المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الغناء الصوفي والأناشيد الإسلامية - تحريم آلات الطرب

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: ‌الغناء الصوفي والأناشيد الإسلامية

‌الغناء الصوفي والأناشيد الإسلامية

بعد أن بينا الغناء المحرم بقسميه: بالآلة وبدونها معتمدين في ذلك على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى الآثار السلفية وأقوال الأئمة فقد آن لنا أن نتحدث عن الغناء الصوفي وعما يعرف اليوم ب الأناشيد الإسلامية أو الدينية فأقول وبالله أستعين:

إن مما لا شك فيه أنه كما لا يجوز أن لا نعبد أحدا إلا الله تحقيقا لشهادة أن لا إله إلا الله فكذلك لا يجوز لنا أن نعبد الله أو نتقرب إليه إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقيقا لشهادة محمد رسول الله فإذا تحقق المؤمن بذلك كان محبا لله متبعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن أحبه الله كان الله معه وناصرا له.

وقد كنت ذكرت في مقدمة تلعيقي على رسالة العز بن عبد السلام رحمه الله بداية السول في تفضيل الرسول بعد حديثين معروفين في حب الله والرسول وأن من كان ذلك فيه وجد حلاوة الإيمان ما نصه:

واعلم أيها الأخ المسلم أنه لا يمكن لأحد أن يرقى إلى هذه المنزلة من الحب لله ورسوله إلا بتوحيد الله تعالى في عبادته دون سواه وبإفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع دون غيره من عباد الله لقوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقوله صلى الله عليه وسلم:

"والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا اتباعي"1.

1حديث حسن مخرج في الأرواء 1589. والصحيحة 3207.

ص: 158

قلت: فإذا كان مثل موسى كليم الله لا يسعه أن يتبع غير النبي صلى الله عليه وسلم فهل يسع ذلك غيره؟ فهذا من الأدلة القاطعة على وجوب إفراد النبي صلى الله عليه وسلم في الاتباع وهو من لوازم شهادةأن محمدا رسول الله ولذلك جعل الله تبارك وتعالى في الآية المتقدمة اتباعه صلى الله عليه وسلم دون سواه - دليلا على حب الله إياه ومما لا شك فيه أن من أحبه الله كان الله معه في كل شيء كما في الحديث القدسي الصحيح:

"وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه..".

رواه البخاري. وهو مخرج في الصحيحة 1640.

وإذا كانت هذه العناية الإلهية إنما هي بعبده المحبوب من الله كان واجبا على كل مسلم أن يتخذ السبب الذي يجعله محبوبا عند الله ألا وهو اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده دون سواه وبذلك فقط يحظى بالعناية الخاصة من مولاه تبارك وتعالى ألست ترى أنه لا سبيل إلى معرفة الفرائض وتميزها من النوافل إلا باتباعه صلى الله عليه وسلم وحده؟.

إذا عرف هذا فإني أرى لزاما علي انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم:

"الدين النصيحة" 1 أن أذكر من ابتلي من إخواننا المسلمين - من كانوا وحيثما كانوا

1 رواه مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه وهو مخرج في الإرواء رقم 26 وغاية المرام 332.

ص: 159

بالغناء الصوفي أو بما يسمونه ب الأناشيد الدينية اسماعا واستماعا بما يلي:

أولا: أن مما لا يرتاب فيه عالم من علماء المسلمين العارفين حقا بفقه الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح الذين أمرنا بالتمسك بنهجهم ونهينا عن مخالفة سبيلهم في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} أقول: لا يخفى على أحد من هؤلاء العلماء أن الغناء المذكور محدث لم يكن معروفا في القرون المشهود لها بالخيرية.

ثانيا: أنه من المسلم عندهم أنه لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تقدم بيانه وقد ضرب لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بعض الأمثلة التي تؤكد لكل ذي علم منصف ما ذكرنا فقال رحمه الله تعالى:

ومن المعلوم أن الدين له أصلان فلا دين إلا ما شرع الله ولا حرام إلا ما حرمه الله والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله وشرعوا دينا لم يأذن به الله.

ولو سئل العالم1 عمن يعدو بين الجبلين هل يباح له ذلك؟ قال: نعم فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إن فعله على هذا الوجه [فهو] حرام منكر يستتاب فاعله فإن تاب وإلا قتل2.

ولو سئل عن كشف الرأس ولبس الإزار والرداء؟ أفتى بأن هذا جائز فإذا قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاج؟ قال: إن هذا حرام منكر.

1 يعني طبعا العالم السلفي وليس الخلفي الغزالي!.

2 قلت: يعني من قبل الحاكم القائم على حدود الله الذي صار اليوم كالعنقاء!.

ص: 160

ولو سئل عمن يقوم في الشمس؟ قال: هذا جائز فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة؟ قال: هذا منكر كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:

صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال: "من هذا؟ "

قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ويستظل ولا يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه"1.

فهذا لو فعله لراحة أو غرض مباح لم ينه عنه لكن لما فعله على وجه العبادة نهي عنه.

وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت لم يحرم عليه ذلك ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة كما لو كانوا يفعلونه في الجاهلية.. كان عاصيا مذموما مبتدعا والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية2 لأن المعاصي يعلم أنه عاص فيتوب والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب ولهذا من حضر السماع للعب أو لهو لا يعده من صالح عمله ولا يرجو به الثواب.

وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينا وإذا نهي عنه

1 وهو مخرج في الإرواء 8/218، 2591، وفيه بيان إنه ليس في البخاري قوله: في الشمس وهو صحيح.

2 روي هذا عن بعض السلف وهو سفيان الثوري رواه ابن الجعد في مسنده 2/748/1885.

ص: 161

كان كمن نهي عن دينه ورأى أنه قد انقطع عن الله وحرم نصيبه من الله إذا تركه!

فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين ولا يقول أحد من أئمة المسلمين:

إن اتخاذ هذا دينا طريقا إلى الله تعالى أمر مباح بل من جعل هذا دينا وطريقا إلى الله تعالى فهو ضال مضل مخالف لإجماع المسلمين.

ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلا متكلما في الدين بلا علم.

مجموع الفتاوى 11 / 631 – 633.

ثالثا: إن من المقرر عند العلماء أنه لا يجوز التقرب إلى الله بما لم يشرعه الله ولو كان أصله مشروعا كالأذان مثلا لصلاة العيدين وكالصلاة التي تسمى بصلاة الرغائب وكالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند العطاس ومن البائع عند عرضه بضاعته للزبون - ونحو ذلك كثير وكثير جدا - من محدثات الأمور التي يسميها الإمام الشاطبي رحمه الله ب البدع الإضافية وحقق في كتابه العظيم حقا الاعتصام دخولها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"1.

فإذا عرف ذلك فالتقرب إلى الله بما حرم يكون محرما من باب أولى بل هو شديد التحريم لما فيه من المخالفة والمشاققة لشريعة الله وقد توعد الله من

1 رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه بإسناد صحيح وصححه ابن تيمية في غير ما موضع انظر رسالتي خطبة الحاجة ص 37.

ص: 162

فعل ذلك بقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

يضاف إلى ذلك أن فيه تشبها بالكفار من النصارى وغيرهم ممن قال الله تعالى فيهم: الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا وبالمشركين الذين قال فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} قال العلماء: المكاء: الصفير والتصدية: التصفيق1.

ولذلك اشتد إنكار العلماء علهم قديما وحديثا فقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

تركت بالعراق شيئا يقال له: التغيير أحدثته الزنادقة يصدون الناس عن القرآن2.

وسئل عنه أحمد؟ فقال: بدعة وفي رواية: فكرهه ونهى عن استماعه وقال: [إذا رأيت إنسانا منهم في طريق فخذ في طريق أخرى]3.

والتغيير: شعر يزهد في الدنيا يغنى به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه كما قال ابن القيم وغيره.

1 انظر تفسير ابن كثير 3/306، وإغاثة اللهفان 1/244-245.

2 ص 36، وأبو نعيم في الحلية9/146، وعنه ابن الجوزي ص244- 249، وإسناده صحيح ذكره ابن القيم في الإغائة 1/229، أنه متواتر عن الشافعي ثم فسر التغبير بما ذكرت أعلاه. رواه الخلال بالأمر بالمعروف

3 رواه الخلال من طرق عنه والزيادة من مسألة السماع ص 124.

ص: 163

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجموع 11 / 570:

وما ذكره الشافعي رضي الله عنه من أنه من إحداث الزنادقة -[فهو] كلام إمام خبير بأصول الإسلام فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم كما ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في مسألة السماع عن ابن الراوندي1 قال:

اختلف الفقهاء في السماع فأباحه قوم وكرهه قوم فأنا أوجبه - أو قال: آمر به فخالف إجماع العلماء في الأمر به.

والفارابي2 كان بارعا في الغناء الذي يسمونه الموسيقى وله فيه طريقة عند أهل صناعة الغناء وحكايته مع ابن حمدان مشهورة لما ضرب فأبكاهم ثم أضحكهم ثم نومهم ثم خرج.

وقال ص 565:

1 اسمه أحمد بن يحيى بن إسحاق الرواندي الزنديق الشهير قال الحافظ في لسان الميزان: "كان أول من متكلمي المعتزلة ثم تزندق واشتهر بالإلحاد وقد صنف كتبا كثيرة يطعن فيها على الإسلام وقد أجاد الشيخ في حذف ترجمته من هذا الكتاب يعني الميزان وإنما أوردته لألعنه، توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين".

2 اسمه محمد بن محمد بن طرخان التركي له ترجمة مبسطة في شذرات الذهب 2/350- 354، والحكاية التي أشار إليها مذكورة فيه وهي كالأسطورة كفره الغزالي وغيره مات سنة 339،. 2

ص: 164

وقد عرف بالاضطراب من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا إلى استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب أو الدف كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته وإتباع ما جاء من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره ولا لعامي ولا لخاصي.

ثم قال الشيخ 573 - 576:

ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفى ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه فهو للروح كالخمر للجسد يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس.

ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون لذة بلا تمييز كما يجد شارب الخمر بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر حتى يقتل بعضهم بعضا من غير مس بيد بل بما يقترن بهم من الشياطين فانه يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال ويتكلمون على ألسنتهم كما يتكلم الجني على لسان المصروع: إما بكلام من جنس كلام الأعاجم الذين لا يفقه كلامهم كلسان الترك أو الفرس أو غيرهم ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان غريبا لا يحسن أن يتكلم بذلك بل يكون الكلام من جنس كلام من

ص: 165

تكون تلك الشياطين من إخوانهم وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى وهذا يعرفه أهل المكاشفة

شهودا وعيانا1.

وهؤلاء الذين يدخلون النار مع خروجهم عن الشريعة هم من هذا النمط فان الشياطين تلابس أحدهم بحيث يسقط إحساس بدنه حتى أن المصروع يضرب ضربا عظيما وهو لا يحس بذلك ولا يؤثر في جلده فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين وتدخل بهم النار وقد تطير بهم في الهواء وإنما يلبس أحدهم الشيطان مع تغيب عقله كما يلبس الشيطان المصروع.

وبأرض الهند والمغرب ضرب من الزط يقال لأحدهم: المصلي فإنه يصلى النار كما يصلى هؤلاء وتلبسه ويدخلها ويطير في الهواء ويقف على رأس الزج2 ويفعل أشياء أبلغ مما يفعله هؤلاء وهم من الزط الذين لا خلاق لهم والجن تخطف كثيرا من الإنس وتغيبه عن أبصار الناس وتطير بهم في

1 تنبيه: لقد أنكر بعض المعاصرين عقيدة مس الشيطان للإنسان مس حقيقيا ودخوله في بدن الإنسان وصرعه إياه وألف بعضهم في ذلك بعض التأليفات موهوا فيها على على الناس وتولى كبره مضعف الأحاديث الصحيحة المار ذكره في كتابه المسمى ب الأسطورة وضعف ما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة كعادته وركن هو وغيره إلى تأويلات المعتزلة واشتط آخرون فاستغلوا هذه العقيدة الصحيحة وألحقوا بها ما ليس منها مما غير حقيقتها وساعدوا بذلك المنكرين لها واتخذوها وسيلة لجمع الناس حولهم لاستخراج الجان من صدورهم بزعمهم وجعلوها مهنة لهم لأكل أموال الناس بالباطل حتى صار بعضهم من كبار الأغنياء والحق ضائع بين هؤلاء المبطلين وأولئك المنكرين وقد رددت عليهم جميعا في المجلد السادس من الصحيحة التي تؤكد المس الحقيقي برقم 2918.

2 هو النصل الذي على الرمح.

ص: 166

الهواء وقد باشرنا من هذه الأمور ما يطول وصفه وكذلك يفعل هذا هؤلاء المتولهون والمنتسبون إلى بعض المشائخ إذا حصل له وجد سماعي وعند سماع المكاء والتصدية منهم من يصعد في الهواء ويقف على زج الرمح ويدخل النار ويأخذ الحديد المحمى بالنار ثم يضعه على بدنه وأنواع من هذا الجنس ولا تحصل له هذه الحال عند الصلاة ولا عند الذكر ولا عند قراءة القرآن لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية نبوية محمدية تطرد الشياطين وتلك عبادات بدعية شركية شيطانية فلسفية تجلب الشياطين.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" 1 وقد ثبت فى الحديث الصحيح: أن أسيد بن حضير لما قرأ سورة الكهف تنزلت الملائكة لسماعها كالظلة فيها السرج2.

ولهذا كان المكاء والتصدية يدعو إلى الفواحش والظلم ويصد عن حقيقة ذك الله تعالى والصلاة كما يفعل الخمر والسلف يسمونه تغبيرا لأن التغبير هو الضرب بالقضيب على جلد من الجلود وهو ما يغبر صوت الإنسان

1 هو في صحيح مسلم وهو مخرج عندي في نقد نصوص حديثية ص 36.

2 روى أصل الحديث الأمام البخاري في صحيحه 5011. ومسلم في صحيحه 795. لكن فيه إبهام صاحب القصة أسيد ولكن قال الحافظ ابن حجر في الفتح 9/57: قيل: هو أسيد بن حضير. وجزم بذلك ابن كثير في تفسيره 3/115، ولعله تبع في ذلك الخطيب البغدادي في الأسماء المبهمة ص4 وهذا كله مبني على الاحتمال وليس من نص يقطع الواقف عليه بالجزم في هذا التعيين.

ص: 167

على التلحين فقد يضم إلى صوت الإنسان إما التصفيق بأحد اليدين على الأخرى وإما الضرب بقضيب على فخذ وجلد وإما الضرب باليد على أختها أو غيرها على دف أو طبل كناقوس النصارى والنفخ في صفارة كبوق اليهود فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته.

ومن العلماء الذين بالغوا في الإنكار على غناء الصوفية القاضي أبو الطيب الطبري1 فقال:

هذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين لأنهم جعلوا الغناء دينا وطاعة ورأيت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة2.

ومنهم الإمام الطرطوشي3 سئل عن قوم في مكان يقرؤون شيئا من القرآن ثم ينشدون لهم منشد شيئا من الشعر فيرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشبابة هل الحضور معهم حلال أو لا؟

فأجاب: مذهب الصوفية هذا بطالة وجهالة وضلالة وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار فأتوا يرقصون حوله ويتواجدون وهو - أي:

1 هو من كبار فقهاء الشافعية وصفه الذهبي في السير 17/668، ب الإمام العلامة شيخ الإسلام، مات صحيح العقل ثابت الفهم سنة 450هـ وله سنتان ومئة رحمه الله.

2 مسألة السماع لابن القيم ص 262، وهو تلخيص ما في رسالة الطبري ص32.

3 شيخ المالكية في قرطبة قال الذهبي 19/490: الإمام القدوة الزاهد مات سنة 520.

ص: 168

الرقص - دين الكفار وعباد العجل وإنما كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطل هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين1.

ومنهم الإمام القرطبي2 قال بعد أن ذكر الغناء الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن وفيه وصف النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة ولا يختلف في تحريمه:

وأما ما أبتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة وانتهى التواقع بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرقة والله تعالى المستعان3.

1 كف الرعاع عن سماع آلات السماع للفقيه الهيتمي ص50/هامش الزواجر تفسير القرطبي 11/237 - 238.

2 هو محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المشهور مؤلف الجامع لأحكام القرآن مات سنة 671. والسطر الأول منه هو في الجامع بنحوه 14/54.

3 روح المعاني للعلامة الآلوسي 11/70.

ص: 169

وقد أفتى بنحو هذا الإمام الحافظ ابن الصلاح1 في فتوى له مسهبة جوابا على سؤال من بعضهم عمن يستحلون الغناء بالدف والشبابة مع الرقص والتصفيق ويعتقدون أن ذلك حلال وقربة وأنه من أفضل العبادات؟

فأجاب رحمه الله بما خلاصته مما يناسب المقام قال:

لقد كذبوا على الله سبحانه وتعالى وشايعوا بقولهم هذا باطنية الملحدين وخالفوا إجماع المسلمين ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2.

ومنهم الإمام الشاطبي رحمه الله3 فقال إجابة عن سؤال وجه إليه عن قوم ينتمون إلى الصوفية يجتمعون فيذكرون الله جهرا بصوت واحد ثم يغنون ويرقصون؟:

إن ذلك كله من البدع المحدثات المخالفة طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان فنفع الله بذلك من شاء من خلقه.

1 هو الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين مؤلف مقدمة علوم الحديث المشهورة قال الذهبي في السير: كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه. توفي سنة 643.

2 انظر فتاوى ابن الصلاح 300- 301- توفي سنة 643. ابن القيم في إغائة اللهافان 1/228. مقطعا أوسع مما هنا وفيه بعضه.

3 هو العلامة المحقق إبراهيم بن موسى اللخمي أبو إسحاق الغرناطي صاحب المؤلفات الجليلة النفيسة مات سنة 790.

ص: 170

ثم ذكر أن الجواب لما وصل إلى بعض البلاد قامت القيامة على العاملين بتلك البدع وخافوا اندراس طريقتهم وانقطاع أكلهم منها فلجأوا إلى فتاوى لبعض شيوخ الوقت يستغلونها لصالح بدعتهم فرد الشاطبي عليهم وبين أنها حجة عليهم.

وبسط الكلام في ذلك جدا في نحو ثلاثين صفحة 358 - 388 فمن شاء التوسع رجع إليه.

وكان قبل ذلك ذكر أصولا ومآخذ يعتمد عليها أهل البدع والأهواء وبين بطلانها ومخالفتها للشرع بيانا شافيا فرأيت أن أقدم إلى القراء خلاصة عنها لأهميتها ولأن علماء الأصول لم يبسطوا القول في بيانها كما قال هو نفسه رحمه الله 1 / 297 فاطلبها من الحاشية1.

"2" 1- اعتمادهم على الأحاديث الضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحاديث الضعيفة لا يغلب على الظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها فلا يمكن أن يسند إليها حكم فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب؟! ص299- 300.

2-

ردهم للأحاديث الصحيحة التي هي غير موافقة لأغراضهم ويدعون أنها مخالفة للمعقول كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله في الآخرة ونحو ذلك.. ص309.

3-

تجرؤهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع الجهل بعلم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله فيفتئون على الشريعة ويخالفون الراسخين في العلم.

4-

ص320: انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف.

ص: 171

ومنهم العلامة المحقق الأديب الأريب ابن قيم الجوزية1 وقد بلغ الغاية في الاحتجاج لتحريم الغناء والملاهي والغناء الصوفي في كتابه الكبير الكلام في مسألة السماع وقد توسع جدا في الاستدلال على ذلك بالكتاب والسنة والآثار السلفية وبيان مذاهب العلماء والمراجحة بينها والرد على المستحلين لما حرم الله ومن طرائفه أنه عقد مجلس مناظرة بين صاحب غناء وصاحب قرآن في فصول رائعة ممتعة الحجة فيها ساطعة على المستحلين والمبتدعة جزاه الله

5- ص 329: الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها وبالعموميات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا وكذلك العكس بأن يكون النص مقيدا فيطلق أو خاصا فيعمم بالرأي من غير دليلا سواه..1

6-

ص 334: تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط فيصرف على مناط آخر موهما أن المناطين واحد وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله ويغلب على الظن أن من أقر بالاسلام ويذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحا إلا مع اشتباه يعرض له أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعا.

7-

ص 348: التفاني في تعظيم شيوخهم حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور وهو باطل محض ص349: والمتوسط يزعم أنه مساو للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا ياتيه الوحي!

1 هو أشهر من أن يخفى على أحد مات سنة 751.

-----------------

1-

قلت: ثم ضرب الإمام الشاطبي على ذلك بعض الأمثلة العلمية النافعة وجعل ابن القيم العكس المذكور أصل غلط الصوفية في إباحة غنائهم فراجهه في كتابه المذكور أعلاه ص360، وبمثل هذا الغلط أباح الغزالي المعاصر الموسيقى انظر ص70/السنة النبوية.

ص: 172

خيرا وقد قال في رده المجمل على الغناء الصوفي ما مختصره ص 106 - 108:

إن هذا السماع على هذا الوجه حرام قبيح لا يبيحه أحد من المسلمين ولا يستحسنه إلا من خلع جلباب الحياء والدين عن وجهه وجاهر الله ورسوله ودينه وعباده بالقبيح وسماع مشتمل على مثل هذه الأمور قبحه مستقر في فطر الناس حتى إن الكفار ليعيرون به المسلمين ودينهم:

نعم خواص المسلمين ودين الإسلام براء من هذا السماع الذي كم حصل به من مفسدة في العقل والدين والحريم والصبيان فكم أفسد من دين وأمات من سنة وأحيا من فجور وبدعة!

ولو لم يكن فيه من المفاسد إلا ثقل استماع القرآن على قلوب أهله واستطالته إذا قرئ بين يدي سماعهم ومرورهم على آياته صما وعميا لم يحصل لهم من ذوق ولا وجد ولا حلاوة بل ولا يصغي أكثر الحاضرين أو كثير منهم إليه ولا يقومون معانيه ولا يغضون أصواتهم عند تلاوته.

تلي الكتاب فأطرقوا لا خفية

لكنه إطراق ساهٍ لاهي

وإلى الغناء فكالذباب تراقصوا

والله ما رقصوا لأجل الله

دف ومزمار ونغمة شادن1

فمتى رأيت عبادة بملاهي

1 الأصل "شاهد" وما أثبته في إغاثة اللهفان 1/225. ولعله الأقرب وهو المغني.

ص: 173

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا

تقييده بأوامر ونواهي

والرقص خف عليهم بعد الغنا

يا باطلا قد لاق بالأشباه

يا أمة ما خان دين محمد

وجنى عليه ومله إلا هي1

وبالجملة فمفاسد هذا السماع في القلوب والنفوس والأديان أكثر من أن يحيط به العد.

ومنهم المفسر المحقق الآلوسي2 فقال بعد أن أطال النفس جدا في تفسير آية {لَهْوَ الْحَدِيثِ} والآثار وأقوال المفسرين فيها وفي دلالتها على تحريم الغناء ومذهب الفقهاء فيه 11 / 72 - 73:

وأنا أقول: قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والحانات وسائر ما يعد من المحظورات ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم الممجدين ويعدون خلو الجوامع من ذلك من قلة الاكتراث بالدين وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم ثم أنهم - قبحهم الله تعالى - إذا اعترض عليهم بما اشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون: نعني

1 قال المعلق عليه: لم أعرف القائل وأنا أظن انه ابن القيم نفسه فان أسلوبه وروحه عليه ظاهر وقد ساقه في الإغاثة باختلاف في بعض الأبيات وزيادة عليها.

2 هو العلامة أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الالوسي مفتي بغداد له مؤلفات كثيرة أشهرها واعظمها تفسيره هذا روح المعاني توفي سنة 1270.

ص: 174

بـ "الخمر" المحبة الإلهية أو بـ "السكر": غلبتها أو بـ "مية" و "ليلى" و "سعدى" مثلا: المحبوب الأعظم وهو الله عز وجل وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} .

ثم نقل عن بعض الأجلة ص 75 أنه قال:

ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا عن رقص فإن مفاسده أكثر من أن تحصى وكثير مما ينشدون من الأشعار من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة ويزعمون أن أكثرهم رغبة فيه أشدهم رغبة أو رهبة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون.

وكان قبل ذلك نقل ص 73 عن العز بن عبد السلام الإنكار الشديد لسماعهم ورقصهم وتصفيقهم ثم تحدث عن وجدهم وأقوال العلماء فيه وهل يؤاخذون عليه؟ وأنكره هو عليهم لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى التعرض لما يسمونه بـ "التمجيد" على المنائر وأنكره.

ثم ذكر الأحاديث في تحريم المعازف ومنها حديث البخاري ثم ذكر حكم القعود في مجلس فيه شيء منها وأقوال العلماء في ذلك.. ثم قال ص 79:

ثم إنك إذا ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو استماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له من المتصوفة فلو كان الأمر كما زعموا لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويأمروا أتباعهم به ولم ينقل ذلك عن أحد من

ص: 175

الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ولو كان استعمال الملاهي المطربات أو استماعها من الدين ومما يقرب إلى حضرة رب العالمين لبينه صلى الله عليه وسلم وأوضحه كمال الإيضاح لأمته وقد قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه"1.

وبعد فهذا ما تيسر لي ذكره من أقوال العلماء المشهورين في إنكار الغناء الصوفي وبيان أنه بدعة ضلالة بعد أن أثبتنا حرمة الغناء بالكتاب والسنة وتقدمت أقوال أخرى لآخرين في بعض الفصول المتقدمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية

ولا بد لي بهذه المناسبة أن أقص على القراء ما وقع لي مع بعض الطلبة المقلدين من المناقشة حول هذا الغناء اللعين وذلك منذ نصف قرن من الزمان وأنا في دكاني في دمشق أصلح الساعات جاءني زبون من الطلبة وعليه العمامة الأغبانية المزركشة المعروفة في سوريا فلفت نظري ظرف كبير يتأبطه ظننت أن فيه بعض إسطوانات صندوق سمع فونوغراف المعروفة في ذلك الزمان فلما سألته أجاب بما ظننت فقلت له مستنكرا: أأنت مغني؟ قال: لا ولكني أسمع الغناء قلت: أما تعلم أنه حرام باتفاق الأئمة الأربعة؟

1 قلت: هو مخرج في الصحيحة 1803.

ص: 176

قال: لكني أفعل بنية حسنة قلت: كيف ذلك؟ قال: إني أجلس أسبح الله وأذكره والسبحة بيدي وأستمع لغناء أم كلثوم فأتذكر بصوتها العذب صوت الحور العين في الجنة فأنكرت ذلك عليه أشد الإنكار ولا أذكر الآن ما قلت له بعدها ولكنه لما رجع بعد أسبوع ليأخذ ساعته بعد تصليحها جاء معه طالب أقوى منه معروف من جمعية رابطة العلماء فتكلم في الموضوع مؤيدا لصاحبه معتذرا عنه بحسن نيته فأجبته بأن حسن النية لا يجعل المحرم حلالا فضلا عن أن يجعله قربة إلى الله أرأيت لو أن مسلما استحل شرب الخمر بدعوى تذكر خمر الجنة؟ وهكذا يقال في الزنا أيضا فاتق الله ولا تفتح على الناس باب استحلال حرمات الله بل والتقرب إلى الله بأدنى الحيل فانقطع الرجل.

فهذا مثال من تأثير الغناء الصوفي.

وما لي أذهب بالقراء بعيدا فهذا الشيخ الغزالي الذي اشتهر بأنه من الدعاة الإسلاميين وأعطي من أجل ذلك جائزة إسلامية عالمية كبرى يستبيح الغناء المذكور ولو من أم كلثوم وفيروز وحينما أنكر عليه أحد الطلبة استماعه لأغنية أم كلثوم فيما أظن:

أين ما يدعى ظلاما

يا رفيق الليل أينا؟

أجاب بقوله: إنني أعني شيئا آخر "ص 75 " السنة يعني أن نيته حسنة!

وكان قبل ذلك ص 70 وضع حديث " إنما الأعمال بالنيات" في غير

ص: 177

موضعه وذلك من الأدلة الكثيرة على جهله بفقه السنة لأن معناه: إنما الأعمال الصالحة بالنيات الصالحة كما يدل على ذلك تمام الحديث1 وهو ظاهر بأدنى تأمل ولكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .

وختاما أقول: لو لم يكن من شؤم الغناء الصوفي إلا قول أحدهم:

سماع الغناء أنفع للمريد من سماع القرآن من ستة أوجه أو سبعة

لكفى!

ولما قرأت هذا في مسألة السماع لابن القيم 1 / 161 لم أكد أصدق أن هذا يقوله مسلم حتى رأيته في كلام الغزالي في الإحياء 2 / 298 وبعبارة مطلقة غير مقيدة ب المريد مع الأسف الشديد وأكده بأن أورده على نفسه سؤالا أو اعتراضا خلاصته:

إذا كان كلام الله تعالى أفضل من الغناء لا محالة فما بالهم لا يجتمعون على قارئ القرآن؟ فأجاب بقوله:

فاعلم أن الغناء أشد تهييجا للوجد من القرآن من سبعة أوجه

!

ثم سود أكثر من صفحتين كبيرتين في بيانها فيتعجب الباحث كيف يصدر ذلك من فقيه من كبار فقهاء الشافعية بل قال فيه من نجله: حجة الإسلام ومع ذلك فكلامه فيها هزيل جدا ليس فيه علم ولا فقه يتبين ذلك من قوله:

1 انظر جامع العلوم والحكم ص5، للحافظ ابن رجب وفتح الباري 1/13.

ص: 178

الوجه السادس: أن المغني قد يغني ببيت لا يوافق حال السامع فيكرهه وينهاه عنه ويستدعي غيره فليس كل كلام موافقا لكل حال فلو اجتمعوا في الدعوات على القارئ فربما يقرأ آية لا يوافق حالهم إذ القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال

فإذن لا يؤمن أن لا يوافق المقروء الحال وتكرهه النفس فيتعرض به لخطر كراهة كلام الله تعالى من حيث لا يجد سبيلا إلى دفعه.. وأما قول الشاعر فيجوز تنزيله على غير مراد.. فيجب توقير كلام الله وصيانته عن ذلك وهذا ما ينقدح في علل انصراف الشيوخ إلى سماع الغناء عن سماع القرآن.

فأقول: الله أكبر لقد بلغ السيل الزبى فقد تضخمت المصيبة لقد كانت محصورة في المريدين في نقل ابن القيم المتقدم وإذا بالغزالي يصرح بأنها في الشيوخ أيضا وعنهم يدافع بذلك التعليل البارد الذي تغني حكايته عن رده والله المستعان.

وإذا كان الغزالي هذا يصرح بأن القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال فما لنا وللوجد الذي من أجله سوغ الصوفية الإعراض عن سماع القرآن الوجد الذي أحسن أحواله أن يكون صاحبه مغلوبا عليه كالعطاس مثلا وأسوؤه أن يكون رياء ونفاقا وأين هم من قوله تعالى في القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} ؟

ورحم الله ابن القيم وجزاه خيرا فقد عرف أضرار هذا السماع

ص: 179

الشيطاني وجلى مخالفته للسماع القرآني من وجوه كثيرة في فصول علمية عديدة وبحوث فقهية مفيدة وبين ضلال المتمسكين به ضلالا بعيدا في كتابه السابق مسألة السماع ونحوه في إغاثة اللهفان وأنشأ فيهم قصائد من الشعر وصفهم فيها وصفا دقيقا صادقا منها قصيدة في ثلاثين ومائة بيت في الإغاثة جاء فيها 1 / 232:

تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا

بظواهر الجهال والضلال

جعلوا المرا فتحا وألفاظ الخنا

شطحا وصالوا صولة الإدلال

نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم

نبذ المسافر فضلة الأكال

جعلوا السماع مطية لهواهم

وغلوا فقالوا فيه كل محال

هو طاعة هو قربة هو سنة

صدقوا لذاك الشيخ ذي الإضلال

شيخ قديم صادهم بتحيل

حتى أجابوا دعوة المحتال

هجروا له القرآن والأخبار وال

آثار إذ شهدت لهم بضلال

ورأوا سماع الشعر أنفع للفتى

من أوجه سبع لهم بنوال

تالله ما ظفر العدو بمثلها

من مثلهم واخيبة الآمال

ص: 180

كلمة في الأناشيد الإسلامية:

هذا وقد بقي عندي كلمة أخيرة أختم بها هذه الرسالة النافعة إن شاء الله تعالى وهي حول ما يسمونه ب الأناشيد الإسلامية أو الدينية فأقول:

قد تبين من الفصل السابع ما يجوز التغني به من الشعر وما لا يجوز كما تبين مما قبله تحريم آلات الطرب كلها إلا الدف في العيد والعرس للنساء ومن هذا الفصل الأخير أنه لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما شرع الله فكيف يجوز التقرب إليه بما حرم؟ وأنه من أجل ذلك حرم العلماء الغناء الصوفي واشتد إنكارهم على مستحليه فإذا استحضر القارئ في باله هذه الأصول القوية تبين له بكل وضوح أنه لا فرق من حيث الحكم بين الغناء الصوفي والأناشيد الدينية.

بل قد يكون في هذه آفة أخرى وهي أنها قد تلحن على ألحان الأغاني الماجنة وتوقع على القوانين الموسيقية الشرقية أو الغربية التي تطرب السامعين وترقصهم وتخرجهم عن طورهم فيكون المقصود هو اللحن والطرب وليس النشيد بالذات وهذه مخالفة جديدة وهي التشبه بالكفار والمجان.

وقد ينتج من وراء ذلك مخالفة أخرى وهي التشبه بهم في إعراضهم عن القرآن وهجرهم إياه فيدخلون في عموم شكوى النبي صلى الله عليه وسلم من قومه كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}

وإني لأذكر جيدا أنني لما كنت في دمشق - قبل هجرتي إلى هنا عمان بسنتين - أن بعض الشباب المسلم بدأ يتغنى ببعض الأناشيد السليمة المعنى قاصدا بذلك معارضة غناء الصوفية بمثل قصائد البوصيري وغيره وسجل ذلك في شريط فلم يلبث إلا قليلا حتى قرن معه الضرب على الدف ثم استعملوه في أول الأمر في حفلات الأعراس على أساس أن الدف جائز فيها ثم

ص: 181

شاع الشريط واستنسخت منه نسخ وانتشر استعماله في كثير من البيوت وأخذوا يستمعون إليه ليلا نهارا بمناسبة وبغير مناسبة وصار ذلك سلواهم وهجيراهم وما ذلك إلا من غلبة الهوى والجهل بمكائد الشيطان فصرفهم عن الاهتمام بالقرآن وسماعه فضلا عن دراسته وصار عندهم مهجورا كما جاء في الآية الكريمة قل الحافظ ابن كثير في تفسيرها3 / 317:

يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} وذلك أن المشركين كانوا لا يسمعون القرآن ولا يستمعونه كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} الآية فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه فهذا من هجرانه وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه وترك تدبره وتفهمه من هجرانه وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء أن يخلصنا مما يسخطه ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه إنه كريم وهاب.

وهذا آخر ما يسر الله تبارك وتعالى تبييضه من هذه الرسالة نفع الله بها عباده وذلك أصيل يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1415 هـ

وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

عمان 28 / 6 / 1415 هـ

محمد ناصر الدين الألباني

ص: 182