المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تحقيق حال أبي الزبير - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - ٥ ب

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ تحقيق حال أبي الزبير

[ص 100]

‌ تحقيق حال أبي الزبير

(1)

أما تدليسه فثابت، وقد مرَّ الكلام عليه عقب الروايات

(2)

، وقد زال المحذور بصحة التصريح بالسماع، كما مرّ.

وأما ما فيه من المقال:

فقال الشافعي: يحتاج إلى دِعامة.

وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لا يحتج به.

وأشد الناس عليه شعبة سَيّد المتعنّتين، سئل: لم تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يَزِنُ، ويسترجح في الميزان.

وروي عنه أنه قال: لا يحسن أن يصلي.

وقال: بينا أنا جالسٌ عنده إذ جاء رجلٌ، فسأله عن مسألة، فرد عليه، فافترى عليه، فقلت له: يا أبا الزبير، أتفتري على رجل مسلم؟ قال: إنه أغضبني. قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا حدثت عنك أبدًا.

ووثقه الجمهور، كما سيأتي ذِكْر بعضهم.

وكلمة الشافعي إن لم تكن من أدنى مراتب التعديل، فهي من أخفِّ مراتب الجرح.

وكلمة أبي زرعة وأبي حاتم؛ من المرتبة التي تلي أخف مراتب الجرح.

(1)

انظر ترجمته في "تهذيب الكمال": (6/ 503)، و"تهذيب التهذيب":(9/ 440)، و"إكمال تهذيب الكمال":(10/ 336)، و"ميزان الاعتدال":(5/ 162).

(2)

انظر (ص 75 - 76).

ص: 81

ومن قيل فيه ذلك، فحديثه صالحٌ للاعتبار، فإن انضم إليه مثله كان الحديث حسنًا. [ص 101] انظر "فتح المغيث"

(1)

(ص 24).

هذا لو فُرِض أنه لم يوثِّق أبا الزبير أحدٌ، فأما إذا وُثِّق ــ وهو الواقع ــ تعين الترجيح.

أما قول شعبة: "رأيته يزن ويسترجح في الميزان" فذلك وإن كان ينافي كمال المروءة، فليس بجرح.

قال ابن حبان

(2)

: ومن استرجح في الوزن لنفسه، لم يستحق الترك.

وأما كلمته الثانية فلم تصح؛ لأنها من رواية سويد بن عبد العزيز، وهو ضعيف.

وأما قصته الثالثة؛ فالافتراء حقيقته مطلق الكذب، وظاهر السياق أنه سبَّه، والافتراء إذا أُطلق في حكاية السبّ، فالظاهر أنه أُرِيد به القذف.

وجوابه:

1 -

أن الافتراء ليس نصًّا في القذف، فقد يُراد به مطلق السب، ولاسيما إذا كان شنيع اللفظ، كالإعضاض.

[ص 102] فعليه، فقد يكون السائل أساء الأدب، فأعضَّه أبو الزبير، وقد جاء في الحديث:"من تعزَّى بعزاء الجاهلية، فأعِضُّوه بِهَنِ أبيه، ولا تكنوا"

(3)

.

(1)

(1/ 83).

(2)

في "الثقات": (5/ 352).

(3)

أخرجه أحمد رقم (21218)، والنسائي في "الكبرى" رقم (8813)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (1000)، وابن حبان رقم (3153)، وغيرهم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. وانظر "السلسلة الصحيحة"(269).

ص: 82

2 -

وعلى تسليم أن شعبة أراد بها القذف، فلم يبين لفظ أبي الزبير، فيحتمل أنه قال كلمة يراها شعبة قذفًا، وغيره لا يوافقه، ولهذا قال الفقهاء: إذا قال الشاهد: أشهد أن فلانًا قذف فلانًا؛ لم يقبل حتى يفسّر.

ولا يَرِدُ على هذا قول شعبة: فقلت له: أتفتري .. إلخ.

وسكوت أبي الزبير عن نفي ذلك؛ لأن شعبة قد يكون إنما قال له: أتقول هذا لرجل مسلم؟ ثم أخبر شعبة عن ذلك بالمعنى على رأيه. أو يكون أبو الزبير ترك نفي ذلك؛ لأنه على كل حال قد جرى منه شيءٌ غير لائق، فرأى الأولى المبادرة إلى الاعتذار، بأنها كلمة سبقت على لسانه لشدة الغضب.

3 -

وعلى تسليم أنه قذفه قذفًا صريحًا، فقد يكون أبو الزبير مطلعًا على أن ذلك هو الواقع، وسكت عن ذكر ذلك لشعبة؛ لأنه على كل حال مما لا يليق، وإنما سبق أولًا على لسانه لشدة الغضب، ورأى أن هذا العذر كافٍ.

ويُسْتأنس لما ذُكِر أنه لو كان القذف صريحًا، والمقذوف سالمًا لذهب فشكاه إلى الوالي، والحدود يومئذٍ قائمة.

4 -

وعلى كل حال، فقد أجاب أبو الزبير عن نفسه [ص 103] بقوله:"إنه أغضبني". أي: فلشدة الغضب جرت على لسانه ــ وهو لا يشعر ــ كلمة مما اعتاد الناسُ النطقَ به.

ص: 83

وقد جاء في الحديث: "لا طلاق في إغلاق"

(1)

. وفُسِّر الإغلاق: بالغضب.

وقال الله عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225].

5 -

قال الذهبي في "الميزان"

(2)

، في ترجمة ابن المديني:"ثم ما كل من فيه بدعة، أو له هفوة، أو ذنوب تقدح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شَرْط الثقة أن يكون معصومًا من الخطايا والخطأ".

وفي "إرشاد الفحول"

(3)

للشوكاني (ص 49): "قال ابن القشيري: والذي صحَّ عن الشافعي أنه قال: في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية، و [لأن]

(4)

في المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة، فلا سبيل إلى ردِّ الكل، ولا إلى قبول الكل، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة، قُبِلت شهادته وروايته، وإن كان الأغلب المعصية، وخلاف المروءة رددتهما

(5)

" ا? .

وفيه من جملة كلام عن الرازي: "والضابط فيه: أن كل ما لا يؤمن

(1)

أخرجه أحمد رقم (26360)، وأبو داود رقم (2193)، وابن ماجه رقم (2046)، والحاكم:(2/ 198)، والبيهقي:(7/ 357). وصححه الحاكم على شرط مسلم، وتعقبه الذهبي بأن فيه محمد بن عبيد ضعّفه أبو حاتم ولم يحتج به مسلم. وانظر "الإرواء"(2047).

(2)

(4/ 61).

(3)

(1/ 264 ــ ط دار الفضيلة).

(4)

زيادة من الطبعة المحققة.

(5)

الأصل: "رددتها" والمثبت من المحققة.

ص: 84

مِن

(1)

جراءته على الكذب، تردّ الرواية، وما لا، فلا".

وفيه: قال الجويني: "الثقة هي المعتمد عليها في الخبر، فمتى حصلت الثقة بالخبر قُبِل".

[ص 104] أقول: وهذا هو المعقول، وعليه عمل الأئمة الفحول، فإن الحكمة في اشتراط العدالة في الراوي هي كونها مانعة له عن الكذب، فيقوى الظن بصدقه، فإذا جرت منه هفوة لا تخدش قوة الظن بصدقه، لم تخدش في قبول روايته.

ومن هنا رجَّح الأئمة رواية الخوارج على رواية الشيعة؛ لأن الخوارج يعتقدون أن مطلق الكذب كفر، فضلًا عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أما الشيعة فيتدينون بالكذب (التقية) حتى جوزوها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل على الله عز وجل؛ لتأويلهم الآيات الواردة في مدح بعض الصحابة على خلاف ظاهرها، قائلين: إنما جعل الله تعالى ظاهرها الثناء استدراجًا لأولئك القوم، ليقوموا بنصر الدين، ويكفُّوا ضررهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته

(2)

.

والذي يهمنا أن تلك الكلمة التي سبقت على لسان أبي الزبير بدون شعوره؛ لشدة غضبه، لا ينبغي أن نهدر بها مئات الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، [ص 105] مع التحقق بكمال صدقه، وحفظه وضبطه، وتحرِّيه وإتقانه.

(1)

في المحققة: "معه".

(2)

كلمتان لم أتمكن من قراءتهما ورسمهما: "والسوط مطين".

ص: 85

6 -

والظاهر من حاله، وما ثبت لدى جمهور الأئمة من عدالته، أنه تاب عنها في الوقت.

ويلوح لي أن بعض أعدائه ــ بل أعداء الدين ــ دسّوا إليه ذلك السائل ليرصده، حتى إذا كان شعبة عنده، جاء فأغضبه؛ ابتغاء أن تسبق على لسانه كلمة، فينقمها شعبة عليه، وقد كان ما ظنوه.

ولكن حيلتهم لم تطفئ نور الله الذي بصدر أبي الزبير، فاعتمده جمهور الأئمة الأعلام، واحتجوا به.

الأئمة الموثقون له

"الميزان"

(1)

:

ابن المديني: ثقة ثبت.

ابن عون: ليس أبو الزبير بدون عطاء بن أبي رباح.

يعلى بن عطاء: كان أكمل الناس عقلًا وأحفظهم.

عطاء: كنا نكون عند جابر، فيحدثنا، فإذا خرجنا تذاكرنا، فكان أبو الزبير أحفظنا.

ابن معين والنسائي وغيرهما: ثقة.

ابن عدي: هو في نفسه ثقة، إلا أنه يروي عنه بعض الضعفاء، فيكون الضعف من جهتهم.

(1)

(5/ 162).

ص: 86

[ص 106] عثمان الدارمي: قلت ليحيى (بن معين) فأبو الزبير؟ قال: ثقة. قلت: محمد بن المنكدر أحب إليك، أو أبو الزبير؟ فقال: كلاهما ثقتان.

وممن وثقه أيضًا الإمام مالك، فإنه روى عنه، وهو لا يروي إلا عن ثقة. والإمام أحمد، والساجي، وابن سعد، وابن حبان.

وقال الذهبي: هو من أئمة العلم، اعتمده مسلم، وروى له البخاري متابعة.

والظاهر أن الموثِّقين اطلعوا على قصة شعبة، واطلعوا على ما يدفع ما فيها من الإيهام، أو حملوها على بعض ما قدمنا، أو غير ذلك.

ولاسيما ومنهم ابن معين، والنسائي، وابن حبان، وحسبك بهم تعنُّتًا في الرجال، كيف ومعهم بضعة عشر إمامًا.

وسيظن ظانون أنه ما حدانا إلى الدفاع عن أبي الزبير إلا حرصنا على صحة حديثه هذا، فليعلموا أن الحجة قائمة بدونه مما مضى، وما سيأتي. [ص 107] وأن أبا الزبير لم تكن روايته قاصرة على هذا الحديث، فإن له أحاديث كثيرة، ربما يكون منها ما لا يوافق هوانا، ورغبة نفوسنا. وما دافعنا عنه إلا ونحن مستشعرون لذلك، ولكن نظرنا في حقيقة الحال، ففهمنا أن الرجل حجة، سواءً أكان لنا أم علينا، وكل من نظر بعين الإنصاف تحقق ما قلناه. والله الموفق، لا رب غيره.

* * * *

ص: 87