الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الركن الثاني المعلِّم]
الركن الثاني: المعلِّم هو الشيخُ الذي سيلقي الدروس.
ولا شكّ أن المشايخ يختلفون في استعداداتهم؛ لأنّ الله - جلَّ وعلا - وَهَبَ الناسَ مواهب، وقد يَهَبُ المتأخِّرَ ما فاتَ على المتقدِّمِ، وقد يَهَبُ الصغيرَ ما لم يدركْه الكبيرُ، وقد يكون المتوسطُ في السنّ أقربَ إلى الشباب من جهة إلقاء الدروس.
قد يُعْطَى متنٌ لمدةٍ وجيزةٍ، قد يكون هذا المتنُ يمكن تدريسُه في سنةٍ، على أن يكون في كل أسبوع درسٌ، وينجح مَنْ يُدَرِّسُهُ. فلو كانتِ المدةُ أسبوعًا ربما لم يستطع ذلك الذي يستطيع إنهاءَه في سنة، فيشرح ثلاثَ ورقاتٍ، أو أربعَ ورقاتٍ ثم يتركُ أكثرَ من ثلثيِ المتن بلا شرحٍ.
لذا يحسن في المعلِّم أن يقسِّم المتنَ على الزمن.
والذي حَصَلَ في دوراتٍ سابقة في هذا المسجد أو في غيره أنّ عِلْمَ المعلمِ (الشيخ) كان أكبرَ من زمن الدورة، فكان يفصِّل تفصيلاتٍ كثيرةً مفيدةً، فضاق عليه الوقتُ فتركَ الطلابَ من دون إتمامِ هذا المتنِ.
وفي هذه الحالة تفوت الفائدةُ عمن يحضر هذه الدوراتِ، وقد يبلغ العددُ إلى المئات. أما الذين يستفيدون من الأشرطة المسجَّلة
فربما يزيد على مئات الآلاف.
وقد حدَّثني بعضُ الإخوة من الدعاةِ ممن زار بعض البلاد في أفريقيا أو أوربا أنه وَجَدَ فيها الدوراتِ التي أقيمتْ في هذا المسجد أو في غيره مسجَّلة على الأشرطة، ولكنَّ الناس ينتفعونَ بالكتاب أو بالمتن الذي يُشْرَحُ كاملاً.
فعلى المعلِّم أن يرتّب الزمن، وأن لا ينساقَ وراءَ المعلومة فينقضي الزمنُ، ولم يُنْهِ من الكتابِ إلا صفحةً أو صفحتين.
لهذا يتحتمُ على القائمين على الدورات أن ينبِّهوا الشيخَ فيما لو استطرد في البداية بعد مضي درسٍ أو درسين.
فيجب المحافظةُ على الزمن، والاهتمامُ به، وأن يكون الشرحُ متواكبًا مع قصر المدة.
فإذًا اختيارُ المعلِّمِ مهمٌ، فمنهم من يحسنُ الدروس لكن بتحضيرٍ كبير، فأحيانًا يحتاج المعلمُ إلى تحضيرٍ، وأحيانًا يكون التحضيرُ سببًا في إطالة المادّةِ والموضوعِ والإلقاءِ، فيأتي المعلِّمُ إلى إلقاء الدرس فتتزاحمُ عليه المعلوماتُ فيلقيها ولكنَّ الطالبَ لا يحتاجها في شرح هذا الكتاب؛ لأنّ الإلمامَ في المتن كاملاً هو المهم.
فالتفصيلاتُ والنقولاتُ من الكُتُبِ لا تتناسبُ مع الدورات العلمية المكثَّفة.
فالمعلِّم في الدورات يهتم بعرض المتن بإيضاح عبارته، وبيان مقصودِ المؤلفِ مع الاستدلالِ عليها والمرورِ على ذلك سريعًا بلا إخلال.
وهذا يحتاج إلى دُرْبَةٍ، وعلمٍ حاضرٍ في كلِّ الفنِّ، وتحضيرٍ قليلٍ.
كما أن المعلِّم عليه أن يسلك طريقَ التسهيل في إلقاء المعلومات، مع طَرْحِ الفوائدِ؛ لأنّ طلبة العلم لا يستمرون إذا لم يجدوا الفوائد العلمية.
ومن متطلبات المعلِّم أن يكون متمكنًا في المادة العلمية، وأن تكونَ ملكتُه قابلةً، ولغتُه قريبةً واضحةً.
وأن يكون مبتعدًا عن التقعُّرِ في الكلام، والتشدُّقِ.
ولا ينبغي أن يقاطعَ الطلابُ المعِّلمَ بأسئلةٍ تُخِلُّ بالتسجيل.
وفائدةُ الموجودين تتحققُ بشرح الدروس وحفظها.
وفائدةُ غير الموجودين تتحقق بسماع الدروس المسجَّلة على أشرطةٍ، كشرح كتاب التوحيد لإمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وشرحِ الواسطية، وتفسير القرآن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وشرح الشيخ محمدِ بنِ إبراهيمَ رحمه الله، وشرح سماحة الشيخ عبدِ العزيز بنِ باز رحمه الله ورَفَعَ درجته في الجنة وألحقه
بالصدِّيقين -، وكذلك شروحُ عددٍ من مشايخنا كالشيخ ابنِ عثيمين رحمه الله، والشيخ صالحٍ الفوزانِ - حفظه الله -، وهذه الدروس مسجلة.
لذا على المعلِّم أن يَتَنَبَّهَ إلى أن دروسَه محفوظةٌ، وربما سيستفاد منها بعدَ مئة عام.
فإذا كان الجميعُ منصتًا واعيًا كان المعلِّم أنشطَ في إلقاء العلم، لهذا كان " سفيانُ " و " مالكٌ " - رحمهما الله - وغيرُهما من أهل العلم يقول:
كنا إذا نَشِطْنَا أسندنا - يعني: الحديث - وإذا كَسِلْنَا أرسلْنا - يعني: من دون ذكر إسناد -.
إذًا ذلك راجعٌ إلى الوضعِ النفسي للمعلِّم.
كما أنه راجعٌ إلى المُتَلَقِّي.
فحركةُ الطالبِ واستعدادُه وتلقيه وحسنُ إنصاته، وحسنُ كتابته يُنَشِّطُ المعلِّمَ لطرحِ الفوائدِ العلميةِ.
وسلاحُ الطالبِ القلمُ والورقُ.
والمهمُّ أن يتعاون المعلِّم والطالبُ في إنجاح الدروس المسجَّلة، وخُصِّصَتْ هذه الدوراتُ العلميةُ للمتوسطين من الطلاب.
فالمعلِّمُ يستعملُ أسلوبًا في بيانه لا يرتفعُ عنه الحاذقُ، ولا
يتقاصَرُ عنه الريِّضُ المبتدِئُ، بل يكونُ أسلوبُه بينَ بينَ.
وهذه صفة الربانِيِّينَ من العلماءِ فيما وَصَفَهُمُ اللهُ - جلَّ وعلا - بقوله:. {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79](1) .
والله - جلَّ وعلا - وَصَفَ الربانيَّ من أهل العلم بأنه الذي يتعلَّمُ ويُدَرِّسُ، أما الذي يتعلّم ويستغني عن التدريس فهذا ليس من الربانِيِّينَ.
قال " أبو عبدِ اللهِ البخاريُّ ":
(الربانيُّ هو الذي يُعلِّمُ الناسَ صغار العلم قبل كباره) يعني: بحسب الحاجة.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أُوتي جوامعَ الكلمِ، فإن كان الكلامُ مختصرًا مفيدًا فَهِمَهُ العاميُّ والذكيُّ والبليدُ والحاضرُ والبادي. . .
فالمعلِّم يفيد طلابه المتوسطينَ التعريفاتِ والضوابطَ والقواعدَ.
ويتجنب المعلِّمُ في الدورات الأساليبَ الإنشائية (يعني: الوصفية) والاستطرادات في الوصف.
لأن الطالبَ يريد أن يكتب مباشرة الضوابطَ والتقاسيم، كأنْ يقولَ المُعلِّم: ضابطُ الشركِ الأكبرِ كذا، وضابطُ الشركِ الأصغرِ كذا.
(1) آل عمران: 79.
وما الفرقُ بين الشركِ الأصغرِ والخفيِّ؟
وكأنْ يقولَ مثلاً: تنقسم هذه المسألةُ إلى أربعةِ أقسامٍ. . وغير ذلك.
وهذا هو الذي يبقى مع الطالب، وهو الذي يفتح له ما اسْتُغْلِقَ من العلمِ.
وأما الأساليبُ الإنشائية فيأخذها الطالبُ من القراءةِ، ولكنَّ المفيدَ هو الفروقُ الدقيقة، والمُعلِّمُ يفتح للطالبِ في الدوراتِ الآفاق الواسعةَ.
هذا فائدةُ التلقي من الشيخ، ولولا الفوائدُ والفروقُ في المسائل المتشَابهةِ لما كانت هناك مزيةٌ لهذه الدروس. بل يستوي ذلك مع أخذِ الطالبِ العِلمَ من الكُتُبِ من دون مُعَلِّمٍ.
وقد تجد بعضَ كتبِ المتقدمين في الفقه والعقيدة يعرضُ الأنواعَ بطريقةِ العطف بالواو أو بأو.
كقولهم: الماءُ طاهرٌ، وطَهُورٌ، ونجسٌ، ومشكوكٌ فيه.
وكقولهم: الشرك أكبرُ، وأصغرُ، وخفيٌّ.
فعلى المُعلِّم أن يُسَهِّلَ فيقول: القسم الأول، القسم الثاني، القسم الثالث، وهكذا. . .
أو يقول: النوعُ الأولُ، النوعُ الثاني، النوعُ الثالث، وهكذا. . .
ومثل ذلك يفعل في المسائل الخلافية فيذكرُ المسألةَ والأقوالَ فيها مُرَتَّبَةً، كأن يقولَ: القولُ الأولُ، ودليلهُ، ووجهُ الاستدلالِ منه. ثم يذكر القولَ الثاني، وهكذا، ثم يذكر الترجيحَ الذي يظهرُ له، وقد لا يكونُ راجحًا عند غيره.
ومن المهم - أيضًا - أن الطالبَ لا ينظرُ للمُعلِّم في الدورات أنه إمامٌ في كل شئ، ولو كان أستاذًا في الجامعة أو غيرها.
لأنه سينصرفُ عن المُعلِّم لو وَجَدَ فيه قصورًا، فلا يستفيدُ عندئذٍ من أحدٍ إلا من أُناسٍ كما وصفهم " الذهبي " بقوله:" كدتُ لا أراهم إلا في كتابٍ، أو تحتَ أطباقِ ترابٍ ".
لا تشترطْ في المُعلِّم شرطًا صعبًا، فتنتقد هذا، وتنتقد هذا، المهم في المُعلِّم أن يلقي العلمَ وهو متقٍّ لله - تعالى - فيه، لا ينسبُ لله - جلَّ وعلا - ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم أو لدينِ الإسلامِ أو للعلمِ الشرعيِّ ما لا يَعْرِفُهُ من كلام أهل العلم، ولا يُدْخِلُ اجتهاداتِه الشخصيةَ في العلم؛ لأَنَّ المقصودَ في الدروسِ العلمية نقلُ العلمِ كما نقله العلماءُ.
والعلمُ في هذه الأمة هو قالَ اللهُ، وقالَ رسولُه، وقال الصحابةُ، وقالَ أهلُ العلم.
فإذًا لا تشترطْ شروطًا صعبةً في المُعلِّم، لئلا تُسيء به الظنَّ
فَتُحْرَمَ منه الفائدةَ، ولا تشترطْ فيه أن لا يهفو في مسألةٍ، أو أن لا يخطئ فيها، وبخاصة في الدورات العلمية.
فقد تجد عند الطالب معلومةً لا تكون عند المُعلِّمِ فيستفيد المُعلِّمُ من الطالب.
كان " ابنُ الخشَّابِ الحنبليُّ " يقول: " أنا تلميذُ تلامذتي ". هذا صحيح لأَنَّ المعلمَ يستفيد، والطالبَ يستفيد، وهكذا.
فالمُعلِّم المتخرِّج حديثًا الذي يدرِّسُ في وزارة المعارف في المتوسط أو في المدارس الثانوية أو في الكلية، أولُ ما يدرِّس قد يستفيد من الطلاب كثيرًا، ومع طول المدة تقلّ استفادتُه منهم، ويصبح يفيد أكثر مما يستفيد؛ لأن أمامَه عقولاً تناقشُه فيما يقول فيركِّز ويستعد، لكن قد تأتي مسألةٌ، والذي يحفظه الشيخُ فيها قولٌ مرجوحٌ، أو غيرُ صحيحٍ، أو ليس هو التحقيقَ، وقد يفوته شئ، وقد يغلط في نسبة حديثٍ أو ما أشبه ذلك. والطالبُ قد يعرف الصوابَ في هذه المسألة. . .
إذًا فالعلم يُستفاد في الدورات بين المُعلِّم والمتعلم، فلا يترفع المُعلِّمُ عن أن يأخذَ الفائدةَ من الطالب، ولا يستحي الطالب فيمتنع من أن يفيد المُعلِّم، لكن يراجع الطالبُ مُعَلِّمَهُ بأدبٍ وحياءٍ على سبيل الاستفهام.
فإذًا على الطالب أن لا يشترطَ شروطًا يصعبُ وجودُها إلا في الأئمة الأعلام، كأحمدَ بنِ حنبلٍ، أو البخاريِّ، أو ابنِ تيميةَ، وغيرِهم.