المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفصل الخامس: مذاهب العلماء في تحريم آلات الطرب - تحريم آلات الطرب

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: ‌ الفصل الخامس: مذاهب العلماء في تحريم آلات الطرب

5 -

‌ الفصل الخامس: مذاهب العلماء في تحريم آلات الطرب

بعد أن أثبتنا فيما سلف صحة الأحاديث في تحريم الآلات وبينا دلالتها على التحريم يحسن بنا أن نتبع ذلك ببيان موقف العلماء والفقهاء من حيث تبنيها والعمل بها ليكون الطالب على معرفة من الناحية الفقهية أيضا ويزداد بذلك علما بانحراف الغزالي في تأليفه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث - ومن سار سيره - عن الفقه وعلمائه كما هو منحرف عن السنة وعلمائها فقد وصفهم جميعا - بجهل بالغ بالوعاظ ص 74، لتحريمهم الغناء - قال الإمام الشوكاني فينيل الأوطار 8 / 83، ما ملخصه:

وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها فذهب الجمهور إلى التحريم مستدلين بما سلف يعني من الأحاديث وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر والصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع.

ثم نقل عن بعضهم أنه حكى أقوالا عن بعض السلف بالإباحة وتوسع في ذلك توسعا لا فائدة منه لأنها أقوال غالبها معلقة لا سنام لها ولا خطام وبعضها قد صح عن بعضهم خلافه وبعضها مشكوك في لفظه كما يأتي

ص: 98

تحقيقه.

ولكن قبل ذلك أريد أن أنبه على أمرين:

الأول: أن المقصود ب الجمهور هنا إنما هم الأئمة الأربعة تبعا للسلف كما فصل القول في ذلك العلامة ابن القيم الجوزية في إغاثة اللهفان 1 / 226 – 230، ولذلك لما نسب ابن المطهر الشيعي إلى أهل السنة إباحة الملاهي والغناء كذبه شيخ الإسلام ابن تيمية في رده عليه في منهاج السنة فقال 3 / 439:

هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف بل يحرم عندهم اتخاذها.

والأمر الآخر: عزو الشوكاني الترخيص إلى أهل المدينة يوهم بإطلاقه أن منهم مالكا وليس كذلك وإن كان مسبوقا إليه كقول الذهبي في ترجمة يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون:

قلت: أهل المدينة يترخصون في الغناء وهم معروفون بالتسمح فيه.

وذكر فيها: أنه كانت جواريه في بيته يضربن بالمعزف.

فأقول: ليس منهم الإمام مالك يقينا بل قد أنكره عليهم هو وغيره من علماء المدينة فروى أبو بكر الخلال في الأمر بالمعروف ص 32، وابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 244، بالسند الصحيح عن إسحاق بن عيسى الطباع - ثقة من رجال مسلم - قال:

ص: 99

سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.

ثم روى الخلال بسنده الصحيح أيضا عن إبراهيم بن المنذر - مدني ثقة من شيوخ البخاري - وسئل فقيل له: أنتم ترخصون [في] الغناء؟ فقال: معاذ الله ما يفعل هذا عندنا إلا الفساق.

وأما الأقوال التي نقلها الشوكاني مما سبقت الإشارة إليه ووعدنا بالكلام عليها فالجواب من وجهين:

الأول: أنه لو صحت نسبتها إلى قائلها وفيهم الكوفي والمدني وغيرهم فلا حجة فيها لمخالفتها لما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة الدلالة.

والثاني: أنه صح عن بعضهم خلاف ذلك فالأخذ بها أولى بل هو الواجب فلأذكر ما تيسر لي الوقوف عليه منها:

الأول: شريح القاضي قال أبو حصين: أن رجلا كسر طنبور رجل فخاصمه شريح فلم يضمنه شيئا.

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 7 / 312 / 3275، وإسناده صحيح والبيهقي 6 / 101، والخلال 26،وقال عقبه:

قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: هو منكر لم يقض فيه بشيء.

وأبو عبد الله هو الإمام أحمد وروى عنه نحوه أبو داود في مسائله

ص: 100

ص 279،.

الثاني: سعيد بن المسيب قال:

إني لأبغض الغناء وأحب الرجز.

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 11 / 6 / 19743، بسند صحيح.

الثالث: الشعبي عامر بن شراحيل روى عنه إسماعيل بن أبي خالد أنه كره أجر المغنية وقال:

ما أحب أن آكله.

أخرجه ابن أبي شيبة 7 / 9 / 2203، بسند صحيح.

ويأتي قوله: الغناء ينبت النفاق في القلب

في الفصل الثامن 148،.

الرابع: مالك بن أنس وقدمنا عنه بالسند الصحيح أنه قال في الغناء: إنما يفعله عندنا الفساق ومع ذلك نقل الشوكاني عن القفال أن مذهب مالك إباحة الغناء بالمعازف!.

هذا وفي بعض الأقوال التي ذكرها الشوكاني ما قد يصح إسناده ولكن في دلالته على الإباحة نظر من حيث متنه وقد وقفت على سند اثنين منها:

أحدهما: ما عزاه لابن حزم في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال:

ص: 101

إن رجلا قدم المدينة بجوار فنزل على عبد الله بن عمر وفيهن جارية تضرب فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئا قال: انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا قال: من هو؟ قال: عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فقال: خذي العود فأخذته فغنت فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر

إلى آخر القصة.

ولي على هذا ملاحظتان:

الأولى: أنه ليس في رسالة ابن حزم المطبوعة ص 100، لفظة العود

والأخرى: أنها وردت في المحلى لكن على الشك فيها أو التردد بينها وبين لفظة الدف أورده فيه 9 / 62 – 63، من طريق حماد بن زيد [و] أيوب السختياني وهشام بن حسان وسلمة بن كهيل - دخل حديث بعضهم في بعض - كلهم عن محمد بن سيرين أن رجلا.. القصة وفيها:

فأخذت - قال أيوب: بالدف وقال هشام: بالعود - حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان فساومه الحديث، وصحح ابن حزم إسناده وهو كما قال إذا كان السند إلى الأربعة المسمين صحيحا كما يغلب على الظن.

والمقصود أنه قد اختلف أيوب وهشام في تعيين الآلة التي ضربت عليها الجارية وكل منهما ثقة فقال الأول: الدف وقال الآخر: العود وأنا إلى قول الأول أميل لسببين:

ص: 102

أحدهما: أنه أقدم صحبة لابن سيرين وأوثق منه عن كل شيوخه وليس كذلك هشام مع فضله وعلمه وثقته كما يتبين ذلك للباحث في ترجمتيهما وبخاصة في سير أعلام النبلاء المجلد السادس قال في أيوب 6 / 20:

قلت: إليه المنتهى في الإتقان.

والآخر: أنه اللائق بعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما فإن الدف يختلف حكمه عن كل آلات الطرب من حيث إنه يباح الضرب عليه من النساء في العرس كما تقدم - ويأتي - ولذلك وجدنا العلماء فرقوا بينها وبينه من جهة إتلافها فروى الخلال ص 28 عن جعفر - هو ابن محمد - قال:

سألت عبد الله عن كسر الطنبور والعود والطبل؟ فلم ير عليه شيئا - وتقدم نحوه قريبا عن أحمد وشريح.

قال جعفر: قيل له: فالدفوف؟ فرأى أن الدف لا يعرض له فقال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرس.

يشير إلى الحديث "فصل ما بين الحلال والحرام.." وقد مضى في المقدمة ص 10 – 11، مع أخطاء الشيخ أبو زهرة حوله وكأن الإمام أحمد يلمح بذلك إلى أن الحديث يستلزم عدم التعرض للدف بالإتلاف لأنه أبيح استعماله في النكاح وهذا من دقيق فقهه وفهمه رحمه الله بخلاف ما يستعمل منه فيما لم يبح وعليه يحمل ما ذكره الخلال ص 27، عن الحسن يعني: البصري قال:

"ليس الدفوف من أمر المسلمين في شيء وأصحاب عبد الله يعني ابن

ص: 103

مسعود كانوا يشققونها.

ويؤيد ما ذكرت ما روى الخلال ص 28، عن يعقوب بن بختان أن أبا عبد الله سئل عن ضرب الدف في الزفاف ما لم يكن غناء؟ فلم يكره ذلك وسئل عن الدف عند الميت؟ فلم ير بكسره بأسا وقال: كان أصحاب عبد الله يأخذون الدفوف من الصبيان في الأزقة فيخرقونها.

وجملة الأصحاب رواها ابن أبي شيبة أيضا 9 / 57، بسند صحيح.

والخلاصة أننا نبرئ عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما من أن يكون اشترى الجارية من أجل ضربها على العود لما سبق ترجيحه وإلا فلا حجة في غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا سيما وقد قال عبد الله بن عمر - وهو أفقه منه وأعلم -حسبك اليوم من مزمور الشيطان1.

هذا والقول الآخر الذي فيه نظر ما عزاه الشوكاني لشعبة أنه سمع طنبورا في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور.

قلت: أصل هذا ما رواه العقيلي في الضعفاء 4 / 237، من طريق وهب - وهو ابن جرير - عن شعبة قال:

أتيت منزل المنهال بن عمرو فسمعت منه صوت الطنبور فرجعت ولم أسأله قلت: هلا سألته فعسى كان لا يعلم.

قلت: وإسناده إلى شعبة صحيح، ومنه يتبين أنه لا يجوز حشر المنهال

1 وقد قال ابن تيمية في الاستقامة 1/281-282،. بعد أن أشارة إلى أثر ابن جعفر هذا: فعبد الله بن جعفر ليس ممن يصلح أن يعارض قوله في الدين فضلا عن فعله لقول ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وجابر وأمثالهم.

ص: 104

هذا في زمرة القائلين بجواز الاستماع لآلات الطرب فضلا عن استعمالها لاحتمال أنه وقع ذلك دون علمه أو رضاه فترك شعبة إياه مردود ولذلك اعترض عليه وهب بن جرير وقال الحافظ في ترجمته من المقدمة ص 446:

وهذا اعتراض صحيح فإن هذا لا يوجب قدحا في المنهال.

ومن قبله قال الذهبي في الميزان:

وهذا لا يوجب غمز الشيخ.

على أن هذا الأثر يمكن قلبه على المرخصين لأن شعبة أنكر صوت الطنبور فهو في ذلك مصيب وإن كان أخطأ في ظنه أن المنهال كان من المرخصين به!.

والخلاصة: أن العلماء والفقهاء - وفيهم الأئمة الأربعة - متفقون على تحريم آلات الطرب إتباعا للأحاديث النبوية والآثار السلفية وإن صح عن بعضهم خلافه فهو محجوج بما ذكر والله عز وجل يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .

ص: 105