الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 46]
معنى التسوية
المتبادر من التسوية أن يكون وجه القبر مساويًا لوجه الأرض في البقعة المحيطة به، ولكن نوزع فيه، أن هذا المعنى هو معنى تسوية القبر بالأرض، لا معنى تسوية القبر مطلقًا.
فتسوية القبر عبارةٌ عن جعله متساوي الأطراف، كما في قوله عز وجل:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4].
وهذا لا يقتضي التسوية بالأرض، بل أن يُسوَّى القبرُ في ذاته، بأن لا يُترك فيه تسنيم، أو زيادة في بعض أطرافه، بل يُجعل مسطحًا، وهذا أعم من أن يكون مساويًا لوجه الأرض، أو يكون مرتفعًا.
[ص 47] وأجيب: بأن التسوية إذا أُطْلقت على شيءٍ كائنٍ على وجه الأرض، كالبناء والربوة، يُعنى بها تسويته بالأرض، ومنه قوله عز وجل:{فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14].
قال الراغب
(1)
: أي: سوَّى بلادَهم بالأرض.
ويدل عليه في هذا الحديث نفسه، أن الصحابي جعل الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف من التراب، حيث قال:"أخِفّوا عنه ــ أو "خَفّفوا" أو "خَفّفوا عليه التراب" ــ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور".
(1)
في "المفردات"(ص 440).
وإنما يكون الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف، إذا أُرِيد بها التسوية بالأرض، فأما تسوية القبر في نفسه، فإنها تمكن مع كثرة التراب، كما تمكن مع قِلّته.
والصحابيُّ لم ينقل لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنصِّه [ص 48] حتى يسوغ لنا أن نستقلَّ بفهمه، وإن خالف فهم الصحابي، وإنما مُؤدَّى كلامه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بتسوية القبور التسويةَ المقتضية لتخفيف التراب، أي: أن بيان كون التسوية المأمور بها هي التي تقتضي تخفيف التراب مرفوعٌ تقوم به الحجة.
وقد قال الباجي في "شرح الموطأ"
(1)
: وقال ابن حبيب: "وتسويتها بالأرض".
ويؤيد هذا ما سيأتي
(2)
في حديث علي رضي الله عنه: "ولا قبرًا مُشْرفًا إلا سوَّيته".
فجعل التسوية إزالة الإشراف، والإشراف هو الارتفاع، أعمّ من كون القبر متساويًا في نفسه، أو غير متساوٍ، فالتسوية التي هي إزالة الإشراف، هي التسوية بالأرض، كما هو واضح.
[ص 49] أقول: أما الآية؛ فلا يتعين فيها هذا المعنى، أعني التسوية بالأرض، بل يصح أن يكون المراد تسوية بلادهم في نفسها، أي: جعلها متساوية الأجزاء، وهذا كناية عن الخراب البالغ، فإن البلاد العامرة تكون
(1)
(2/ 494) وقد سبق النص قريبًا.
(2)
لم يأت شيء، وإنما في المبيضة.
متفاوتة بارتفاع الأبنية على العرصات، وارتفاع بعض الأبنية على بعض، وإنما تتساوى إذا خَرِبت الخراب البالغ.
والإنصاف أن التسوية إذا أُطلقت كان المراد بها تسوية الشيء في نفسه، ولا تُحْمل على التسوية بالأرض إلا بقرينة.
وعليه، فالظاهر حمل التسوية في الحديث على التسوية بالأرض للقرينة، وهي قوله:"أخِفُّوا عنه"، أو "خَفِّفوا"، كما تقدم.
[ص 50] وكذا يقال في حديث علي رضي الله عنه: إن جَعْل التسوية منافية للإشراف قرينة تدل أن المراد التسوية بالأرض، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد مرَّ
(1)
عن "كنز العمال"
(2)
: "سوّوا القبور على وجه الأرض إذا دفنتم"
(3)
. فإن صحَّ فهو صريحٌ في التسوية بالأرض، إذ لا يصح أن يقال: إن قوله: "سووا القبور" أمرٌ بتسويتها في ذاتها، و"على وجه الأرض" حال، إذ لا معنى للحال، فالقبور على وجه الأرض على كلِّ حال.
فيحتمل أن يكون المراد: تسوية القبور بالنظر إلى جميعها، أو تسوية كل قبر في حد ذاته.
فعلى الأول يكون المراد بأن تُجْعَل متساوية، أي: بأن تكون كلها على
(1)
كذا قال المصنف، والذي مرّ (ص 37) أثر عثمان "أنه كان يأمر بتسوية القبور".
(2)
رقم (42387). وانظر "المبيَّضة"(ص 20).
(3)
كتب المصنف عقبه: "طب عن فضاله بن عبيد، ولا أدري ما صحته" ثم ضرب عليها. والأثر أخرجه الطبراني في "الكبير": (18/رقم 812).
هيئة واحدة؛ لا يختلف قبر عن قبر. وهذا كما إذا أمرت الخبّاز بتسوية الأرغفة، يريد أن تكون كلها بقدر واحد على هيئةٍ واحدةٍ.
وعلى الثاني يحتمل أن يكون المراد بتسوية القبر، تسوية أطرافه.
وهذا لا يقتضي التسطيح كما قيل، فإن المسنَّم تسنيمًا محكمًا، بحيث إن ظاهر القبر يبقى أملس، بحيث لو بُسِط عليه ثوبٌ للصق به من جميع أجزائه، يقال له: مَسوًّى.
ولو رأينا كرتين من حديد، إحداهما مُحْكَمة التكوير ملساء، والأخرى يوجد في سطحها مواضع ناشزة، وأخرى منخفضة، لقلنا: إن الأولى مستوية، والثانية غير مستوية.
فإذا أُمِرْنا بإصلاح الثانية، صح أن يقال: أمرنا بتسويتها.
ويحتمل أن يكون المراد جعله سويًّا
(1)
.
(1)
من قوله: "فيحتمل أن يكون المراد
…
" إلى هنا جاء في (ق 53 ب) وقدَّرت أن يكون هذا هو مكانه المناسب، فالله أعلم.