المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كيفية رفع القبر - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - ٥ ب

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌كيفية رفع القبر

‌كيفية رفع القبر

الصفة الطبيعية لإعادة التراب إلى الحفرة: أن ينشأ عن ذلك شيءٌ من الارتفاع مسنَّمًا، وهذا هو الأصل الذي لا ينبغي أن يتعدى إلا بدليل.

استدل من يقول بالتسطيح بحديث التسوية المتقدم، بناءً على أن المراد جعل القبر متساويًا.

وقد سبق رده، وبيان ما هو إن شاء الله الحق

(1)

.

[ص 56] واستدلوا أيضًا بحديث أبي داود

(2)

عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة، فقلت: يا أُمّاه، اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه. فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مُشْرِفة ولا لاطِئة، مبطوحة ببطحاء العَرْصة الحمراء.

وأخرجه الحاكم في "مستدركه"

(3)

، وقال: صحيح. وأقره الذهبي.

وفيه زيادة: "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُقدَّمًا، وأبا بكر رأسُه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ".

قالوا: والبطح هو عبارة عن جعل الشيء مستويًا.

قال الزمخشري في "الفائق"

(4)

في (رفف): " [ابن الزبير رضي الله عنه]

(1)

انظر (ص 47 - 49).

(2)

رقم (3220). والبيهقي في "الكبرى": (4/ 3).

(3)

(1/ 369).

(4)

(2/ 74).

ص: 51

لما أراد هدم الكعبة

وكانت في المسجد جراثيم، فقال: يا أيها الناس ابطَحوا. وروي: كان في المسجد حُفَر منكرة، وجراثيم، وتعادٍ، فأهاب بالناس إلى بطحه

إلخ.

البطحُ: أن يجعل ما ارتفع منه منخفضًا حتى يستوي، ويذهب التفاوت

" إلخ. ا? .

[ص 57] قالوا: ولا يمكن أن يقال: إن القبور مبطوحة، أي: مسوَّاة بالأرض؛ لقوله في الحديث: "ولا لاطئة"، فما بقي إلا أن تكون مُسَطَّحة، أي: مُسَوَّاة في نفسها.

وتأوله صاحب "الجوهر النقي"

(1)

: بأن المراد بـ "مبطوحة" غير مشرفة، أعم من أن تكون مسنَّمة، أو مسطحة، واستدل بكلام الزمخشري السابق، وهو كما ترى.

وحَمَل غيرُه لفظ "مبطوحة" على أنها موضوعة عليها البطحاء، أي: الحصى، كما فُسِّر به حديث عمر أنه أمرهم أن يبطحوا المسجد، وهو ثابتٌ في مجاميع اللغة

(2)

.

[ص 58] ويحتمل معنى ثالثًا: وهو أن يكون شَبَّهها بهيئة الأشخاص المبطوحين، أي: المُلْقَين على وجوههم، فإن القبر المركوم عليه قليلٌ من التراب على هيئة التسنيم، يشبه هيئة الشخص المبطوح.

(1)

(4/ 3 ــ بهامش سنن البيهقي).

(2)

بعد هذا الكلام عدة أسطر ضرب عليها المؤلف وترك عبارةً لم يظهر عليها أثر الضرب وهي: "ويبعده جدًّا؛ لأن الظاهر أنه أراد".

ص: 52

وعليه، فينبغي الترجيح بين هذه المعاني، فأقول:

أما المعنى الأول؛ فيردُّه ما علَّقه البخاري في "صحيحه"

(1)

عن سفيان التمَّار: أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسنَّمًا.

ووصله ابن أبي شيبة

(2)

فقال: ثنا عيسى بن يونس عن سفيان التمَّار قال: دخلتُ البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، [ص 59] فرأيت قبره وقبر أبي بكر وعمر مُسَنَّمة.

ويبعد كل البعد أن يُغَيَّر قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه عما وُضِعَت عليه، والصحابةُ باقون، وعلماء التابعين شاهدون، والملوك والأمراء من أهل العلم.

والإصلاح الذي وقع في زمن الوليد بن عبد الملك، وقع بحضور عمر بن عبد العزيز ــ وحَسْبُك به علمًا، ودينًا وورعًا ــ مع وجود غيره، وتغيير الجدار للضرورة، ولا ضرورة في تغيير الهيئة، وهذا بخلاف ما قلناه في قبر عثمان بن مظعون، فإنه لا مانع في أن يغيره ويرفعه شخصٌ واحدٌ.

فأما قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه ، فيبعد أن يجترئ على تغييرها أحدٌ.

وعلى تسليم احتمال التغيير، فإنما يُصَار إلى تجويزه إذا لم يوجد جمع بين الدليلين أيسر منه. ولا شُبْهة أن الجمع بحمل [ص 60]"مبطوحة" على

(1)

كتاب الجنائز، باب ماجاء في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

(2)

"المصنف": (3/ 215).

ص: 53

المعنى الذي يوافق رواية التمَّار أولى وأقرب من حملها على المعنى الذي يخالفه.

ولاسيما والكلمة بالنظر إلى المعنيين الأوَّلين محتملة لهما على السواء، فيكون حديث سفيان مرجِّحًا لأحدهما، وهو الذي لا يخالفه فسقط المعنى الأول، وبقي النظر بين الثاني والثالث.

لا شك أن الثاني حقيقة، والثالث مجاز، والحقيقة مقدمة على المجاز، إلا أن هناك أدلَّة تقوي إرادة المجاز:

أولها: أنه إذا ثبت أن القبور كانت مسنَّمة، فمن البعيد أن ينعت القاسم قدر ارتفاعها، ويدع نعت هيئتها، ويذهب إلى ذكر أن عليها حصى، فإن بيان الهيئة أهم من [ص 61] ذكر الحصى.

ثانيها: في "شرح المشكاة"

(1)

لعلي قاري ما لفظه: "وأيضًا ظهر أن القاسم أراد أنها مسنمة، برواية أبي حفص بن شاهين في "كتاب الجنائز" بسنده عن جابر قال: سألت ثلاثة كلهم له في قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبٌ، سألت أبا جعفر محمد بن علي، وسألت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسألت سالم بن عبد الله: أخبروني عن قبور آبائكم في بيت عائشة؟ فكلهم قالوا: مسنمة".

وهـ? هنا إشكال: وهو أن جابرًا هو راوي حديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُلْحِد له، ونُصِب عليه اللبن

(2)

إلخ، كما سيأتي، فالظاهر أنه

(1)

(2/ 371).

(2)

تقدم (ص 50).

ص: 54

حضر الدفن، والظاهر أنه حضر دفن الشيخين أيضًا، فكيف يحتاج إلى السؤال عن كيفية القبور؟ اللهم إلا أن يكون جوز تغييرها، وفيه بُعْد، كما أن تجويز أنه لم يحضر أبعد.

وعلى كل حال، فحديث ابن شاهين لم يصحّح، ولعله لا يكون صحيحًا.

ثالثها: أن وضع الحصى على القبر، على فَرْض تسليم جوازه، فإنما هو ــ والله أعلم ــ علامة للقبر، ولا حاجة للعلامة في قبور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه.

فالذي يظهر ــ والله أعلم ــ ترجيح المعنى الثالث.

[ص 62] ومن أدلة التسنيم: أثر الشعبي الذي رواه ابن أبي شيبة، كما تقدم

(1)

، وإن عنعنه سفيان.

ومنها: أن العمل في عهد السلف كان جاريًا على ذلك.

والظاهر في مثل هذا أن يكون موافقًا للسنة، ما دام لم يقم دليلٌ يدل على مخالفته.

وقال صاحب "الجوهر النقي"

(2)

: "وحكى الطبري عن قوم أن السنة التسنيم، واستدل لهم بأن هيئة القبور سنة متبعة، ولم يزل المسلمون يسنِّمون قبورهم، ثم قال: ثنا ابن بشار ثنا عبد الرحمن ثنا خالد بن أبي عثمان قال: رأيت قبر ابن عمر مسنَّمًا.

(1)

(ص 29).

(2)

(4/ 4 ــ بهامش سنن البيهقي).

ص: 55

قال الطبري: لا أحبّ أن يتعدَّى فيها أحد المعنيين من تسويتها بالأرض، [ص 63] أو رفعها مسنَّمة قدر شبر، على ما عليه عمل المسلمين في ذلك.

قال: وتسوية القبور ليست بتسطيح. ا? .

ومما يدل على أن عمل أهل المدينة كان على التسنيم: أن مذهب مالك اختيار التسنيم

(1)

، وهو يرى عمل أهل المدينة حجة، فلو كان عمل أهل المدينة على التسطيح لما خالفهم.

وأيضًا التسطيح يشبه بناء أهل الدنيا؛ لأن فيه نوعًا من الإحكام، بخلاف التسنيم، فإنه يحصل بطبيعة الحال عند رد تراب الحفرة إليها.

[ص 64 ب] وهذا الارتفاع نحوًا من شبر بالنسبة إلى وسط القبر؛ لأنه مسنم. والواقع أن إعادة تراب الحفرة إليها بعد الدفن ينشأ عنه تسنيم نحو الشبر غالبًا.

فإذا كان الواقع كذلك فالأمر بيّن، وإن فُرِضَ أنه زاد فعندي أنه يجب التخفيف عملًا بظاهر حديث فَضالة على ما تقدم، واقتصارًا على القدر الثابت.

وإن فُرِض أنه نقص، كأنْ كان في الحفرة حجرٌ كبيرٌ أُخْرِج منها، فلما أُعيد التراب بعد الدفن لم يكفِ، فعندي أنه إن كفى لمساواة الحفرة لوجه الأرض لم يزد عليه؛ لإطلاق النهي عن الزيادة كما يأتي، ولأن الرفع ليس ضروريًّا لأصل الدفن، وإنما فائدته التعليم على القبر، ويغني عنه وضع

(1)

انظر "تهذيب المدونة": (1/ 346)، و"الذخيرة":(2/ 478 - 479).

ص: 56

حجر، كما روي من فعله صلى الله عليه وآله وسلم بقبر عثمان بن مظعون.

أما إذا نقص عن مساواة الحفرة بالأرض، فالظاهر أنه يزاد عليها حتى يساوي وجه الأرض فقط؛ لأن تركها ناقصة، نقصٌ وإخلالٌ بأصل الدفن.

ص: 57