المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ محل النزاع:

‌الوصية بالدفن في المِلك:

قرر العلماء أن الشخص إذا أوصى أن يُدفن في ملكه، لم تنفَّذ وصيته، بل يدفن في مقبرة المسلمين، فإن أراد الورثة أن يدفنوه حيث أوصى كان دفنًا في ملك الدافن، وسيأتي حكمه.

وإذا أوصى مع ذلك أن يُفْرَط في توسعة قبره، وإحكامه، والبناء عليه، وأراد الورثة الدفنَ المعتاد فقط، لم يلزمهم غيره، فإن فعلوا، فهو في ملكهم، وسيأتي حكمه.

[ص 28]

‌ الدفن في مِلك الدافن:

السُّنَّة المطَّرِدة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم الدفن في مقبرة المسلمين، أما دفنه صلى الله عليه وآله وسلم في بيت زوجِه فله سببٌ خاصٌّ، سيأتي إن شاء الله بيانه، وبيان سبب دفن صاحِبَيه معه في فصلٍ مفرد

(1)

.

ثم إن الدفن في ملك الدافن لا يقتضي التخليد، فله بيع البقعة التي فيها القبر، وتدخل بقعة القبر في البيع، كما أنه إذا مات وُرِثت عنه، وإذا وقفها مقبرةً أو غيرها، دخلت بقعة القبر في الوقف، ولكن لا يجوز استعمال بقعة القبر إلا بعد البِلى، فإذا كان البِلى، جاز استعمالها بزرع وبناء للسُّكْنى وغيره.

[ص 29]

‌ محلُّ النزاع:

بقي رفع القبر في غير الملك، بدون إحكام ولا بناء، وإنما هو بزيادة حصى ورمل وتراب يُرْكَم عليه حتى يرتفع.

(1)

لم يتمكن المؤلف من عقد هذا الفصل في هذه النسخة.

ص: 27

وبقي الرفع، والتوسعة، والإحكام، والبناء فيما إذا كان في ملك الفاعل، وهذا هو الذي يصلح أن يكون محلًا للنزاع.

الرفع في غير المِلك

لا شك أن الرفع زائدٌ على القدر الكافي للمواراة التي هي المقتضي للدفن، كما دلت عليه الآية، وفيه أيضًا ضرر على المستحقين إذا أرادوا حفر القبر بعد البِلى، وإن كان خفيفًا، فهذا يقتضي المنع، فالدليل على من يدعي الجواز.

[ص 30] بِيَد المجيزين متمسَّكات:

منها: ما علقه البخاري في "صحيحه"

(1)

في باب: الجريد على القبر، قال:"وقال خارجة بن زيد: رأيتني ونحن شبَّان في زمن عثمان رضي الله عنه، وإن أشدنا وثبةً الذي يَثِبُ قبرَ عثمان بن مظعون حتى يجاوزه".

وهذا وإن كان معلقًا إلا أن البخاري ذكره بصيغة الجزم، وذلك حكمٌ بصحته

(2)

، كما هو مقررٌ في موضعه.

ومنها: ما رواه الشافعي عن [إبراهيم بن محمد]

(3)

عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعًا

(4)

.

(1)

(2/ 95 ــ الأميرية).

(2)

يعني إلى من علقه عنه. وانظر "هدى الساري"(ص 19 - 22).

(3)

ما بين المعكوفين تركه المؤلف بياضًا.

(4)

أخرجه الشافعي في "المسند" رقم (601)، و"الأم":(1/ 628 - 629).

ص: 28

وأنه رشَّ على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء

(1)

.

وهذا مرسلٌ صحيحٌ، وأكثر الأئمة يحتجون بالمرسل.

والشاهد في وضع الحصباء، ولا شك أن وضعها على القبر يؤثّر في رفعه.

[ص 31] ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"

(2)

قال: ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي حصين عن الشعبي: رأيتُ قبور شهداء أحد جُثًى مُسنَّمة.

وهذا الحديث صحيح، ذكره في "الجوهر النقي"

(3)

.

(1)

أخرجه الشافعي في "المسند" رقم (599). من الطريق نفسها.

وتكلم المصنف عن إسناد الأثر في النسخة الأخرى (ص 23) قال: "إبراهيم بن محمد: أجمع الأئمة على تضعيفه، إلا ابن الأصبهاني والشافعي، قال الشافعي: كان لأن يخر من السماء ــ أو قال: من بُعد ــ أحبّ إليه من أن يكذب.

وصرح جماعة من الأئمة بأنه يكذب، وقال الإمام أحمد: يضع.

وقال ابن عدي: قد نظرت أنا الكثير من حديثه، فلم أجد له حديثًا منكرًا، إلا عن شيوخ يحتملون، وقد حدث عنه الثوري وابن جريج والكبار.

وعلى كل حال، فالرجل ضعيف، ومع هذا فالحديث مرسل، وفي الاحتجاج بالمرسل خلافٌ، لا حاجة لذكره" ا? .

قلت: وللحديث الأول شاهد عند ابن ماجه (1565) من حديث أبي هريرة، وضعفه أبو حاتم الرازي. وللثاني شاهد عند أبي داود في "المراسيل"(424)، وآخر رواه البيهقي (3/ 411) عن جعفر بن محمد عن أبيه في الرش على القبر.

(2)

(3/ 215). وأبو داود في المراسيل" (423)، وعبد الرزاق:(3/ 505) من طريق الثوري أخبرني بعض أصحابنا عن الشعبي بمثله.

(3)

(4/ 4 ــ بهامش سنن البيهقي).

ص: 29

ومنها: الإجماع من المسلمين على رفع القبور في المقابر المسبَّلة، واختلافهم في قدره وكيفيته لا يقدح في الإجماع، ما داموا مجتمعين على أصل الرفع.

ومنها: أن للقبور أحكامًا؛ من النهي عن القعود عليها، والصلاة إليها، وغير ذلك، وهذا يقتضي رفعها؛ لتتميز عن الأرض، فتُعْرَف.

[ص 32] والجواب:

• أما أثر خارجة؛ فقال في "فتح الباري"

(1)

: "إن البخاري وصله في "تاريخه الصغير".

وقد نظرنا "التاريخ الصغير"، فوجدناه قال (ص 23)

(2)

طبعة إله آباد: "حدثنا عَمرو بن محمد ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة الأنصاري قال: سمعت خارجة بن زيد بن ثابت: رأيتني ونحن غلمان شُبَّان زمن عثمان، وإن أشدّنا وَثْبة الذي يَثِبُ قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه" ا? .

والكلام عليه من وجوه:

أولًا: من حيث إسناده.

فيه ابن إسحاق، وهو وإن كان الحق أنه صدوق، وصرَّح بالتحديث، فالتحقيق ما قاله الذهبي في "الميزان"

(3)

في فَذْلَكة

(4)

ترجمة ابن إسحاق

(1)

(3/ 265).

(2)

"التاريخ الأوسط" رقم (126 ــ ط الرشد).

(3)

(4/ 395).

(4)

أي في نهايتها.

ص: 30

قال: "فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا، وقد احتجَّ به أئمة، فالله أعلم".

وهذه القصة قد انفرد بها، ففيها نكارة.

ويحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، لم أطَّلع له على ترجمة

(1)

.

[ص 33] ثانيًا: إذا سلم إسناده، فإن في "تهذيب التهذيب"

(2)

في ترجمة خارجة: قال ابن نُمَير وعَمرو بن علي: مات سنة (99)، وقال ابن المديني وغير واحد: مات سنة مائة.

فظاهر هذا أن الأكثر على أن موته كان سنة مائة، والجمع أولى، بأنه مات أواخر سنة (99).

وفي "تاريخ ابن عساكر"

(3)

أنه توفي وعمره سبعون سنة، وذكر لذلك قصة: أن خارجة قال: رأيتُ كأني بنيتُ سبعين درجة، فلما فرغت منها تهورت

(4)

، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها. قال: فمات فيها.

(1)

ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير": (8/ 284)، وابن حبان في "الثقات":(7/ 603).

(2)

(3/ 95).

(3)

(15/ 396).

(4)

غير محررة في الأصل، وسبقت بنحو هذا الرسم في "المبيَّضة"(ص 49)، وهي هكذا في التاريخ وبعض المصادر، وفي بعضها الآخر:"تدهورت".

ص: 31

ونقل مثله ابن خلكان

(1)

عن "طبقات ابن سعد"

(2)

. فإذا نقصنا سني عمره من سني الهجرة لموته، بقي تسع وعشرون، فيكون مولده آخر سنة تسعٍ وعشرين.

وعثمان قُتِل سابع ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فيكون سن خارجة يوم قُتِل عثمان ست سنين تقريبًا، فكيف يكون شابًّا في زمن عثمان؟

وقد راجعتُ "طبقات ابن سعد" ــ طبع أوربا ــ فرأيته روى هذه القصة عن الواقدي.

ثالثًا: إذا سَلِم إسناده، ولم نعتبر هذه علةً قادحة فيه، فإنه ينبغي الجمع بأن يُتأوَّل [ص 34] الأثر، بأنَّ قوله:"شبان" مجاز، أراد: أننا غِلْمان أقوياء أصحَّاء، كأننا شبان.

ويؤيد هذا كلمة "غلمان" الثابتة في "التاريخ"، وإن حُذِفت في التعليق.

ويؤيده أيضًا: أنهم لو كانوا أبناء تسع سنين أو نحوها، لما ذهبوا يتواثبون على قبر رجل من أفضل السابقين، ولاسيما وبجواره قبر ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ممنوعٌ في الشرع اتفاقًا؛ لأن من رُوي عنه إباحة الجلوس على القبر، لا يبيح التوثُّب عليه.

وقوله: "وإن أشدنا وثبة

" إلخ، يدل أن أكثرهم كان يقصّر فيقع على القبر، والذي يجاوزه يقع على القبور المجاورة، وأبناء الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبلغون التمييز إلا وهم عارفون لآداب الدين، ملتزمون لها،

(1)

في "الوفيات": (2/ 223).

(2)

(7/ 258 ــ ط دار الخانجي).

ص: 32

ولاسيّما مثل خارجة بن زيد.

وعلى هذا، فلا دلالة في الأثر؛ لأن الغلام الذي عمره ست سنين ــ وإن كان قويًّا ــ يشق عليه أن يَثِبَ أكثر من ذراعين ونصف على وجه الأرض، وهذا هو عرض القبر عادة تقريبًا.

ويشبه أن يكون قبر عثمان بن مظعون أعرض قليلًا من القبور المعتادة، ويكون خارجة أراد بذلك القول، الإخبار عن عرض القبر؛ ليخبرهم أن السنة توسعة القبر.

[ص 35] رابعًا: إذا سَلِمَ إسنادُ الأثر، وقُدِحَ في العلة، وحُمِل على ظاهر قوله:"شبان"، ولم نُبالِ بما يلزم عليه من أن الشُّبان من أبناء أفاضل الصحابة كانوا من التفريط في الآداب الشرعية بحيث يذهبون يتوثَّبون على قبر صحابي من أفاضل السابقين، وقبور من جاوره من أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا كان هذا كله، فليس في الأثر أنهم كانوا يَثِبون القبرَ عرضًا أو طولًا، فكلا الأمرين محتمل.

وعليه، فيقال: لعلَّ قبر عثمان بن مظعون كان أطول قليلًا من القبور المعتادة، ويكون مراد خارجة الإخبار بذلك ليبين أن السنة توسعة القبور.

فإذا فُرِض أن طول القبر نحو خمسة أذرع، فإن هذا القدر كافٍ لأن يشقَّ على الشاب أن يثبه على وجه الأرض.

فإن قيل: إن البخاري فهم من هذا الأثر الرفع، ولذلك أورده في "باب الجريد على القبر"

(1)

.

(1)

(2/ 95 ــ الميرية).

ص: 33

وقال الحافظ في "الفتح"

(1)

: "وفيه جواز تعلية القبر، ورفعه عن وجه الأرض".

فالجواب: أن لفظ الأثر موجودٌ محفوظٌ، ففَهْم البخاري والحافظ ليس بمجرَّده حجة، كما لا يخفى، على أنهما قد يريدان الرفع اليسير، نحو أربع أصابع إلى شبر، وهذا فيه بحثٌ، سيأتي إن شاء الله تعالى.

[ص 36] خامسًا: على فرض تسليم أن قبر عثمان بن مظعون كان مرفوعًا، فلا يُدْرَى مَن رَفَعه، إذ قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن رفع القبور، والزيادة عليها من غير حُفْرتها.

فكيف يصح أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك؟ !

بل ورد في نفس قبر عثمان بن مظعون ما ينافي الرفع، ولو قليلًا، وهو كونه صلى الله عليه وآله وسلم وضع عليه حَجَرًا، وقال:"أُعَلِّمُ بها قبرَ أخي، وأدفِنُ إليه من مات من أهلي"

(2)

.

وهذا يدل أنه كان مساويًا للأرض، إذ لو كان مرتفعًا ولو قليلًا لما احتاج إلى العلامة؛ لأنه أول قبر وُضِع هناك، فمجرَّد ارتفاعه كافٍ في التعليم، فدل

(1)

(3/ 265).

(2)

أخرجه أبو داود رقم (3206) ومن طريقه البيهقي: (3/ 412) ولفظهما: "أتَعَلَّم". من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب وليس صحابيًّا. قال الحافظ في "التلخيص": (2/ 141): "وإسناده حسن ليس فيه إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب، وهو صدوق. وقد بيّن المطلب أن مخبرًا أخبره ولم يسمّه، ولا يضر إبهام الصحابي

".

ص: 34

أنه كان مساويًا للأرض، فخشي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخفى موضعه بجفاف التراب، وهبوب الرياح والمطر، فعلَّمه بذلك الحجر.

وعليه، فيُحْتَمل أن بعض متأخِّري الإسلام من أقارب عثمان بن مظعون رفع القبر في أواخر مدة عثمان رضي الله عنه، والصحابة رضي الله عنهم مشغولون بالفتنة، ثم سُوِّي بعد ذلك، كما يدلُّ عليه الأثر نفسه، إذ لو كان القبر باقيًا على حاله لما احتاج خارجة إلى هذا القول، بل كان يقول: ها هو القبر موجودٌ على حاله، وهكذا كان في زمن عثمان.

[ص 37] سادسًا: لنفرض أن القبر رُفِع، وأنه رفعه بعضُ الصحابة، فليس فعل الصحابي حجة، ولم يكن القبر ظاهرًا لجميع الناس حتى يُدَّعى الإجماع.

سابعًا: لنفرض أنه كان ظاهرًا، فإن الصحابة رضي الله عنهم في مدة عثمان وبعده كانوا متفرقين في البلاد مشغولين بالفتن.

ثامنًا: لنفرض أنهم كانوا مجتمعين، فقد صحَّ عن كثير منهم رواية النهي عن ذلك، وصحَّ عنهم العمل بموجبه، كما سيأتي بسطه إن شاء الله تعالى، وهذا كافٍ في نفي الإجماع.

[ص 38] تاسعًا: هب أنه لم يرد ما يكذِّب الإجماع، فإنَّ في حُجِّية الإجماع خلافًا مشهورًا.

عاشرًا: على تسليم أنه حجة، فيشترط أن يُعْلَم، ولا سبيل إلى العلم به، كما هو مقرر في الأصول.

ص: 35

حادي عشر: على فرض تسليم أنه لا يُشْتَرط العلم به، بل يُكْتَفى بأنه لم يُنْقَل ما يخالفه، فإنما يكون حجة إذا لم يَرِد في كتاب الله عز وجل، أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما يخالفه، وهذا هو الثابت عن عمر وعبدالله وغيرهما، وعن الإمام أحمد والشافعي، وغيرهما.

وذلك أن احتمال وجود مخالف لقول من قبلنا لم يُنْقل قوله، أقوى من احتمال كون النص على خلاف ظاهره، فضلًا عن كون احتمال الحديث الثابت بالإسناد كذبًا، فضلًا عن احتمال النسخ.

[ص 39] وأما مرسل محمد بن علي؛ فلا يخفى ما في حُجّية المرسل من النزاع، وأن التحقيق عدم حُجِّيته.

وعلى فرض صحته؛ فيُحْمل على وضع كفٍّ أو كفين من الحصباء، لتكون علامة على القبر، أو غير ذلك مما لا يؤثر في رفعه الذي ثبت النهي عنه، جمعًا بين الأدلة.

لكن يُشْكل على ذلك ثبوت النهي عن الزيادة، والكف من الحصباء زيادة، إلا أنه يمكن تخصيص عموم النهي عن الزيادة بهذا الحديث، هذا على فرض حُجِّيته.

• وأما ما رواه ابن أبي شيبة؛ ففي سنده عنعنة سفيان، وهو يدلِّس.

نعم، في "فتح المغيث"

(1)

(ص 77) في الكلام على المعنعنات في "الصحيحين" قال: "أو لوقوعها من جهة بعض النقَّاد المحققين سماع المعنعن لها

والثوري بالنسبة لحديث القطان عنه

الخ".

(1)

(1/ 218 - 219 ــ الجامعة السلفية).

ص: 36

لكن ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك، ومجرَّد احتمال ذلك يرده، فلعله أحدثه بعضُ التابعين الذين لم يطلعوا على النهي.

وعلى كل حال، فليس في فعلهم حجة.

[ص 40] وأما الإجماع؛ ففي زمان الصحابة ثبت عن علي وفَضَالة ما يخالفه، وهناك آثار عن عمر وعثمان تخالف ذلك أيضًا.

وفي زمن التابعين يبعد أن يروي الأئمة هذه الأحاديث بدون بيان ما يخالفها، ومع ذلك يخالفونها.

وفي "كنز العمال"

(1)

: عن عثمان: أنه كان يأمر بتسوية القبور. ابن جرير.

وفي "شرح الموطأ"

(2)

للباجي ما لفظه: "قال ابن حبيب: وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفع القبور، أو يُبْنى عليها، وأمر بهدمها، وتسويتها بالأرض. وفَعَلَه ــ يعني الهدم والتسوية ــ عمر بن الخطاب. قال: وينبغي أن تسوى تسوية تسنيم

إلخ.

ومع هذا فمن الواضح أن الإجماع الحقيقي لا يمكن العلم به، وإنما غاية ما يمكن أن نجد قولًا لمن قبلنا لا نعلم له مخالفًا، فيكون هذا حجةً إذا لم نجد في الكتاب أو في السنة ما يخالفه، فأما إذا وُجد في الكتاب والسنة

(1)

رقم (42927). وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف": (3/ 504)، وابن أبي شيبة في "المصنف":(3/ 222).

(2)

(2/ 494).

ص: 37

ما يخالفه، فإنّ ذلك دليل على عدم الإجماع، وأن هناك مخالفًا لم يبلغنا قوله.

وقد تقدم أن احتمال وجود مخالف لم يبلغنا قوله أقرب من احتمال كون النص على خلاف ظاهره. فضلًا عن كون الحديث الثابت إسناده كذبًا، فضلًا عن احتمال النسخ. وتقدم أن قولنا هذا هو قول أئمة الهدى، والله أعلم.

وأما قوله: "إن للقبور أحكامًا

" إلخ.

فقد يقال: يكفي في التمييز وضع علامة، ككفّ من حصى مغاير لونه لحصى تلك البقعة، أو وضع حجر، هذا إن صحَّ العملُ بحديثي وضع الحصى ووضع الحجر المارَّين.

وقد يقال: إنه لا بأس بالارتفاع اليسير الذي ينشأ من إعادة تراب الحفرة إليها، فإنه يزيد عن مثلها بسبب وضع الجثة، وما سترت به، وغير ذلك، فينشأ من إعادته كله

(1)

إليها ارتفاع يسيرٌ.

ولكن هناك أحاديث تنافي هذا، فلْنَعْقد فصلًا للبحث فيها.

(1)

الأصل: "كلها" والصواب ما أثبت.

ص: 38