد عن دائرة التثبت واليقين، كالصور الشعرية أو شكسبير للملك لير. ومع هذا فإن الفكرة الأساسية في هذه المدرسة وهي أن رد لفعل إنما يكون للكلي المتكامل أو ما يسمى جشطالت التجربة لا " للدافع "
(1) صدرت بضعة مؤلفات جشطالتية عن الموضوع العام للفن ومنها:
(1)
هـ؟. إ. ريز: سيكولوجية الإبداع الفني. A psychology of Artistic Creation.
(2)
فرنر ولف: التعبير عن الشخصية The Expression of Personality (وهذا الكتاب مع أنه في معظمه يعالج التعبيرات الذاتية مثل المشي والكلام فإن له ارتباطاً واضحاً بالتعبير الجمالي.)
(3)
رودلف أرنهايم: الجشطالت والفن (مقال نشر في مجلة علم الجمال J. of Aesthetics خريف سنة 1943) .
كما أن آرنهايم اليوم يدرس نظرية الجشطالت في سيكولوجية الفن بالمدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية وقد أسهم بمقال عنوانه " ملاحظ سيكولوجية على العملية الشعرية " نشر في " الشعراء حين ينظمون " Poets at Work وهو مجموعة قام بتنسيقها تشارلس د. أبوت من أوراق الشعراء ومسوداتهم بمكتبة جامعة بفلو.
المفرد، وأنه في الحالة هذه يكون الكل أكبر من مجموع الأجزاء وأنه يتحكم في طبيعتها؟ إن هذا كله ليبدو مرتبطاً تماماً بمشكلات الأدب والفن. والحق أن مبدأ الجشطالت عن الكلي المتكامل إنما استوحي في نواته من الطبيعة الشكلية للفن حين تعرف فون اهرنفل Von Ehrenfel إلى أنه حين يغير مكان اللحن الموسيقي وتغير أيضاً النغمات التي يتألف منها ذلك اللحن فإن الصفة الجشطالتيه له Gestaltqualitat لا تتغير لأن العلاقات بين النغمات ظلت محفوظة. وربما كانت مشكلة الفنان في نقل الأنموذج الأساسي لتجربته خلال وسيط ليست له فيه تجربة وبخاصة إن كان وسيطاً يستغل معنى مغايراً (كمنظر طبيعي في قصيدة شعرية أو أغنية طير في تمثال منحوت وهكذا) ؟ أقول ربما كانت مشكلة الفنان في هذا هي بالدقة مسألة هذه الصفة الجشطالتية، وإنذ فهي مجال تستطيع فيه سيكولوجيا الجشطالت أن تكون مثمرة بخاصة. هذا وإن هيكلها النظري الذي ينص على مبادئ " الحقل " يستطيع أن يمد النماذج السلوكية للعقل اللاوعي، وهي ذات صبغة كلية أيضاً، وأن يدرك نظرياً أن العلاقات المتباينة في المجاز الشعري إدراكات " مثمرة " للشعر مثلها في ذلك مثل العلاقات الرياضية التقليدية في مجال العلم (1) . ولا ريب في أن الجشطالتيين
(1) قد يكون من المفيد هنا أن نضع تعليقاً موجزاً يوضح للقارئ في شيء من التبسيط نشأة مذهب الجشطالت وأسسه فنقول: هنالك سؤال خالد هو: ما هو الشيء الأساسي الأولي الهام في الطبيعة، وتتخذ الإجابة عليه أحد طريقين الأول: القول بأن الشيء الهام هو " العنصر " أو الجزء وهذا هو الاتجاه الجزئي أو " الذري " والثاني: أن الشيء الهام هو الكلي أو الأنموذج أو هو المركب في مقابل البسيط. وبين الجوابين انفصال حاد، فهما ضدان منطقيان يختلفان اختلاف الليل والنهار ويتباينان تباين الاشتراكية والفردية. أما أصحاب الجواب الأول فيبحثون عن كيفية التقارب التجاذب والترابط بين الأجزاء، وأما أصحاب الجواب الثاني فيبحثون عن التغير والسلوك والحركة في الكليات ولا يبحثون عن الترابط لاعتقادهم أنها نشأت مترابطة. وقد كانت السيكولوجيا في القرن التاسع عشر ميكانيكية ولكن حين استكشفت فكرة " الاستمرار " بدأ السيكولوجيون يتحولون إلى النظام الكلي أو العضواني Organismic ثم تلا ذلك استكشاف فكرة " الوحدة " وهذه أردفت باستكشاف اهرنفل لما سماه " الصفة الجشطالتية " فتحقق كثير من السيكولوجيين من أن العمليات السيكولوجية لا يمكن تفسيرها بتحويلها إلى عناصرها بل أن الحالة العقلية ذات خاصية ذاتية تسمى " Field Property " وكان أول من انفصل عن السيكولوجيا الميكانيكية في ألمانية فرتايمر وكوفكا ثم جاء روبن. فقلب الأفكار المتعارفة عن الإدراك والذاكرة، وكان لفن يعمل مع كوهلر في برلين؛ فطبق تقنيات الطوبولوجيا على مشكلات السلوك الموجه الغائي؛ ومن هنا نشأت السيكولوجيا الطوبولوجيه، والطوبولوجيا هي العلم الرياضي للعلاقات المسافية، فتطبيقها على النواحي النفسية معناه دراسة الظواهر النفسية وتفسيرها على أساس " إقليمي " في مسافة هذه الحياة.
التكامليين الشبان وهم أتباع المرحوم لفن (الذي قال في " مبادئ السيكولوجيا الطوبولوجية ": " إن الاقتراب الوحيد من المشكلات العميقة إنما هو العمل اللامع الذي قام به فرويد ") والحشطالتيين الاجتماعيين مثل س. إ. آش وج. ف. براون؟ لا ريب في أن هؤلاء حين يوجهون انتباهم إلى علاقات البمنى، والكليات و " الحقول " و " الطوبولوجيا " في الآثار الأدبية، ويلتقط النقاد المحترفون منهم استبصاراتهم ويوسعون فيها عندئذ ينفتح أمام النقد الأدبي مجال جديد ذو قيمة هائلة.
5
- بقيت بضع مشكلات يثيرها كتاب الآنسة بودكين والنقد النفسي عامة، في حاجة إلى شرح. وفي أولها المنحى الأخلاقي والديني الموجود في كتاب " النماذج العليا في الشعر " وإن لم يكن مزعجاً. غير أنه مزعج متطفل جداً في كتابها الوحيد الآخر (1)، وهو كتيبة مخيبة للآمال نشرت سنة 1941 وعنوانها " البحث عن الخلاص في مسرحتين: قديمة وحديثة " The Quest for Salvation in an Ancient and a Modern Play وفيه تقارن الآنسة بودكين بين مسرحية " يومنيدس " Eumenides لاسخيلوس و " اجتماع
(1) قوله " الوحيد " يصدق حتى تاريخ تأليف هذا الكتاب؛ غير أن الآنسة بودكين ألفت بعد ذلك كتاباً آخر بعنوان " دراسة للصور النموذجية في الشعر والدين والفلسفة " Studies of Type - Images in Poetry، Religion and Philosopgy..
شمل العائلة " Family Reunion لاليوت بما في كل منهما من وسائل الخلاص المتباينة. وهي ترى أن الخلاص في مسرحية اسخيلوس جماعي وتاريخي، وذلك حين تحول الربة آثينا ربات النعمة Erinyes إلى ربات الرحمة Eumenides (1) ، وينجم عن ذلك أن تنعم الهيئة الاجتماعية بنظام جيد من العدالة. وتقرر الآنسة بودكين أن الأزمة في مسرحية اليوت جماعية كما هي عند اسخيلوس ومع ذلك فإن خلاص البطل عنده في النهاية فردي روحي كلياً، في مصطلح من علاقات ذاتية جديدة، واستبصارات سيكولوجية تهدأ بها ثورة " ربات النقمة " الذاتية عنده. وعلى ما في هذه المقارنة من قوة تبني الآنسة بودكين استكشافها للفرق بين العصر الاثيني وعصرنا من حيث الأخلاق والعدالة والسلام فتقول:
لا ريب في أننا نعلم ابتداءً أن الشاعر المعاصر لا يستطيع أن يكتب في مثل هذا المزاج المتهلل، كالذي كان يمتلك الاثينيين أيام اسخيلوس، فيما يبدو. فالشاعر آنئذ كان يستطيع أن يشكل روايته المسرحية ليرفع الحجاب عن حقيقة بنى وطنه، ويشاركهم أفراحهم بعظمة ما استطاعت أن تحققه مدينتهم. إن تقدم الروح الإنسانية، الذي حققته أثينا ليقود أفكارنا إلى عصرنا، إلى تقدم أعظم نحمله في أنفسنا، وإن يكن ما يزال بعيداً عن التحقيق؟ إلى مجلس أو حكومة إنسانية، تضع العدالة مكان العنف بين الشعوب
(1) الأصل في تسميتهن Eumenides يدل على الرحمة، ولكن هذا الاسم اختلط بأسمائهن الأخرى التي تدل على الغضب والانتقام وقد سمين ربات الرحمة حين كففن عن تعذيب أورست، فقرب لهن القرابين وبنى لهن هيكلاً، وكانت عبادتهن عامة، ويحاذر الناس من تسميتهن بأسمائهن أو من النظر المسدد إلى هياكلهن، ومع القرابين من النعاج كان العباد يقدمون الأرز والزعفران ويريقون الخمر والعسل، ولا يقوم بتقديم القرابين في أثينة إلا الأحرار الفضلاء الذين يحيون حياة نقية.
في كل العالم، ولو أنا نجحنا في تكوين هيئة تهدئ أحقاد الشعوب مثلما هدئت بين أبناء الوطن الواحد، فقد تتشكل لنا في الشعر أسطورة عن التدخل الإلهي لتعكس لنا نصرنا الجماعي. ولكن في هذه الساعة القاتمة من مقدرات العالم إن خلق لنا شاعر من شعرائنا أسطورة عما حققناه من خلاص، فإن رمزه لا يستطيع أن يعكس إلا نصراً فردياً روحياً.
وما تزال الآنسة بودكين في " البحث عن الخلاص " مهتمة إلى حد ما بالدراسات النفسية، وما تزال تقتبس من فرويد ويونج بل إنها تقترح نموذجاً أعلى لربات النقمة؟ نموذج الطاقة العاطفية المتركزة في رابطة شريرة، القادرة على أن تستحل إلى رابطة خيرة. ولكنها خضوعاً لمنحاها الجديد تكثر الاقتباس من المبادئ الصوفية المتنوعة، وهذه تشمل كتاب جون مكمري " مبني التجربة الدينية " The Structure of Religious Experience وكتاب " الأخلاق " لهارتمان، ومبدأ هوايتهد " الفاعلية العلية " في كتابه " المراحل العلمية والحقيقة " Process and Reality. وتلتقط من هارتمان فكرته عن " المهمة فوق الجمالية للشعر بمنح " نفسية المجتمع المرجوة " وحدةً محسوسة وشكلاً؟ أي مثلاً علياً تبزغ في الوعي الأخلاقي للهيئة الاجتماعية ". وعلى قوة هذا المفترض، تعرتف أن كتيبتها ليست دراسة جمالية وإنما هي دراسة فوق؟ جمالية، محاولة لكشف " حقائق من حقائق حياتنا العامة خلال شعر هاتين المسرحيتين ". ومهما يكن هذا قيماً للأخلاق والدين والقانون الدولي، فإنه يبدو في معظمه مجانيةً لمهمة الناقد الأدبي.
وثمة مشكلة كبرى يثيرها استخدام الآنسة بودكين للنماذج العليا اليونجية
في النقد، وتلك هي علاقتها بالفولكلور والأنثروبولوجيا. وواضح أنها مدينة؟ طبعاً؟ لفريزر حتى إن مراجعة موجزة لكتابها نشرت في London Mercury غفلاً من الإمضاء تبدأ بهذه العبارة " تحت الظل الممتع " للغصن الذهبي " الذي ألفه فريزر
…
". وتستمد الآنسة بودكين كثيراً لا من فريزر والأنثروبولوجيين المتأخيرين، مثل إميل دركهايم وج. اليوت سمث وروبرت بريفولت والكسندر جولد نفيزر، فحسب، بل إنها على التعيين تستمد من تلامذة المدرسة الأنثروبولوجية العاملين في حقل الفن والدين القديم مثل جلبرت مري، وفرانسس كورنفورد وجين هاريسون ور. ر. ماريت وجسي وستون. وتفيد من كورتفورد بوجه خاص لأنها ترى في مبدأه عن " القوة الروحية " المستمدة من " العاطفة الجماعية والفعالية الجماعية للمجموع " إرهاصاً باللاوعي الجماعي عند يونج، كما تجد أن مري قد أرهص بالنماذج العليا في فكرته عن " المواقف المنغرسة عميقاً في ذاكرة الجنس والتي كأنها مطبوعة في كياننا العضوي الحسي ".
ن محور فكرة الآنسة بودكين هي التكوين الشعائري للفن، وهي الفكرة المرتبطة بمدرسة كيمبردج، وحين تغلب الصبغة الفكرية على ما تكتبه وتبتعد عن الذاكرة البيولوجية وهي فكرة يونج الصوفية فإنها تدرك أن انتقال نماذجها العليا إنما هو انتقال شعائري، وتقول:" قد يمكن أن أثراً مثل هذا يستطيع أن يمر؟ وقد تجسده الموروث؟ في العاطفة المنقولة أولاً خلال الشعائر المصحوبة بالخرافة والأسطورة، ثم من خلال الشعر الذي يحتفظ بأثر الشعائر مثلما تحتفظ بها قصيدة فرجيل ". وفي ملحق بكتابها عنوانه " النقد والشعائر البدائية " تجعل اعتقادها بالأصول الشعائرية للدين والفن أمراً جلياً وتدافع عن إشارات اليوت إلى الشعائر القديمة في قصيدة " اليباب " ضد نقد أليك براون، وترى أن
تلك الإشارات تضفي شيئاً على سحر القصيدة وجمالها لا أنها نتف من التعالم المصطنع.
وبين الدراسة التكوينية للأدب الشعبي في اصطلاحات الأصول الشعائرية، وتحليل وظيفته في اصطلاحات الحاجات الاجتماعية والسيكولوجية رابطة ضرورية محتومة، تجعل سيكولوجية يونج أو أي سيكولوجية جماعية، لازمة للنقد الشعبي، بمثل لزوم الانثروبولوجيا التي كونها فريزر، في رفض فكرة فرويد ويونج، عن الذاكرة الموروثة، ويعالج الحاجة السيكولوجية لهذه النماذج الشعائرية على أنها تتجدد في كل جيل بتأثير ثقافي، مثلما ألمحت الآنسة بودكين في العبارة التي اقتبسناها منها قبل قليل. فليست النماذج العليا أساساً للأدب فحسب، كما بينت الآنسة بودكين بتوفيق عظيم، بل إن الأدب؟ لعصرنا على الأقل؟ هو واحد من أعظم المكثرات للنماذج العليا.
ويتبقى بعد ذلك مسألتان عامتان أثارهما النقد النفسي: المشكلة الأولى جديدة على عصرنا وهي نقد الأديب الذي كان له تمرس وثيق بالأدب المنبني على التحليل النفسي. وقد أثار هذه المشكلة فردريك ج. هوفمان في كتابه " الفرويدية والعقل الأدبي " Freudianism and the Literary Mind وذلك أثناء بحثه عن أثر فرويد في أدباء مثل جويس ولورنس ومان وكافكا، ويتحدث عنها وليم يورك تندال في كتابه " القوى في الأدب البريطاني الحديث " Forces in Modern British Literature أثناء الحديث عن ديلان توماس وأتباعه. وربما انساق إليها ورتام عند الحديث عن رتشارد رأيت لو أنه شاء أن يحلل كتاباً من كتبه التي صدرت أخيراً واستعمل فيها كشوف التحليل النفسي، دايعاً عامداً، مثل كتابه " الرجل الذي عاش تحت الأرض " The Man Who Lived Underground. ولما أن حلل
أرنست جونز أنموذج أوديب في " هاملت " كان يستطيع أن يفترض ان شكسبير لم يقرأ شيئاً عن عقدة أوديب عند فرويد، ولم يعمد إلى تنظيم مسرحيته حول هذه العقدة من أجل تحقيق تأثير أعظم، ولكن هذا الفرض نفسه لم عد ممكناً في حال أدباء مثل جويس ومان. خذ مثلاً مان: فإنه في مقاليه عن فرويد وهما " مكانة فرويد في تاريخ الفكر الحديث " و " فرويد والمستقبل " وهذا الثاني أسهم به عيده الثمانيني، تجعل من الجلي أنه لم يدرج فحسب، عامداً في قصصه، استبصارات التحليل النفسي الشكلية بل إن كتبه الأربعة المتتابعة عن " يوسف "، كانت على وجه التحديد مستوحاة من الكتابات لفرويدية. ففي حال مثل هؤلاء الأدباء (وكل سبب يحدونا لنفترض إن هذا الموقف سيظل كذلك بعد اليوم) ، يصبح الناقد الذي يستنبط من الأثر الأدبي استبصاراً نفسياً في مثل موقف امرئ يجد كنزاً مدفوناً في نورث نوكس. نعم إن الناقد المعتمد على التحليل النفسي، ما يزال يقدر على أن يفترض أن الأنموذج الذي يشاء تحليله، مليء بالمعاني الذاتية، إذ إن الأديب يعبر عن حاجاته الأساسية في مادة شكلية، اختارها واعياً نفس الوضوح الذي يعبر به عنها في مادة اختارها غير واعٍ، غير أن هذا الناقد لن يستطيع بعد اليوم أن يفترض أنه بإماطة اللثام عن ذلك الأثر الفني يسهم بأي إسهام نقدي ركين. وربما لمس القارئ بعضاً من الأثر لهذا نصور المؤسف في النقد الفرويدي الذي يدور حول د. هـ؟. لورنس كما هي الحال في كتاب " كاهن سفر الرؤيا " Pilgrim of the Apocalypse، راس غرغوري. ومنشأ هذا، ولا ريب، من شعور القارئ بأن لورنس نفسه كان يستطيع أن يكتب نقداً معتمداً على التحليل النفسي أعمق من هذا النقد وأشمل إدراكاً، سواء أنقد مؤلفاته أو مؤلفات الآخرين.
وأخيراً هناك المشكلة العامة حول إمكانيات النقد النفسي ومستقبله.
المظهر المخيب للآمال من الجدل الذي تضمنته مجلة: Partisan Rev
في هذا الموضوع، وأثارته الباثوغرافيا التي كتبها الدكتور روزنتسفايغ عن هنري جيمس هو أن هذا النوع من النقد قد تركز بخاصة، على مشكلة الفن والمرض العصبي، وهي من أقل المشكلات حاجة إلى الاستكشاف في هذه الأيام. ولم يواجه هذه المشكلة الكبرى إلا روبرت جورهام ديفز حين أسهم بمقال له عنوانه " الفن والقلق " عدد الصيف سنة 1945، فقد نص فيه على ما يستطيع أن يؤديه التحليل النفسي، لا على ما يعجز عنه. وقد خطط ديفز الاتجاه المرجو على النحو التالي: حلل في بعض التعليقات الموحية قصة رد ردنجهود Red Ridinghood، ودعا إلى تحليل فرويدي ماركسي معاً، غير مبسط وغير ممسوح بالسوقية، ومهد حقلاً للنقد المتصل بالتحليل النفسي، بدرسه كيف يرضي الأثر الفني الحاجات العاطفية اللاشعورية أي دراس نفسية للشكل) .
إن القصور الواضح في التحليل الأدبي الفرويدي التقليدي هو أنه لا تكتب على أساسه إلا دراسة واحدة، فإذا أضفت دراسة أخرى تردد فيها الشيء نفسه. ولقد استطاع إرنست جونز أن يؤدي عملاً جميلاً حين وجد عقدة أوديب كامنة في مسرحية " هاملت " ولكنه لو ذهب يحلل " لير "، أو " حلم منتصف ليلة صيف " أو مقطوعات شكسبير لوجد؟ وربما أدهشه ذلك؟ أنها جميعاً تعكس عقدة أوديب عند شكسبير، ولقام حقاً إن نحن سلمنا له بنظرياته، بالكشف نفسه في أي أثر فني آخر.
هاهنا يتجلى لنا أن الرجاء معقود بكتاب الآنسة بودكين " النماذج العليا في الشعر ". ذلك أنه لم يرتكز على المرض العصبي للفنان، ولا على العقد المستخفية في إنتاجه الفني، ولا على أن الفن تحقيق مقنع لرغبات مكبوتة؛ بل ارتكز على كيف يحدث الأثر الفني الرضى عاطفياً، وأية رابطة تقوم بين مبناه الشكلي والنماذج الأساسية والرموز في نفوسنا، وبذلك قدمت لنا الآنسة بودكين نقداً نفسياً لا تنتهي دروبه ومناظره. لقد
تساءلت دائماً: ما الذي تصنعه هذه القصيدة وكيف تصنع ما تصنعه؟ وهذان هما السؤالان التقليديان في النقد. وتقدم العلوم النفسية؟ وفي مقدمتها علم التحليل النفسي؟ ذخيرة عظيمة في الإجابة عليهما، وتختلف الأجوبة باختلاف القصائد. فلنقل في الثناء على هذه المرأة المغمورة وكتابها، إنها بمعنى من المعاني، حققت للنقد الأدبي مهمة أساسية كالتي حققها فرويد، فقد سلط هو أنوار العلم المعشية على أعماق اللاشعور الإنساني، وأبانت هي أن أرق القصائد تحت ذلك الشعاع الساطع لا يدركها الذبول.