الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[السؤال السادس]
(6)
سألَ سائلٌ فقال:
ما نصيبُ أصحابِ التخصصات العلمية، كالهندسة، والكيمياء، وغيرها من هذه الدروسِ والدوراتِ، وهم كُثُرٌ، ويريدون الفائدةَ؟ .
فكانَ الجوابُ:
من الواجب على كلِّ مسلمٍ أن يتعلمَ ما تصحُّ به عقيدتُه وما تصح به عبادتُه.
وهذا واجبٌ على المهندسِ والطبيبِ والمتخصصِ في الرياضيات والكيمياء والمهندس المعماري والكمبيوتر وغيرها من الفنون.
وهؤلاء يتعلمونَ ما تصحُّ به عقيدتُهم وعبادتُهم، وهذه الدوراتُ فرصةٌ لهم يستفيدونَ علمًا كثيرًا في وقتٍ وجيزٍ.
فإن تخرّجوا وتوظَّفوا فيأخذونَ من كلِّ علمٍ ما يحتاجون إليه.
ولا شكَّ أن أمثالَ هؤلاء لديهم استعداداتٌ فطريةٌ لِفَهْمِ العلومِ الشرعيةِ، لهذا قال بعضُ الحكماء:
" مَنْ لم يكنْ مهندسًا فلا يدخلُ داري " قالها لطائفةٍ؛ لأن عقولَ أصحابِ هذا الفنِّ مرتبةٌ تصلحُ للعلومِ الشرعية.
وهناك علمان: علم الهندسة، والطب، أقرب ما يكون للعلوم الشرعية.
ولهذا قال " الشافعيُّ " رحمه الله: " نظرتُ في العلوم فإذا أفضلُ العلومِ علمان:
(1)
علمُ الأديانِ. (2) علمُ الأبدانِ.
فتأملتُ فإذا علمُ الأبدانِ الذي هو الطب يُنْجِي في الدنيا؛ لأنه يُصْلِحُ أمر البدن فيها.
وإذا بعلمِ الأديانِ يصلحُ البدنَ والروحَ في الدنيا والآخرة.
فآثرتُ علمَ الأديانِ على علمِ الأبدانِ ".
وكان " الشافعيُّ " رحمه الله متوجهًا للطبِّ، وكان عنده علمٌ بالطبِّ والفراسةِ، حتى كان موتُه بسببِ تعاطيه بعضَ العلاجاتِ الطبيةِ لقوةِ الحافظةِ.
و" الشافعيُّ " كان مولده سنة خمسين ومائة، ووفاتُه سنة أربعٍ ومائتين، يعني عاش أربعًا وخمسين سنة، فلم يُعَمَّرْ.
وسببُ موته أنه تَعَاطَى بعضَ الأدويةِ؛ لأنه يُحْسِنُ الطبَّ، فَأَثَّرَتْ في دمه، فأصابه نزيفٌ، يعني: أصابَهُ انفجارٌ فماتَ.
وهذا الإمامُ " ابنُ القيِّمِ " رحمه الله كان يعتني بالطب والفلك.
وقد شَرَّحَ في كتابه " مفتاح دار السعادة " جِسْمَ الإنسانِ تشريحًا عجيبًا، ذكر الكبدَ ووصْفَها وتشريحها، وطبقاتِ الجلد.
لكن لا يصلح للعالم أن يُشْهِرَ هذه الأشياءَ.
كما ذَكَرَ فيه صورةً للخسوفِ والكسوفِ، وعمليةً حسابيةً هندسيةً من جهةِ الأشكالِ المخروطيَّةِ، وحسابَ القطرِ والزوايا، والزمنِ، حيث إنَّك لو أخذتَ بها تستطيعُ أن تحسبَ وقتَ الكسوفِ والخسوفِ.
فإذًا العلماءُ الربانيونَ الذين هم علماءُ الأمة كان لهم اشتغالٌ ببعضِ هذه العلومِ؛ لأن هذه العلومَ تُورِثُ قُوَّةً في العقلِ.
فمَنْ كان طبيبًا أو مهندسًا أو ما أشبه ذلك، ووُفِّقَ لدراسةِ العلمِ الشرعيِّ فهو من أصحاب الهمم العالية. على
قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ
…
وتأتي على قَدْرِ الكِرَامِ المَكارِمُ (1)
ومن عجائب " الشافعيِّ " رحمه الله أنه كان يتعاطى علمَ الفراسةِ.
والفراسةُ - كما هو معلومٌ - ثلاثةُ أقسامٍ:
(1)
فراسةٌ إيمانيةٌ.
(2)
وفراسةٌ رياضيةٌ.
(3)
وفراسةٌ طبيعيةٌ.
تَعْلَمُونَها في العقيدة (2) .
(1) قاله " المتنبي " في مدح " سيف الدولة ".
(2)
انظر: " شرح العقيدة الطحاوية "753.
والمقصودُ منها الفراسةُ الطبيعيةُ، التي يستدل بها من الشكل، كشكل الوجه، على بعض ما خَفِيَ من الصفات.
يقول مثلاً: هذا عيناه حادتانِ، وهو دليلٌ على قوة الذكاء.
وهذا عيناه باردتانِ، وهو دليلٌ على الغباء.
وهذا مِشْيَتُهُ تدلُّ على أنه مستعجلٌ في أموره.
وهذا شكل جبهته تدلُّ على كذا.
يقول هذا عن طريقِ الفراسةِ من دونِ أن يكون قد خالط هؤلاء.
وهذا العلمُ موجودٌ قديمًا في الناس، ومنه ما هو صوابٌ ومنه ما هو غَلَطٌ.
و" الشافعيُّ " رحمه الله تعاطاه.
قال: " خَرَجْتُ إلى اليَمَنِ في طلب كتُبِ الفراسةِ، حتى كَتَبْتُها وجَمَعْتُها، ثم لَمَّا حَانَ انْصِرافي، مررتُ على رجلٍ في طريقي، وهو مُحْتَبٍ بِفِنَاءِ دارِه، أزرقُ العينينِ، ناتِئُ الجبهةِ، سِنَاطٌ (1) . . فقلت له: هلْ من مَنْزِلٍ؟ فقال: نعم.
(قال الشافعيُّ) : وهذا النعتُ أَخْبَثُ ما يكونُ في الفِراسةِ، فأنْزَلني فرأيْتُ أكْرَمَ رجلٍ. بَعَثَ إليَّ بِعَشَاءٍ وطِيبٍ، وعَلَفٍ
(1) سِنَاط: هو الكوسج الذي لا لحية له أصلاً. كما في " مختار الصحاح ".
لدابَّتِي، وفِراشٍ ولِحافٍ، فجعَلْتُ أَتَقَلَّبُ الليلَ أجمعَ، ما أصْنَعُ بهذه الكُتُبِ؟ إذْ رأيْتُ هذا النعتَ في هذا الرجلِ، فرأيتُ أكرَمَ رجلٍ، فقلت: أَرْمي بهذه الكتبِ.
فلما أَصْبحْتُ قلتُ للغلام: أسْرِجْ، فأسْرَجَ، فَرَكِبْتُ ومررتُ عليه وقلتُ له: إذا قَدِمْتَ مكةَ، ومررتَ بذِي طُوًى (1) فسلْ عن منْزلِ محمدِ بنِ إدريسَ الشافعيِّ.
فقال لي الرجلُ: أَمَوْلًى لأبيكَ أنا؟! قلتُ: لا.
قالَ: فهلْ كانتْ لك عندي نِعْمَةٌ؟! فقلتُ: لا.
فقال: أينَ ما تَكَلَّفْتُ لك البارحةَ؟ .
قلت: وما هُوَ؟
قال: اشتريتُ لك طعامًا بدِرْهَمَيْنِ، وإدامًا بكذا، وعِطْرًا بثلاثةِ دراهِمَ وعَلَفًا لدابَّتِكَ. وكِراءُ الفِرَاشِ واللِّحافِ دِرهمانِ.
قال: قلتُ: يا غُلامُ، أعطِهِ. فَهَلْ بقي من شيءٍ؟
قال: كِراءُ المنْزلِ، فإنِّي وسَّعْتُ عليك وضَيَّقْتُ على نفسي.
(قال الشافعيُّ) فَغَبَطْتُ نفسي بتلكَ الكُتُبِ.
فقلتُ له بعد ذلك: هل بَقِيَ من شيءٍ؟
(1) قال في " المصباح المنير ": " هو وادٍ بقرب مكة. . ويعرف في وقتنا بالزاهر. . ".
قال: امْضِ، أخْزَاكَ الله، فما رأيتُ قطُّ شرًّا منكَ " (1) .
هذا أثّر في " الشافعيِّ " - رحمه الله تعالى - حتى إنه كان يسأل إذا أتى له خادمه بطعام: ممن اشتريتَه؟ صِفْه لي. فيقول: صِفَتُه كذا وكذا. فقال: لن آكلَه، هذه أبشع صفة.
اذهبْ به، كلوه أنتم، أو ردُّوه.
فأثَّرت فيه مع أن ذلك غَلَطٌ.
وفي إيراد مثل هذه القصة فوائد:
(1)
ينبغي لك - أيُّها الطالبُ - أن تحرص على قراءة التراجم؛ لأنها تجمعُ العقولَ، وتطردُ المللَ والكسلَ، وهذا في طبيعة الإنسان.
فقراءةُ تراجم العلماء، وسِيَرِ الأولينَ تنشِّطُ الطالبَ وتجعلُه منسجمًا في العلمِ؛ لأن العلمَ منه مُلَحٌ، ومنه معقد وصعب.
لهذا كان " الزهريُّ " وغيرُه إذا انتهى الدرسُ، قال:" هاتوا لنا من أخبارِكم، هاتوا لنا من أشعارِنا، فإنَّ للقلب أحماضًا ". أو كما قال.
(2)
عليك - أيُّها الطالبُ - أن تستفيدَ من العلماءِ القدامى، مع علمك أنهم غيرُ معصومين عن الخطأ.
فقد ترى في ترجمة العالم أشياءَ غريبةً؛ لأنهم بشرٌ والله - جلَّ وعلا - جعلَ بقدرته وحكمته في بعض العلماء من صفاتِ
(1) انظر " آداب الشافعي ومناقبه " لابن أبي حاتم الرازي ص129.
الكمال؛ ليبقى الكمالُ والاقتداءُ بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن لا يصح أن تُنْزِلَ العالِمَ منْزلةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن لا يخطئ أبدًا، ويكون فعلُه كفعلِ النبي صلى الله عليه وسلم تمامًا؛ وذلك لحكمةٍ من الله - جلَّ وعلا -، ولأمرٍ كونيٍّ فيه مصلحةٌ، وهي أن لا يُغاليَ الناسُ في مدحِ أحدٍ من العلماء فلا بدّ من هفوةٍ عندَه.
والكاملُ والمقتدى به هو العالِمُ الربانيُّ الذي يعلِّمُ الناسَ الخيرَ وينشرَ في الناس الهدى، ويعلِّمُهُم السنةَ.
أما الأشياءُ التي تكونُ في حياتِهِ بما يعابُ عليها فلا تلتفتْ إليها؛ لأنه ما من أحدٍ إلا وعنده ما يُعَابُ عليه.
لو قرأتَ ترجمة (مالكٍ) رحمه الله لوجدتَ فيها ما يُعَابُ عليه، وهكذا في ترجمة (أحمدَ) رحمه الله وهكذا في ترجمة (أبي حنيفة) رحمه الله وهكذا في ترجمة (الشافعيِّ) رحمه الله.
لكن الناسَ الآنَ مجمعون على الثناء على هؤلاء الأئمةِ الأربعةِ.
ولو نظرتَ في ترجمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله لرأيت مَنْ كان في عصره يلعنُه لبعضِ المسائل.
لكن استقرَّ الأمرُ على الثناء عليه، وعلى أنه من العلماءِ المجتهدين في الفِقْهِ.
فإذا قرأتَ تراجمَ العلماءِ في الأزمنةِ جميعها وجدتَ أنهم لم
يكونوا كاملينَ، بل لا بدَّ من نقصٍ، وهذا النقصُ لا تنسبْه إليهم فقط، بل هو ابتلاءٌ من الله - جلَّ وعلا - ليظهرَ كمال الكامِلِ، وتظهرَ نصيحةُ الناصِح، ولتتيقنَ أن الاقتداءَ التامَّ في الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وعلى الخصوص نَبِيُّنا محمدٌ - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه - فكلُّ واحدٍ من العلماءِ يقول: هكذا ظهرَ لي. والله أعلم.
وربما يقول ذلك وهو يخالف الكتابَ والسنةَ.
(3)
يحسنُ في دروس العلماء إيرادُ القصص الماتعة، لقطفِ الثمارِ الحسنةِ منها، وطرحِ الفوائد في التربية والتوجيه الحسن.
وذلك أوقع في القلب، وأكثرُ أثرًا في الإقبالِ على الله جل جلاله والرغبةِ بالعلمِ.
وفي هذا القدر كفايةٌ. وأسألُ الله - جلَّ وعلا - أن يثيبَكم على حسنِ إنصاتِكم وعلى حضورِكم، وأن يباركَ فيكم، وأنْ ينفعنا وإيَّاكم بهذه الدروس نفعًا عظيمًا، وأن يجزل للجميع خيرَ الجزاءِ وأن يوفّقَ ولاة الأمرِ لما فيه رضاه، وأن يمنَّ عليهم بالهدى والتوفيقِ للصالحات، إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه.