المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور - تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة - جـ ١

[محمد عمرو بن عبد اللطيف]

الفصل: ‌ ‌مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور

‌مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} .

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .

أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فإن تصانيف أهل العلم في الأحاديث الضعيفة أو الواهيات أو الموضوعة، أو المشهورة على الألسنة - على عمومها - كثيرة ومتعددة

ص: 3

المناهج، فمنها المطول والمختصر، ومنها ما يحرص صاحبه على سوق الأسانيد، ومن يحرص على حذفها. ومنها ما يتعرض صاحبه لأصل حديث ما لم يثبت، ويرده إلى قائله الَّذي ثبت عنه هذا الكلام موقوفًا عليه. أو آخر جعل جُلَّ همه أن يضعف نسبة الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون اهتمام برده إلى أصله بل منها من ينسب صاحبه الحديث إلى صحابي أو تابعي دون كان مدى ثبوته عنه، وهو لا يثبت. أو يكون ثابتا عن صحابي أو تابعي آخر ولم يقع لى تصنيف يلتزم بالغرض المتقدم ذكره سوى كتاب واحد، وهو:[الوقوف على الموقوف] للإِمام أبى حفص عمر بن بدر الموصلى رحمه الله (ت 624). لكنه لم يستوعب فيه كل الأحاديث غير الثابتة التي لها أصل موقوف، ولاجُلها، إذ غاية ما فيه واحد وخمسون ومائة (151) حديثًا فقط. ومع ذلك فقد سلك فيه مسلك الاختصار الشديد، إذ لم يُطِل ببيان الحديث الأصلى ولا أصله تخريجًا وجرحا وتعديلا، بل يكتفى بقوله - على سبيل المثال -: (قال ابن الجوزى: هذا حديث باطل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما يروى هذا عن سفيان

) أو (قال الدارقطني: روى عن أبى الدرداء موقوفًا، وهو المحفوظ)(*). ولا شك أن هذا المنهج لا يقنع طالب الحديث المولع بالنظر في الطرق والأسانيد، ولا يشبع نهمته، ولا يروى غليله، ولا يعطيه الأمثلة العملية لفن التخرج والرجال والعلل. ولولا ما في حاشية الكتاب من الفوائد والتعليقات - جزى الله ساطرها - لكاد يكون عديم الجدوى

(*) يعنى حديث "إنما العلم بالتعلم؛ وإنما الحلم بالتحلم" والرواية الموقوفة من طريق رجاء ابن حيوة عن أبي الدرداء. وهذا إسناد منقطع، وإنما ثبت عن ابن مسعود موقوفًا:"إن أحدًا لا يولد عالمًا، وإنما العلم بالتعلم". وهذا المثال يثبت ما قدمت في أول الكلام.

ص: 4

في معرفة مواطن الأحاديث والآثار الواردة فيه.

على أن فكرة (أصول الأحاديث الضعيفة) لم يكن منشؤها كتاب ابن بدر الموصلى قط، بل كنت قد هممت بإدراج بعضها في عمل آخر يشتمل على جملة من الفوائد الحديثية والأقوال المأثورة والأدعية والمواعظ والأحكام المتناثرة - حَسْب ما يفتح به الله عز وجل لكننى تراجعت عن ذلك، وآثرت إفراد هذه الفكرة في تصنيف مستقل مع إصداره في أقسام لأنَّ استيعاب جميع هذه الأحاديث ذات الأصول أمر يشبه المحال مع ما يقتضيه من المشقة الشديدة والبحث الدؤوب المتواصل.

وجعلت شرطى في هذا الكتاب أن يصح السند إلى القائل الحقيقى للحديث غير الصحيح (سواء أكان ضعيفًا أو واهيًا أو موضوعًا أو لم يوقف له على أصل ألبتة)، وقد أتجاوز عن هذا الشرط في بعض المواطن لاعتبارات معينة كأن يحتمل وجود متابع أو شاهد للسند الَّذي أوردت الموقوف من طريقه، أو لجزم بعض أهل العلم بأنه الأشبه، أو لاكتشاف مطعن في إسناده بعد الفراغ من تخريج طرقه المرفوعة وبيان ما فيها، فلم أشأ حذفه بعد ذلك.

وكل هذا قليل بل نادر، وهو خلاف الأصل في هذا الكتاب والحقيقة أن هذه الفكرة مشابهة ومكملة - بل ومتداخلة - مع فكرة (البدائل المستحسنة) التي وفقنى الله عز وجل لإِصدار القسم الأول منها (1: 25) إلا أننى لم يكن مقصدى هناك استقصاء صحة نسبة الحديث الضعيف إلى أحد من السلف، ولكن أحيانًا يكون بديله الصحيح ثابتًا بمعناه عن أحدهم كما في حديث: "الأذان سهل سمح

" فمعناه ثابت عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله خامس الخلفاء الراشدين - مقطوعًا عليه.

ص: 5

وحديث: "إن الله يحب الصمت عند ثلاث

" ثبت موقوفًا على الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يحبون ذلك.

ولذلك يمكن للخطيب أو المحاضر أن يستفيد من الكتابين على النحو التالى: فإذا كان موضوع الخطبة عن مجاهدة النفس فبعد إيراد الآيات كنحو قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} والأحاديث كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل" و"أفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل"، فله أن يدعم ذلك بالآثار كالذى ثبت عن إبراهيم بن أبى عبلة - التابعي الجليل - أنَّه قال لمن جاء من الغزو: قد جئتم من الجهاد الأصغر، فما فعلتم في الجهاد الأكبر؟ قالوا: يا أبا إسماعيل، وفي الجهاد الأكبر، قال: جهاد القلب، مع توجيه معناه الوجهة الصحيحة بما لا يتوهم منه الحط من شأن مجاهدة العدو من الكفار والمنافقين.

وإذا كان يحاضر في فضيلة التوبة فبعد إيراد الآيات والأحاديث الكثيرة الطيبة، له أن يستشهد بقول الشعبى رحمه الله:

(التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . فإن كتاب الله عز وجل يشهد لصحة هذا القول، بل على أفضل منه كقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ]. ولا حرج على فضل الله عز وجل.

هذا لمن أراد أن يستبرئ لدينه ويسلم من الكذب والغلط على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد علمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من حدث بكل حديث يسمعه أو يتناهى إلى علمه بوسيلة من الوسائل، فسيقع في الكذب عليه لا محالة، فقال: "كفى بالْمَرء كذبًا أن يحدث

ص: 6

بكل ما سمع" ويبين قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "بئس مطية الرجل: زعموا" إن الَّذي يكثر من الحكايات والروايات التي لا يعلم أصلها ولا صحتها، والتى من شأنها أن يولع بها السامعون وتقع منهم موقع القبول، هو رجل مذموم.

وحذَّر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وأمته أن ينسبوا إليه غير الحق فقال- وهو على المنبر - "يا أيها الناس، إياكم وكثرة الحديث عنى. من قال عَلىَّ فلا يقولن إلا حقًّا أو صدقًا، فمن قال عَلَيَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار (*) ".

ألا فليتق الله رجال ونساء - نحسبهم من أهل الخير والفضل - يستطيع الواحد منهم أن يسوق عشرة أحاديث في نفس واحد، لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل منها حرفًا واحدًا! مع خوف الفتنة العظيمة عليه فإن عوام السامعين يولعون بالغرائب والعجائب والمبالغات التي لا يصح منها إلا القليل.

ولا يشفع لهؤلاء الكرام رغبتهم في الخير، وشدة تأثير كثير من الأحاديث الواهية والموضوعة على نفوس كثير من الناس، ولا الرغبة في كان محاسن هذه الشريعة وسماحتها ولا غير ذلك من الأغراض الشريفة الطيبة فإن الخبيث لا يمحو الخبيث و (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا) وما مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) إلا أحد مبادئ الغرب الكافر، والمفتونين به.

ولنا في كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحيحة والحسنة وآثار الصحابة والتابعين والسلف الصالح بعامة، ما يشفى الصدور ويَسُدّ الخلة.

(*) رواه أحمد (5/ 297) والحاكم (1/ 111) وصححه على شرط مسلم، وإسناده جيد.

ص: 7

وإني مورد في هذا الكتاب الَّذي سميته: [تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة] خمسين حديثًا - بمثابة القسم الأول منه - انتخبتها من كتب شتى وتحققت من صحة غالبها عن أحد الصحابة أو التابعين وتابعيهم، وقد يصح بعضها عن غير واحد منهم كحديث:"الحكمة ضالة المؤمن" وحديث: "خير الأمور أوساطها". أما كان حجيتها ومدى صلاحيتها للاحتجاج أو الاستشهاد، فكثيرًا ما أتجاوزه، وأدعه لأهل الشأن والاختصاص وفقًا لما تمليه عليهم القواعد العلمية للاستدلال والاستنباط، وقد أنشط لذلك أحيانا لا سيما إذا كان الموقوف من الأمور التي لا مجال للرأى والاجتهاد فيها. وعسى أن يكون هذا الكتاب خطوة أولى في خدمة آثار السلف الصالح وتمييز صحيحها من سقيمها، حيث لم تلق الآثار من العناية والاهتمام ما لقيته أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والله أسأل أن يبارك لى في وقتى وعمرى وعملى وأن يجعله كله صالحًا ولوجهه الكريم خالصا. وأن يرزقني وإخواني العلم النافع والعمل الصالح والحياة الطيبة.

وكتبه: محمد عمرو بن عبد اللطيف.

القاهرة في: الثامن عشر من شوال 1408 هـ.

ص: 8

الحديث الأول:

" إذا أحب الله عبدًا ابتلاه ليسمع تضرعه".

ضعيف. رُوِى عن أبى هريرة مرفوعا، وعن عبد الله بن مسعود وعمرو بن مرة الجملى موقوفًا.

1 -

حديث أبى هريرة: رواه هناد في "الزهد"(405) وابن حبان في "المجروحين"(3/ 122) والديلمي في "مسند الفردوس"(1) من طريق يحيى بن عبيد الله عن أبيه عنه به. وإسناده ضعيف جدًا، يحيى هذا قال الحافظ رحمه الله في "التقريب" (7599):"متروك". وأبوه هو عبيد الله بن عبد الله بن موهب، أبو يحيى التيمي المدني، قال الحافظ (4311):"مقبول" أي إنه لين الحديث حيث لم يتابع كما بين الحافظ في مقدمة "التقريب"(ص 74 بتحقيق محمد عوامة). ورواه أيضًا البيهقي في "شعب الإِيمان" كما في "الجامع الصغير"(353).

2 -

أثر ابن مسعود، 3 - أثر عمرو بن مرة: رواهما الطبراني في "الأوسط"(2/ 144) أولًا من طريق أبي جابر محمد بن عبد الملك عن شعبة عن عمرو بن مرة قال: "إن مما أنزل الله عز وجل: إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه، ليسمع تضرعه" ثم بنفس الإِسناد من طريقه أيضًا عن شعبة عن حماد عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: "مثله". وكلاهما ضعيف.

قال الحافظ الهيثمي رحمه الله في "مجمع الزوائد"(2/ 295): (وفيه محمد ابن عبد الملك، قال أبو حاتم: ليس بالقوى).

قلت: (وقد خولف)، فقد رواه ابن أبي الدنيا (ص 23) وعنه التنوخى (1/ 113، 114)

(1) كما في "تسديد القوس" للحافظ ابن حجر رحمه الله على حاشية "فردوس الأخبار"(1/ 311).

ص: 9

كلاهما في "الفرج بعد الشدة" عن علي بن الجعد قال: أخبرنى شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل يحدث عن كردوس بن عمرو، وكان ممن قرأ الكتب قال:(2)[فيما أنزل الله من الكتب]: "إن الله عز وجل يبتلى العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه". وإسناده صحيح إلى كردوس (3) هذا. وعلي بن الجعد هو الجوهرى البغدادى، ثقة ثبت، من أثبت أصحاب شعبة. ولكن يبدو أن أبا جابر - محمد بن عبد الملك المتقدم ذِكره - كان يضطرب فيه، فقد جاء أيضًا عنه على الصواب كما رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 180) من طريقه عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبى وائل عن كردوس بنحوه.

ورواه - قبلها - من طريق منصور عن شقيق (وهو ابن سلمة أبو وائل) عن كردوس قال: كنت أجد في الإِنجيل إذ كنت أقرأ: "إن الله ليصيب العبد بالأمر يكرهه - وإنه ليحبه - لينظر كيف تضرعه". وإسناده جيد. أما ما حكاه الحافظ المناوى في "فيض القدير"(1/ 246) عن الحافظ العراقى - رحمهما الله - أنَّه - أي حديث الترجمة يتقوى بتعدد طرقه فلم أجده عنه في "تخريج الإِحياء"، وفيه من النظر أنَّه لا يعلم له إلا طريقان تقدمتا، إحداهما واهية، والأخرى مُعَلَّة - صوابها:"أبو وائل عن كردوس" ومرجعها إلى الإسرائيليات المتلقاة من صحف أهل الكتاب، والتى لم نؤمر بتصديقها ولا تكذيبها.

نعم، وفى الباب حديثان واهيان - بأطول من هذا اللفظ - وهما:

1 -

ما رواه الطبرانى في "الكبير"(8/ 195) من طريق عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة مرفوعًا: "إن الله عز وجل يقول للملائكة: انطلقوا إلى عبدى فصبوا عليه البلاء صبًا، فيأتونه فيصبون عليه البلاء، فيحمد الله، فيرجعون فيقولون: يا ربنا صببنا عليه البلاء صبًا لما أمرتنا، فيقول: ارجعوا فإنى

(2) زيادة: في كتاب ابن أبي الدنيا.

(3)

وهو تابعى مخضرم، وهم بعضهم فأورده في "الصحابة". قال ابن معين: مشهور، وذكره ابن حبان في "الثقات".

ص: 10

أحب أن أسمع صوته". وإسناده ضعيف جدًا، عفير هذا واهٍ. قال ابن معين: لا شيء. وقال أبو حاتم: سمعت دحيمًا يقول: عفير بن معدان ليس بشيء، لزم الرواية عن سليم بن عامر. وشبَّهه بجعفر بن الزبير وبشر بن نمير (4). وقال أبو حاتم أيضًا: هو ضعيف الحديث، يكثر الرواية عن سليم بن عامر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمناكير ما لا أصل له، لا يشتغل بروايته. كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 36). والحديث رواه الشجرى في "أماليه" (2/ 282) من طريق الطبرانى به.

2 -

وروى ابن أبي الدنيا من طريق بكر بن خنيس عن يزيد الرقاشي عن أَنس- كما قال العراقي (4/ 132) - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أحب الله عبدًا، أو أراد أن يصافيه، صب عليه البلاء صبًا، وثجه عليه ثجا (5). فإذا دعا العبد قال: يارباه، قال الله: لبيك عبدى لا تسألنى شيئًا إلا أعطيتك، إما أن أعجله لك، وإما أن أدخره لك"كما في "الترغيب والترهيب"(4/ 526) وجزم الحافظ المنذرى بضعفه، فصدَّره بصيغة التمريض:"ورُوِى". وإسناده واهٍ جدًا، بكر بن خنيس قال الدارقطني وجماعة: متروك. ويزيد الرقاشي متفق على تضعيفه، وتركه النسائي أيضًا وقال شارح الترغيب رحمه الله:"حديث ركيك متهافت".

ورواه الديلمى من طريق يزيد الرقاشي عن أَنس (6) بأطول منه وفيه: "فإذا دعا العبد قال جبريل: أي رب، اقضِ حاجته. فيقول الله تعالى: دعه، فإني أحب أن أسمع صوته فإذا دعا يقول الله عز وجل: لبيك عبدى

"الحديث:

والحديثان أوردهما الحافظ العراقى (1/ 306) - في تعليقه على حديث الترجمة

(4) أي وهما متروكان متهمان بالكذب.

(5)

قال شارح الترغيب في قوله: "وثجه عليه ثجا": الثج هو الصب، وهذا التكرار دليل على ضعف الحديث.

(6)

قاله الحافظ في "تسديد القوس" كما في حاشية "الفردوس"(1/ 312).

ص: 11

كأنه لم يستحضره وقتئذ- وقال (وسندهما ضعيف).

نعم، الجملة الأُولى من حديث الترجمة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه -بدون التعليل- أعنى قوله:"ليسمع تضرعه".

1 -

فروى الإمام أحمد في "مسنده"(5/ 428) عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع". وإسناده جيد، ومحمود صحابى صغير، وجل روايته عن الصحابة كما في (التقريب)[6517]. فمرسله حجة على الصحيح.

2 -

وله شاهد ضعيف رواه الترمذي (2507) وغيره من طريق سعد بن سنان عن أَنس، وزاد في أوله:"إن عظم الجزاء مع عظم الابتلاء".

3 -

وروى أحمد في "الزهد"(ص 52) عن وهب بن منبه رحمه الله مرفوعًا مرسلًا: "إن الله عز وجل إذا أحب قوما ابتلاهم". ورجاله ثقات.

4 -

وبمعناه ما رواه البخاري (7/ 149) وغيره عن أبي هريرة مرفوعا: "من يرد الله به خيرًا يصب منه" قال الحافظ المنذرى (4/ 526): "أي يوجه إليه مصيبة ويصبه ببلاء".

والأحاديث في فضل الابتلاء والصبر عليه كثيرة جدًا تنظر في مثل "الترغيب" و "جامع الأصول" للإِمام ابن الأثير الجزرى رحمه الله.

وقد دل كتاب الله عز وجل على أنَّه يبتلى الأمم التي لم تستجب لدعوة رسله،

ويأخذهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون له وينيبون إليه، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

ص: 12

الْعَالَمِينَ} [الأنعام 42: 45].

وقال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا بربهم وما يتضرعون حتَّى إذا فتحنا عليهم بابًا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون} .

[المؤمنون 76: 77].

والذي لا ريب فيه أن الرب جل وعلا يحب من سائر العباد أيضًا أن يظهروا له التضرع والاستكانة والذل له والإِخبات إليه تعالى، فالتضرع داخل في جملة أسباب الابتلاء المعروفة من امتحان الله للعباد حتَّى يعلم- تعالى- صدق إيمانهم وصلابة عقيدتهم، ولتكفير ذنوبهم وخطاياهم، ورفع لدرجاتهم ومنزلتهم عنده، ولاستعتابهم فيما بقى من أعمارهم. والله أعلى وأعلم.

الحديث الثانى:

" إذا أراد الله بعبد خيرًا فقهه في الدين وألهمه رشده".

رفعه منكر. رواه البزار (137 - كشف الأستار) - واللفظ له (7) - وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"(ص 161) وعنه الطبرانى). (10/ 242) - بدون آخره - وابن عدى في "الكامل"(1/ 179) وأبو نعيم (4/ 107) من طريق أحمد بن محمد بن أيوب ثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبى وائل عن ابن مسعود مرفوعًا به.

وقال البزار: "لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه".

وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الأعمش" تفرد به أبو بكر بن عياش،

(7) آثرنا لفظ البزار حتَّى لا يتبادر إلى أذهان القراء الكرام أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من يرد الله به خيرًا، يفقهه في الدين" حديث ضعيف، لا يصح فلم نورده بلفظ الآخرين.

ص: 13

واختلف في اسمه فقيل: اسمه كنيته، وقيل: اسمه شعبة".

وقال ابن عدى في أول الترجمة - ترجمة أحمد بن محمد بن أيوب - "وحدث عن أبي بكر بن عياش بالمناكر". وقال عقب الحديث: "ولم يحدث به عن ابن عياش غير ابن أيوب".

وقال الذهبي في ترجمة ابن أيوب من "الميزان"(1/ 133): "

وله ما ينكر، فمن ذلك مما ساقه ابن عدى أنَّه روى عن أبي بكر بن عياش

" فذكر هذا الحديث.

وقال الحافظ في "التقريب"(93): "صدوق كانت فيه غفلة، لم يدفع بحجة. قاله أحمد".

قلت: وشيخه أبو بكر بن عياش- وإن احتج به البخارى- ففيه مقال أيضًا، قال الحافظ (7985):"ثقة عابد، إلا أنَّه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح". وقد (خالفه) جماعة من الثقات الحفاظ من أصحاب الأعمش فأوقفوه. فرواه أبو خيثمة في "العلم"(57) عن جرير بن عبد الحميد الرازي، والإِمام أحمد في "الزهد"(ص 378) عن سفيان الثورى، ووكيع في "الزهد" (229) وعنه ابن أبي شيبة (13/ 444) ثلاثتهم عن الأعمش فقالوا:"عن أبى سفيان عن عبيد بن عمير الليثي قال: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ويلهمه رشده فيه". وإسناده جيد.

ورواه أبو نعيم (3/ 296) من طريق الإِمام أحمد فقال: "عن وكيع" بدلًا من "ابن مهدى عن الثورى" وقال: "كذا رواه وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا مثله".

قلت: هذا يعارض كلام البزار المتقدم، بل كلام أبى نعيم نفسه حيث قال:"تفرد به أبو بكر بن عياش "وقد تقدم أيضًا فلو صح أن وكيعا حدث به مرة كما قال أبو نعيم- وهذا ما لا نعلمه ثابتًا عنه- فالراجح الَّذي رواه غير واحد

ص: 14

عنه رواية الوقف، بمتابعة الثورى وجرير.

وقال علامة الشام الشيخ الألبانى حفظه الله في "تخرج العلم": "إسناده موقوفًا على عبيد بن عمير صحيح، وقد رواه البزار والطبرانى من حديث ابن مسعود مرفوعًا بإسناد لا بأس به على ما قاله المنذرى.

قلت: ثم تبين لى أن فيه نكارة، وشهد بذلك الذهبي كما شرحت ذلك في "الأحاديث الضعيفة"(5032) اهـ.

قلت: وعندى أن منشأ الوهم في روايته عن الأعمش من حديث ابن مسعود مرفوعًا أن الأعمش قد حدَّث به بإسناد آخر موقوفًا على ابن مسعود، وهو ما رواه أبو خيثمة (3) عن جرير، والطبرانى (9/ 164) عن زائدة كلاهما عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين".

ورجاله ثقات لكنه منقطع، أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه كما نص عليه غير واحد من الأئمة. لكنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث معاوية رضي الله عنه كما في "الصحيحين" وغيرهما. أما زيادة:"ويلهمه رشده" - فهي من قول عبيد بن عمير الليثي رحمه الله، وهو تابعي جليل مجمع على ثقته ومعناها صحيح لا ريب فيه. والله أعلى وأعلم.

الحديث الثالث:

" أربع من أعطيهن أعطى خير الدنيا والآخرة: قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وبدنًا على البلاء صابرًا، وزوجة لا تبغيه خونا في نفسها ولا ماله".

ضعيف. رواه ابن أبي الدنيا في "الشكر"(34) والطبرانى في "الكبير"(11/ 134) وأبو نعيم (3/ 65) من طرق عن محمود بن غيلان المروزي نا المؤمل ابن إسماعيل، نا حماد بن سلمة، نا حميد الطويل، عن طلق بن حبيب، عن ابن

ص: 15

عباس مرفوعًا به. وقال محقق "المعجم الكبير" - حفظه الله - "ورواه في الأوسط 191 مجمع البحرين بنفس السند والمتن، فلا معنى لقول الهيثمي في المجمع 4/ 273: ورجال الأوسط رجال الصحيح. فهو في الكبير بنفس السند.

قال المنذرى في الترغيب 3/ 206: رواه الطبرانى بإسناد جيد. وضعَّفه شيخنا في سلسلة الضعيفة 1066 "اهـ.

قلت: لأنَّ مداره على مؤمل بن إسماعيل العدوى، وهو صدوق سيئ الحفظ كما في "التقريب"(7029). نعم، وثقه ابن معين وغيره ولكن جرحه جماعة من الأئمة جرحًا مفسرًا، ووصفوه بكثرة الخطأ وسوء الحفظ.

وما أحسن قول الإِمام يعقوب بن سفيان الفسوى: "ومؤمل بن إسماعيل سنى شيخ جليل، سمعت سليمان بن حرب يحسن الثناء عليه يقول: كان مشيختنا يعرفون له ويوصون به، إلا أن حديثه لا يشبه حديث أصحابه، حتَّى ربما قال: كان لا يسعه أن يحدث. وقد يجب على أهل العلم أن يقفوا عن حديثه ويتخففوا من الرواية عنه فإنه منكر يروى المناكير عن ثقات شيوخنا، وهذا أشد، فلو كانت هذه المناكير عن ضعاف لكنا نجعل له عذرًا" كما في "المعرفة"(3/ 52).

وقال الإِمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله: "المؤمل إذا انفرد بحديث وجب أن يتوقف ويتثبت فيه لأنَّه كان سيئ الحفظ، كثير الغلط". كما في "التهذيب"(10/ 381). ومن تتبع مخالفاته التي أوردها له ابن أبي حاتم رحمه الله في "علل الحديث" ووقف على أوهامه ومناكيره، علم علم اليقين صحة اتصافه بما قدمنا، ولا جرم قال الإِمام البخاري رحمه الله:"منكر الحديث". وقد تفرد المؤمل برفع هذا الحديث ووصله.

قال أبو نُعيم: "غريب من حديث طلق، لم يروه متصلًا مرفوعًا إلا مؤمل عن حماد".

قلت: كأنه رحمه الله يشير إشارة خفية إلى وروده من طريق أخرى غير مرفوعة

ص: 16

كما يأتى.

والحديث رواه أيضًا الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(283/ 2) من طريق الطبراني، ومن طريق أبى نعيم أيضًا كما في "الصحيحة" (1066) (8). وقد وقف له الشيخ الألباني على طريق أخرى لا يُفرح بها - من حديث أَنس - فقال: "

أخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/ 167) عن هشام بن عبيد الله الرازي: ثنا الربيع بن بدر: ثنا أبو مسعود: حدثني أَنس بن مالك مرفوعًا به.

قلت: وهذا إسناد واهٍ جدًا.

1 -

هشام بن عبيد الله الرازي فيه ضعف.

2 -

الربيع بن بدر، متروك شديد الضعف.

3 -

أبو مسعود هذا لم أعرفه" اهـ.

كذا قال، وهذا منه عجيب - حفظه الله - فإن تمام كلام أبي نعيم:"أبو مسعود هو سعيد بن إياس الجريرى "اهـ.

وهو ثقة كان قد اختلط، ولم أجد له رواية عن أَنس في ترجمة كل منهما من "تهذيب الكمال" للحافظ المزى، فلعله من تخبط الربيع بن أَنس وأمثاله من المتروكين.

وبعد، (فالأشبه) أن هذا الكلام موقوف على طلق بن حبيب نفسه، فقد رواه ابن أبي شيبة (13/ 487) عن محمد بن بشر العبدى قال: حدثني عتبة بن قيس عنه قال: "أربع من أوتيهن أوتى خير الدنيا والآخرة: من أوتى لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وجسدًا على البلاء صابرًا، وزوجة مؤمنة لا تبغيه في نفسها خونًا". وعتبة ابن قيس هو القراط الكوفي، وهو مستور روى عنه أيضًا ابن عيينة ومسعر، ووثقه ابن حبان (7/ 271) ومع ذلك فالوقف أشبه، والمستور لا يرد حديثه بإطلاق لا سيما في مثل هذه الموقوفات والمقاطيع. وكأنه شُبِّه على مؤمل بن إسماعيل هذا

(8) وانظر بحث الشيخ حول هذا الحديث فإنه متين جدًّا.

ص: 17

الأثر، فوصله ورفعه عن طلق عن ابن عباس. والله أعلم.

نعم، صحت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلبم أحاديث أخرى بغير هذا اللفظ منها حديث ثوبان قال: لما نزلت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} .

قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه: أنزلت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه. فقال:"أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه". رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما، وهو في "فضل المرأة الصالحة"(1) يسَّر الله خروجه.

الحديث الرابع:

" أربع لا يصبن إلا بعجب: الصمت - وهو أول العبادة - والتواضع، وذكر الله، وقلة الشيء".

موضوع. رواه الطبراني (9)(1/ 256) وابن حبان في "المجروحين"(2/ 196) وابن عدى (2/ 697) والحاكم (4/ 311) وغيرهم من طريق أبى معاوية الضرير عن العوام بن جويرية عن الحسن عن أَنس مرفوعًا به.

وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه". فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: قال ابن حبان في العوام: يروى الموضوعات". وقال في "الميزان"(3/ 303) - بعد إيراد هذا الحديث في ترحمة العوام هذا - "قلت: والعجب أن الحاكم أخرجه في "المستدرك". وقال ابن عدى: "الأصل فيه موقوف من قول أَنس".

وقال الحافظ المنذرى في "الترغيب"(3/ 794): "

ورُوِى عن أَنس موقوفًا عليه، وهو أشبه أخرجه أبو الشيخ في "الثواب" وغيره".

(9) ولفظه "الصبر" بدلا من "الصمت".

ص: 18

قلت: لم أطلع على سنده في "الثواب" لأنَّه ليس بمتناول الأيدى الآن، ولكن رواه ابن أبي عاصم في "الزهد"(48) وابن أبي الدنيا في "الصمت"(556) من نفس الطريق المتقدمة المحكوم بوضعها - عن أَنس موقوفًا.

وروى هناد (1130) من طريق الوصافى عن العوام عن الحسن مرفوعا مرسلًا بعضه، ولفظه:"أول العبادة الصمت". وهذا أوهى مما قبله من وجهين:

الأول: أن فيه - مع العوام - عبيد الله بن الوليد الوصافى وهو واهٍ.

الثانِى: أنَّه مرسل ومراسيل الحسن من أضعف المراسيل عندهم على الراجح، فإن بعضهم قواها.

وقال ابن أبى حاتم في "علل الحديث"(2/ 114): "سألت أبي عن حديث رواه يحيى بن حسان عن أبي معاوية الضرير

" (فذكره). قال أبي: إنما يروى عن الحسن فقط. وقال بعضهم: الحسن عن أَنس قوله.

قلت: وأيضًا لم أقف عليه عن الحسن من قوله إلى الآن، وأما عنه عن أَنس فلم أجده إلا بالسند المتقدم ذكره. وإنما (صح) عن الثورى ووهيب بن خالد - رحمهما الله - أنهما نسباه إلى عيسى بن مريم عليهما السلام بنحوه.

1 -

فروى هناد (1131، 594) عن قبيصة عن الثورى قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: "أربع هن عجب، ولا يحفظن إلا بعجب: الصمت، وهو أول العبادة، وذكر الله على كل حال، والتواضع، وقلة الشيء". وإسناده صحيح.

2 -

وروى ابن المبارك في "الزهد"(629) وعنه أبو نعيم (8/ 157) قال: أخبرنا وهيب قال: قال عيسى بن مريم: "أربع لا تجتمع في أحد من الناس إلا بعجر، أو: إلا يعجبه: الصمت، وهو أول العبادة، والتواضع لله، والزهادة في الدنيا، وقلة الشيء". وإسناده صحيح أيضًا. فهذا من الإِسرائيليات التي أذن لنا في التحديث بها - ولا حرج - بغير تصديق ولا تكذيب. والله أعلى وأعلم.

ص: 19

الحديث الخامس:

" ارحموا عزيز قوم ذل، وغنى قوم افتقر، وعالمًا بين جهال".

منكر. رُوِى من حديث أَنس - من طريقين عنه - وابن عباس وابن مسعود - وبلفظ آخر - عن أبي هريرة.

1 -

حديث أَنس:

من الطريق الأُولى: رواه ابن حبان في "المجروحين"(2/ 118) وعنه ابن الجوزى في "الموضوعات"(1/ 237) من طريق يوسف بن هاشم أبي الميمون قال: حدثنا يزيد بن أبي الزرقاء الموصلى قال: حدثنا عيسى بن طهمان عنه به، بلفظ: "ارحموا من الناس ثلاثة

"الحديث.

ورواه العسكرى في "الأمثال" والسليماني في "الضعفاء" من حديث زيد (لا يزيد) بن أبي الزرقاء كما في "المقاصد"(ص 49) ولعله الصواب. لقول الآجرى: "سألت أبا داود عن عيسى بن طهمان فقال: لا بأس به". قلت: بصرى؟ قال: قال لي ابن أبي الزرقاء سمع منه أبي بالكوفة، فقال أبو داود: أحاديثه مستقيمة" كما في "تاريخ بغداد" (11/ 143).

وابن أبي الزرقاء الَّذي يروى عنه أبو داود هو هارون بن زيد بن أبي الزرقاء كما في "التهذيب"(11/ 5).

وقال ابن حبان - في ترحمة عيسى بن طهمان الكوفي، أبي ليث - "ينفرد بالمناكير عن أَنس ويأتى عنه بما لا يشبه حديثه، كأنه كان يدلس عن أبان بن أبي عياش ويزيد الرقاشي عنه، لا يجوز الاحتجاج بخبره، وإن اعتبر بما وافق الثقات من حديثه فلا ضير. وهو الَّذي روى عن أَنس بن مالك .. "فذكر الحديث.

وقال السليماني: "الحمل فيه على عيسى بن طهمان".

وقال ابن طاهر في "معرفة التذكرة"(102): "فيه أبو البخترى وهب بن

ص: 20

وهب - يعنى في حديث ابن عباس الآتى - وهو كذاب، وعيسى بن طهمان متروك".

وقال ابن الجوزى: "موضوع" حتَّى قال "وعيسى ينفرد بالمناكير عن المشاهير، لا يحتج به".

وقال العراقى (4/ 28): "وعيسى ضعيف". كذا قالوا وعيسى بن طهمان ثقة وثقه جميع الأئمة - إلا ابن حبان - وهم: أحمد وابن معين والنسائي وأبو حاتم والفسوى وأبو داود والدارقطني والحاكم (10) نعم، أورده العقيلي في "الضعفاء" (3/ 385) ولكنه جعل الحمل في الأحاديث التي لم يتابع عليها على الراوى عنه- خالد بن عبد الرحمن الخراساني - فقال:"ولعله أُتى من قبل خالد لأنَّ أبا نعيم وخلادًا يحدثان عنه أحاديث مقاربة".

قال الحافظ في "هدى السارى"(ص 434)(11): "وهو كما ظن العقيلي. وأما ابن حبان فأفحش القول فيه في "كتاب الضعفاء" فقال: فذكر كلامه حتَّى قال: "ثم لم يسق له إلا حديثا واحدًا والآفة فيه ممن دونه" وقال (ص 463) "ضعفه ابن حبان بلا مستند، والحمل على غيره".

وقال في "التقريب"(5301)"صدوق أفرط فيه ابن حبان، والذنب فيما استنكره من حديثه لغيره".

قلت: الذنب في هذا الإِسناد، والبلاء فيه من يوسف بن هاشم أبى الميمون - شيخ شيخ ابن حبان - فإن تعبت عليه فلم أجده ولا حتَّى في "ثقات ابن حبان". والظاهر أن الحافظ يعنيه، فإن رجال الإِسناد كلهم ثقات غيره.

(10) الطريف أن الحاكم - وهو أقل هؤلاء تشددًا - قال "صدوق" كما في "التهذيب"(8/ 193) كأنه تبع شيخه الإِمام الدارقطني في ذلك كما في "سؤالاته له"(438) لكن في "التهذيب" أن الحاكم قال عن الدارقطني: ثقة.

(11)

أورده الحافظ باعتبار أن له حديثين في "صحيح البخاري" فانظر بيانهما عنده.

ص: 21

والحديث - من الطريق الثانية - رواه ابن الجوزى (1/ 236) من جهة الخطيب البغدادى بسنده إلى محمد بن مقاتل الرازي عن أبي العباس جعفر بن هارون عن سمعان بن المهدى عن أَنس بلفظ: "وفقيهًا يتلاعب به الجهال".

وجعفر بن هارون قال الذهبى (1/ 420): "أتى بخبر موضوع" وقال في ترجمة سمعان بن المهدى (2/ 234): "حيوان لا يعرف، أُلصقت به نسخة مكذوبة رأيتها، قبَّح الله من وضعها" زاد الحافظ في "اللسان"(3/ 114): "وهي من رواية محمد بن مقاتل الرازي عن جعفر بن هارون الواسطي عن سمعان "فذكر النسخة، وهي أكثر من ثلاث مائة حديث أكثر متونها موضوعة".

2 -

حديث ابن عباس: رواه ابن حبان (3/ 74) وعنه ابن الجوزى من طريق وهب بن وهب أبي البخترى القاضي عن ابن جرج عن عطاء عنه به، بلفظ "وعالمًا يتلاعب به الصبيان". ووهب هذا أحد الوضَّاعين المشهورين.

3 -

حديث ابن مسعود: رواه القضاعى (734) من طريق عبد الله بن الوليد العدنى، ثنا سفيان الثورى، عن منصور، عن مجاهد عنه به ولفظه:"ارحموا ثلاثة: غنى قوم افتقر، وعزيزًا ذل، وعالمًا يلعب به الحمقى والجهال". وفى هذا الإِسناد مجاهيل وانقطاع.

قال الشيخ السلفى حفظه الله - محقق "مسند الشهاب" - "قال في "فتح الوهاب" (2/ 11): وفيه جماعة لم أعرفهم، ورواية مجاهد عن ابن مسعود قال أبو زرعة: فيه إرسال

". وأعله السخاوى بالعلة الثانية وحدها ثم استدركت بأن شيخ القضاعي - محمد بن منصور التسترى - قال أبو إسحاق الحبال الحافظ: كذاب" فانظر "الميزان"(4/ 48) و"لسانه"(5/ 395، 396).

4 -

وأما حديث أبى هريرة فرواه الديلمى. قاله الشيخ الغمارى في حاشية "المقاصد". ولم أجده في "فردوس الأخبار" بلفظ حديث الترجمة.

وقد تعقب الحافظ السيوطي رحمه الله دعوى ابن الجوزى وضع الحديث بأمر

ص: 22

عجيب فقال في "اللآلئ المصنوعة"(2/ 211): "قلت: قال الديلمى: أنبأنا أبو علي الحداد أنبأنا أبو نعيم حدثنا محمد بن عمر بن سليم حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سعيد القارى الرازي حدثنا أبى حدثنا أبو الأزهر الخطيب بن عفان حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعًا: "بكت السموات السبع ومن فيهن ومن عليهن، والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن لعزيز ذل، وغنى افتقر، وعالم تلعب به الجهال" (12) والله أعلم اهـ.

وهذا إسناد مظلم، كل من بَيْن أبي نعيم وابن علية لم أجد لهم ترجمة، والحسن مدلس وقد عنعنه، ولم يسمع من أبى هريرة إلا أحرفا يسيرة - على الأصحّ (13) - ومع ذلك فما أبعد الشاهد عن المشهود له، وبين الأمر برحمة هؤلاء الثلاثة، والإِخبار عن بكاء السموات والأرضين وأهلهن عليهم. والظاهر أن السخاوى والغمارى يعنيان هذا الحديث.

(وبَعْد) فإن حديث الترجمة إنما يعرف من قول الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى كما قال ابن الجوزى ثم روى بسنده إلى الحاكم قال: سمعت إسماعيل بن محمد ابن الفضل يقول: سمعت جدى يقول: سمعت سعيد بن منصور يقول: قال الفضيل ابن عياض: "ارحموا عزيز قوم ذل، وغنيا افتقر، وعالمًا بين الجهال". ورواه البيهقي في "المدخل"(699) عن الحاكم به. وقال: "وَرُوِى هذا مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أوجه كلها ضعيفة".

قلت: ومع ذلك ففي شيخ الحاكم مقال، قال الذهبي في "الميزان"(1/ 247، 248): "قال الحاكم: ارتبت في لقيه بعض الشيوخ، ثم قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا جدى، حدثنا عبيد الله العيشى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أَنس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة

(12) الحديث في "الفردوس"(2/ 15) وقال الحافظ: "أسنده عن أبى هريرة".

(13)

وهو الحق الَّذي يشهد له الدليل العملى، رغم تتابع كثيرين من معاصرى الحسن فمن بعدهم على نفى سماعه مطلقًا من أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 23

على كل مسلم". غريب فرد" اهـ.

قلت: ورجاله كلهم ثقات سواه، فالحمل فيه عليه إذ أن هذا المتن لا يُحتمل صدوره بهذا الإِسناد الصحيح، أو إنه وهم، ودخل عليه حديث في حديث، فالله أعلم به، وهو حَسيبه.

ثم إننى أثناء تبييض الكتاب للمرة الثانية تذكرت حديثا عجيبًا مَرَّ عَلَيَّ أثناء تقليب "فردوس الأخبار"(14) للديلمى - الأب - وهو ما رواه الخطيب في "تاريخه"(13/ 322، 323) عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ارحموا حاجة الغنى". قال: فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، وما حاجة الغنى؟ فقال:"الرجل الموسر يحتاج صدقة، الدرهم عليه عند الله بمنزلة سبعين ألفا". وقال: "هذا غريب جدًا من حديث الأعمش عن أبى وائل عن عبد الله، ومن حديث الثورى عن الأعمش، لا أعلم رواه غير محمد بن يحيى الطوسى عن الفريابى" اهـ.

والطوسى هذا لم أقف له على ترجمة. وفيه أيضًا: نافع بن علي بن يحيى أبو عبد الله السروى الفقيه، أورده الخطب في ترجمته وقال:"حدثنا عنه العتيقى" ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا وسماه أبو الفضل المقدسي "نافع بن علي بن بحر بن عمرو بن حازم" وقال: "روى عنه أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي، والطبقة، وتوفى قبل الأربعمائة" كما في "الأنساب"(7/ 77).

الحديث السادس:

" استعينوا على النساء بالعُرْى".

ضعيف جدًا. رواه ابن عدى (1/ 307) - هكذا - وعزاه السيوطي في

(14) 1/ 115 وقال الحافظ: "أسنده عن ابن مسعود" ودلنا على رواية الخطيب محققا "الفردوس" جزاهما الله خيرًا و"من لا يشكر الناس لا يشكر الله".

ص: 24

"الجامع"(988) إليه بزيادة: "فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها، وأحسنت زينتها، أعجبها الخروج".

وهو عنده من طريق إسماعيل بن عباد المزني ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أَنس (15) به. قال: "وهذا الحديث - بهذا الإِسناد - منكر لا يرويه عن سعيد غير إسماعيل هذا، ولإِسماعيل عن سعيد غير ما ذكرت من الحديث، مما يتفرد به عنه، وإسماعيل ليس بذلك المعروف".

قلت: بل هو واهٍ، فقد قال الدارقطني في "الضعفاء" (82):"متروك".

وقال ابن حبان (1/ 123): "يروى عن سعيد بن أبى عروبة ما لا يتابع عليه من الروايات، ويقلب الأخبار التي رواها الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به بحال" ثم ذكر له بالإِسناد المتقدم عدة أحاديث وقال: "أخبرنا الحسن بن سفيان بهذه الأحاديث كلها ثنا زكريا بن يحيى الرقاشي المقري قال: ثنا إسماعيل بن عباد ثنا سعيد عن قتادة عن أَنس بن مالك في نسخة كتبناها عنه لا تخلو من المقلوب أو الموضوع". ولذلك ذكره ابن عراق في "تنزيه الشريعة"(1/ 39) - في عداد الكذابين والوضاعين.

والحديث رواه الطبرانى في "الأوسط" كما أورده الهيثمي (5/ 138) - باللفظة المختصرة - وقال: "

عن شيخه موسى بن زكريا، وهو ضعيف".

قلت: قال الدارقطني: "متروك" كما في "سؤالات الحاكم للدارقطني"(227). وله لفظ آخر عن أَنس أيضًا رواه ابن عدى (4/ 1639) عن شيخه محمد ابن داود بن دينار عن أحمد بن إسحاق بن يونس عن سعدان بن عبدة القداحى عن عبيد الله بن عبد الله العتكي البصري عنه وقال: "هذه الأحاديث - يعنى

(15) ووجدته في "فردوس الأخبار"(5/ 168) عن أبى سعيد بلفظ "لا تعلموا النساء الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف، واستعينوا عليهن بالعرى". ولم أرى من تكلم عليه. ولا أدرى أسنده أبو منصور الديلمي أم لا والفقرة الأُولى والثانية منه وردت بأسانيد واهية جدًا.

ص: 25

هذا وغيره - مناكير كلها، وسعدان بن عبدة القداحي غير معروف، وأحمد بن إسحاق بن يونس لا يعرف أيضًا، وشيخنا محمد بن داود بن دينار كان يكذب، وقد روى النضر بن شميل عن عبيد الله، عن أَنس أحاديث - إن شاء الله - مستقيمة".

وقال الذهبي (3/ 10): "لعل هذه الأحاديث من وضع محمد بن داود، ولا يدرى من شيخه ولا من شيخ شيخه" فتعقبه الحافظ في "اللسان"(106/ 4) بأن هذا من جملة كلام ابن عدى، ثم ساق كلامه.

وفى الباب أيضًا: ما رواه الطبراني (19/ 438) وابن جميع في "معجم الشيوخ"(ص 105) والقضاعي (689) عن مسلمة بن مخلد مرفوعًا: "أعروا النساء يلزمن الحجال" وهو ضعيف. قال الهيثمي (5/ 138): "رواه الطبرانى في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه مجمع بن كعب، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".

قلت: ترجمه ابن أبي حاتم (8/ 296) برواية جعفر بن ربيعة وحده عنه، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.

وقال البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 410): "مجمع بن كعب عن مسلمة ابن مخلد - فِعْله، قاله عمرو بن الحارث عن جعفر بن ربيعة، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 438). ففي الإِسناد أيضًا انقطاع، فإن مداره على بكر بن سهل الدمياطى عن شعيب بن يحيى عن يحيى بن أيوب عن عمرو بن الحارث عن مجمع به. فإن عَمْرًا يروى عن جعفر بن ربيعة عنه.

وبكر بن سهل فيه كلام كثير، وقد استنكر عليه هذا الحديث خاصَّةً.

قال الحافظ في "اللسان"(2/ 52): "وقال مسلمة بن قاسم: تكلم الناس فيه ووضعوه من أجل الحديث الَّذي حَدَّث به عن شعيب بن يحيى (16) عن يحيى بن

(16) في "اللسان""عن سعيد بن كثير" وهو تحريف ظاهر. والصواب أيضًا إثبات عمرو ابن الحارث بين يحيى ومجمع.

ص: 26

أيوب عن مجمع بن كعب عن مسلمة بن مخلد رفعه: "أعروا النساء يلزمن الحجال" ووقع وهم عجيب لمحقق "مسند الشهاب" حفظه الله فقال: "وأورده ابن الجوزى في "الموضوعات" (2/ 282)، وقال (2/ 283): قال أبو حاتم: شعيب بن يحيى ليس بمعروف. وقال إبراهيم الحربي: ليس لهذا الحديث أصل".

قلت: شعيب صدوق كما قال الحافظ، وبكر بن سهل - وإن تكلم فيه - فلم ينفرد به كما قال الحافظ في ترجمته من "اللسان". والصواب ما أعله ابن الحافظ الهيثمي .. "الخ.

قلت: ليس هذا هو الحديث الَّذي يعنيه الحافظ، بل حديثه من طريق حفص ابن ميسرة عن زيد بن أسلم عن أَنس مرفوعًا: "ما من معمر عمر في الإِسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه الجنون والجذام والبرص

" الحديث، فإن الحافظ قال: "قلت: والحديث الَّذي أورده المصنف (17) لم ينفرد به، بل رواه أبو بكر المقرى في "فوائده" عن أبي عروبة الحسين بن محمد الحراني عن مخلد بن مالك الحرانى عن الصنعاني - وهو حفص بن ميسرة - به. أملاه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في المجلس التاسع والسبعين من أماليه وقال: إنه حديث حسن وأما حديث مسلمة فأخرجه الطبراني عنه" اهـ.

ولم يزد على ذلك بشأن حديث مسلمة. وقد وقع في نفس الوهم محقق "الكشف الإلهى عن شديد الضعف والوضوع والواهى. للعلامة السندروسى (1/ 102، 103)، ثم تبين لى أن سلفهما في ذلك هو الحافظ المناوى رحمه الله، قال ذلك في " فيض القدير" (1/ 560) فأخذا كلامه ولم يرجعا إلى الأصل، فقارنه بما تقدم عن "اللسان" وانظر كذلك "القول المسدد" (ص 27، 26) توقن أن الحافظ لم يعنِ حديث مسلمة بن مخلد قَطّ.

وبعد، فإن (الصحيح) في حديث الترجمة أنَّه من كلام عمر بن الخطاب

(17) يعنى الحافظ الذهبي، وحديث "أعروا النساء" لم يورده الذهبي، بل زاده الحافظ فتأمل.

ص: 27

رضي الله عنه، رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (4/ 420) من طريق أبى إسحاق السبيعى عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر

فذكره بلفظه - بالزيادة - سواء.

ورواه أيضًا المخلص في "فوائده" عن عمر كما في "الجامع الكبير"(ج 1/ عدد 8 ص 963).

والمراد بقوله: "استعينوا على النساء بالعرى": عدم التوسعة عليهن في اللباس والاقتصار على ما يقيهن الحر والبرد على الوجه اللائق كما قال المناوى رحمه الله (1/ 494) وقال (1/ 559) - في حديث "أعروا النساء يلزمن الحجال": "أي جردوهن من ثياب الزينة والخيلاء والتفاخر والتباهي، ومن الحلي كذلك، واقتصروا على ما يقيهن الحر والبرد

" حتَّى قال: "يعنى إن فعلتم ذلك بهن لا تعجبهن أنفسهن فيطلبن البروز بل يخترن عليه المكث في داخل البيوت، وأما إن وجدن الثياب الفاخرة والحلى الحسن فيعجبهن أنفسهن ويطلبن الخروج متبرجات بزينة ليراهن الرجال في الطرقات والنساء، فيصفوهن لأزواجهن، ويترتب على ذلك من المفاسد ما هو محسوس بل كثيرا ما يجرّ إلى الزنا، وفيه حث على منع النساء من الخروج إلا لعذر وعلى عدم إكثار ثياب الزينة لهن والمبالغة في سترهن (18)

".

قلت: وبذلك فلا منافاة بينه وبين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعرض كان حق النساء على أزواجهن - "ألا وحقهن عليكم: أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن". وقوله - حين سأله معاوية بن حيدة بقوله -: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت".

وهما مخرجان في "جامع الأصول" - بتحقيق الأرنؤوط - (6/ 504، 505).

(18) حرصت على إيراد معنى هذا الحديث الضعيف لموافقته لأثر عمر، ولبيان أن عمر رضى الله عنه الغيور على المحارم، الشديد في أمر الله، لا يخالف بقوله هذا شرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهديه.

ص: 28

فعلى الزوج المسلم أن يأخذ بالحزم في غير عنف، واللين في غير ضعف، وأن يجتنب الإِفراط والتفريط، فخير الأمور أوساطها كما قال غير واحد من السلف رحمهم الله. وبالله التوفيق.

الحديث السابع:

" اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه".

ضعيف جدًا. رُوِى من حديث النعمان بن بشير، وعبد الله بن عمرو.

1 -

حديث النعمان بن بشير: رواه الخطيب (3/ 192) من طريق محمد بن كثير القرشي الكوفي عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عنه ومحمد بن كثير هذا واهٍ، قال الذهبي (4/ 17): "قال أحمد: خرقنا حديثه.

وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن المديني: كتبنا عنه عجائب وخططت على حديثه. ومشاه ابن معين".

قلت: ثم استبان له أمره فمال إلى تكذيبه فانظر ترجمته في "تاريخ بغداد"(3/ 191: 193).

2 -

حديث عبد الله بن عمرو: رواه القضاعى (392، 741) من طريق فهد ابن عوف عن إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عبيد الله عن شهر بن حوشب عنه به، وزاد في أوله:"من لم ينفعه علمه، ضره جهله" ورواه أيضًا الطبراني في "الكبير"، وعنه أبو نعيم في "رياضة المتعلمين" ومن طريقه الديلمى في "مسند الفردوس" كما قال محقق "مسند الشهاب" نقلًا عن "فتح الوهاب" (1/ 151). وهذا إسناد واهٍ جدًا له علتان:

الأُولى: أن فهد بن عوف، واسمه زيد - وفهد لقب - متروك.

الثانية: أن عبد العزيز بن عبيد الله - وهو الحمصي - واهٍ كما قال الذهبي في "الكاشف"(2/ 201). وقد قال أبو زرعة: "مضطرب الحديث، واهى

ص: 29